محمد سليم شوشة
باحث وناقد مصري
لا ترتكز تجربة صلاح فضل النقدية العريضة في تجددها وتحديثها فقط على موهبته وتأسيسه العلمي الرصين في الأزهر ودار العلوم وقدرته اللغوية أو حتى على تعلمه في الغرب بعد ذلك وارتباطه بالنقد في الغرب وحسب؛ بل يمكن أن نقول إن جوهر تجددها ينبع مما ارتكزت عليه هذه التجربة من التحولات والمنعطفات الحاسمة والمهمة التي جعلته ممتد الفاعليّة النقدية صاخب الصوت والرأي في الأدب والثقافة حتى آخر يوم في حياته، فلم يقدر الزمن بتحولاته أو الثقافة بقفزاتها وتطوراتها المستمرّة على أن تتجاوز فكره النقدي أو تحوله إلى نموذج مَرْحَلي قديم، بل ظل في رأينا متجددا شابَّ الفكر النقدي مرهف الحساسية ومشحوذ الذائقة إلى النهاية، ويمكننا في هذه الدراسة أن نشير إلى أهم المنعطفات الحاسمة في مسيرته النقدية ونقارب دوافعها وحالاتها وتمثّلاتها وذروتها ومنابع تدفقها.
المنعطف الأول في تقديرنا هو ذلك المتمثل في الوعي الجذري بالارتباط والتشابك العميق بين الأدب والألوان والأشكال والمنتجات الثقافية الأخرى، واستيعابه لمبدأ النسيج الثقافي المتصل والمتشابك الذي لا يمكن للأدب بأجناسه من الشعر والقصة والمسرح والرواية أن يكون منفصلا عن الخطابات الأخرى سواء أكانت ثقافية مثل الدراما والسينما والإذاعة والصحف أو خطابات ترتبط بالسياسة والاجتماع والخطابات الدينية والحال الحضارية للمجتمع الذي يتصدّى لنقد أعماله أو مقاربة أحواله وتشريح ثقافته. لقد كان صلاح فضل -حسب ما أشار في كتابه عين النقد- واعيا منذ بداية سفره إلى أوروبا ليكمل دراسته بالتشابك العميق والجذري بين الأدب والفنون التشكيلية والبصرية المختلفة وأنها كلها مهمة وتمثل خلفية معرفية لا غنى عنها لنموذج الناقد الشامل الذي أراد أن يكونه، أو يمثل حلمه منذ البداية. فيؤكد أنه في فترة دراسته في إسبانيا لدرجة الدكتوراه قد استوعب هذه الأميّة البصرية والأمية بالفنون التشكيلية -حسب تعبيره- التي كانت لدى الدارسين العرب للأدب، ولذا فقد عمل على تثقيف نفسه وإكمال هذه النواقص عبر قراءات وتجارب في الرسم والموسيقى والنحت وغيرها من الفنون الأخرى، والحقيقة أن هذا المنعطف الناعم والمتدرج كان له أثره العميق في تجربته النقدية وفي مقارباته وتطبيقاته التي كانت على وعي بالأبعاد البصرية والتشكيلية لطاقات اللغة أو للفنون اللغوية، فاستوعب التشكيل والتكوين البصري داخل النصوص ولاحظ تقاطعات الفنون والخطابات مع بعضها وتراسلها أو تبادلها وما يكون من الاستعارات المستمرة بينها.
