أسامة دوَّاي
إلى ذكرى محمد أركون معلمي وصديقي وأبي الرُّوحي.
ينتمي عهدي إلى عهدِ أركون
وإليهِ ينْتَمِي هَذَا الفُؤَادُ
يَكْتَسِي عُمْرِي بِهِ عُمْرَا
وَيَعُودُ الشَّوْقُ دَوْمًا وَيُعَادُ
1 – اِستلهاماتٌ من حوارٍ مع أركون نهاية سنة 1990:
لقد كانت رحلة العمر مع معلمي وأستاذي وصديقي وأبي الروحي أركون طويلةً، وكم تمنيت لو أنها طالت حتى نهاية عمري.
نادرًا ما كنت أغيب عن دروسه وحلقات البحث التي كان يقوم بها في السُّوربون ولمدة تزيد عن عشرة أعوام، وكثيرًا ما كنت أصاحبه إلى ندوات ولقاءات فكرية في أنحاء باريس. وكم كان حظِّي عظيمًا حينما توطَّدت علاقتي وترسَّخت صداقتي به، فقرَّبني منه وكان يدعوني بشكل دائم إلى بيته للحوار والنقاش واللقاء. لقد واكبت فكر أركون منذ سنوات الثَّمانينيّات حتى يومنا هذا، وما أزال أواكبه وأتابعه وكم كان صعبا في البداية، وكم كان بعيد المنال.
في إحدى محاضراته في السُّوربون تمنّيت عليه أن يلخِّص لنا فكرَه، أو أن يعطينا المفاتيح المُهمّة التي تسمح لنا بدخول هذا “البانتيون” الذي يستعصي على كل الدروب. بعدها بفترة قليلة، استجاب أستاذنا لمطالبنا وقدَّم لنا عرضا موجزا عن المنهج الذي يتبعه لدراسة التُّراث العربي الإسلامي. وأذكر أنني كنت أسجل مع كثير من التركيز الملاحظات والأفكار التي يعرضها علينا ثم الحوار الذي يتبع هذا العرض الموجز والمكثف.
بعد سنوات وبعد خروجه من الجامعة إلى التَّقاعد، تواصلت العلاقة بيننا. وكنت أراه مرَّات كثيرة في الشهر، فَيَزورُني قليلا وأزورُه كثيرا في بيته في شارع “ماجنتا” قرب محطة الشرق للقطارات في باريس. في إحدى المرَّات، استعدت معه أفكار تلك المحاضرة السَّابقة التي ألقاها علينا في السُّوربون، والتي كتبتُ كثيرا من الملاحظات حولها، فعلّق على ذلك قائلا: يمكننا أن نحتفظ بهذه المنهجية؛ ولكن يمكننا إضافة أشياء أخرى جديدة استجدَّت ونلحقها بها. وقد حدَّد لي بعض هذه المستجدات الموجودة في كتبه الأخيرة. وها أنا أعرض وألخص مجملَ أفكار أركون حول طريقته التي ألقاها علينا في مقاربته لدراسة الفكر العربي الإسلامي مع بعض التصرفات الأسلوبية.
يقدِّم لنا أركون منهجه على شكل بروتوكولات تفرض قواعدها المنتظمة التي يجب احترامها والتقيُّد بها.
هذه هي البروتوكولات الثلاثة التي يشرح من خلالها أركون كيف ندرس الفكر العربي الإسلامي عبر كل مراحله منذ فترة التكوين والنشوء والتأسيس إلى الفترة الحالية مرورا بالفترة الكلاسيكية المزدهرة والسكولاستيكية فعصر النهضة ثم الفترة الحديثة.
أ- البروتوكول الأول:
إنَّ البروتوكول الأول بحسب أركون هو أن يضع الباحث نفسه في الشُّروط التَّاريخية للمستمعين الأوائل للنَّبي محمد وهو يتلفَّظ للمرَّة الأولى نصًّا قرآنيا منطوقًا على شكل خطاب بالمعنى الألسني اللُّغوي للكلمة، أو بعبارة أخرى، على شكل ملفوظة شفهية، لأن النَّبي كان يتلفظ بطريقة شفهية ولا يقدم ما يتلفظ به في شكلٍ مكتوبٍ لمعاصريه. فهو لا يقول لهم خذوا هذا واقرؤوه، وإنَّما كان يتلفظه بالطريقة الشفهية دائما.
وهذا إذن بروتوكول له قراءة خاصة، ولكي نتموضع داخل هذا البروتوكول للقراءة ينبغي أن نكون مؤرِّخين محترفين وجيِّدين. وإن لم نمثِّل هذا النموذج، فإنه من المستحيل بالنسبة إلينا تحقيق هذا البروتوكول وإنجازه.
وكما نرى، فإن هذا أساسي ومهم لأنه البروتوكول الوحيد الذي يسمح لنا باستقبال هذا الخطاب في معانيه الأولية النَّاضجة على المستوى الكرونولوجي أي الترتيب التاريخي والمستوى اللغوي أيضًا. وهذا يعني وجوب تلقِّينا إيَّاه كخطاب شفهيٍّ قبل أي تدخُّل خارجي للقرَّاء الآخرين الذين ينقسمون بين مفسرين ومعلقين على هذا الخطاب الشفهي. وهذا هو إذن البروتوكول الأول للقراءة والذي ينبغي أن نبدأ به.
وبما أن التَّوثيق التاريخي اللاَّزم الذي بحوزتنا اليوم غير موجود، وأن ما بين أيدينا ليس كافيا البتَّة كي ندخل إلى هذا البروتوكول، بل هو خطر وينبغي أن نقول إنه خطر. وهذه الحقيقة لا ينبغي أن تمنعنا من القول إن التَّوثيق التاريخي هو القراءة الوحيدة المقبولة لقراءة القرآن، وأنَّ ما عداها من القراءات الأخرى إنَّما تشرحها وتفسرها وتؤِّولها فحسب.
ويفترض التَّوثيق التَّاريخي أنَّ اللغة ليست في الواقع لغة تواصلية لها معنى فوري وبدهيّ وحالي؛ لأننَّا نفتقد، في اللحظة التي كان النبي يتلفظ فيها لأول مرَّة أمام مستمعيه، لمعايير كثيرة. فنحن وللأسف لا نعلم من كان معه، وما هو عددهم، وماذا كانوا يسمعون، وماذا كان يجري حولهم. وحينما كان النبي يتلفَّظ (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى) إلخ. فلم تكن الكلمات وحدها هي التي كانت تحضر بما يسمح للمستمعين أن يفهموا مقصود هذا الكلام، وإنَّما ما ساعدهم ويساعدهم على الفهم لا يترك أي مجال لأي تفسير آخر. إنه السياق والسياق الجدالي وسياق الرفض، ولنا أن نتساءل من هم أولئك الناس الذين كانوا يستمعون إلى النبي، والذين كانوا يعارضونه ولا يصدِّقونه.
