«الرواية ليست موضوعيّة إلّا بشكلها»
شلينغ
تأتي هذه الندوة تتويجًا لسلسلة من الحلقات الدراسيّة التي كان مدار موضوعها على «الرواية تنظيرًا ونقدًا». ومن المعلوم أنّ الرواية جنس أدبيّ هجين ينهض على التخييل، ويكتب نثرًا، وينماز بالطول النسبيّ، وتتعدد فيه الأحداث والشخصيّات، ويضرب بجذوره في التاريخ، ونذكر في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر نماذج من الروايات في الآداب العالميّة القديمة والحديثة. ومنها رواية الحمار الذهبيّ التي تُعد أول عمل روائيّ وصلنا من لوكيوس أبوليوس الجزائري، وقد ترجمها كل من الليبيّ علي فهمي خشيم والجزائريّ أبو العيد دودو، وروايات المغامرات والفروسيّة في القرون الوسطى وروايات الشطّار لثريودي تورمس في القرن السادس عشر الميلاديّ، ثم ما لبثت أن قدمت إنجلترا روايات دانيال ديفو، وروايات فرانكنشتاين (1818) لماري شيللي التي تقدم للقارئ عالمًا مليئًا بالرعب وجيمس جويس.
غيّرت الروايات الروسيّة مسار هذا الجنس الأدبيّ، فكان لدوستويفسكي وتولستوي ومكسيم غوركي التأثير البالغ في تطوير هذا الجنس الأدبيّ؛ وعلى رأسها تنظيرات ميخائيل باختين ذلك الكانطيّ الجديد الذي أحدث إبدالًا في الشعريّات الحديثة، ونجد كذلك الروايات الفرنسيّة لإيميل زولا وستندال وبلزاك وفلوبير، والروايات الأمريكيّة لناثانيل هووثورن ومارك توين وهنري جيمس ووليم فوكنر وسكوت فيتزجيرالد وإرنست همنجواي والروايات الألمانيّة لتوماس مان وفرانز كافكا التشيكيّ وكذا روايات أمريكا اللاتينيّة وعلى رأسها غارسيا ماركيز والروايات اليابانيّة والصينيّة والتركيّة والروايات العربيّة لمحمد حسين هيكل ونجيب محفوظ والطاهر وطار وحنا مينا وغسان كنفاني وعبد الرحمن منيف والطيب صالح وصنع الله إبراهيم وغيرهم كثير.
حصر أفلاطون أجناس الشعر في السرديّ الخالص (الشعر التمجيديّ) والمحاكاة (التراجيديا والكوميديا) والمشترك (الملحمة). لقد فصّلنا الحديث في نظرية المحاكاة لدى أرسطو، وتصنيفه المعياريّ للأجناس على أساس تراتبيّ؛ إذ عليها مدار الإبداع؛ لأنّها قامت على أساس موضوع أفعال البشر ومنازلهم الاجتماعيّة (الساميّ والعادي والأدنى من العادي)، وترتبت على ذلك شيوع مقولات الشرف والنبل والوضاعة والرذيلة وصيغها وطرائقها، فكان لها تأثير حتى في أدبيّات النقد العربيّ، ولاحظنا كيف آل السرد إلى الذم والإهمال في الشعريّات الإغريقيّة والعربيّة على السواء، ودرسنا ملحمة جلجامش ومسرحيّة «أوديب ملكًا» في ضوء الشعريّات القديمة لاستجلاء رؤية العالم وقواعد السرد.