وكانت ذائقته الجمالية تتجاوز اللغة إلى الجمال غير اللغوي أو الجمال التشكيلي والبصري، ولذا في كثير من دراساته على القصائد والنصوص الشعرية لكل من صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي والبياتي مثلا يكشف عن هذه الأبعاد الجمالية البصرية المستمدة من الخارج إلى داخل النصوص الشعرية، وكان وعيه بالأبعاد الحركية والدرامية مهما في إضاءته لهذه النصوص بحسب ما يقف مع دراسته لصلاح عبدالصبور من منظور درامي ومسرحي وسردي، وكذلك بحسب وقفته مع أمل دنقل وشعره من منظور سينمائي كان يمثل حسا نقديا طليعيا في ذلك الوقت بحسب الدراسة التي صدرت في كتابه قراءة الصورة وصور القراءة عن دار الشروق في نهاية التسعينيات، وربما سبقتها فكرة أولية كانت قد صدرت ضمن كتابه إنتاج الدلالة الذي أصدره في الثمانينيات، وهذه الصلة بين الشعر والسينما كانت طريفة وجديدة في ذلك الوقت، وبخاصة وأنه كان قد تعمق في مقاربة أثر بعض التقنيات السينمائية داخل النص الشعري مثل المونتاج وفكرة التجاور ومعناه، وقد كان ذا حساسية ووعي سبّاقين حين مال إلى معطيات السيميولوجيا في هذه المقاربة مستعينا بذلك الالتقاء بين الصورة والعلامة داخل منظومة الرمز والإيحاء وإنتاج المعنى عبر صفّ العلامات أو تركيبها ووضعها في بنية تجعلها دالة وقادرة على إنتاج الدلالة وإنتاج القيم الجمالية.
والطريف مثلا في تقريبه لهذه الفكرة أنه استمد مثاله من فيلم شباب امرأة ليبدأ به فكرته عن المونتاج في شعر أمل دنقل. يقول: “وعندما يقوم المخرج مثلا في فيلم شباب امرأة بالانتقال من صورة الشاب القرويّ الذي تغويه صاحبة المنزل وتستنزفه جنسيا إلى البغل الذي يدور في الرحى حتى يكاد يغمى عليه فإن المجاز التمثيلي يتم عبر المونتاج، فلو تأخر المونتاج دقيقة واحدة لفقد سياقه وتبدلت دلالاته، ولا يمكن للسرد السينمائي المكثف أن يتم بدون المونتاج. وهذه فيما يبدو لنا التقنية المُثلى عند أمل دنقل في قصائده، شذرات من عوالم مختلفة، يتم قطعها ولصقها بإيقاع محسوب. وهي غالبا شذرات متخالفة -كما قلنا- في الزمان والمكان، لكن صوغها في سبيكة قولية واحدة؛ إدراجها في أنساق متعاقبة بهذا الشكل دون سواه، هو المكون الرئيس لبنيتها الجمالية”. قراءة الصورة وصور القراءة، دار الشروق، 1997م، ص40.
ومن هذا التأسيس للفكرة ينتقل إلى نصوص أمل دنقل ويكشف عن طاقاتها التشكيلية والمادية والبصرية ويربط بين توظيف التراث لديه وبين آخرين غيره باحثا عن نقاط تميز أمل واختلافه الجذري في التصور النابع من تأثره بعوامل ثقافية جديدة شكلت ذهنية الشاعر وفق منطق مختلف، والطريف أنه يقارن بين نبرات للصوت الشعري وتصورات متنوعة لدى عدد من الشعراء، فالفكرة نفسها يتصور كيف كان يمكن أن يؤديها أو كيف كانت ستخرج وتتمثل شعريا على لسان السياب أو البياتي أو نزار قباني أو غيرهم من الشعراء، في تشريح أسلوبي عميق يميز بين الشعراء وأصواتهم وطرائقهم. لكن يبدو أنه كان منحازا لصلاح عبد الصبور الذي أدرك كمّ اطلاعه وعمق علاقته بالآداب الغربية واستيعابه لها وامتصاصه لرحيقها، وبخاصة ما يتصل بفنون الدراما والمسرح وتعدد الأصوات. إذن فقد كان الوعي التشكيلي والبصري لدى الناقد الأدبي هنا منعطفا مهما ساعده على استجلاء طاقات النصوص الأدبية عامة والنص الشعري خاصة، ومقاربة التحولات التي أثرت في الشعراء وغايرت من ذائقتهم وقادت ذهنيتهم ووعيهم الشعري، وأدرك تحاور النصوص الأدبية بشكل عام مع الفنون والألوان الثقافية الأخرى وبخاصة القريب منها مثل السينما والدراما والإذاعة وفنون التمثيل بشكل عام.