كل أنواع هذه الأسئلة تراودنا وتتجلَّى أمام أذهاننا وليس لدينا إلا التَّاريخ لكي نتمكن من الدُّخول في صميم هذا البروتوكول الأوَّل وقواعده.
ب- البروتوكول الثاني:
يجب أن نصَّر على البروتوكول الأوَّل وينبغي أن ننطلق منه، وذلك لكي نستطيع أن نقيس المسافة التي ستتوسع باستمرار بين ما تقوله القراءة التَّابعة له وما تقوله كل القراءات التي قُدِّمت، والتي هي الآن متوفِّرةٌ بين يدينا. الوحيد الذي يمكن قبوله هو هذا البروتوكول الثَّاني الذي يتصدَّى لقراءة التَّفاسير والشُّروحات والتَّعليقات على الخطاب القرآني الذي تناولناه منذ قليل، ويمكننا أن نأخذ للدَّلالة عليه أمثلةً من قبيل تفسير الطَّبري والرَّازي وتفسير مدرسة المنار وطاهر بن عاشور وغيرهم.
فإذا أخذنا تفسير الطبري كمثال على هذا البروتوكول، فإنَّه من الواجب علينا -حينما نقرؤُه ونعالجه- ألاَّ نتَّخذ الطَّبري مرشدًا ودليلاً جديرًا بثقتنا؛ لاسيما عندما يُدْخِلُنا في أجواء معنى النص القرآني ومعالمه، وإنما ينبغي أن نعتبر نصَّه التَّفسيري [المؤوِّل بكسر الواو] نصًّا سيضلِّلُنا ويُبعِدُنا عن الطَّريق الصحيح. وكما نرى، فإن هذا الاعتبار، هو عكس ما ينتهجه الطبري، فبدلاً من أن يقودنا ويساعدنا على فهم القرآن ومقاصده، ستبعدنا استيراتيجيته عن هذا الفهم. إنَّ تفسير الطبري يبعدنا عن مقاصد القرآن، ويبعدنا عن هذا الخطاب الذي تلقَّيناه بحسب البروتوكول الأوَّل، وهذه هي المساءلة المهمة واللازمة التي ينبغي علينا أن نطرَحَها على الطبري.
وكما نعلم، فإنَّ المسلمين والمستشرقين حتَّى الآن توجَّهوا إلى الطَّبري مرشدًا ودليلًا كي يقودَهم ويدلَّهم ويقول لهم: هذا هو المعنى القرآني المقصود. لكن لم يشتبهوا -من جهة أخرى- به ولم يرتابوا بقراءته، ولم يشكِّكوا بطريقته، ولم يلحظوا كيف ينتُجُ عن قراءته هذه نشازٌ، وتصدرُ عنها مخالفةٌ للمعنى القرآني، بل تنشأ قطيعةً، وقد تفرض معنًى معاكسًا لمعنى الخطاب القرآني ومضادًّا لمقاصده.
هذه هي أولى الملاحظات التي تظهر أمامنا حينما نقرأ الطَّبري، فتفسيره هو مدوَّنة كاملة تُنْتِج نفسها وتخلق اِنسجامها الثقافي مع المجتمع العباسي نهاية القرن الثالث للهجرة وأوائل القرن الرابع. فهي إذن وثيقة مفيدة للتاريخ الثقافي والفكري للمجتمع الإسلامي خلال العصر العباسي أكثر منها وثيقة ستدخلنا إلى رحاب عالم معنى الخطاب القرآني. وهذه القراءة هي بحث آخر يندرج داخل التَّاريخ النَّقدي العام للتفسير القرآني.
وكما نرى؛ فإن قراءة هذا البروتوكول الثَّاني غنيَّةٌ جدًّا ومرتبطة بمكانة كلِّ تفسيرٍ يعمل كَشَفْرَة وكقانون ثقافي له صلة بالعصر التَّاريخي الذي كتِبَ فيه حيث تشكَّل وأُنْتِج. ولكن – في واقع الأمر- لا يؤدِّي هذا التَّفسير دور المرشد والدليل ليدخلنا إلى عالم المعنى للخطاب القرآني. فتفاسير الطَّبري والمنار وبن عاشور والطبأطبائي وغيرهم تعمَلُ كلُّ واحدٍ منها على إنتاج متنٍ له انسجامُه الذَّاتي وله معناه الذي يتأتَّى من ثقافة المؤلف ومن متطلبات الثَّقافة والفكر التي يعمل داخلها هذا المؤلف. ولهذا، فإنَّ كلَّ تفسيرٍ من هذه التَّفاسير يسهم في تغذية مخيال إسلامي حول مقاصد الخطاب القرآني، وكلُّ متنٍ من هذه المتون إنَّما هو مساهمة في تقوية ما يتخيله المسلمون (المخيال الإسلامي) أي تقوية ما يرونه واجبًا أن يكونوا عليه.
يردِّدُ أركون دائمًا: عندما أقول مقاصد الخطاب القرآني؛ فأنا لا أقصد مقاصد المصحف، فتفسير الطبري يأخذ قطعة من سورة قرآنيَّة ويبدؤها بجملة “قال الله تعالى”، ولكن في الحقيقة، من يتكلم هنا هو الطبري. ولذلك فإن المسلم الذي يقرأ تفسير الطَّبري، ولا يدرك ما قلناه سلفًا في هذا الموضوع، ولم تكن له أيَّة فكرة عن تعليلاتنا وشروحاتنا، فإنَّه سيرى نفسه يسقط حالا -وهو يقرأ الطبري- في أجواء مخيال مقاصد الخطاب القرآني، وسيعتقد أن ما يقوله الطبري إنَّما هو الوحي أو الكشف الصحيح، أو التعليل القويم، بحسب القراءة السَّليمة للقواعد وعلم المفردات والقواميس والأخبار. وهذا سيجعل من المخيال الإسلامي متوسِّلاً ومتلمِّسًا مقالَ الطبري -من خلال صيغة “يقول الله”- كما لو كان كلام الله، بينما يُعتبر هذا الكوداج تشفيرةً ثقافيَّةً للأستاذ الطبري تتفاعل وتعمل في المجتمع العباسي، ليس إلَّا.
ج- البروتوكول الثَّالث:
يتوخَّى هذا البروتوكول طريقةً يهدف من خلالها إلى ضمِّ مجمل النُّصوص والدِّراسات الكلاسيكية عن الفكر العربي الإسلامي، ثمَّ يعمد في الوقت ذاته إلى ضمِّ النُّصوص والدِّراسات العلمية التي ساهمت في دراسة الفكر العربي الإسلامي وتحليله منذ سنوات الخمسينيات والسِّتينيات، مما يشكِّل حقلا جديدا وواسعا للمفهومية، وهو بالتالي بروتوكول آخر مختلف بالتَّأكيد عما سبقه. ويمكننا أن نقول إنَّ البروتوكولين الأوَّلين يُعتبران بشكل أساسي نقطة ارتكازٍ وإعداد، بينما يشكل البروتوكول الثالث -وهو أساسي جدًّا- نقطة الوصول، ويهدف ويعمل على إعادة التَّفكير والتَّعقل لمفهوم الدِّين أيَّ دينٍ كان.
