1 – قلهات:
تركز هذه الورقة على نظام التجارة أواخر القرون الوسطى في الجزء الغربي من المحيط الهندي الواقع بين الخليج والساحل الشرقي لإفريقيا والحال أن مركز هذا النظام كان يوجد في جزيرة قيس [كيش] وفي هرمز، وذلك سواء تعلق الأمر بهرمز الجديدة الواقعة بجزيرة جارون أو بهرمز القديمة الواقعة بإيران في مدخل الخليج بالقرب من ميناب الحديثة وإن أحد أغراض هذا الفصل لهو عرض بعض المواد المعرفية وتقديم بعض الأفكار التي يمكنها أن تساعد على تحقيق رؤية مغايرة للمسألة المثيرة للجدل المعروفة تحت مسمى «المسألة الشيرازية» [أو«القضية الشيرازية»] وإننا لسوف نجادل ضد «أفرقة» الكلمة، كما سوف نحاجج ضد دعوى تاريخ مبكر) القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (متعلق بهجرة شيرازية هي ـ في جزء كبير منها مزعومة ـ إلى شرق إفريقيا فما كان لهذه الهجرة أن تتم إلا بعد سياق متقدم من التغيرات الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية التي حدثت في ما بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديين إذ أمسى اللقب «شيرازي» لفظة أسطورية بالمناطق الساحلية لإفريقيا الشرقية والعديد من الجماعات كانت تدعي ولا تزال أن أصول أجدادها تنحدر من شيراز بجنوب إيران وإن استعمالا سياسيا جزافيا لكلمة «شيرازي» إنما أنشئ خلال ما سمي «الثورة» التي شهدتها زنجبار، ولا زالت اللفظة حتى اليوم تستخدم في سياق المزايدات السياسية.
والحق أن هرمز الجديدة- أي تلك الواقعة على جزيرة جارون- كانت، بلا مدافع، المركز العالمي المهيمن على التجارة منذ حوالي عام 1300م وكانت قلهات العاصمة الثانية لبلاد هرمز وهي مدينة ساحلية توجد بشمال عمان على أن قلهات أمست اليوم مدينة متواضعة تشمل توليفة من البنايات التقليدية والحديثة، واقعة بإزاء الطريق السيار الجديد الذي يقود من قريات إلى صور على بعد حوالي 25 كيلومترا شمال صور وإن أنقاض قلهات القديمة لتوجد جنوب الموقع الحالي، ويحيط بها من الشمال شرم أو خليج رملي (وادي قلهات أو خور قلهات)، ومن الجنوب واد عميق (وادي حلم)، ويحيط بها من الشرق البحر، ومن الغرب خواصر جبال الحجر الشرقي والحقيقة التي ينبغي أن تُعلَم أن قلهات القديمة هذه كانت إحدى المدن المرفئية الأهم أواخر القرون الوسطى وأحد المراكز التجارية الهامة في منطقة الخليج برمتها وفي الساحل الجنوبي من شبه الجزيرة العربية إذ كانت تلتقي بها السفن والمسافرون والتجار من كل فج عميق: من الهند ومن الشرق الأقصى ومن موانئ البحر الأحمر وموانئ الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية ومن الساحل الشرقي لإفريقيا ..
وإن بقايا أنقاض هذه الشهادة الاستثنائية ـ عنيت قلهات ـ عن الماضي المجيد لعمان، عمان بلاد مركز تبادل الخيرات والأفكار بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، لتمتد على مساحة ما يقرب من 35 هكتارا، وذلك على شاكلة مثلث توجد قاعدته مواجهة للبحر في الشرق والموقع برمته مغطى بآثار أسوار انتقضت وحجارة وبقايا وأنقاض بحيث يمكن العثور على آثار فخارية إسلامية وهندية، مصقولة وغير مصقولة، وكذلك على آثار خزفية صينية كما يمكن التعرف على بقايا أسوار المدينة في أماكن عدة وللمرء أن يلحظ أفضل أجزاء المدينة الباقية المحفوظة في الجنوب وإلى حد اليوم لم يجر من البحث الحفري على آثار قلهات اللهم إلا القليل وهذا أمر يؤسف له بأشد ما يكون الأسف ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن علم الآثار الخاص بالحقبة الإسلامية ليس يعد مجالا للاهتمام الأولي والأحق والأجدر في عمان لحد الآن ويمكن أن يعود أيضا إلى سوء فهم للأهمية التاريخية لقلهات بالنسبة إلى تاريخ عمان والحال أن سوء الفهم هذا لدور قلهات في التاريخ العماني أو سوء التقدير، ومن ثمة سوء فهم وتقدير دور عمان في العالم خلال القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، يمكن أن يكون مصدره متأتيا من المعلومات المحدودة التي يمكن أن نستقيها من المصادر التاريخية المحلية ومن سوء تقدير سائد لتاريخ عمان سواء بسواء والحق أن لهذا التاريخ وجهين دالين متساويين، الوجه الداخلي والوجه الخارجي؛ أي ما جرى بداخل عمان، من وجه، وما أنجزه العمانيون، أو بمساعدة حيوية منهم، في عالم المحيط الهندي على الوجه المجمل، من وجه ثان
نادرا ما تتم الإشارة، في المصادر المحلية، إلى قلهات وتفسير هذا الغياب شبه التام إنما يجد مرده في طبيعة هذه المصادر إذ كتبت هي بداخل عمان، وما كانت اهتمامات أصحابها (أو أولياء أصحابها) بمنصبة إلا على أمور الإمامة وشؤون القبائل بالداخل ومهما كان الأمر، فإنه، في هذه التآليف والمصنفات المكتوبة، تناط المكانة الهامة المميزة التي تحتلها قلهات بمقدار ما دار الأمر على الهجرة العربية إلى عمان وتبعا لأقدم الشهادات فضلا عن المصادر المتأخرة التي اقتفت أثرها، كتاب «أنساب العرب» لصاحبه العوتبي، والذي يبدو أنه جمع على الأغلب في القرن الحادي عشر الميلادي، فإن قلهات كانت هي الموقع الذي حدث في العصر الجاهلي أن زعيم الأزد العظيم مالك بن فهم قاد إليه قومه من اليمن وحسب الاخبار المروية نفسها، فإن مالك بن فهم طرد الفرس من عمان، واتخذ من قلهات عاصمة ملكه (العوتبي، 715-719) وهذا يعني، إذا ما نحن صدقنا بهذه الرواية، أنه في العهد الجاهلي كانت قلهات قد صارت عاصمة ما أصبح يعرف، في ما بعد، بعمان والحال أن هذا «الخبر» إنما كان الأول من بين مرويات أو أساطير سوف يكون علينا أن نركز النظر عليها ههنا إذ يمكن أن تتضمن هي بذرة حقيقة إذا ما نحن ألقينا عليها نظرة لاحقة، وذلك بعد أن نقيم بيننا وبينها مسافة لأجل الاعتبار إذ يمكنها أن تكون تشير إلى واقعة أن في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث كانت تعد قلهات من أقدم الأماكن ومن أهم المواقع ذات الأصل الجاهلي..
