نستهل في هذا المدخل حديثنا بتوضيح العنوان رواية (هيرمافروديتوس) لبدرية البدري. إنّ (هيرمافروديتوس) أسطورة يونانيّة مدارها على مسخ الجنس البشريّ؛ إذ إنّ الحورية راودت هيرمافروديتوس عن نفسه فاستعصم، فكادت له بأن طوقته بجسدها صائحة: « قاوم ما شئت لكنك لن تفلت مني أيها الوغد، ولتمنحني الآلهة أمنيتي. فلا يأتي يوم، وينفصل فيه هذا الفتى أو أنفصل عنه» فاستجابت الآلهة لها، فحققت أمنيتها، واتحد جسداها الملتصقان بعدما كانا شخصين44، وهيرمافروديتوس الاسم اللاتينيّ للخنثى، الكائن الذي ارتبكت فيه صفات الرجولة والأنوثة خَلقيا وسلوكيًّا.
عن الرواية:
تتألف الرواية الصادرة عن دار عرب للنشر والترجمة عام 2018 من سبع وتسعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط. وهي الرواية الثالثة لبدرية البدري بعد روايتيها ما وراء الفقد 2015 ورواية العبور الأخير 2017 .
تسرد (سعاد) بطلة الرواية ابتداء، ثم تتحول انتهاء إلى (سعد)، معاناتها مع مرض (اضطراب الهويّة الجنسيّة) منذ طفولتها في المدرسة والبيت والحي، وتوصّف قلق أهلها على تأخر دورتها الشهرية خلافًا للمعتاد ولأمد طويل، مع ملاحظاتهم لبعض سلوكها الذكوريّ مثل شدة البأس، وصلابة الشكيمة، وعدم الاستسلام للبكاء، بله عدم انهمار الدموع، فيُستحضر العرّافون، وتُستشارُ نساء الحيّ العارفات في أمرها.
تنتقل الرواية انتقالًا سريعًا إلى مكان آخر، فسعاد التي كانت في سلطة القرية والبيت وصل بها الحال إلى مسقط؛ حيث تدرس التمريض. وهنا يظهر شخص آخر في الرواية وهو (حمد)، تبادلا نظرات الإعجاب، ومضى بهما الحال إلى الوقوع في شِراك الحب، إلا أن حمدًا في نهاية المطاف تزوّج (حليمة) العدو اللدود أيام دراسة سعاد في المدرسة والتي كانت تعيّرها بنقص أنوثتها.
يزداد قلق سعاد في هذه المرحلة على نفسها، فتهرع لمحلات التجميل لإزالة شعرها الزائد، وتسعى للأطباء للنظر في حل لأنوثتها الناقصة، والبحث عن صدر طبيعي لها بدلًا من الوسائد التي تحشو بها صدرها؛ لتنتهي كل هذه المحاولات بالفشل. إنّ كل الحلول شكلية؛ لكنها لا تأمّلها بمولود من صلبها فتشبع به أمومتها التي حلمت بها، والتي سعت لإشباعها من خلال محاولة تبنّي طفل خاص بها دون أن يتحقق هذا أيضا، وبعد سنوات الدراسة توظفت سعاد في أحد المشافي، وفي قسم الولادة تحديدًا لتزيد هذه الوظيفة من قلقها الأموميّ، الذي يحرّك مياه العاطفة فيها.
يدخل (حمزة) في الرواية –اعتباطا- وهو أخو سعاد، ويحتل جزءًا من الرواية؛ لتُسرد معاناته مع السجن كونه يكتب آراءً سياسيّة واقتصاديّة، وتُفصّل معاناته دون إيجاد رابط منطقيّ في وجوده في ظل زحمة أبعاد قضية الرواية الوجوديّة.
تحصل سعاد على فرصة إكمال الدراسة في أمريكا، التي تصف تعدد أجناسها وأعراقها، وهناك أوليفيا الشخصية المؤثرة من أصل فلسطينيّ، وتحمل جنسيّة أمريكيّة. إنّها مناضلة وقوية أحبتها سعاد، وأفضت لها بأسرارها، ووجدتها ملاذًا لهمها. وقد أحبّت أوليفيا ناصرا العمانيّ، الذي خذلها في نهاية المطاف بأن رجع لعمان وتزوج من إحدى قريباته وتهرّب منها، فتتنازل أوليفيا عن حضانة أولادها لناصر في زيارة مفاجئة لعمان، وتسلم وريدها للسكين، فتنتهي، وتبقي صوتًا صاخبًا في قلب سعاد.