إنَّ هذا البروتوكول هو مهمَّتُنا نحن الذين نعيش في هذه الأزمنة الحديثة، والذين ننهمك في قراءة الفكر العربي الإسلامي وفي معالجته ودراسته حاليًا، بما يجعلهُ نقطة وصول ومطافًا أخيرًا في حلقة البحوث ودراسات الفكر العربي الإسلامي.
إلى هنا وينتهي الحوار مع أركون أو بالأحرى ينتهي شرح أركون لمفهوم البروتوكولات الثلاثة باختصار شديد. لقد أجرينا هذا الحوار مع أركون نهاية سنة 1990، ولكن عمد معلِّمُنا إلى تطوير وتفصيل وإغناء قراءة البروتوكولات مع إضافة أفكار أخرى.
2 – منهجيَّة أركون في قراءة التُّراث:
في دراسة مهمة لأركون لها صلةٌ بكيفية قراءة التُّراث والفكر العربي، حدَّد فيها مستويات للفكر المتَّصل بالتراث في أربعة مستويات هي:
1 – الفكر المنتج
2 – الفكر المستغل للتُّراث
3 – الفكر المستهلك للتُّراث
4 – الفكر الدارس والمبلغ للتُّراث
فأما الفكر المنتج للفكر العربي فهي الفترة التي تمتد من ظاهرة القرآن إلى القرن الخامس الهجري، وهي الفترة الذهبية لهذا الفكر. وهذا الفكر نفسه ينقسم إلى اتجاهين أوَّلُهما اتِّجاهٌ سلفيٌّ أسطوريٌّ، والثاني اتِّجاه عقلانيٌّ علمي. وأمَّا الفكر المستغل للتُّراث، فإنه اجتهد ليواصل النَّشاط الابداعي للفكر المنتج ممعنًا النَّظر في علوم القرآن والحديث والعلوم والمعارف الموجودة في البيئات الثقافية التي ساد فيها الإسلام. أمَّا الفكر المستهلك، فيمتاز بالانشغال عن العلوم العقليّة وخاصة الفلسفة واختيار عناصر من العلوم الدينيّة ليضعها في تلاخيص خاصَّةٍ بكل مذهب، لذلك تتعاصر ظاهرة الفكر المستهلك بإنشاء المدارس الخاصة بكل مذهب مع انتشار الطريقة المدرسية التقليدية في التعليم. أما الفكر الدَّارس والمبلغ وهو خاص بعصر النَّهضة وعصرنا الرَّاهن أيضًا، فهو الفكر الذي شهد اصطدامه وتفاعله مع الفكر الأوروبي واصطدامه بالحداثة.
ولقد أشار أركون في أكثر من مرَّة سواء من خلال محاضراته أو كتبه أو من خلال حواراتي معه أيضَا، إلى كون البروتوكول الثَّالث للقراءة يشمل أيضا مستويات الفكر الأربعة التي أتيت على ذكرها أعلاه، ثم يضيف إليها أخيرًا المهام الجديدة للقراءة التَّفكيكية للمواضيع الجديدة.
تكمن هذه المواضيع الجديدة فيما أضافه أركون من تصوُّرات مفهومية اِشتغل عليها، وهي تمثِّل ما استجدَّ على ساحة الفكر العربي الإسلامي من أفكار تفتح آفاقًا جديدة في مجال الفكر. ولقد عالجها أركون بتوسُّع من خلال دراسات ومحاضرات ألقاها في مختلف البلاد العربية والأوروبية منها:
أ – الإلحاح على كتابة بحث سوسيولوجي معمَّق يفسِّر لنا سبب فشل الحداثة الفكرية في السِّياقات الإسلامية.
ب – معالجة اتِّساع التَّجربة البشرية بخصوص العالم الإلهي ورسم معالم محدوديتها ابتداءً من الصوفية ووصولا إلى الطرق الشعبوية المتعصبة. ويقصد أركون بالتجربة البشرية للإلهي هنا تصوُّر البشر للتَّعالي الإلهي من خلال الأديان الكبرى كاليهودية والمسيحيَّة والإسلام.
ج – المكانة اللغوية والمعرفية للخطاب النبوي فيما وراء الرهانات المعرفية والروحية، ويقصد أركون هنا بالخطاب النَّبوي خطاب الوحي سواء أكان يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا، فكل أديان التوحيد بحسب أركون لديها خطاب نبوي يدعى بالوحي.
د – بلورة مفهوم العقل المنبثق الصَّاعد، وهو العقل الذي يهتمّ بدراسة الجدلية الكائنة بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه، ثم بين المفكَّر فيه أي موروث الماضي واللامفكَّر فيه أي غير المبرمج حتى في حدود العقلانية القادمة التي ستُقبِلُ سواء كانت ضمن الخط الغربي أو ضمن خط المدونات الرسمية المغلقة للأديان التوحيدية.
هـ – ضرورة العودة إلى مسألة النَّزعة الإنسانية، وذلك ضمن منظور العقل المنبثق الصَّاعد الذي يقود المعارك على جبهات المعرفة كلِّها.
و – دراسة كيفية تشكُّل الإمبراطوريات والخلافة والإمامة والأنظمة الملكية والجمهوريات والنظام الذي يهتم بالشأن العام والأنظمة الدِّيمقراطية وأنظمة الحزب الواحد.
ز – موضوع سياسة نهب العالم المتبعة من قبل القوى العظمى منذ القرن التاسع عشر.
ح – معالجة البرنامج الذي يجب القيام به لتحرير الفكر الإسلامي من المقولات الدُّوغمائية وفتحها على الحداثة، ويقصد به أركون دراسة الظاهرة الدينية بصفتها اللَّامفكر فيه، وهو الأعظم بالنسبة للعقل في كل العصور.
ط – ينبغي التَّحدث عن العلمانية بصفتها برنامجًا اجتماعيًّا ثقافيًّا أو ذروة تأسيسيَّة عُليا أدَّت إلى سحب السلطات الفكرية والعلميّة والسياسيّة من أيدي الكنيسة المسيحية والكهنة في أوروبا الغربية.
ي – ينبغي تحليل المدوَّنات الرسمية المغلقة للأديان الثلاثة، أو ما يدعى بالكتب المقدَّسة ويجب أن ندرسها بشكل جديد كليا من خلال علاقتها برهانات الحقيقة-المعنى والحقيقة-القوة أي حب التوسع والانتشار والهيمنة.
ك – فمن المصحف إلى المدوَّنات الرَّسمية المغلقة، ينبغي دراسة كيفية التَّشكل الاجتماعي التاريخي للاعتقاد الإسلامي وذلك من خلال الدراسة العلمية لكيفية تشكُّل المصحف بشكلٍ تاريخيٍّ، وهذا الأمرُ غير معروف حتى الآن في العالمين العربي والإسلامي.