بل ربما يكون الأكثر طرافة من ذلك في إفادته من هذه الذائقة التشكيلية والبصرية التي كونها أنه قد قدم مقاربات نقدية عميقة لهذه الفنون التمثيلية والدرامية مستقلة أو لذاتها كما نجد في مقاربته لبعض المسلسلات والأعمال السينمائية وذلك في الكتاب نفسه الذي أشرنا إليه “قراءة الصورة وصور القراءة”، فقد قدم مقاربة في مسلسل ليالي الحلمية، ووقف وقفة طويلة معه وربطه بالشائع أو الدارج على ألسنة الناس من أصداء وتأثيرات انعكست على الجمهور، وبخاصة ما اتصل بأداء بعض الممثلين مثل صفية العمري ونمط المرأة التي قدمتها عبر صورتها أو مكياجها فيما يمثل قراءة نقدية للشخصية نابعة من صورتها، وهو ما طبقه على شخصيات أخرى، وقدم كذلك مقاربة لمسلسل خالتي صفية والدير لبهاء طاهر من هذا المنظور النقدي نفسه وعقد مقارنة بين النص الروائي والعمل الدرامي، وأشار إشارات عميقة إلى الإكراهات والمسارات التي يكون محتما على الخطاب الدرامي السير فيها بانفصال أو اختلاف عن جذور العمل الأدبية، وكيف يمكن أن تكون هناك فجوة بين العمل الدرامي المأخوذ عن نص أدبي وبين هذا النص لاعتبارات تتصل بالمتلقي أو تتصل بالعوامل والسياقات السياسية ومنشئ الخطاب وحتى كذلك المعلنين أو الرعاة من أصحاب الإعلانات والشركات التي تتولى تمويل العمل الدرامي، في فكر ثقافي سبّاق بالنسبة لنا عربيا في ذلك الوقت وتلك العقود، وهو ما يدفعنا في الوقت الراهن للتساؤل عن أثر هذه الطليعية ومدى ما كان من البناء عليها أو الإسهام في تطور هذه الرؤية النقدية الثقافية الشاملة التي تخرج بالأدب إلى واقعه الاجتماعي وسياقاته الخارجية المختلفة من سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية أو ما يرتبط بنوعية المتلقين وسمات الجمهور أو اختلاف المنصة وشكل الخطاب وغيرها من الاعتبارات.
فهل جاء من نمّى هذا الوعي النقدي أو طوره أو اشتبك معه من الأجيال التالية التي كانت دائمة النقد لصلاح فضل في المرحلة الأخيرة بشكل خاص، تهاجمه لمجرد أن تصنع حضورها أو ترسم حدود وجودها تأسيسًا على مجرد الشجار والهجوم وليس الاختلاف والجدل النقدي؟ فمن المؤسف أن كثيرا ممن هاجموا صلاح فضل من النقاد أو اختلفوا معه -يفترض نقديا- في مرحلته الأخيرة لم يكونوا مستوعبين لكامل تجربته ولم يقرؤوه بدقة أو وعي وإخلاص حتى يضيفوا أو يبحثوا عن النقاط التي يضيفون إليها أو حتى لاستيعاب النقص والثغرات التي يجب عليهم ملؤها، بل كان خلاف الراغبين في المعاندة والبروز والباحثين عن مساحة لهم مستمدة من نقده ومجاورته اسما ليس أكثر، والدليل يمكن أن نلمسه في غياب الاشتباك النقدي الجاد معه، فمثل هذه الخلافات مع النقاد أو مراجعة منجزهم يجب أن يكون مكانها على الورق أو في الأبحاث والدراسات والمقالات وليس في الصالات وقاعات الندوات وأمام الكاميرات وحسب. فمع الأسف الشديد نجد أن كثيرا ممن ثاروا عليه من الأجيال التالية لم يتجاوزا صفة البلاغي القديم ولم يقدموا ممارسة نظرية أو تطبيقية تنم عن وعي أوسع أو حتى يناسب اللحظة التاريخية التي يكتبون فيها.