بيد أن اكتشافات (توم وزمر، 2004) في تنقيباته كشف عن آثار تعود نحو القرن الثالث قبل الميلاد بقلهات تدل على مستوطنات لسكان آكلي السمك في مجان القديمة، ومن جهة أخرى إلى حد اليوم فإن البعثات الأثرية تشير أنه ما تم العثور على أية آثار أو دلائل بقلهات تشير إلى حقبة عربية جاهلية من تاريخ المدينة (إبراهيم الماحي 2000، 130-135) غير أن هذه ليست حجة شافية، وذلك بما أن نتائج الحفريات في قلهات المثبتة أو النافية على حد سواء غير متوفرة إلى حد الآن كما أن المصادر الأدبية لتنحو نحو دعم فكرة تاريخ متأخر لأصل قلهات ذلك أن ياقوت الحموي الذي كان قد أنهى معجمه [معجم البلدان] حوالي 1225م كان قد كتب أنه لم تكن بنايات قديمة لتشاهد بقلهات قط، وأن المدينة ما أسست إلا حوالي 100 سنة قبل زمانه (ياقوت،IV،168) والأمر نفسه يمكن أن يستنتج من الشريف الإدريسي الذي كان قد أتم عمله الجغرافي عام 1169م إذ كتب الرجل عن قلهات كتابته عن مدينة صغيرة وإن كانت مزدهرة (الإدريسي ،155) وهذا يطابق إلى حد ما رواه ابن مداد من أنه في عام 1126 ميلادي وتحت حكم الملك النبهاني أبي المعالي كهلان بن نبهان، فإن محمود بن أحمد الكوشي، ملك هرمز، هاجم عمان واستولى على ميناء قلهات، واستدعى أبا المعالي كهلان وطلب منه تحصيل الخراج من العُمانيين وتسليمه إياه (ابن مداد 66)
ويشير ابن المجاور، الذي توفي عام 1291م، في تاريخه (ابن المجاور،102) إلى أن الشيخ مالك بن فهم بن مالك بنى الجدار المحيط بقلهات عام 1227م، كما أن الدمشقي [شمس الدين أبا عبد الله، الملقب «شيخ الربوة»] (توفي عام 1326م) كتب في مؤلفه الجغرافي [نخبة الدهر في عجائب البر و البحر] أن قلهات قد بنيت بعد صحار ، وأنها أصبحت مرفأ عمان الرئيس بعد تدمير صحار (الدمشقي،218) وهذا يظهر أن المصادر الخارجية وحدها ـ من المصادر العربية شأن ياقوت وغيره من المؤلفين المستشهد بهم، فضلا عن المصادر الفارسية والأوروبية ـ هي ما يمكن أن يساعدنا على أن نعرف أشياء أكثر عن قلهات القديمة على أنه ينبغي أن نحفظ في أذهاننا أن كل المؤلفين الذين أتينا على ذكرهم (اللهم باستثناء ابن المجاور)، ما زاروا قط قلهات أو عمان وإنما كتبوا هم مؤلفاتهم بالاستناد إلى مصادر أخبار غير أصلية.
وقبل أن نوجه عنايتنا إلى مصادر المعلومات المباشرة، التي هي مرويات الرحالة والمؤرخين من خارج عمان، علينا أن نبادر أولا فنبدي بعض الملاحظات على البنايات الموجودة بقلهات القديمة، فنقول: أن البناية الوحيدة المثيرة للانتباه التي حفظت بحفظ جزئي هي الضريح المسمى ضريح بيبي مريم، والذي بني في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي على أن هذه البناية وسوء فهم حقيقتها [أنظر إبراهيم الماحي 2000 ، 131) بحسبانها المسجد الذي ذكره ابن بطوطة ، إنما شكلا موضوع دراسة كوستا (2002) والحال أن أوجه القصور في دراستي كوستا وإبراهيم الماحي تكمن في انهما ما أدركتا الصلة الوثيقة لهذه البناية بالعمارات المماثلة لها في جنوب إيران، شأن خنج (بالنسبة إلى خنج، أنظر أوبان، 1953،95 الهامش3) ذلك أن كوستا يكتفي بأن يشير فحسب إشارة خفيفة إلى التأثيرات الإيرانية والحال أن ثمة تماثلات معمارية مع غرب إيران يمكن أن تشاهد بالصهريج الموجود شرق ضريح بيبي مريم وفي الأضرحة الصغرى جنوب شرق البنايتين فنحن نعثر على أنظار للصهريج وللأضرحة الصغرى المشيدة جميعا على الطراز القلهاتي بجنوب غرب إيران وفضلا عن هذا، تنبغي الإشارة إلى التماثل الكبير في نضد الفخار بين قلهات، ومواقع أخرى بالساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وأماكن بالساحل الشرقي الإفريقي، من جهة، ومواقع الحقبة المغولية (من أواخر القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر الميلاديين)، ومواقع تنتمي إلى القرن الخامس عشر الميلادي بمنطقة الخليج، من جهة أخرى (غاوبيه، 1973) وهذا التماثل هو الدليل المادي الرئيس –والحجة الدامغة- على الشبكة التجارية والثقافية البحرية التي شكلتها قلهات-هرمز وهي الشبكة التي سوف نناقشها أدناه..
2- قلهات وهرمز:
يمكن لما يسمى ضريح بيبي مريم أن يقرن باسم شخصية تاريخية تحمل الاسم ذاته ذلك أن بيبي مريم حكمت قلهات في النصف الثاني من القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الميلاديين وقد كانت زوجة بهاء الدين أياز حاكم هرمز(1291-1311م)، وهي على أغلب الظن من أمر ببناء هذا الضريح ولقد كانت تتصرف في قلهات باسم أياز وكان الاثنان مملوكان تركيان لمحمود القلهاتي (1242-1277م) أحد بناة القوة البحرية لهرمز في القرن الثالث عشر الميلادي وكان زمنه، وهو الحقبة الهرمزية المبكرة، زمن أياز وزمن ما بعد أياز إلى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي قد درس دراسة ضافية لكنها تشهد عن بعض تخليط، من لدن جون أوبان (أوبان 1953 و1973) على أن العديد من المعلومات التي نقدم هنا إنما تستند إلى هذا البحث هذا فضلا عن إسهامات مفيدة كانت قد نشرتها فاليريا بياشنتيني (بياشنتيني 1982، 2000، 2004 و2009).