ل – مقاربة كلام الله والخطاب النبوي في مقابل الميثوس واللُّوغوس كتاريخ آخر للفكر في فضاء البحر الأبيض المتوسط. مع العلم بأن الميثوس يعني الفكر الأسطوري أو الخيالي في الفكر الإغريقي، واللوغوس يعني الفكر العقلاني المنطقي. ومعلوم أن التيارين الأساسيين اللَّذين اخترقا الفضاء المتوسطي هما الديانة التوحيدية من جهة، والفكر الإغريقي من جهة أخرى.
م– ندرس من خلال الجدلية الكائنة بين اللُّوغوس والميثوس في مواجهة خطاب الله والخطاب النَّبوي الرهانات الدائمةَ للأنظمة الصِّراعية للحقيقة. فهناك النظام المنطقي العقلاني للحقيقة على طريقة أرسطو وهناك النظام الرَّمزي الخيالي الأسطوري للحقيقة على طريقة أفلاطون، فالصراع بين ابن سينا وابن رشد هو صراع بين خط ابن سينا الأفلاطوني في الساحة العربية الإسلامية وخط ابن رشد الأرسطوطاليسي المحض. وهناك أيضًا الخط المادي الواقعي في التاريخ وهناك الخط المثالي، وكل تاريخ الفلسفة مخترق من قبل الصراع بين هذين الخطَّين.
ن – الانتقال من تحليل الخطاب إلى السِّيميائيات العامة، بمعنى أنه ينبغي أن ننتقل من تحليل الخطاب اللغوي إلى تشكيل علم لعلامات الدَّلالة العامة الذي يشمل كل اللغات بما فيها الشيفرات والرموز والإشارات التي تحفل بها الحياة الاجتماعية.
هذه أهم الموضوعات التي يطرحها أركون للبحث في مجال الفكر العربي الإسلامي. وقد عالجها في تحليلاته ودراساته الأخيرة من خلال منهجه ذي الاختصاصات المتعدِّدة، والذي يسميه بالإسلاميات التَّطبيقية التي تتَّخذ من التَّاريخ وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا وعلوم اللغة الحديثة والفلسفة مناهج بحث فعالة وذات قيمة ونتائج مرضية.
لا ينبغي نسيان ما هو عليه أركون من كونه مؤرخا محترفا قبل كل شيء، وهو سليل مدرسة الحوليات الفرنسية التاريخية ووارثها، وهي التِّي أدَّت دورًا مهما في تثوير الدراسات التاريخية على الصعيد الفرنسي والعالمي معا. لقد قلبت هذه المدرسة مناهج البحث العلمي في التاريخ وسنَّت مناهج وطرقا جديدة في فهم المجتمعات والعقليات في كل العصور، وأضافت أفكارًا ابتكارية حديثة أغنت المبحث التاريخي. ولقد استفاد أركون من هذه المعطيات والمناهج وطبَّقها على التراث العربي الإسلامي باقتدار وأستاذية.
3 – ذكرياتي مع أركون :
تعود بي الذِّكرى إلى أربعين عاما مضت حينما كنت في مقتبل العمر باحثا في بدايات الطريق، ألتمس دربا وطريقة ومنهجًا في البحث العلمي في مدينة باريس. بعد تسعة أشهر تعلمت خلالها اللغة الفرنسية في معهد اللغة لجامعة بول فاليري في مدينة مونتبلييه القريبة من البحر جئت باريس لأبدا أطروحة الدكتوراه في جامعة السوربون الجديدة.
نحن في بداية الثمانينيات، فترة التتويج للمنهج البنيوي والانتقال من البنيوية إلى التفكيكية والسيميائية ونظرية جمالية التلقي. كان دكاترة أقسام الأدب العربي يحاولون تطبيق هذه المناهج على الشعر وعلى تحليل الرواية. كان هناك دانييل ريغ وجمال الدين ابن شيخ وأندريه ميكيل والسيدة توميش، وكان أركون معهم للإشراف على أطروحات الدكتوراه في الفكر العربي الإسلامي.
ما زلت أذكر اللقاء الأول مع أركون. كنت بالكاد أعرف كيف أعبِّر عن أفكار بسيطة باللغة الفرنسية. كانت هيبة أركون وسطوته وصرامته العلمية معروفة بين الطلاب، وقد نصحني بعض الزملاء أن أتجنب تحضير الدكتوراه معه. كان وجهه مكسوًّا بالوقار والاتزان والهدوء، وطلب مني أن ألخص له مساري الجامعي والعلمي وأن أعرض أمامَه خطتي المبدئية لأطروحتي في الدكتوراه.
كنت قد أعددت جيّدا ما كنت أريد أن أقوله وراح ينصت إليّ بهدوء. كان عنوان خطة بحثي عن مفهوم الإبداعية عند أدونيس الشَّاعر والمفكر.
بعد انتهائي من العرض قال لي بصوت هادئ وعميق: أنت في بداية البدايات وأمامك طريق طويل طويل يحتاج إلى صبر وعمل دؤوب على عدَّة جبهات منها اللُّغة، ومنها خلق منهج ملائم للموضوع لأنك ستعمل على جبهتين جبهة الشعر وجبهة الفكر. وطلب منّي حضور حلقات البحث التي يقوم بها يومي الاثنين والثلاثاء.
وهكذا بدأت رحلتي مع أركون، وبدأت أحضر دروسه الأسبوعية التي ما كنت أفهم منها إلا اليسير؛ مصطلحات لم أسمع بها من قبل في حياتي، ونظريات تستعصي على الفهم ومناهج جديدة تجعل الرأس يدور.
كانت الفترة الأولى فترة يأس وقنوط، وكان حصادي الأسبوعي من الفهم يسيرا جدا. وقد فاتحت أركون بحالتي البائسة وكان يشجعني قائلا بأني شاب والمستقبل أمامي وأذكر أنه قال لي هذه الجمل أو ما يشابهها: أنت تستعجل فهم مناهج ومصطلحات وأفكار حتى الباحثون الفرنسيون يجدونها صعبة. وكان يبث فيَّ روح الأمل والعمل والتفاؤل مردّدًا صبرا جميلا فصبرا جميلا. وهكذا رحت أتقلب بين الرجاء والأمل واليأس، وبدأت أبحث عن حلٍّ يمكنني أن أدخل إلى عالم أركون الفكري حتَّى هبط علي إلهامٌ وراودتني فكرة مبتكرة وهي أن أسجِّل محاضراته وأستمع إليها وأعمل عليها في البيت. فاتحت أركون بالأمر فوافق عليه وأظنُّ أنه أشفق عليَّ ورقَّ لحالتي البائسة، فنصحني وسمح لي بحضور محاضراته الأخرى التي كان يعطيها لطلبة الشَّهادة المعمقة ولشهادة التبريز لإعداد المعلمين.