انتقلنا من الشعريّات الأرسطيّة إلى الوقوف على مرويّات حكايات ألف ليلة، ووقفنا على ما انتهى إليه جمال الدين بن الشيخ في القول الأسير من تحليل طريف لخطاب بعض الحكايات، ثم انتقلنا إلى ما طرحته تصوّرات هيجل الجماليّة للفن تعميمًا والرواية تخصيصًا؛ إذ كان هيجل يخشى من زوال الفن في ظل التطور الدراماتيكي» للمجتمع البرجوازيّ الذي كان يعادي الشعر من حيث إنّه فن ينماز بالوحدة والتماسك، وينحاز للنثر، فاستبدل الملحمة بالرواية؛وعليه ساق مقولته الشهيرة «الرواية ملحمة برجوازيّة» من منظور الجدليّة المثاليّة، ووجد فيها جورج لوكاتش ضالته لنقد المجتمع البرجوازي» من منظور الماديّة التاريخيّة التي هي قوام الفلسفة الماركسيّة.
جمعنا في هذه الحلقات الدراسيّة جمعًا متبصّرًا بين النظريّة والتطبيق، فحلّلنا رواية «دون كيشوت» لميغيل دو سارفانتيس تحليلًا مستفيضًا، ورصدنا فيها النقد الساخر لفراغ فكرة الفروسيّة التي كانت تعبر عن أحلام المجتمع الإقطاعيّ؛ إذ وجد فيها لوكاتش ما يعزز الفكرة الهيجيليّة والماركسيّة حول انحطاط الإنسان في المجتمع الرأسماليّ. كان البطل في الرواية من ملّاك الأراضي الشغوفين بقراءة قصص الفرسان الخياليّة، فتشبع بمغامراتهم وأحلامهم، وأراد أن يسير على منوالهم في دفع الظلم، فارتكب الحماقات وهو يصارع الأوهام، فكان مثار سخريّة؛ وعليه أدرج لوكاتش رابليه وسرفانتس في قائمة الأباء المؤسسين لجنس الرواية الحديثة. ولا غرو أن يرى باختين في رابليه الممثل الحقيقيّ لكرنافاليّة القرون الوسطى.
ولكي نلج إلى السرديّات الحديثة استوقفنا النص الجامع لجيرار جونات الذي غادرنا مساء الجمعة 11/05/2018، ونحن ندبّج هذه الكلمات. لقد أعادنا جونات إلى الشعريّات الإغريقيّة ليقدم قراءة نقديّة ومراجعة مهمة للبلاغة ونظريّة الأجناس الأدبيّة، وما شاعت نسبته إلى أرسطو من (غنائيّ وملحميّ ودراميّ)؛ وذلك تمهيدًا لوضع معالم السرديّات عام 1972 بعد أن اجترح تزيفتان تودوروف المصطلح سنة 1969. وظلت نظريّة الأجناس الأدبيّة في تصور جونات من أرسطو إلى هيجل الموضوع المركزيّ للشعريّات، ولم تحدث اختراقات كبرى في هذا الموضوع إلّا بإسهامات الشكلانيّين الروس، وتنظيرات ميخائيل باختين.
وقفنا قبل ذلك على الإرث الشكلانيّ الروسيّ، بالحديث عن نظرية الحوافز في الثيماتولوجيا (نظرية الثيمات) لتوماشفسكي وشلوفسكي في نظرية القصة والأنموذج الوظائفيّ في (مورفولوجيا الحكاية العجيبة) لفلاديمير بروب الذي استخلص الثوابت في الحكايات، ورد الكثرة إلى القلة (إحدى وثلاثون وظيفة). سيكون أثر هذا الإرث الشكلانيّ بالغ التأثير في بناء السرديّات الحديثة بشقيها السرديّات الحصريّة وحتى المعمّمة والسيميائيّات السرديّة؛ وذلك ما نقف عليه في الأبحاث التي ضمها العدد الثامن من مجلة تواصلات سنة 1966، وشملت أبحاث رولان بارت وتزيفتان تودوروف وكلود بريمون وألجيرداس جوليان كريماص وغيرهم.