كان أياز قد أعاد بناء القوة البحرية لهرمز التي كانت قد أعيقت من قِبَل صعود نفوذ قيس/كيش وفضلا عن هذا أوقف هو التهديد الإضافي لمصالح هرمز الذي تسببت فيه الظروف الفوضوية التي كان يجتازها داخل البلاد (والتي لا يمكن أخذها بعين النظر هنا ولا توصيفها توصيفا)، وذلك بأن عمد هو إلى نقل هرمز(= هرمز القديمة) من داخل البلاد إلى جزيرة جارون (= هرمز الجديدة) كما أنه عمد لأسباب أمنية (القلاقل الداخلية والتهديدات الخارجية) إلى نقل كنزه (ثروته) من هرمز إلى قلهات هذا ولقد كانت قلهات بلغت أوجها زمن بيبي مريم وأياز وفي عهدها الذهبي هذا وكان قد زارها الرحالة الفنيسي ماركو بولو، وهو في طريقه من فينيسيا إلى الصين وعودته، ما بين 1260 و1292 ميلاديين وقد ترك لنا الوصف التالي عنها:
«قلهات مدينة فسيحة الأرجاء تقع داخل الخليج المسمى أيضا قلهات وهي مدينة جميلة تقع على بعد 600 ميل من الساحل الشمالي الغربي لظفار وسكانها مسلمون يتبعون محمدا وهم خاضعون لهرمز وكلما دخل ملك هرمز في حرب مع جيرانه الأقوياء فإنه يلجأ إلى هذه المدينة، وذلك بحكم أنها مبنية بناء متينا محكما محصنا، وفي موقعها المحصن هذا ما من شأنه أن يحميه من مخافة أي كان ولا تزرع الذرة هناك، إلا أنها تستورد من أماكن أخرى عن طريق البحر ولهذه المدينة ميناء ممتاز عادة ما تتردد السفن التجارية عليه من الهند وهي تجد هنا سوقا جاهزة لبضائعها، وذلك بما أنها المركز الذي بدأ منه تنقل التوابل وغيرها من البضائع إلى مختلف المدن والحواضر بالداخل وتصدر العديد من الخيول الحربية الجيدة من هنا إلى الهند، وهي تجارة تدر على التجار دخلا وفيراً وإن العدد الإجمالي للخيول التي تصدر إلى الهند بدءا من هذا الميناء وغيره يسبق أن أشرت إليها لتند عن كل حصر
وتقع المدينة على مدخل خليج قلهات، وذلك بحيث أن لا سفينة يمكنها أن تدخل أو تخرج من الخليج إلا بأمر من الحاكم ولهذا فإن لملك المدينة سلطانا قويا على سلطان قرمان الذي يخضع له ومنذ مدة صار يفرض السلطان إتاوات على ملك هرمز أو أحد إخوته، وهم يرفضون أداءها، ولهذا أرسل السلطان جندا بغاية إجبارهم على الأداء، فما كان منهم في هذا الوقت إلا أن غادروا هرمز واستقلوا السفينة وعبروا إلى قلهات ونزلوا بها وما تركوا ولا سفينة واحدة تعبر وهو ما يعني خسارة كبرى للسلطان، مما اضطره إلى إبرام السلم مع الملك والتخفيف من غلواء إتاوته، أود أن أُضيف أن قصر ملك هرمز محصن حصانة هذه المدينة أو أكثر ويشرف على التحكم في الخليج وفي البحر بفعالية أكبر هذا مع تقدم العلم أن سكانها يقتاتون من التمر والسمك المملح، ولهم منهما مدخرات وافرة على أنه بكل تأكيد يوجد منهم أناس من ذوي الثروة والميز يقتاتون من أطعمة أجود» (ماركو بولو 285-286) .
هذا وصف مدينة قوية محصنة بالأسوار وتوصيف حاكم لا يخشى من أي كان ولقد كانت قلهات تسيطر على البحر فصارت أحد مركزين من مراكز دولة هرمز القوية الثرية (إذ كان المركز الآخر هو هرمز الجديدة) التي كانت لها الهيمنة على التجارة البحرية بين شرق إفريقيا والهند وإن أحد أسباب هذه المنزلة تتمثل في موقع قلهات لقد كانت المنطلق المثالي لحركة مرور بحرية مدفوعة بالرياح الموسمية بين المناطق المحيطة بمخرج الخليج والهند والحال أن هذا الامتياز الطبيعي أو المناخي الذي تميزت به قلهات كان يوجد حتى قبل أن تصعد قلهات إلى الوضع المرموق الذي صارت تتبوؤه في القرن الثالث عشر إذ كانت السفن المقلعة من صحار، مركز ساحل عمان لقرون، تعبر قلهات في طريقها للوصول إلى الهند ثم إنه كان ثمة داع آخر هو الذي جعل قلهات تزدهر وتصير الميناء المهم في الساحل الغربي لعمان إزدهر في الجنوب خلال الحقبة نفسها ميناء البليد في صلالة حاليا، ذلك أن الداعي الثاني المهم لصعود قلهات في أواخر القرون الوسطى كان هو أن شبكة التواصل والتجارة بالبلاد القديمة والبحر التي كانت قد عرفت تطورها الكبير في فجر الإسلام، إنما تحطمت ودمرت وكان ذلك أثرا من آثار التحولات السياسية الجذرية التي بدأت في القرن الحادي عشر الميلادي
كان يتم وصف العالم الإسلامي ـ «دار الإسلام» ـ في أعمال الجغرافيين العرب «الكلاسيكيين» في القرن العاشر الميلادي، بوسمه البلاد التي كان فيها الإنتاج الفلاحي المتخصص وإنتاج الخيرات الصناعية بمثابة العماد الذي يقوم عليه نظام اقتصادي مزدهر وكانت القاعدة الحيوية لهذا النظام إنما هي تجارة آمنة لمسافات طويلة تتخذ شبكة طرق قوافل جيدة التنظيم ومتقنة الرعاية ومحكمة الأمن (كاوب ـ لايستن 1993و1988) وكانت هذه الشبكة قد بدأت تهدَّد بالانقراض نحو نهاية القرن التاسع [الميلادي]، وتدهورت بالفعل في القرون التي تلت ذاك القرن والحال أن في هذه الشبكة كانت بغداد، وهي مركز العالم الإسلامي، تحتل المكانة المركزية الفعلية والإيديولوجية لكن منذ أواخر القرن التاسع الميلادي فقدت بغداد ومعها الخلافة شيئا فشيئا قوتها ووهجها الماضيين وإن سبب تدهور بغداد والخلافة إنما تمثل في استبداد زعماء الجيوش غير العرب وهم الإيرانيون البويهيون أولا ثم الأتراك السلاجقة ثانيا، بدولة الخلافة وبالسلطة، وما كان صاحَبَ ذلك من حروب بين مختلف الفرقاء السياسيين والحكام المحليين ومختلف الجماعات الإثنية
3- انهيار النظام التجاري القديم
وتطور نظام تجاري جديد:
أدت الحروب الموصولة وديمومة عدم الاستقرار إلى تزعزع نظام التجارة «الدولي» الخاص بطرق التجارة عبر البلدان؛ ومن ثمة أصاب نظام التجارة «الدولي» ذا المسافات الطويلة، وقد أدى هذا إلى انهيار الصناعات المتخصصة ومراكز الصناعات الحرفية، وذلك مثلما أسلم إلى انهيار الإنتاج الزراعي المتخصص وإن المردودية الفردية وحجم التجارة انحطا، ومراكز التبادل التجاري الموسع انهارت أو قلت أهميتها ويدخل في صميم اهتمامنا هنا ما ينبغي علينا أن ننظر فيه من أمر الموانئ ومراكز التجارة في منطقة الخليج وههنا نتقدم فنذكر أن المركزين الأهم، سيراف في الجهة الإيرانية من الخليج وصحار في الساحل العماني، كانا قد فقدا من أهميتهما واندثرا على مر الأزمان وإن أحد بواعث هذا التراجع كان انهيار حال بغداد ذلك أن أفول عاصمة الخلافة إنما بلغ ذروته مع احتلال المغول للمدينة ونهاية دولة بني العباس آنها أفلت بغداد أفولها ومما يشهد على ذلك توقف كل أنشطة البناء بالمدينة وإذ كانت البصرة متصلة ببغداد اتصالا وثيقا، فإنه ما نشب أن أفلت هي بأفول متعلقتها وكان من نتائج أفول بغداد والبصرة أن أصاب ذلك الأفول بعدواه الموانئ المتواجدة على طول شواطئ الخليج ولئن كان بعضها قد قاوم الانهيار وعاش إلى حين، فإن بعضها قد هُجر وهكذا فإن أفول بغداد والخلافة، الذي كان بدأ في القرن العاشر الميلادي، فضلا عما رافق ذلك من تآكل الشبكة التجارية ذات المسافات البعيدة، إنما كان له أثر اقتصادي سلبي عظيم على نظام تجارة البحر منذ أن وجد هذا النظام إلى حدود القرن العاشر الميلادي هذا ولقد تطورت مراكز جديدة في استجابة لهذا الوضع الجديد، أو حدث أن عاشت بعض المراكز القديمة لكن باتباع استراتيجية جديدة ومن بين هذه المراكز كانت الموانئ المتواجدة على الجانب الإيراني من الخليج؛ شأن جنابة وسنيز ومهربان (غاوبيه، 1973) وهرمز (كارل، 1982) هذا وبينما كانت موانئ المدن الثلاث الأولى المشار إليها قد بدأت تنهار في القرن الرابع عشر الميلادي، فان هرمز قاومت الانهيار وحاولت أن تحيى حتى بلغت أوج أهميتها الاقتصادية والسياسية ما بين القرن الثالث عشر وأواخر القرن الخامس عشر الميلاديين
وبعد سقوط دولة السلاجقة (آخر تاريخ شهدوه كان عام 1194م)، فإن بعض المواقع، شأن شيراز وكرمان جنوب بلاد إيران، صارت مراكز كيانات سياسية صغرى ومراكز تجارة أخذت تشع بدءا من هذه المدن الجديدة ويمكن أن تشهد بذلك الأخبار التي استقيناها من المصادر الفارسية شأن «فارسنامه» التي ألفها كاتب مجهول أو من العمل الجغرافي المتأخر للخانيد «صاحب بيت المال» (مستوفي) حمد الله مستوفي قزويني [هكذا يرسم اسمه في المصادر الفارسية أما في المصادر العربية فيرد على الرسم التالي: حمد الله المستوفي القزويني] «نزهة القلوب» والحال أن هذه المراكز السياسية الصغرى إنما ساهمت في إعادة تنظيم شبكة التجارة بمنطقة الخليج وما وراءها
وإن أحد أوائل من نشطوا في هذه العملية التحويلية كان هو الحاكم الإقليمي (الأتابك= من أعقب السلاجقة) لبلاد فارس بعاصمتها شيراز؛ أعني السلغوري أبا بكر بن سعد بن زنكي[1231-1260] والأرجح أن يكون فعل ذلك أبوه عز الدين سعد [1203-1231]، إذا ما هو صح تاريخ غزو قيس [كيش] [1229] ولقد سعى الرجل إلى التعويض عن الخسائر التي تسببت فيها الشروط غير الآمنة بداخل البلاد وكانت طموحاته تتمثل في أن يمنح لنفسه دورا مهيمنا في الخليج، وذلك بإحداث مركز تنظيمي في جزيرة قيس والحال أنه بكل تأكيد ما كانت رائية وألمحية الأتابك هي التي قادت إلى اتخاذ هذا القرار؛ وإنما كانت هناك أيضا تجارب من ذوي التجربة في التجارة العالمية وراء هذا التحرك، وذلك بحكم أن وضع الجزيرة سرعان ما سوف يتم تقليده من لدن هرمز وكانت لهذا الوضع أمثال في كل المواقع الجزيرية تقريبا لكل أهم مواقع ساحل شرق إفريقيا إن اعتبارات عملية وخبرة مشتركة أديتا من قبل إلى اتخاذ القرار بالتحرك نحو المواقع الجزيرية بشكل مبكر (مثلا خرق بالخليج ومندا وشنغا في الساحل الكيني)، كما أديتا إلى التحرك إلى مواقع الجزر بساحل شرق إفريقيا لقد صار العالم عالما واحدا مدارا من لدن فريق عالمي من التجار بخبرة مشتركة.
4-شيراز وكرمان، قيس وهرمز
رفض أمير قيس، ملك سلطان، الخضوع إلى طموحات أتابك وبما أن أتابك ما كانت له سفن حربية تحت إمرته حتى يغزو بها هو قيس، فإنه طلب من حاكم هرمز، سيف الدين أبي النظر، المساعدة وقد وافق سيف الدين هذا، وكان أن تم احتلال قيس من طرفه عام 1229م (قبل سقوط بغداد) وتم قتل ملك سلطان وأغلب أفراد حاشيته كما أسرته- غير أن التجار نجوا من المقتلة وهاجر الكثير منهم- أو شجعوا على الهجرة- إلى شيراز لقد صار أتابك قادرا – والحال أن أسطول قيس صار تحت تصرفه وكذا ربابنة الأسطول وملاك السفن وتجار قيس، وأغلبهم كان بشيراز – على أن يستولي على كل أجزاء حواضر الخليج الساحلية، وأن يقيم اتصالات تجارية مع شركاء في ما وراء الخليج بالساحل الهندي كما بساحل شرق إفريقيا (بياشنتيني2009، 161)
على أنه يصعب تحديد طبيعة الصلات التي جمعت بين حكام هرمز وأتابك إذ كانت العديد من الأحداث في صالحهما معا وقد انخرطا فيها ولقد قام جون أوبان (أوبان 1953) بمحاولة تسليط بعض الضوء وتوضيح الأمور المُشكَلة والمختلطة والمتعارضة أحيانا التي تمدنا بها المصادر الكتابية غير أن تأويلاته واستنتاجاته ظلت منبهمة امبهام الأخبار التي توفرها هذه المصادر ذلك أن غازي قيس، سيف الدين، كان، إلى درجة ما، مملوكا (أو على الأقل تابعا) لأتابك شيراز وهذا الأمر تغير مع محمود القلهاتي (اشتق لقبه «القلهاتي» من الوظيفة التي مارسها باعتباره حاكم قلهات)، الذي كان يتبعه لبعض سنوات بعد موته باعتباره حاكم هرمز لقد كان يحكم تحت السلطة الاسمية لحاكم كرمان المحلي وتصرف إلى حد ما عنه باستقلال
وكان قد اعتلى محمود القلهاتي سدة الحكم بعد مقتل شهاب الدين محمود بن عيسى حاكم هرمز وقد تم هذا الاختيار بإيعاز من زوجة شهاب الدين، وهي أخت من أشرنا إليه سابقا على أنه سيف الدين أبو النظر وبعد مقتل شهاب الدين هذا تزوجت من محمود وكان محمود القلهاتي، الذي اعتلى سدة الحكم حوالي 1243م، حاكما نشيطا، وقد نما نفوذه بالمناورات السياسية، وأثر في منطقة هرمز المهمة تأثيرا كبيرا وذلك حتى أن الرجل غزا قيس والبحرين والقطيف والساحل العماني إلى حدود ظفار وبعض مناطق هندوستان (أوبان، 1953، 84) وفي عام 1272م، وبعد معركة بحرية طويلة، مع حظوظ في النصر كانت متباينة، فإن غزوات محمود تم إيقافها من لدن الحاكم المغولي على بلاد فارس سوغنجاق إذ أجليت سفن بحرية محمود من طرف سفن بحرية سوغنجاق أبعد ما يكون عن قلهات وبعد مضي حوالي ست سنوات توفي محمود عام 1277 أو 1278م