بدأ عالم أركون الفكري يتجلى لي بشكل أفضل، ومما سهَّل مهمتي أنَّني تعرفت على الصديق هاشم صالح فأصبحنا رفيقين لا نفترق خلال ثلاثين عاما وكان أركون يلقِّبُنا بالشقيقين. لم تكن مؤلفات أركون قد تُرجمت إلى العربية. كانت مقالات قليلة قد أبصرت النور لا تغني بشيء. ومنذ تلك الأوقات، كنت ألتقي بهاشم بشكل شبه يومي نتناقش ونتحاور ونتبادل الآراء حول الحداثة وفكر أركون وحول أدونيس وفكره وأشعاره، وفيما بعد سكنَّا معا لعدَّة أعوام في شاتني مالابري الضاحية الجنوبية الجميلة الهادئة المتاخمة لحديقة سو بباريس على بضعة أمتار من منزل الفيلسوف الفرنسي ذي الحيطان البيضاء بول ريكور صديق أركون.
أن تواكب الحلقة الأسبوعية لطلاب الدكتوراه التي كان يديرها أركون في السوربون، وأن تحضر دروسه الاسبوعية الأخرى لشهادة التبريز لمدة عشرة أعوام، وأن تسنح لك أن ترافقه إلى “أكاديمية الأخلاق” وإلى المراكز الثقافية العربية في باريس وإلى مركز بومبيدو الشهير، وإلى مركز الثقافات المدنية للدراسات والحدث الديني في ضاحية مونروي الباريسية والذي أسسه أركون بنفسه، فهذا معناه أنك تدخل عالم الثقافة الكونية؛ عالم الحداثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية؛ عالم الحضارة العربية الإسلامية، ومعناه أيضًا أن تتنقل عبر عصور من الحضارات والثقافات وعبر المناهج الأكثر حداثة وأصالة.
كانت حلقات البحث الأسبوعية في السوربون أعيادا ثقافية واحتفاليات فكرية يضيؤها أركون بثقافته الموسوعية الكونية والبيداغوجية.
في بداية السنة الدراسية، كان أركون يعلن عن الموضوع العام لدروسه. وهكذا فقد خصَّص سنة كاملة لدراسة الرِّسالة للأشعري، وسنة كاملة لتفسير الطبري، وأخرى لتفسير الرَّازي، ثم رابعة عن الحداثة والإسلام. وأزعم أنني سجَّلت كامل حلقات هذه السَّنة وأعطيتها لهاشم صالح ليفرغها ويكتبها وينشرها في كتاب الإسلام والحداثة. ثمَّ خصَّص أركون سنة للفكر الابستيمولوجي عند العرب، ولا أنسى أبدا السنة الدراسية التي خصَّصها لفصل المقال لابن رشد ثم سنوات عديدة للدراسات القرآنية والمناهج التي اتَّبَعها المفسرون المسلمون الأوائل ثم المستشرقون ومجلة المنار وغيره كثيرون.
يضيق بي حيِّز المقال على أن أتحدَّث بإسهاب عن كل المداخلات والنِّقاشات والحوارات التي كانت تجري في محاضرات أركون في السُّوربون؛ ولكن يمكنني أن أستعيد طريقته ومقاربته من خلال شرحه ومقاربته لفصل المقال لابن رشد.
كانت طريقة أركون في تحليل خطاب ابن رشد تتشعب وتتنامى وتعتمد على مجموعة اختصاصات، وهي الطريقة التي كان أركون يأمل في أن يدخلها إلى أفهامنا وإلى ثقافتنا، وأظن أنه كان يعكس طريقته أو بداية طريقته الموسومة بالإسلاميّات التطبيقية التي لم تكن قد تبلورت أو أخذت شكلها المعروف فيما بعد.
كان أركون يقوم بوضع أشكلة للمصطلحات بعد عرضها وفهمها، يبحث في الجهاز المفهومي عند قراءة النَّص، ويزحزح المفاهيم التي كان يستخدمها ابن رشد ثمَّ ينقلها من أرضيتها ثم يتجاوزها. وهي الطريقة التي برع فيها أركون ونظر لها في كتابه الأنسنة والإسلام تحت عنوان الانتهاك الزحزحة والتَّجاوز.
كان أركون يتجوَّل بنا في أقاليم الفكر والثقافة، ويغوص في أعماق التَّاريخ حتى الوصول إلى حضارات ما بين النَّهرين السَّابقة على الإسلام، وكان يلحُّ على هذه الفكرة كثيرا وكان ينصحنا ويطلب منا أن نعود إلى الإرهاصات الأولى قبل الإسلام في الجزيرة العربية والحجاز وإلى تاريخ هذه المنطقة وخاصة التَّاريخ الدِّيني الذي كان يتناوله من زاوية الأنتربولوجيا الدينية والتاريخ الأركيولوجي على طريقة فوكو. وكان يلحُّ من جهة أخرى على معرفة ودراسة الطبقات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تراكمت على أرض الجزيرة العربية.
كان أركون يعيدُنا إلى القرآن الكريم كمصدر ثقافي يمكن للباحث من خلال دراستِهِ لهُ دراسةً تاريخيةً أنتربوبولوجيةً أن يرى ما كان يحدث تاريخيا على أرض الواقع. فالقرآن يعكس هذا الجدال العنيف والتنافس على رأس المال الرَّمزي بين النَّبي محمد في أوَّل الدَّعوة الإسلامية وبين الوثنيين الذين كان القرآن يسمِّيهم بالكفار. فالنَّبي محمد خاض هذا الصراع والجدال أوَّلاً مع قبيلته قريش التي كانت تمتلك رأس المال الرَّمزي ورأس المال الاقتصادي والاجتماعي السَّائد آنذاك. ولكن ها هو النبي محمد يقوم بانقلابين هائلين كبيرين على المعتقد والإيمان السَّائدين في ذلك الوقت: الأول هو الانقلاب على الوثنية ذات الآلهة المتعدِّدة المنتشرة في النِّظام القبلي السَّائد، ثم الانقلاب الثاني على الديانتين التَّوحيديتين اليهودية أوَّلا التي كانت منتشرة منذ مئات السِّنين في بعض القبائل مثل بني قريظة، والمسيحية ثانيا التي وفدت منذ القرن الأول الميلادي والتي اعتنقتها بعض القبائل مثل الغساسنة والمناذرة وغيرهما.
كان هذا إذن انقلابا هائلا على الوثنية الجاهلية وعلى الديانتين التَّوحيديتين، وكان أركون يرينا من خلال الآيات القرآنية التي تعكس ذلك الصراع بين الدِّين النَّاشئ الصَّاعد وبين خصومه ومنافسيه وكان هؤلاء يصفون ما كان يقوله النبي بأنه أساطير الأولين.
كانت محاضرات أركون تعكس هذه الجدالات والنِّقاشات والتَّنافسات الحادَّة التي تعكسها الآيات القرآنية. ولهذا كان يلحُّ علينا أن نعود إلى المصادر التاريخية المنقولة والمدروسة بشكل علمي بعيدًا عن الأسطرة وعن القراءة الإيمانية التي تخدِّر الفكر النقدي والفلسفي. كان يقول لنا لن تفهموا تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن إن لم تفهموا تلك النِّقاشات والسِّجالات التي كانت تدور بين النبي وبين ممثلي الدِّيانتين اليهودية والمسيحية ثم بين الرَّسول والقبائل الوثنية في مكة والمدينة وذلك من خلال المنهج الانتربولوجي والسيميائي والتاريخي.