ومن المهم كذلك في هذا الصدد أن نؤكد أن صلاح فضل الناظر للفنون الأخرى التشكيلية والبصرية والمستوعب لأدوارها وتقنياتها والمالك لحساسية نقدية وذائقة رهيفة تجاهها لم يكن منسلخا من الأسس البلاغية واللغوية التي كان ينطلق منها في مقارباته للنص الأدبي، فكثيرا ما كان يرتكز نقده أيضا على المعرفة البلاغية أو الاستعارات والانزياحات أو حتى المعطيات النحوية والأساليب التركيبية، فيشير إلى الأساليب الإنشائية وأدوارها أو أنماط الجمل النحوية وأثرها أو يتفنن في مقاربة النواتج الجمالية والدلالية لأسلوب الشرط في قصيدة أو حتى نص من شعر العامية. والحقيقة أن موقفه من شعر العامية والفنون الشعبية هو بذاته دال بعمق على هذا الوعي الثقافي الشامل الذي كان ينطلق منه وأنه لم يكن يفرّق بين المنتجات والخطابات الثقافية المختلفة وكان مهتما بالجمال الأدبي والإنساني أينما كان بخلاف كثير من النقاد المدرسيين وبخاصة المنتمين للأزهر أو دار العلوم -ولو في جذورهم أو منطلقاتهم الأولى- ممن تعاملوا مع الفنون الشعبية والعامية باستبعاد وتعالٍ وأفق ضيق ظل مهيمنا حتى هذه اللحظة على أحدث الأجيال منهم.
المنعطف الثاني وهو ذو اشتباك واتصال بالمنعطف الأول، هو المتمثل في توجه صلاح فضل إلى الأنثروبولوجيا والعلوم النفسية أو المقاربة النقدية على أساس ومنطلق أنثروبولوجي ونفسي وسياسي واجتماعي ومرتبط بالطقوس والعادات الاجتماعية والطبقات والتحولات التاريخية أو السياقات المختلفة، والجذور الأسطورية، والحقيقة أن هذا المنعطف هو الذي هيمن على ممارسته النقدية في العقود الأخيرة ولا يمكن لأي قراءة نقدية له في إحدى الروايات أو في نص شعري أو نص سردي من نوع جديد، إلا ونجد فيها ظلالا للأنثروبولوجيا والمقاربة النفسية وعلم النفس المعرفي أو الإدراكي بشكل خاص، والحقيقة أن العقود الأخيرة المقصودة هنا تبدأ من النصف الثاني للتسعينيات أي منذ قرابة الثلاثين عاما قبل وفاته وهو ما يمثل حقبة طويلة وهي الأكثر خصوبة لديه، أو ما يمثل مرحلة الذروة والتوهج لديه، فأن يكون لديه هذا الوعي وهذا الحس النقدي الطليعي في تلك المراحل المبكرة فهذا أمر يجب أن يكون لافتا لانتباه النقاد من بعده والقارئين في تجربته أو المقاربين لتاريخه ومسيرته النقدية والفكرية.
درس صلاح فضل في تلك الحقبة أو تلك العقود ظواهر كثيرة ترتبط بالجذور والبذور الأنثروبولوجية والأسطورية في إنتاج كثير من الأدباء المصريين والعرب، فدرس إبداع سيف الرحبي في السيرة في التسعينيات من منظور أنثروبولوجي وتاريخي وجمالي وأسطوري، كما درس إبداع كثير من الكتاب العرب من هذا المنظور مثلما نجده في قراءاته لبعض الشعراء العراقيين أو السوريين وربط ذلك بالأساطير البابلية والآشورية القديمة، وكذلك قراءاته في التراث العربي أو نقده لبعض كتب التراث من منظور مختلف أو جديد وبخاصة الدراسات الأسطورية. درس صلاح فضل نصوصا من شعر العامية المصرية ودرس بعض الفنون الشعبية ولم يكن يرى الحدود التصنيفية الفاصلة بين الأنواع والأجناس بما يرتبها إلى قمة وقاع أو هامش ومتن، وحتى في الرواية درس مسألة اللغة أو سؤال اللغة العامية وقدم مقاربة عميقة لإبداع كل من جمال الغيطاني ويوسف القعيد، بحسب ما نجد من غوص عميق في رواية متون الأهرام لجمال الغيطاني، وحضور المكوّن الفرعوني فيها، ورمزيات هذا الحضور ونواتجه وكيفيات توظيفه سرديا في الرواية، وكذلك غوصه العميق في أثناء قراءته لرواية يوسف القعيد التي كانت تغلب عليها العامية، حيث قدّم مقاربة عميقة لسؤال اللغة أو توظيف العامية فيها في ضوء نظرة نقدية شاملة لاستراتيجيات الخطاب الروائي، وهذا هو المهم أن مقاربته لمستوى العامية كانت جزءا من الاستراتيجية الشاملة للخطاب الأدبي، مع ربطها بطاقات الأمثال الشعبية والحكم والمقولات الدارجة في العامية على لسان طبقات بعينها، وبلاغة هذه الجمل، وكيف يمكن للخطاب الروائي أن يكون جانحًا إلى أدوار تسجيلية أو دور تدويني للتراث الشعبي والرغبة في الاحتفاظ به أو حفظه من الاندثار والتلاشي بفعل التحولات الاجتماعية وبخاصة التكنولوجيا والميديا والتلفزيون والعوامل المختلفة التي مثلت غزوا للبيئات الهامشية أو الريف والمناطق الشعبية.