وإثر مواجهة طويلة بين أبنائه، وهي مواجهات تمدنا المصادر عنها بمعلومات متضاربة، كان سيف الدين نصرة هو من أعقب محمود وفي عملية التولية هذه لعبت أمه، «خاتوني أصلي»، دور القوة الموجهة الفاعلة وكانت المرأة زوجة محمود الأساسية، كما أنها كانت هي التي قتلت زوجها الأول لكي تمكن لمحمود القلهاتي من أن يعتلي سدة حكم هرمز وقد ضمنت مساعدة جلال الدين سويورغاتميش ملك كرمان وبعد حكم هادئ دام حوالي اثني عشرة سنة، اغتيل نصرة بدوره والحال أن ما نقل إلينا عن ملابسات وحيثيات التمرد على نصرة وعن وقائع ومجريات اغتياله لمن التضارب في الأنباء بمكان بيد أن اثنين من إخوة نصرة غير الشقيقين، وهما ابنا زوجتين أخريين لمحمود القلهاتي، لهما من يشار إليهما باعتبارهما من اغتاله: ركن الدين مسعود وشمس الدين تركنشاه وإن أحد المصادر ليشير إلى مسعود وحده دون سواه، وهو بالفعل الذي آل إليه اعتلاء سدة الحكم في آخر الأمر على أن هذا الانقلاب على الحاكم وجد من يطعن فيه، وكان حاكم كرمان، جلال الدين، هو الفاعل لكن الرجل سرعان ما رجع عن رأيه فقبِل أمر اعتلاء مسعود سدة الحكم؛ وذلك بعد أن كان قدم إليه مسعود هذا هدايا فاخرة فضلا عن 500 دينار
ولقد ثارت ثائرة ضد مسعود وكان منشؤها بقلهات حوالي عام 1290م وكان المحرض على هذا العصيان حاكم قلهات بهاء الدين أياز زوج بيبي مريم إذ أجبر أياز مسعودا على الهروب إلى كرمان تاركا وراءه زوجاته وأبناءه وقد قتل أغلبهم وإذ دعمه سويوغاتميش، فإن مسعودا سرعان ما استعاد سيطرته على هرمز وبعد أقل من حول أخرجه من جديد أياز من هرمز ـ هذا الذي كان قد طلب مساعدة حاكم بلاد فارس، ملك الإسلام جمال الدين إبراهيم الطيبي وسرعان ما صارت حاكمة كرمان الجديدة، الملكة بادشاه خاتون، تعترف بملك أياز والسبب في هذا الاعتراف طموحات هذه الملكة في المشاركة في اقتسام الأرباح التي كان يدرها النشاط التجاري العالمي لتجار كل من شيراز وكرمان والساحل العماني.
وحدث أن كان من بين هؤلاء التجار ملك الإسلام، جمال الدين إبراهيم الطيبي، حاكم بلاد فارس وأحد أبرز تجار الفرس والعرب في زمانه وكان الرجل قد جمع أغلب ثروته من التجارة مع الصين وفي عام 1293م، في الوقت الذي كانت فيه مالية الخانيد المغولي في أسوأ الأحوال، فإنه كان يحصل جبايات بلاد فارس عن الخواند وإن اللقب التشريفي الذي حازه ـ «ملك الإسلام « ـ إنما خلعه عليه الخانيد حاكم غايخاتو (1291-1295) وإن جمال الدين ملك الإسلام هذا تصرف بضرب من الاستقلال، قد ينكمش وقد يتسع، في بلاد فارس وفي منطقة الخليج وكان مركز نشاطاته التجارية بقيس كما أنه سيطر على التجارة مع الهند ومع مناطق شرق الهند برمتها تقريبا: «فمن أسواق الهند والسند، ومن بحار الشرق الأقصى، كانت ثروة هذه الجزيرة الخليجية [قيس] قد استُمدت استمدادا لكن التجارة مع بلدان أخرى على وجه العموم- من العراق إلى خرسان، ومن بلاد الروم إلى بلاد الفرنك- إنما كانت تحت سيطرة مصلحة جمال الدين» (بياشينتيني 2009، 163 نقلا عن وصاف [ بومباي] [أنظر عبدالله بن فضل الله الشيرازي المعروف بـ(وصاف)، وكتابه: «تاريخ وصاف» ] ، 302-303)
يُظهر مسار أحد إخوان ملك الإسلام، عبد الرحمن الطيبي، كيف تصرفت أسرة ملك الإسلام عالميا فقد حدث أن صار الرجل وزيرا لأحد حكام الهند المحليين وهو يحمل اللقب الفخامي التشريفي «مرزبان الهند» – وهذا لقب موروث ومنقول عن العهد الجاهلي عن إيران الساسانية وقد زاول المراقبة على العديد من المدن المينائية بالهند حيث كانت ترسو السفن المحملة بالخيرات القادمة من الصين ومن هناك كانت تلك الخيرات والبضائع تنقل إلى سفنه الخاصة التي سرعان ما تنقلها بدورها إلى قيس: «وذلك حيث لم يكن أي شخص يصرح له بالقيام بمعاملات تجارية قبل أن يكون رجال ملك الإسلام قد اختاروا اختيارهم لاسيما في مجال النسيج وبعد هذا فقط كان يسمح للتجار الآخرين بشراء بقية البضائع» (أوبان 1953، 90 نقلا عن [تاريخ] وصاف [بومباي] 302-303)
تكتسي نسبة «الطيبي» بعض الأهمية خاصة إذ يبدو أن أصلها هو «الطيوي» إذ يمكن أن يكون لهذه النسبة صلة بـ(طيوي) في عمان ذلك أن طيوي قرية قديمة في ساحل عمان تبعد حوالي عشرين كيلومترا غرب قلهات (كورن ومؤلفون آخرون 2004) وليس يمكن استبعاد أن الطيويين ينحدرون من طيوي وفي العصور الوسطى كانت طبقة التجار عالمية ومتعددة الإثنيات كما هي في أيامنا هذه ومن المرجح أنه في زمن ما بين القرن العاشر والقرن الثاني عشر الميلاديين أقام تجار ينتسبون إلى طيوي بعمان في بعض مناطق الخليج، شأن شيراز وأماكن أخرى – وحتى في الهند، وذلك شأن أخي ملك الإسلام هذا الملقب «مرزبان الهند» والحال أن إمكان الصلة بين طيوي/ قيس يشبه الصلة بين قلهات / هرمز، وهذا الربط الفيلولوجي التاريخي يقيم حجة أخرى على الصلة الوثيقة بين المدن الساحلية بشمال عمان وجزيرتي الخليج اللتين بلغتا أوج أهميتهما الاقتصادية في الفترة العباسية المتأخرة وما بعدها، وإن مشاكل توارث السلطة بهرمز سمحت لملك الإسلام بأن يبسط نفوذه على الميناء الثاني الأهم بالخليج وكان هذا هو الذي حمله على مساندة إياز ضد مسعود، ففي بداية حكمه، أظهر أياز الإخلاص لملك الإسلام في صك العملة وقراءة خطبة الجمعة باسم ابنه الملك المعظم فخر الدين وللمرء أن يتصور كيف أن الحكومة المركزية في عمان كانت من الضعف البيِّن بحيث أن العملة كانت تضرب باسم ابن تاجر وأكثر من هذا، فإن اسم تاجر كان يذكر في خطبة الجمعة .