ردّ ميخائيل باختين نشأة جنس الرواية إلى أصولها الشعبيّة الفولكلوريّة خلافًا لهيجل؛ ولهذا كانت جنسًا هجينًا لا ينماز بصفاء النوع على خلاف أجناس الشعر السابقة مثل: الملحميّ والدراميّ وحتى الغنائيّ. وصف تودوروف باختين أنّه أعظم مُنظّر في الأدب في القرن العشرين. وتأتي هذه العظمة لكونه شق طريقًا وعرًا لم يجعله يستسلم لسحر الشكلانيّة الروسيّة، ولم يخضع لإكراهات الإيديولوجيا الماركسيّة اللينينيّة الستالينيّة ونقدها الوثوقيّ، بل أدمج البعدين التاريخيّ والأيديولوجيّ إدماجًا سلسًا في النظريتين الأدبيّة والنقديّة.
اصطفينا من كتب باختين (شعريّة دوستويفسكي)، ولاحظنا ذاك الاحتفاء اللافت بروايات دوستويفسكي ذات الأصوات المتعددة خلافا للروايات ذات الصوت الواحد، ولم يتردد باختين في إنزال إبداعه الروائيّ مقام آنشتاين في الفيزياء الحديثة. إنّه يقرّ بالدور الحيويّ لتفاعل اللسانيات مع الثقافات في إحداث ديناميّة جديدة في التوازن بين العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، وأنّ حيويّة الإنسان لديه تتمثل في إبداعه للنصوص؛ نظرًا لأنّ اللغة أساس الوجود الإنسانيّ. ومن هنا ألفيناه ينتقد النزعة الفرديّة لدى سيجموند فرويد التي غيّبت جوهر التفاعل الاجتماعيّ، وأنّ الوعي لدى باختين لا يقل رعبًا عن اللاوعي.
قارن باختين بين حواريّتيْ تولستوي ودوستويفسكي؛ إذ لاحظ أنّ روايات تولستوي ذات خصيصة مونولوجيّة؛ ولكنه سرعان ما استدرك الأمر، فوصفها بالمونولوجيّة الشفافة؛ بيد أنّ عالم دوستويفسكي الروائيّ فهو متعدد الأصوات واللغات والأساليب. إنّ هذه الحواريّة تتيح لجنس الروايّة «الهجنة»، والقدرة على تجديد خطابها بخلاف الأجناس القديمة الأخرى مثل الملحمة.
بناء على ما سبق توّجنا هذه الحلقات الدراسيّة بهذه الندوة التي خصصناها إلى السارد في جملة من النصوص الروائيّة لكاتبات عُمانيّات؛ إذ اختار كل طالب رواية، وتناول فيها موضوع السارد تحقيقًا لأهداف ثلاثة:
الأوّل: بيداغوجيّ يتمثل فيه الطالب ما درسه، واطّلع عليه في موضوع الشعريّات التي تفرعت منها السرديّات؛
الثانيّ: معرفيّ وقوامه بناء الملكة النقديّة في التعامل مع النصوص، والتحكم في المناهج النقديّة المعاصرة؛
الثالث: تحقيق رسالة الجامعة بالانفتاح على المجتمع وخدمته، انطلاقًا من دراسة الأدب في عُمان دراسة علميّة.
لماذا السارد؟
يأتي الاعتناء بالسارد نتيجة الاغتناء بهذا الموضوع في السرديّات الحديثة. وقد سبق أن صدّرنا هذه الندوة بمقولة شلينغ من أنّ ((الرواية ليست موضوعية إلّا بشكلها)). وكان النقد الجديد قد أشاع فكرة (ثق بالحكاية، ولا تثق بالمؤلف)، وزاد في تراجع مقولة المؤلف النقد القاسي الذي وجهته البنويّة إلى كل ما هو سياقيّ؛ وعليه صار موضوع السرديّات قائمًا على السارد والمسرود له. وهكذا فإنّ المحكي في نظر آن بانفليد (الذي لا سارد له، والملفوظ الذي لا متلفظ له يبدوان وهمًا خالصًا…). إنّ اختفاء المؤلف في الكتابات الروائيّة كان نتيجة رد فعل على المنظور المتحيّز للمؤلف في الروايات بضمير المتكلّم الذي يبدو فيها المحكي بلا سارد.