وهذا المنعطف الثاني هو ربما ما أسهم في تشكيل وعي كبير لديه بحتميات التطور الثقافي وضرورات تجدد الفنون والأشكال الأدبية وأنها لا تتجمد عند مرحلة بعينها وأن جوهر الإبداع في الاختلاف أو المغايرة وتجاوز الرتابة والتكرار، ومن هنا كان واعيا بعمق شديد لحتميات التحول في موسيقى الشعر وتحولات الذائقة الأدبية نفسها مما يحتم ميلاد أشكال شعرية جديدة، وذلك في أثناء مشاركته أو ربما إثارته من الأساس أو من البداية لمسألة قصيدة النثر ومشروعية حضورها في الثقافة العربية مع الأجيال الجديدة، ولذا فإن مقاربته لوضع قصيدة النثر في القصيدة العربية كان جامعا لحدود الاعتبارات الثقافية مع الوعي بمكونات النص الشعري وأنماط تشكله وتقنياته في إنتاج الموسيقى والدلالة والقيم الجمالية أو جماليات النص، فيمكن أن يكون أول من قدم مقاربة ثقافية لتحديات قصيدة النثر من حيث الذائقة الجماعية وإشكالات التلقي والاعتياد على أنماط بعينها وغيرها من الاعتبارات والأبعاد التي ارتبط بها مصير قصيدة النثر في قراءتها وتلقيها وتطورها أو استقرارها فنا شعريا مقبولا ومرغوبا أو العكس من حالات الرفض والصدمة في التلقي أو عدم القبول والانصراف عنها أو غياب الألفة مع القارئ.
وكذلك تفرقته العميقة بين القراءة والمشاهدة، وبين أشكال الاستقبال والتلقي المختلفة بناءً على اختلاف النوع الأدبي، فنجده في كتاب أشكال التخيل يطرح مقاربة عميقة لاختلاف التخييل أو المنتج التخييلي تأسيسا على وانطلاقا من اختلاف النوع الأدبي وأثر ذلك على عملية التلقي، ولذا يمكننا أن نقول إنه قد قدم في هذين الكتابين؛ المذكور سابقا وكتاب “قراءة الصورة وصور القراءة” مقاربات وممارسة نقدية في غاية الجدية والعمق لنظرية التلقي التي كانت جديدة وقتها، وذلك دون الاستعراض بمصطلحاتها وروافدها المعرفية أو جذورها التاريخية، بل ركز على روح الممارسة وجوهرها، مثلما ترضى النحلة من الزهرة برحيقها. يقول في كتاب أشكال التخيل مفرِّقا بين ثقافة القراءة وثقافة المشاهدة: “وهذا هو البعد الثقافي للقراءة الذي يجعلها تختلف عن المشاهدة، والذي يجعل الأعمال المتخيلة الكبرى تنكمش إلى جزء يسير من إمكاناتها التأويلية التي تجسدت عبر الوسائل البصرية، فألف ليلة وليلة في التليفزيون -على الرغم من براعة إخراجها وتمثيلها- مجرد شبح مسطح وتفسير أحادي الدلالة لبنية معقدة ثرية بالإيحاءات والرموز في النص المقروء”. أشكال التخيل، ص74. وهذا تقديم استثنائي ولمحة عميقة ومهمة عن دوافع وبواعث وأساسيات التلقي واختلاف القراءات نتيجة اختلاف النوع الأدبي واختلاف تقنياته، واختلاف الذائقة من السماعي إلى البصري أو من ثقافة إمتاع الأذن إلى ثقافة أخرى اقترنت بعصر الصورة والوسائل الحديثة التي تتدفق منتجاتها ومخرجاتها للعقل العربي أو للذائقة الجمعية.