ولكن سرعان ما ظهرت خلافات بين فخر الدين وأياز ففي عام 1296م كان على ملك الإسلام أن يقدم إلى هرمز لكي يؤدب أياز وقد انتهى هذا الأمر إلى تمرد في حامية هرمز التي انتصرت لأياز وإثر هذا وقع ملك الإسلام بين يدي أياز الذي سمح له بالمغادرة آمنا سالما ومباشرة بعد إطلاق سراحه، راح ملك الإسلام إلى حاشية الخانيد وقد استقبل بتشريف عظيم وأضيفت إليه سلطة جديدة ذات امتداد واسع : أقاليم منطقة شبنكرا وبلاد فارس، وتحصيل الجبايات لمدة ثلاثة أعوام من العراق الغربي وفضلا عن هذا زود هو بجيش حتى يجلي أياز عن هرمز، وفي هذه الحملة التحق مسعود بملك، وقد بدت له فرصة سانحة للعودة إلى اعتلاء عرش هرمز الذي كان قد فقده لصالح إياز وقد تقاسم الرجلان قيادة قوة الجند وهكذا تحمل ملك الإسلام مسؤولية القوى البحرية بينما قاد مسعود القوى البرية إلا أن موهبة إياز بوسمه جنرالا رجحت كفته أكثر من هذا، غزا هو قيس واستولى عليها لأمد قصير وحدها القلعة قاومت حصارا دام ثلاثة أشهر وفي ربيع عام 1297م طلب ملك الإسلام من أياز الأمان وقد منحه له وهكذا عاد مسعود إلى كرمان وما عاد إلى لعب أي دور سياسي فيما بعد ثم حدث أن قوة أياز تنامت نموا، وكان أن شيد قوة عسكرية ملفتة للنظر وقد صار بفضل هذه القوة يقتدر على مقاومة أي تهديد جدي لهرمز، ومقاومة هجمات الجماعات الشاغاتايية المتوحشة التي أتت من وسط آسيا، وقد غزت أجزاء كبيرة من بلاد فارس وإن بعض المصادر تقيم صلة بين تحويل هرمز من هرمز إلى القديمة إلى هرمز الجديدة على جزيرة جارون وبين هذا الحدث لكن من الممكن أيضا أن يكون أياز قد اختار هذا التحول من قبل بالنظر إلى صراعه هو وهرمز كلها معه وتنافسهما مع قيس، وقد حكم سياسة أياز نحو القوى الكبرى مبدأ تفادي الخلاف معها والتنافس وحاول أن يبقي على علاقات حسن الجوار مع القوى التي كانت تحكم داخل البلد، لاسيما منطقة كرمان ولقد سامحه في إقامة ذلك وساعده حكام كرمان من أسرة الكراخيتاي الحاكمة (وهي مملكة أسيوية وسطى كانت آنذاك قد مددت نفوذها إلى حدود جنوب إيران ) ثم إنه نجح في أن يكسب ثقة الخانيد حكام كرمان في ما بعد، وقد أثمرت هذه السياسة ثمارها إذ عمد الخانيد إلى سحب مساندتهم رويدا رويدا لملك الإسلام حيث فقد جباية شيراز والعراق العربي، وما بقي له في النهاية إلى الإمرة على قيس وكان أن توفي عام 1306 م ثم تبعه غريمه أياز بعد مضي خمس سنوات.
وينبغي النظر إلى صعود وسقوط ملك الإسلام جمال الدين إبراهيم الطيبي على ضوء وضع القوة في غرب إيران خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي ذلك أن صعود جمال الدين إنما وجد مكانه في زمن سقطت فيه إيران في الفوضى بعد سقوط دولة السلاجقة العظمى وما كان أتابك بلاد فارس في وضع يسمح له بتقوية سلطته من غير مساعدة من نفر من الناس يسيطر على الاقتصاد ويعرف كيف يدير المال، وكيف يتعامل مع العالم الخارجي، وإنها كانت طائفة التجار الذين سيطروا على الاقتصاد طالما سمح لهم بذلك، وبقدر ما كان وضعهم يسعفهم في مراقبة النظام لقد كانوا الوحيدين الذين كانت لهم الكفاءة والمرونة والخيال لإعادة بناء نظام اقتصادي في مثل تلك الظروف وهذا ما كان يقر به الأتابك، وقد اختار أشدهم تأثيرا وأقدرهم وأبسطهم سلطة، فضلا عمن كان يدور في فلكه، لإعادة انطلاقة النظام الاقتصادي الذي يربط بين الشرق والغرب في طريق آمن عبر البحر والحال أن هذا التعاون بين الطبقة التجارية، والطبقة الحاكمة وإسهام الطبقة الحاكمة في إدارة السلطة دام قدر ما كان في صالح الطبقة الحاكمة، وكنتيجة منطقية لهذا الأمر، فإن سقوط ملك الإسلام إنما أدت إليه التغيرات السياسية فبعد أن أرسى الخانيد المغوليون نظاماً إدارياً وعسكرياً، ما عادوا هم بمسيس حاجة إلى وسطاء، شأن ملك الإسلام، فكان أن لفظوه وتركوه يغرق.
كان يتبع أيازَ عضوٌ من الأسرة المالكة القديمة لهرمز يدعى كردنشاه وكان وضعه، وضع تحد من لدن عز الدين عبد العزيز، ابن ملك الإسلام، الذي حاول تقوية وضع قيس وقد تبعت ذلك حرب طويلة ما كان فيها من غالب ولا مغلوب دامت طيلة أيام ملك كردنشاه الذي توفي عام 1317م وبعد وفاته حدثت معارك جديدة بين أعضاء الأسرة الملكية بهرمز ، وكان أن صارت بيبي مريم نشيطة من جديد في هذا الوضع، وكان أن أرسلت مرشحين من اختيارها من قلهات إلى هرمز والحال أن واحدا منهم، وهو قطب الدين «تهمتن»، نجح في معركته من أجل السلطة واعتلى عرش هرمز عام 1320م وكان هو من قاد هرمز إلى الازدهار والقوة وبعد سنوات من صراعات غير محسومة المصير داخل قيس وبين قيس وهرمز، استولى «تهمتن» على قيس وعلى مواقع أخرى على طول سواحل الخليج وما كانت فترة حكمه بلا إخفاقات وانكسارات، لكنه نجح في جعل هرمز الإمارة الأقوى في الخليج وما وراءه وقد توفي الرجل عام 1347 م.
وفي زمن «تهمتن» زار الرحالة ابن بطوطة قلهات وقد كان ابن بطوطة هذا بدأ رحلته من طنجة وسافر إلى الصين فعودة، وأمضى حوالي ثلاثة أعوام ( من أكتوبر 1327 إلى أكتوبر 1330 م) جنوب شبه الجزيرة العربية، وشرق إفريقيا وبمنطقة الخليج واستقر في قلهات ستة أيام وقد كتب يصفها:
« ومدينة قلهات على الساحل وهي حسنة الأسواق ولها مسجد من أحسن المساجد حيطانه بالقاشي وهو شبيه الزليج وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى وهو من عمارة الصالحة بيبي مريم وهم أهل تجارة ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي، وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب، وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا، فيقولون مثلا تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا
وأكثرهم خوارج، لكنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تهتمن ملك هرمز وهو من أهل السنة» (ابن بطوطة، المجلد الثاني، 224-225)..