تواصل سعاد البحث عن هويتها، وتستشير الأطباء في أمرها. فقد حوّلت هيأتها الأنثوية إلى رجل، وارتدت ملابس الرجال. كانت ترى أملا في ذلك؛ لأنّها أحست بلذة عند عناق صديقتها، لذة لم تحس بها عند عناق حبيبها حمد. عادت سعاد (سعد) إلى القرية والبيت، لكن الأهل أنكروه/ أنكروها، حتى الشوارع والبقر والدواجن.
المقاربة:
يدور موضوع الرواية حول تحوّل الجنس البشريّ بوصفه مشكلة وجوديّة أو بيولوجيّة، وحول الاشتباك في توصيف شخصيّة السارد المأساويّة. فلا هو برجل، ولا هو بأنثى. ويترتب على هذا الإشكال الوجوديّ قلق استعمال الضمائر في السرد من حيث جنسها، كما أنها تطفح بالكثير من الالتفاتات وسط هذا القلق الوجوديّ. تحاول الدراسة استكشاف أصوات هذه الضمائر ومنطلقاتها، وما ستؤول إليه.
الموضوع:
للضمائر في الرواية دلالات مقصودة. فللغياب والحضور دلالتهما الخاصة التي توحي إيحاء على وقع معين، وكذلك الشأن بالنسبة إلى ضمائر المخاطب. واللافت للانتباه أن تكون الشخصيّة ذاتها تتغير الضمائر على لسانها. فمرة من المخاطب إلى الغائب، ومرة من المتكلم إلى الغائب، والعكس صحيح.
يكاد يتفق النقاد المحدثون على أنّ اختيار أحد الضمائر الثلاثة (المتكلم أو المخاطب أو الغائب) ليكون الضمير الذي يتولى عمليّة السرد، اختيارا غير اعتباطيّ. فهو يقوم على نظرة أو نظرات دقيقة لدى الأديب، تنتقي الضمير الذي يكون أنسب وأصلح لطبيعة هذا السرد الذي يتولى تأليفه(45).
يوهم ضمير الغائب القارئ بجهل السارد ابتداء بما يقال، وهو على حد وصف عبد الملك مرتاض: «سيد الضمائر السرديّة الثلاثة وأكثرها تداولا بين السراد وأيسرها استقبالا لدى المتلقين وأدناها للفهم لدى القراء فهو الأشيع إذن استعمالا وقد يكون استعماله شاع بين السراد الشفويين أولا ثم بين السراد الكتاب آخرا»46. أما ضمير المتكلم؛ فإنّه يصوّر للقارئ بالعلم المطلق بما هو مكتوب.
يحيلنا الحديث عن الضمائر للحديث عن أنواع السارد. إنّها ثلاثة أنواع حسب تودوروف. وهي على النحو الآتيّ:
1 ـ سارد يعلم أكثر من الشخصية (الرؤية من خلف).
2 ـ سارد يعلم بقدر ما تعلم الشخصية (الرؤية مع).
3 ـ سارد يعلم أقل مما تعلمه الشخصية (الرؤية من الخارج).
وما سبق يقودنا إلى زاوية الرؤية وأنواعها. وإن كنا نتحدث عن الضمائر؛ فذلك من منطلق أنّها المكون الأساس، ويجملها جان بورل فيما يأتي:
1 ـ الرؤية المباشرة وتتساوى فيها معرفة الشخصية بمعرفة السارد.
2 ـ الرؤية من الخلف. ويكون الراوي فيها عليمًا بكل شيء، محيطًا بالأحداث.
3 ـ الرؤية من الخارج. ويكون الراوي فيها أقل معرفة من الشخصية.
يعدّ ضمير المتكلم أقل وقعا وقوة من الضمير الغائب. إنّه يقع في المرتبة الثانية من حيث الأهمية السرديّة بعد ضمير الغائب حسب مرتاض؛ لكونه استعمل في الأشرطة السرديّة منذ القدم. تستفتح الساردة روايتها بمقاربة بينها وبين شجرة أو ورقة ساقطة منها، متحدثة عنها بضمير الغائب (تفرح الورقة بالحرية …تسلم نفسها للريح..تطير….ترقص..تتشقلب..) بعد المقاربة تبدو ملامح الشخصية بالظهور؛ ولكنها انطلاقا من غياب كذلك (أوووووه..أنت أثقل مما أظن، كنت أخف عندما كنت مرتبطة بغصني…لم أدبر أي خطة للهرب….يقول بعض المستظلين بظلها أنها شجرة عقيم لا تنجب ثمارًا، وماذا نكون نحن) فانطلاقات السارد بالغياب بين الورقة ومقاربتها للشخصية المراد عنها هي تهيئة ذكية للمأساة التي بصددها القارئ.