وبرغم إدراكه التحول الثقافي الذي أحدثته الرواية في الثقافة العربية واستقرارها فنا مركزيا في الإبداع العربي أو حلولها مكانة متقدمة على الشعر لكنه لم يكن منحازا انحيازا مطلقا لها أو مجحفا ولم يدفعه ذلك إلى الجَوْر على الأشكال الأخرى أو يستشعر تراجع الشعر أو انتهاء سطوته. يقول: “فإن المدونة الروائية قد تقدمت في هذا القرن الأخير بشعريتها المميزة لتملأ فراغا أنثروبولوجيا فادحا في فضاء الكتابة الإبداعية، فهناك آلاف المجتمعات الخاصة واللحظات التاريخية المتحولة التي تظل مفقودة معدومة، إن لم تلتقطها حواس المبدعين، وتسجلها بهذه الطرائق الفنية المرهفة، بما يحفظ لها مذاقها وخصوصيتها ويجعلها تندرج في منظومة الوعي الثقافي بالحياة والتاريخ الباطني للروح الإنسانية”. أشكال التخيل، ص75. وهنا نجده يركز على الأدوار الأنثروبولوجية للرواية وقدرتها على تجسيد وتشكيل أنماط ثقافية قارة في الطبقات الشعبية أو الفئات المهمشة أو غير الممثلة في الفنون من قبل، ويستوعب الطاقات المختلفة والفائقة للفن الروائي في التمثيل والاستيعاب والهضم للنماذج والأنماط الحياتية بصورة تختلف جذريا عن القصيدة أو النص الشعري، ويستوعب مساحات التقاء الفن الروائي بفنون السرد مع المسرح أبي الفنون، كما يكرر ذلك دائما ويبدو منحازا له حتى في عصور ضعفه أو انزوائه النسبي، لكنه يظل مؤمنا به لاعتبارات كثيرة يسردها بعمق.
ويبدو في إطار هذه المقاربة الثقافية الشاملة مستوعبا لأساسيات ومبادئ الإبداع التي لا يمكن أن يتزعزع الإيمان بها لدى كل مثقف حقيقي، مثل الدفاع عن حرية الإبداع والإيمان بحق الاختلاف والتنوع وتعدد الأصوات ووجهات النظر أو تعدد المناظير للشيء الواحد أو للوجود، فتجده مثلا يناقش قضايا ثقافية عامة مثل فكرة المنع أو الرقابة على الكتب أو التحكم في الخطابات والأشكال المختلفة للمنتجات الثقافية المتدفقة إلى الوعي الجمعي أو إلى النسيج الاجتماعي، ويناقش أشكال السلطة والتقييد بمصادرها وأنماطها المختلفة، من سلطة دينية أو سلطة سياسية أو متراكم في العقل الجمعي وأشكال المنع والرقابة الكامنة والقيود في العقل. يقول: “وفي نطاق الإبداع العلمي والفني معا لا يمكن أن يتحقق إنجاز فعلي بدون حرية، ولنقصر حديثنا عن بقية المجالات المعرفية، فأبرز القيم التي تضمن الحيوية والقوة للإبداع الأدبي مستمدة من حرية التعامل مع الأعراف السائدة والخروج عليها وتعديلها. ولو كانت مهمة الأدب هي تكريس النماذج السائدة وتقديس الأنماط المهيمنة دون تطوير أو تثوير لفقد وظيفته في تحرير الوعي الإنساني من آليته، وفتح آفاق المستقبل أمامه. إنه لو عمد إلى مجرد تكرار المحفوظ من الأدب من الأقوال ووصف المسلم به من الأفعال لمات على الفور. إن حياة الأدب مرهونة بمساحة ما يستثمره من حرية التصور والتكوين الإبداعي. أشكال التخيل، ص118. فهنا يبدو مؤمنا بمبادئ وأساسيات لا تتزعزع ويستوعب مفاهيم الثورة الثقافية بشكل طليعي وعميق، والمهم أن ذلك الإيمان لم يكن مجرد إملاء نظري أو إدلاء شفاهي في آراء وقضايا ضاغطة أو ملحة، بل كان ممارسة تطبيقية كذلك ولذا فإنه يتجه إلى مبدعين شباب في وقتها من الشعراء والساردين الذين لفتوا الانتباه بقوة إلى تجاربهم المختلفة، على نحو ما نجد وقفته النقدية مع كل من سيف الرحبي في التسعينيات وكذلك وقفته النقدية مع شعر الشاعر المصري محمد متولي في التسعينيات أيضا عقب فوزه بجائزة يوسف الخال، ويقارب نصوصه وحالته الإبداعية في تجربته المغايرة في قصيدة النثر ومجموعته الشعرية (حدث ذات مرة أن..).