ثم خلف «تهمتن» على كرسي الحكم توران شاه (1347-1378) وقد كانت فترة حكمه الطويلة فترة سلام قدر ما كانت تسمح به تلك الأيام وقد تم الحفاظ على وضع هرمز باعتبارها متجرا هاما وتم تعزيزه، وأقيمت علاقات جيدة مع قوى داخل البلد، وتم تأمينها عبر أداء الجبايات إلى الحكام الذين كانوا يحكمون كرمان وشيراز ولقد كان توران شاه حاكما مسالما وحليما وقد أشير إليه بوصفه راعي الشاعر الفارسي الشهير حافظ الشيرازي، وكان هو نفسه شاعرا، كما أنه مؤلف كتاب عن تاريخ هرمز والحال أن الأصل المخطوط لهذا الكتاب كان دمره البرتغاليون، لكن مختصرا منه برتغالي العبارة كتبه بيدرو تكسيرا قد تم حفظه (تيكسيرا).
والحق أن هذا التاريخ يعد مصدرا ذا أهمية بالغة في تاريخ هرمز إلى حدود عهد توران شاه عن أصل أهل هرمز وإن ديباجة هذا الكتاب لذات أهمية خاصة لمن يعنى بموضوع مرويات التأسيس؛ وأولها، مروية مالك بن فهم وقلهات، وقد أشير إليها من ذي قبل أعلاه وإن التأسيس الأسطوري لهرمز، حسب ما رواه توران شاه، لوارد على النحو التالي :
«إن توران شاه، ملك هرمز، لسعيد لتناوله، بالنثر والشعر الفارسي معا، موضوع تأسيس هذه المملكة، وأعمال الملوك بها، وتاريخ أسلافه وقد سمى كتابه «شاهنامة»، والذي يعني «تاريخ الملك أو الملوك»، بادئا بآدم لكن سوف أوجز في بضع صفحات ما كتبه في جزء صغير، وسوف أروي، وفق نزوعي المعهود إلى الإيجاز، عن أصل المملكة وعدد ملوكها وعن تواليهم بالترتيب»
ويروي لنا توران شاه مرويتين مختلفتين عن تأسيس مملكة هرمز هذه وبدء شأن أول ملوكها وهو يترك للقارئ الحرية في أن يختار تلك المروية التي تناسب مزاجه وهكذا، يروي أنه كان في البدء أمير عربي يدعى محمد درام كو، ينحدر أبا عن جد من ملوك مملكة (سبأ)، التي كانت إقليما من أقاليم شبه الجزيرة العربية، والتي كانت ملكتها هي التي جاءت لتقابل سليمان والحال أن هذا الأمير الذي كان يرغب في توسيع مملكته (حسب ما درجت عليه عادة الحكام)، تجاوز حدود أقاليمه واستولى على أقاليم جيرانه، ولم يتوقف إلا وهو عند حدود ساحل الخليج الفارسي الذي هو هذا البحر الضيق الذي صرنا ندعوه اليوم بالبرتغالية مضيق هرمز . وإذ مضى بعيدا، فإنه أقنع قومه أن يتبعوه عبر البحر واعداً إياهم أن يلاقوا حظا سعيدا على الضفة الفارسية حيث كان يفترض أن يعثر على بندر وهو مرفأ أكثر شهرة وحركة تجارية من صحار وهو مرفأ ببلاد العرب على المضيق نفسه كانت الحركة فيه أشد دأبا، واليوم نالت منه تقلبات الزمان حيث لا تزال أنقاضه، كما عاينتها بنفسي، تشهد على أنها كانت ذات قرون مدينة تحظى بأهمية بالغة، وبعد أن أخذ بالاستشارة، ذهب هو وقومه إلى كلايات (قلهات)، وهي مرفأ من مرافئ شبه الجزيرة العربية بالخليج الفارسي قرب رأس Rocolgat ومن هناك اجتاز هو وقومه وكل ما يحتاجون إليه، إلى جاسك [ غرب هرمز القديمة ] وهو مرفأ معروف على الساحل الفارسي [بندر جاسك] ومن هناك نحو سواحل الشمال حيث دخل إلى كوهستاك، وهي مرفأ آخر على نفس الضفة ثم إن محمد شاه ترك أحد أبنائه بقلهات، رفقة وزير حليم حكيم، عادا في نفسه أنه لئن كان له أن يلقى سوء الحظ فوق البحر، فإن له هنا بقلهات موئلاً آمنا.
ولما بلغ كوهستاك، أنزل رجاله وبحث عن مكان مناسب لإقامة معسكره وإذ سمع أنه يوجد مكان على مسافة يسمى هرمز صالح لما كان يرومه، فإنه راح إليه مصحوبا بقوته وعند المعاينة وجد المكان صالحا للإقامة، فكان أن أقام به وأصلحه وبنى عليه مدينة، وحاز الأرض التي لم تكن معمرة بتعمير حسن، وصك النقود ومن هنا دعي درام كو [ درهم كو]؛ [أي «ذلك الذي صك الدراهم»].
وكان معه أحد أبنائه واسمه سليمان نمت المدينة بفضل جهوده وازدهرت على وجه الخصوص ثم إن محمد شاه أقام هناك وتولى الحكم، في جو ساده السلم والعدل، وبحكم طبعه السامي وحلمه وشجاعته، أقام وشائج وثيقة مع جيرانه، حاكمي شيراز وكرمان ثم ما نشب أن مات بعد أعوام عن تأسيسه لهرمز، وكان أن تركها، وقد ازدهرت ازدهارا، لابنه سليمان، ولقد أعقب شاه محمد درام كو أول ملوك هرمز بعد موت سليمان ابنه وكان الرجل مستلطفا ومحبوبا من لدن الجميع لفضيلته وعدالته، في حين كانت شهرته ودولته قد نمتا نموا مطردا وقد قضى الرجل بعد فترة حكم طويلة وهادئة.
أما المروية البديل التي يرويها توران شاه عن صعود مملكة هرمز، فهي التالية: كان أبو محمد شاه ملكا بالجزيرة العربية، وإذ كان في حرب مع غيره انهزم وهرب؛ وبما أنه كان يشعر أن وجوده كان مهددا بشبه الجزيرة العربية، فإنه اجتاز إلى الخليج الفارسي، وأقام بموجستان، وهي إقليم من أقاليم فارس، واستقر هناك مع محمد، ابنه، الذي كان قد قدم البلاد ليجد بها ملاذا آمنا مثله وتصادف أن كان حاكم تلك البلاد طاغية يطغى في كل أفعاله ومآتيه فكان أن «اندس في حاشية الملك الذي كان يتزيا بزي عروس وطعن الطاغية الفاسد، وكان أن ولاه القوم ملكا عليهم على أنه ليس من الضروري أخذ هذه المروية بعين الاعتبار» ( تكسيرا 153-156). و هذه المروية الاسطورية تتقارب مع مروية العوتبي عن سليمة بن مالك بن فهم.
والحال أن ابن توران شاه كان رجلا تقيا وقد أسند حكم هرمز إلى ابنه محمد شاه (توفي عام 1400م) الذي استمر في نهج سياسة احترازية حليمة، وحاول أن يقيم علاقات حسن الجوار مع السلطة الجديدة الرئيسية بالمنطقة التي مثلها تيمورلنك، هذا الذي هاجمت جيوشه هرمز القديمة ودمرت جزءا منها وبعد موت تيمورلنك حاول أن يواصل سياسته المنتهجة مع عقبه وولاتهم وقد جاء بعد محمد شاه ابنه باهمان شاه وأعقبه من بعده أخوه فيروز شاه، وكان رجلا تقيا سرعان ما حل محله ابنه سيف الدين مهار بعد أن تم نفيه.