إن التَّركيز على المنهج التاريخي والاجتماعي والأنتربولوجي من قبل أركون كان هدفه أن يبيِّن لنا في محاضراته بالسُّوربون وجود أطرٍ اجتماعية وثقافية وتاريخيَّة ولد فيها الإسلام في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وأنه ينبغي العودة إلى هذه الأطر ودراستها من منظور تاريخي نقدي اجتماعي أنتربولوجي، وأن كل دراسة خارج هذه المنظورات والأطر تبقى دراسات لا قيمة علمية لها. كان أركون يحيلنا إلى مراجع استشراقية علمية مهمة منها المدرسة الفيلولوجية الألمانية لعلماء مثل نولديكيه صاحب أهم كتاب عن القرآن في الاستشراق الغربي قاطبة وهناك أيضا كولدزيهر وجوزيف شاخت والمستشرق الإنكليزي واط والمعاصر جوزيف فان أس الذي دعاه أركون لالقاء محاضرات في السوربون، والتي حضرناه في بداية الثمانينيات وكان يحلو لأركون أن يصف أعمال فان أس بأنها تتويج للدراسات الفيلولوجية الألمانية ودرَّة دراسات الاستشراق قاطبة، ويصفها بأنها الهيمالايا لرسوخها وعظمتها. وكانت دراسات ميريسيا إلياد على رأس قائمة المصادر في تاريخ الأديان التي كان ينصحنا أركون بدراستها وتحليلها.
وتحتل كتب السيدة جاكلين شابي مكانة متميَّزة في قائمة المراجع التي كان أركون يذكرها والتي خصَّص لها ولأعمالها حيِّزا مهمًّا، وهو يرى أنَّها ذهبت إلى المدى الأقصى حتى الآن في تطبيق المنهج التاريخي الصارم متجنِّبة ثغرات المنهج الفيلولوجي الاستشراقي. كان يحلو لأركون أن يعتز بكون هذه الباحثة القديرة اللامعة هي إحدى طالباته وقد أهدت كتابها “الأركان الثلاثة للاسلام” لأركون. أذكر فيما بعد أنني تعرَّفت على هذه الباحثة الفذَّة وقمنا أنا ورشيد بن زين بإجراء مقابلة معها أكدَّت فيها مقولات أركون حول ضرورة دراسة الأطر الاجتماعية والثقافية والتاريخية للجزيرة العربية قبل الإسلام.
كان أركون يرى في محاضراته على أن المظهر التاريخي والاجتماعي هو الذي يشيِّد أسس الواقع الاجتماعي والتاريخي للواقع، وليس البناء الديني والغيبي، وهذه كانت نقطة مهمة يعيد تكرارها. لم يكن أركون ضد الإيمان والعقيدة، ولكنه كان يردِّد أن الإيمان أُفرِغ من مضمونه الروحي في المجتمعات التي تنتشر فيها الظاهرة الإسلامية بسبب التكرار التقليدي وغياب الاجتهاد الفكري والفلسفي والرُّوحي الذي كان سائدا في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية حتى موت ابن رشد سنة 1198.
كان أركون يردد في محاضراته أيضًا أنه يسعى إلى إدخال الفكر العربي الإسلامي -ومن خلاله المجتمعات العربية الإسلامية- إلى فضاء الحداثة الفكرية الغائبة عنه منذ وفاة ابن رشد وانحسار الفكر الفلسفي وغيابه عن الساحة العربية الإسلامية.
يرى أركون أن الإسلام جزءٌ من الديانات التوحيدية اليهودية والمسيحية ويحاول من خلال محاضراته ودراساته وكتبه أن يبيِّن الصِّلة الوثيقة والقوية التي تربط الإسلام بهاتين الديانتين، فهي جميعا تنتمي إلى ظاهرة الوحي التَّوحيدي الإبراهيمي. وكثيرا ما كان يتألَّم ويثور على مواقف ممثِّلي هاتين الدِّيَّانتين التي تبعد الإسلام عن ساحة الوحي التَّوحيدي، وينتقِد هذا الموقف تاريخيّا؛ مستعينا بالمنهج الأنتربولوجي والسِّيميائي، ويبيِّن من خلال أمثلة القصص في القرآن التي تتوارد في النَّصين اليهودي والمسيحي ومن وجود ما يسمى بالإسرائيليات في القرآن الكريم ومن تماثل موضوعات داخل القرآن والعهد القديم والجديد.
ويشير أركون إلى ابتهاجه بالحدث التاريخي الكبير لمجمع الفاتيكان الثَّاني الذي أنهى هذا التفريق بين الأديان الثلاثة، وذلك من خلال اعترافه بالإسلام بوصفه دينًا توحيديًّا مثله مثل المسيحية واليهودية.
وكثيرا ما كان في محاضراته يعبِّر عن موقفه المعارض للأيديولوجيات التِّي تحجب الحقيقة التَّاريخية والاجتماعية لما حصل في المجتمعات المصبوغة بالصِّبغة الإسلامية. كان أركون يستعرض هذه الأيديولوجيات ويعرِّيها معرفيا وفكريا يبدؤها بالأيديولوجية التَّقليدية السَّلفية المحافظة جدًّا؛ التي تشمل المفسِّرين والمتكلِّمين ومعظم التَّيَّار الدِّيني السَّلفي المتزمِّت الذي سيطر على الفكر العربي الإسلامي منذ سقوط المعتزلة والفلاسفة في المشرق العربي أوَّلا، ثم منذ انحسار الفلسفة واختفائها وموتها في المغرب العربي بعد رحيل ابن رشد سنة 1198 ليترك السَّاحة الفكرية لرجال الدِّين ومسيِّري الشؤون الدينية. هذا التيَّار ما يزال يسيطر على السَّاحة الفكرية في المشرق والمغرب العربيين على السَّواء، وفي كلِّ البلاد ذات الصّبغة الإسلامية. وقد عززت هذه السيطرة ولادة الحركة الوهابية الحنبلية المتزمِّتة في الجزيرة العربية وحركة الإخوان المسلمين في مصر في الثُّلث الأول من القرن العشرين والحركات الإسلامية الدينية المشابهة في باكستان والهند وغيرهما ثم أخيرا وصول “الثورة الإسلامية” الشيعية بقيادة الخميني إلى السلطة في إيران.
ثم تأتي أيديولوجية الكفاح أو الأيديولوجية القومية التي جيَّشت المخيال الإسلامي الغني بالرموز الدِّينية والثَّقافية لتحشد الجماهير ضد المستعمر الأجنبي لانتزاع الاستقلال الوطني وتأسيس الدَّولة القومية. هذه الإيديولوجيا التي استولت على السُّلطة السِّياسيَّة بالقوة وفرضت سياسة الحزب الواحد والقائد الواحد مستلهمة التاريخ الإسلامي مع التركيز على الشخصيّات القومية والزَّعامات الوطنية لتدغدغ الشُّعور القومي والإسلامي معًا وتهيمن عليه وتستعمله كمشروعيّة ثقافية ودينية دون أن تقوم بالمهمة الرئيسة الأساسية أو ما يسميه أركون بالتحرير الثاني للوطن ويعني به التحرير الفكري والثقافي لهذه المجتمعات.