ومن هذه الزاوية في مقاربة الجديد أو الانتصار له إذا ما كان ذا قيمة أدبية حقيقية يقر مبدأ مهما من الاستيعاب للجديد والسماح بالتجدد والتطور والاختلاف وعدم التعصب أو الانغلاق على السائد أو المستقر والمألوف، وهي ما تمثل قراءة نقدية واعية وعميقة للواقع الثقافي العربي وتشابك الأدب وحالته القرائية مع الجذور الثقافية اللاواعية وسمات العقل الجمعي العربي، يقول:” إن حالات التعصب الديني والعرقي والطبقي هي في أساسها نقص في قدرة التكيف الثقافي، وإسراف في الاعتماد على أبدية الرموز الممثلة لأوضاع سالفة، دون الاعتراف بالمتغيرات الحاسمة الجديدة. أشكال التخيل، ص123. فيربط وفق هذا الفهم بين قراءة الإبداع الأدبي الجديد وتلقيه وبين مكونات العقل الجمعي وأنساقه الراسخة التي تحكمه أو تحدد مسارات التلقي والاستقبال لديه.
وهكذا يُقرُّ مبدأ الدفاع عن الأشكال الجديدة من الإبداع، والإيمان الدائم بمبدأ التجريب وحركية الإبداع المستمرة، بل الواجبة. ويتجلى ذلك في دفاعه عن الأشكال الجديدة من القصيدة أو الشعر الجديد في التسعينيات وما قبلها بقليل، وبحث أسباب رفض كثير من التيارات التقليدية لهذا الشعر، ويعود نصف هذه الشكوى على الأقل -في تقديري- إلى عالم الرفض المسبق لما نقرأه، فنحن لا نقترب من هذا الشعر في الواقع لنتعرف عليه، بل لنجد فيه ما تعودناه. فإذا كسر نظامنا المألوف وجرح حسّنا المعتاد بطريقة كتابته وتوزيع إيقاعاته، سارعنا إلى سوء الظن به واتهامه ورفضه، متجاهلين حقيقة أولية، وهي أن الإبداع مغامرة، وأن لذة الاكتشاف لا تتم جماليا إلا بإدراك المجهول، وأن علينا أن نروّض آذاننا كي تسمع ما لا تطرب له، لعلها تنفتح على أنواع جديدة من الطرب”. أشكال التخيل، ص134.
ويصبح في غاية اليقظة لاحتياج النقد وممارساته السائدة إلى مراجعة نفسها أو إعادة تقييم الذات مرات عديدة في منظور وضوء التحولات والتطورات الكثيرة التي تطول الحياة الثقافية وتشكل واقعا أدبيا يتسم بالحركية والحيوية والتجدد، وأن الأولى أن تتهم الدوائر النقدية نفسها أو تراجع أدواتها ومنطلقاتها من أن تتهم الإبداع الجديد، يقول: “آن لدائرة النقد الأدبي والفني أن تتسع لتشمل هذه الآفاق، وتتخلي عن الانحصار في بؤرة الكتابة الأثرية، كي تنقل ثقلها المنهجي وأدواتها المعرفية إلى مجالات الكتابة البصرية، وتقوم باستخلاص معالمها التقنية وأسسها الجمالية والفلسفات الممثلة لها، مما يشكل مخيلة الإنسان ووعيه الجمالي ورؤيته للوجود. أشكال التخيل، ص142.