يحتل ضمير المتكلم صفحات الرواية. إن الساردة تسرد معاناة سعاد مع قضيتها الوجودية منذ البداية إلى النهاية، وقد اقتربت من أن تكون سيرة ذاتية أو ترجمة لولا الضمائر الأخرى التي كانت تفصل بين المواضع المختلفة، وكذلك بين الحوارات، فبعد الحوار بين الشيخ العراف والأب (لا تخاف بنتك ما فيها بأس محد سلم من نغزة الشيطان غير مريم بنت عمران…..) جاء دور ضمير المتكلم (قضيت شهرا كاملا في غرفة العناية المشددة …عادت أمي بعدها…)وضمير متكلم بعده حوار (وانتقالي عبر ىالجدران من منزل إلى آخر… ما تخافي تطيحي؟). ومثال آخر وليس أخيرًا. (أنا وحدي دون سواي لا يمكن لأحد أن يبكيني…..تحسبيه يعورها؟؟ شوفيها حتى دمعة ما تنزل من عينها).
تجعل الرواية المتلقي يندمج في تفاصيلها، ويلتصق بها، ويتوهم –دون إرادة المؤلف- بأنّه هو صاحب الأمر ذاته وهو المعني به، فالانطلاق من الغياب إيهام بأنّ هناك رؤية خارجيّة هي التي تحكم الأمر، ولكن عندما يصبح ضمير المتكلم سلطانًا؛ فإنّ الذهن قد يتوهم عكس ذلك؛ خاصة عندما كانت الضمائر مرتبطة بأفعال قوية واستعلائية (أكاد أقسم أن تلك الدقائق لم تكن إلا شرطا تعجيزيا…كان يتوجب علي ممارسة هذه الطقوس يوميا…كدت ألمس الارتياح…أجبتها بالحقيقة التي زلزلت كيانها ….شعرت بجسمها الذي تزلزل).
يجعل ضمير المتكلم السارد مندمجا مع روح المؤلف؛ فبهذا ينقشع الجدار الزمنيّ بين زمني السرد والسارد بخلاف ضمير الغائب، فهو توصيف للحال المعيش؛ وإن كان حديثا عن حقب زمنية شتى. إنّ السارد يروي طبيعة الحال منذ الولادة بضمير المتكلم (قضيت في المستشفى شهرا كاملا في غرفة العناية المشددة )، ثم عند استواء عود السارد يستعمل أيضًا ضمير المتكلم (كنت فتاة سوية)، ثم عند الدراسة في التمريض وعشق حمد: (استفزني تجاهله لي …ابتسمت وكأن بابا يفتح لي إلى الجنة..رأيت الملائكة مصطفين).
نقف على ذلك في وظيفة التمريض (صرت ممرضة بأحد المستشفيات)، ثم عند محاولات علاج المرض العضال والتحلي بالأنوثة الكاملة: (شعرت ببرودة تسري في دمي .تعرقت وانفصلت بكلي عن الطبيبة)، ثم عند الدراسة في أمريكا ( ألوذ بذلك الجدار الملتف حول مبنى جامعة فيلانوفا) وصولا لعودتها للقرية بعد معاناة شديدة وبهيئة جديدة، هيئة رجل! وكذلك بضمير المتكلم (عدت لقريتي بهيئتي الجديدة، دشداشة بيضاء ومصر أقرب للبياض…)، وانتهاء بالإنكار التام من الأهل والقرية والرجوع منها بخيبة وحزن (أنظر لوجهي في المرآة..). ثلاثون عامًا زمن كل هذه الأحداث؛ ولكن الثلاثين عمًا ذابت بفضل ضمير المتكلم .
يعرب استعمال السارد لضمير المتكلم، ثم تحويره بين الفصول بالالتفات عن ذكاء للربط والتسلسل المنطقيّ بين أحداث الرواية. إنّ الرواية التي نحن بصددها غير مبوبة الفصول، وغير مقسمة المواضيع إلّا أنّ تناوب الضمائر في بدايات الأحداث الجديدة تكفل بهذا الأمر. فبعد أن انطلق السرد بضمير الغيبة (الورقة التي تسقط لايمكنها العودة للشجرة)، وتواصل بغياب آخر، وبذكر قصة حب (حمد بن عبدالله زميلي الذي يفوقني طولا..)، ثم بضمير المخاطب في ذكر مأساة سعاد بالمدرسة (أنت مثلية…هكذا أشارت حليمة)، ثم العودة إلى ضمير الغائب (صرت ممرضة في أحد المستشفيات بالعاصمة) وهكذا سارت الرواية.
كان نصيب ضمير المخاطب في الرواية في الحوارات بين الشخصيات غالبا وكثيرا ما كان باللهجة العُمانية توصيفا للواقع. وفور انتهاء الحوار تعود الفصحى، وفي تقنيات الفلاش باك ( ما راح تندم أبدا لأنك راح تاكل ألذ مكبوس أمريكيّ).
محمد بن سعيد الحارثي