أما الأيديولوجيّة الاستشراقية في قراءة التراث الإسلامي من ثقافة وتاريخ ومجتمع، التي كانت تركز على مناهج الفيلولوجيا الكلاسيكية للقرن التاسع عشر وتعمل على تحقيق النصوص الكلاسيكية وتقديمها وشرحها بمنهجية باردة لا تنخرط معرفيًّا في مواجهة الإشكاليات التاريخية والمصيرية للمجتمعات المدروسة ولا تتضامن معها معرفيًّا بمساعدتها على إدخال المناهج الحديثة الفعَّالة التي تطبقها هي نفسها على مجتمعاتها. مع العلم أن أركون كان يثمن ويمدح الجهود المعرفية الاستشراقيّة التي أخرجت مئات ومئات المخطوطات والكتب التي طواها النِّسيان إلى الضوء، وقدَّمتها للفكر الإسلامي والعالمي. وفي الواقع، ما كان ينتقده أركون في محاضراته من مناهج استشراقية إنَّما هو أيضًا توقُّفها عند المنهج الفيلولوجي التَّاريخي دون معالجة الإشكاليات الفكرية على ضوء العلوم الإنسانية من تاريخ وعلم اجتماع وأنتروبولوجيا وعلوم اللغة الحديثة التي فتحت آفاقا فسيحة وواعدة في دراسة النصوص والخطابات الدينية.
ولطالما اشتكى أركون في محاضراته من الإهمال والنَّبذ والاستبعاد للإسلام من قبل الباحثين والمثقفين والمفكرين الفرنسيين. مع العلم كما كان يقول فإن الإسلام هو الفرع الثَّالث من الدِّيانات التوحيدية ولها فيما بينها صلات وثيقة بالتاريخ والثقافة والحضارة الأوروبية. والإسلام كما يقول أركون ساهم مساهمة كبيرة وفعَّالة في تثقيف أوروبا في العصور الوسطى ونقل إليها التُّراث اليوناني من فلسفة وطب وغيرها من العلوم، كما أنَّ ابن رشد هو الذي فتح أبواب العقلانية اليونانية ورسم آفاقها أمام الفكر الأوروبي. ويستغرب أركون استبعاد المفكرين الفرنسيين والأوروبيين للإسلام من دائرة اهتماماتهم، على الرَّغم من كونه أحد مكوِّنات المجتمع الفرنسي والأوروبي ويحتلُّ المرتبة الثانية كأكبر دين في أوروبا حاملاً معه ثقافته وفكره.
أذكر في إحدى مناقشاتي مع أركون في بيته أنه كان يتألم من هذا الاستبعاد للإسلام. ولمَّا سألته كيف يعلِّلُ هذا الإبعاد والإقصاء، فأجاب بأنَّ معظم الفلاسفة والمفكِّرين الفلاسفة كفوكو ودريدا وليفي ستراوس والتوسر وحتى بيير بورديو كانوا يعتبرون أن المسالة الدينية قد حُلَّت في المجتمعات الأوروبية ولا أهمية لإعادة فتحها من جديد، بالإضافة إلى أنَّ بعضهم كان نهلسيًّا عدميا كفوكو من هذه الناحية. ولما سألت أركون عن موقف بول ريكور من هذه المسألة هزَّ رأسَهُ حزنا وهو يقول ما معناه أن موقف بول ريكور من الإسلام لم يكن بتقديره واضحًا مع أنَّه كان مسيحيّا مؤمنًا ويمارس الطُّقوس الدِّينية والتَّعبد، وأنه يعرفه منذ زمن طويل أي منذ نهاية الخمسينيّات في مدينة ستراسبوغ، وأنَّ الحوار معه لم ينقطع، وأنَّه زاره قبيل وفاته في بيته ذي الحيطان البيضاء في شاتني مالابري “حيث كنتُ أسكن مدة خمس عشرة سنة واِلتقيته مرَّةً واحدة”. يقول أركون متابعا حتى بول ريكور لا يدرج الإسلام في اهتماماته ومشروعه الفكري. ثم يتابع أركون هناك باحث ومفكر فرنسي آخر خيَّب أملي وظنِّي، وهو مارسيل غوشة الذي كرَّس مشروعه الكبير حول خروج المجتمعات الأوروبية من نطاق الدين وإساره في كتابه المشهور اِنحسار السِّحر عن العالم. كرَّس هذا الباحث والمفكر الكبير مجموعة كتب مهمَّة عن مسائل الدِّين والّدِّيمقراطية والسِّياسة دونما تعرُّضٍ للإسلام، ويتابع أركون بأنَّه حينما اِلتقاه عاتبه وانتقد تقصيره المنهجي واستبعاده الإسلام عن مشروعه؛ عبَّر غوشية عن أسفِه لأنه لا يمتلك معرفة عميقة بالإسلام وحضارته وثقافته وفكره.
ويستثني أركون باحثيَن لم يستبعدا الإسلام كدين وحضارة عن بحوثهما وهما جاكلين شابي التي مرَّ ذكرُها سابقا والتي خصَّصت برأي أركون واحدة من أهم الأعمال عن الإسلام في كتبها أركان الإسلام الثلاثة، وهو عبارة عن دراسة أنتربولوجية للقرآن المهدى من قبل المؤلف لأستاذها أركون، وكتاب محمد سيِّد القبائل والقرآن مشروحاّ.
أما الباحث والمفكِّر الثَّاني الذي كان موقفه عادلا وإيجابيا برأي أركون من الاسلام فهو ألان دو ليبيرا وهو من أهمِّ الاختصاصيِّين الفرنسيين في تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى. فهذا المفكِّر الكبير والأستاذ في الكوليج دو فرانس كان قد كتب بحثا مهمًّا عن الإسلام، ذكره عنه أركون في مقال له بجريدة الحياة كما كان يذكره في محاضراته في السُّوربون، وهو بحثٌ عنوانه “الإرث المنسي” ويقصد به الإسلام الذي شهد فترات ناصعة من الفكر والحضارة في العصور الوسطى. ودو ليبرا هذا هو واحد من أهم المدافعين عن الحضارة الإسلامية وعن فلسفتها وثقافتها في العالم. ” أذكر أنني اِلتقيته مرَّة في مكتبة لا كومبانيي قرب الكوليج دو فرنس، وقدَّمت نفسي على أنَّني طالب وصديق أركون، ورغم ضيق وقته فقد كرَّس لي نصف ساعة تقريبا من وقته، وما أزال أذكر جملته التي ما زالت ترنُّ في أذني حينما قال: إن هناك ثلاثة مثقفين ومفكرين في العالم دافعوا عن الثقافة العربية الإسلامية في المحافل الثقافية العالمية والدولية أولُّهم محمد أركون الذي أكنُّ له كلَّ التقدير والمحبة على الصعيدين الفكري والشخصي، وهناك أيضا إدوارد سعيد صاحب الكتاب المشهور الاستشراق ثم أنا؛ لقد ناضلت ولا أزال أناضل لإعادة الاعتبار للفكر العربي الإسلامي وإدراجه ضمن الثقافة الأوروبية والعالمية وفي المكانة التي يستحقها.”