استعمل مصطلح السارد في إنجلترا في القرن التاسع عشر. وكان يعني في التصور التقليديّ ذلك المؤلف الذي يسرد الأحداث بنفسه مثل هوميروس في الإليادة والأوديسا [أو بالأحرى الحضور الجزئيّ للمؤلف السارد]، وسرفانتس في دون كيشوت، وكذا في المذكرات والروايات الترسليّة على نحو ما نلفيه في (هيلواز الجديدة) لجون جاك روسو، ولعل مرد التضليل راجع إلى استعمال السارد ضمير المتكلم، فصار الأمر إلى الخلط بين السارد والمؤلف من وجهة، وعدم التمييز بين الأفعال المرجعيّة والتخيليّة، ثم ما لبث أن تغيّر هذا التصور، وبات الاعتقاد راسخًا بعدم وجود سارد خارج النص.
حاول الشكلانيّون الروس ومنهم توماشفسكي أن يميّزوا بين السرد الموضوعيّ الذي يعود إلى المؤلف نفسه، والسرد الذاتيّ الذي يضطلع به السارد وهو شخص محدد. ورأى بالزاك أنّ السارد (شخصيّة تسرد باسمها)، ثم بدأ يترسّخ الاعتقاد أنّ الرواية الناجحة هي تلك القصة التي تسرد نفسها بنفسها، ولا سلطة فيها خارج النص. وإذا سلمنا بفكرة إميل زولا من أن المؤلف بوصفه «السارد الطبيعيّ» يختفي اختفاء كليًّا وراء أحداث القصة؛ فإنّه في الأخير يعد المخرج الخفيّ لمسرح الأحداث. وقد طالبه زولا أنّ يظلّ في السريّة الكاملة، وألّا يظهر نفسه في أي جملة من الجمل القصصيّة. ويساند هذا الرأي بوث. فالمؤلف وإن لبس القناع وهو يشرف على إخراج الأحداث؛ فليس بإمكانه البتة أن يختفي. وكثير من هذه الآراء تبسطها كتاب «السارد» لباتريك سيلي.
لا يمكن القفز على ما قدّمه إيميل بنفينست للسرديّات وهو يدرس الأزمنة اللغويّة والضمائر، ومنه فرّع الكلام وفق بعده الزمنيّ فمنه القصة (histoire) والمحكي (récit) والخطاب (discours). وقاده ذلك إلى موضوع (الملفوظ والتلفظ)، ولاحظ أن (الأحداث توضع كما وقعت بحصب ظهورها في المحكي، لا أحد يتكلّم هنا، وكأنّ الأحداث تسرد نفسها بنفسها). ولا غرو أن يثير بنفينست إعجاب رولان بارت في مقالة معلومة «لماذا أحبّ بنفينست؟». وعليه فسيدفع التحليل البنويّ إلى الاعتقاد أنّه لا سرد بلا سارد.
ولسنا في مقام الحديث عن السارد حديثًا مفصّلًا؛ لأنّ القصد من ذلك الإجابة عن سؤال لماذا السارد في هذه الندوة المحكومة بالأهداف الثلاثة التي سطرناها لتكون ناظما لهذه الأوراق. علمًا أنّ ثمة اتجاهات متباينة للسرديّات نجملها فيما يأتي:
1 – السرديّات التقليديّة
2 – السرديّات البنيويّة
3 – السيميائيّات السرديّة
4 – السرديّات التلفظيّة
5 – السرديّات التداوليّة
6 – السرديّات المعرفيّة (الإدراكيّة).
وفي الأخير نشير إلى أنّنا لم نتدخل في اختيار الروايات أو حتى في الأوراق المقدمة إلّا بتوجيهات عامة لهؤلاء الطلبة والباحثين.
إعداد وتقديم: أحمد يوسف *