وهكذا فإن صلاح فضل الذي بدأ طموحا في الارتباط بالمناهج والنظريات النقدية الغربية لم يستقر على حال واحدة أو لم يتجمد داخل إطار نقدي بعينه، وتابع الحياة الأدبية في حركيتها وتجددها وتدفقات إبداعها، وغادر البنيوية والواقعية نسبيا أو طورهما وبنى عليهما انطلاقا نحو آفاق ومنعطفات جديدة من الإبداع النقدي المتمثل في السيميولوجيا والنقد الثقافي وعلم الخطاب أو تحليل الخطاب الثقافي بأشكاله المختلفة، وكذلك التاريخية الجديدة متمثلة في الأنثروبولوجيا وعلم النفس الإدراكي والبلاغة الجديدة والحجاج والتأويلية أو الهرمنيوطيقا وغيرها، مدركة جوهر كل منها وغاياتها الأساسية، ومدركة للذة المغامرة في التأويل وقراءة النص الأدبي واحتمالات الفهم أو احتمالات غيابه أو ما يمكن أن يكون أحيانا من فجوة بين النص وتأويله، يقول على سبيل التمثيل: “أردت بسوق هذا المقطع التفكيكي الصائب أن تتضح المسافة بين النص والتأويل، وأن يتطامن طموحنا العلمي في دعوى احتكار الفهم، وأن يتسع أفق التلقي لدينا كي يحتضن من التجارب الجمالية ما لم تستسغه حتى الآن ذائقتنا الشعرية، أردت أن نشهد اعتراف كبار النقاد بأخطائهم واعتزازهم المتواضع بها في الآن ذاته، باعتبارها نبوءة مؤجلة. أشكال التخيل، ص180.
ولذا فإن هذه المنعطفات من الوعي النقدي والحساسية النقدية الفائقة هي التي كفلت له التجدد والقيمة والأهمية أو الفاعلية الفكرية والنقدية وجعلته يزيد عن صورة الناقد التقليدي أو البلاغي الذي يظل محبوسا في أسوار المعطيات اللغوية والتفسيرات البلاغية والمنطلقات النقدية العربية القديمة، بل أحيانا ما كان يستوعب عطاءات مجايليه أو سابقيه أو غيره من النقاد الآخرين ويستوعب إسهاماتهم في هذا الصدد أو في هذه الانعطافات المهمة في تاريخ النقد العربي ومحاولات ربطه بعمليات التحديث، وذلك على نحو ما نجد في قراءته لجهود الناقد والأديب والمترجم العراقي المهاجر جبرا إبراهيم جبرا وترجمته لبعض كتب الفنون البصرية والتشكيلية وتداخلها مع الأدب والفنون اللغوية، وذلك في كتاب أشكال التخيل، في معرض تناوله لتجربة جبرا إبراهيم جبرا. وهو ما يعكس روحا منصفة ومطلعة ومستوعبة لما تتطلبه الثقافة العربية في راهنها في تلك الحقبة.
فقد قدر صلاح فضل على أن يتجاوز عبر هذه المنعطفات الحاسمة في مسيرته المداخلَ النقدية الحداثية التي تجسدت في البنيوية والأسلوبية والواقعية إلى مداخل نقد ما بعد الحداثة دون أن يكون مُصِرًّا على اللهج الاستعراضي بمصطلحاتها ومرجعياتها المعرفية مركزا على الجوهر دون الشكل، وهذا ديدن الفنانين الموهوبين المخلصين للجمال والمؤمنين به دائما، ولذا فإن كتبه وتجربته ومسيرته بحاجة إلى مزيد من القراءات المتعمقة التي تحاول الإنصاف فتلتمس نقاط القوة بمثل ما تكتشف الثغرات أو المواضع التي كانت بحاجة إلى تنمية وتطوير ومراجعة.