إن الأهداف التي كان ينشدها أركون من وراء بحوثه ودراساته وتدخلاته في الفضاء العام للمجتمع كثيرة، وسأقوم بتلخيصها بشكل وجيز:
كان أركون يرمي إلى إدخال الإسلام في الحداثة وذلك عن طريق تفكيك كل السِّياجات الدوغمائية المغلقة سواء أكانت إسلامية أو غربية.
إدخال التَّاريخانيَّة في دراسة الدين الإسلامي وثقافته وحضارته وكتابه المقدس.
التأكيد على نزعة الأنسنة في الإسلام والتركيز عليها كمحور رئيس لنزع هالة التَّقديس والماورائيات عن تاريخ الإسلام، فالإنسان هو مركز الكون والمجتمع بحركته داخل التاريخ هو ما يجب دراسته.
أشكلة مسألة الوحي لأول مرة في تاريخ الإسلام ومعالجتها بمناهج تاريخية أنتروبولوجية واجتماعية وفلسفية.
تأسيس علم لاهوت حديث بدلا من علم اللاهوت الموروث عن العصور الوسطى والذي يقف عائقا عن دخول المسلمين والفكر العربي الإسلامي في الحداثة. وكان لأركون دور مهمّ في تأسيس المركز المدني لدراسات الحدث الديني في ضاحية مونتروي في باريس. كان أركون يدعوني في كل تدخل له في هذا المركز المفتوح لكل الباحثين من أنحاء العالم، وإني لأذكر وبكل فخر كيف كان مئات الحاضرين يقفون في نهاية مداخلة أركون وهم يصفقون تقديرا وإجلالا لهذا المفكر الكبير.
ولن أنسى ما حييت حينما دعاني أركون لحضور مداخلته في الاكاديمية للعلوم الأخلاقية والسياسية في باريس يوم الاثنين في الثالث والعشرين من كانون الثاني عام 1989 مع هاشم صالح حول موضوع الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان بحضور حشد كبير من علماء ومفكري فرنسا. في ذلك اليوم تألق أركون وشعَّ أضواء وأنوارا وأخرج أفضل وأعمق ما لديه من مخزون فكري وفلسفي فأبهر الحضور بعد أن قدَّم عرضا لتاريخ حقوق الإنسان وموقف الإسلام منها، وقد حاوره وناقشه المؤرخ الفرنسي المشهور بيير شنو، والمفكر الاختصاصي بالفلسفة الإسلامية روجيه أنالديز، ولن أنسى ما حييت أقوال بيير شنو بعد نهاية الجلسة وهو يردد : هذا شيء مذهل، هذا شيء مذهل، تعبيرا عن إعجابه الكبير بمداخلة أركون. وأذكر أنني قمت بتسجيل الجلسة كاملة وقدمتها لأركون ولهاشم صالح الذي عمد إلى ترجمتها ونشرها في كتاب الفكر الإسلامي نقد واجتهاد.
ذكرى أخرى لا تقلُّ عنها روعة حينما دعاني أركون لحضور النَّدوة العالمية حول الحوار مع الإسلام في 12 تموز 2007 في مجلس الشيوخ الفرنسي الذي يقع في حديقة لوكسمبورغ الشهيرة، وكان عنوان محاضرة أركون القرآن الإسلام والحداثة. وإني لأذكر جيِّدا ردَّة فعل أركون وتهكُّمَه أمام دعوة السناتور الذي طلب منه أن يقدم مداخلته في زمن لا يتجاوز ربع ساعة، فما كان من هذا السناتور إلا أن قال لأركون سيدي البروفسور يمكنك أن تأخذ الوقت الكافي لتعبِّر عن أفكارك. كان أركون خطيبا مفوَّهًا، تشهد له قاعات السُّوربون والمؤتمرات والراديو وشاشات التلفزيون على مقدرته الهائلة في الإقناع وجذب الانتباه والإبهار، ولكنني لم أرَ أركون طيلة ثلاثين سنة رافقته فيها كما كان في تللك اللَّحظات في مداخلته؛ وكأنّ أنوارا علوية هبطت عليه أو وحي شعريٌّ اجتاح مخيِّلَتَه أو استلهاماتٌ ما ورائية راحت تحلِّق فوق المكان، وعند انتهاء مداخلته كانت القاعة الضخمة بمئات من الحاضرين يتقدَّمُهم أربعة عشر سناتورا وقوفا وهم يصفقون تقديرا وإعجابا واحتراما لهذا المفكر الاستثنائي بعد أن دوَّخهم خطابُه الباهر. ولم أستطع أن أتمالك نفسي فتركت دموع الفرح تسيلُ بعفوية وصدق. بعد الغداء الفاخر في القاعة التي كان يتناول فيها الإمبراطور نابليون طعامَه، وبعد انتهاء فعاليات الندوة أشار إلي أركون أن أرافقه إلى الخارج، ودعاني إلى بيته الذي يقع قرب محطة الشرق للقطارات.
كان أركون بهيًّا وقورا مثل آلهة اليونانيين. بادرني بالسُّؤال عن انطباعاتي حول الندوة، فأجبته بأنني لم أره في حياتي كلِّها بهذا التَّألق والتَّوهج والتَّحليق في الأعالي لدرجة كنت أتخيل أنني في حضرة ميشيليه المؤرخ الفرنسي الأهم في القرن الثامن عشر والمشهور بعبقريته الخطابية وبأسلوبه البلاغي الفريد.
قال لي أركون حينما أكون في أمكنة تاريخية مجيدة كمجلس الشيوخ أحسُّ بأنني أعيش كلَّ الاحداث التاريخية العظيمة التي جرت في هذه الأمكنة وأن أصداءها تتردد في ذاكرتي فتحملني على أجنحة الخيال.
هناك مئات الذكريات التي عشتها مع محمد أركون ما زالت تتردد أصداؤها في آفاق حياتي وعمري، وهي تشكل الذاكرة الشخصية والفكرية لي. لقد كتبت مئات ومئات الصفحات عن هذا العالم الجليل والصديق الأبدي والأب الروحي الذي ما زال يسكن أعماق القلب ويحتل تلافيف الروح وأرجو أن تمهلني الأقدار قليلا لكي أوفيه حقَّه وأعيد إلى ذكراه ما كنت أردد على سماعه عبارة: دين المعنى وأن أنشر عنه حصاد ثلاثين عاما من صداقة أقوى من الغياب وأقوى من الموت.