على أن المشاكل والاضطرابات الداخلية لم توقف النشاطات التجارية الهرمزية في منطقة المحيط الهندي وإن أحد المؤرخين الفرس ليشير إلى أن باهمان شاه قد تبادل الرسائل مع سلاطين مصر وخاقانات الصين ولم تتوقف الاتصالات مع الصين بعد تبدل السلطة العليا من المغوليين إلى التيموريين ففي عام 1412م استُقبلت بعثة صينية بهرمز وبعد عامين وصلت بعثة من هرمز إلى بلاط الصين وثمة شواهد على الحضور الصيني بغرب المحيط الهندي ولاسيما بهرمز في نفس الفترة ذلك أن البحارة الصيني الشهير تشينغ هوو زار هرمز ما بين عام 1413م و1415م، كما أعاد الكرة ما بين 1417م و1419م؛ وفي عام 1433م أقامت سفن صينية بهرمز لمدة ثلاثة أشهر والحق أن ما كانت هذه إلا إيماضات عن الأنشطة التي كان يشهد عليها ميناء هرمز.
وفي عام 1437م عزل سيف الدين عن عرشه عقيب تمرد قاده أبوه فهر الدين توران شاه (1437-1471) وكان هذا التمرد، شأنه شأن أنظار له حدثت من قبل، إنما انطلقت شرارته الأولى من قلهات وحدث أن فر سيف الدين إلى البلاط التيموري بهرات، فكان أن أعيد إلى الحكم من جديد ـ وذلك إلى حين ، بعون من فرق من الجند بعث بها ابن تيمور شاه روخ وفي إطار تمرد توران شاه فإن «عنصرا عربيا» (بياشنتيني 2009، 169) برز للواجهة داخل نظام حكم هرمز والحال أنه يبدو أن هذا «العنصر العربي»، إذا ما هو حُقِّقَ أمره ظهر ، أنه كان عبارة عن بناء بُنِيَ أكثر ما كان هو واقعة تاريخية حقة ويمكن استنباطه من النصوص الفارسية المعروفة بنزعتها الشعوبية لكن الأرجح أن هذا «العنصر العربي» كان دائما حاضرا في سياسات هرمز وإلا كيف يمكن تأويل تدخل عام 1320 م من لدن بيبي مريم لصالح تهمتن؟
تلت موت توران شاه أعوام من الحرب الأهلية وفي النهاية برز سلغور شاه (1475-1505م)، ابن توران شاه، بوصفه حاكما جديدا لهرمز وقد كان الرجل حاكما على قلهات من قبل، وتزوج أميرة نبهانية عمانية ثم إنه حدث أن تزوج سلغور زواجا ثانيا من امرأة من قبيلة عربية أخرى على ما روى (بياشنتيني 2009، 173) والراجح أن الزيجات بين أعضاء الأسرة الحاكمة بهرمز، والهرمزيين بعامة، مع أعضاء من القبائل العمانية كان أمرا معهودا وما كان استثناء، وما كان «العنصر العربي» ظاهرة فريدة في تاريخ هرمز وقلهات في القرن الخامس عشر وإنما عد هو قاعدة حيوية في محور التحالف هرمز / قلهات.
وهكذا نحو نهاية عهد ملك سلغور شاه، فإن مجيء البرتغاليين كان من شأنه أن هو بدل حال عالم المحيط الهندي بين إفريقيا والهند تبديلا وفي منطقة الخليج خاصة، فإن السلطة الجديدة بإيران – الدولة الصفوية – أنشأت دولة إيرانية قوية فتحت عهدا جديدا في تاريخ المنطقة وكان أن اختفت هرمز بوصفها لاعبا مهما في تاريخ الخليج واقتصاده وفي المناطق التابعة له، وهكذا أمسى القرن السادس عشر عهد السيطرة البرتغالية بالمنطقة الساحلية وبعد اكتشاف فاسكو دي جاما لطريق البحر إلى الهند واكتشافاته وغدواته وبدواته وغزواته على طول الشاطئ الشرقي لإفريقيا، هاجم ألفونسو دي البوكيرك معظم مدن وحواضر ساحل شبه الجزيرة العربية والشرق عام 1508م واحتلها وهكذا استحالت هرمز مركز الأنشطة البرتغالية في المنطقة برمتها، فكانت بمثابة «الحصن المنيع الذي أقاموه في قلب بلدان الإسلام» (أوبان، 1973، 78)، وهو الوضع الذي ظل على حاله إلى عام 1622م، حين غزو الصفويين لهرمز وتحويلهم لأنشطتها الاقتصادية إلى مرفأ بندر عباس الذي كانوا قد استحدثوه.
وبذا بدأت أهمية قلهات تأفل في القرن السادس عشر وإذا ما هي بقيت هناك أوصاف تقال على قلهات إيجابية المنزع: «[المدينة] شريفة بأسوارها وأبراجها وإقاماتها وشرفاتها ونوافذها ذات الطراز المعماري الإسباني « ( أورده أوبان عن دو باروس 1973، 113)، فإن أغلب الأوصاف ما كانت إيجابية بالمرة ففي «تعاليقه « حاول ألفونسو دي البوكيرك الابن أن يخلع على أبيه وصف البطل والعقل المدير للتوسع البرتغالي عبر الساحل العربي والحال أن الرجـــــــــل – ذا الخيلاء والغطرسة المتعطش للدماء- كان هو من استولى على قلهات وقريات ومسقط وصحار ولقد دمرت قلهات تدميرا، وأحرق المسجد الذي كتب عنه ابن بطوطة بإعجاب شديد عن آخره على أن التعليقات تضمنت أوصافا وجيزة للحواضر التي هوجمت وهدمت جزئيا، فكان أن أوحت إلينا بانطباع حسن عن الوضع في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، والحال أنه لما قدم ألفونسو دي البوكيرك إلى قلهات كانت المدينة قد مضى زمن مجدها وكانت تسير سيرها نحو الأفول النهائي نقرأ في التعليقات:
«قلهات مدينة ببنايات قديمة عديدة صارت الآن مدمرة والبحر يناطحها والمرفأ لا يزال في حال جيدة، وهو يقع على مرمى خطوات من بعض السلاسل الجبلية العالية وفي الجانب اليابس، على بعد مسافة قصيرة من المدينة، يوجد سور طوله رمية، ينزل بدءا من أعلى الجبال ويلمس البحر وقد أقامه المواطنون أملا في «محبة السلام» مع عرب الداخل، ذلك لأنهم كانوا وإياهم على صراع لمناسبات عديدة والداخل واقع تحت حكم ملك يدعى ابن جبر، يملك فرسانا عديدين، وحول المدينة لا توجد ولو شجرة واحدة، اللهم إلا بعض النخيل يقع قرب بعض موارد ماء حيث يرتوي بعض ارتواء وكل تمويناتهم من الذرة والشعير والتمر والدخن تأتي من الداخل، وذلك لأنه توجد الكثير من هذه المنتوجات هناك والمرفأ عبارة عن محل كبير لتخزين الصادرات ويأتي الهنود لكي يتزودوا منه بالخيول والتمور ويحملوها إلى بلادهم» ( دي البوكيرك، 66 – 67)
يظهر هذا الوصف أنه في الوقت الذي قدم فيه دي البوكيرك إلى قلهات كانت هذه قد أدبر حالها إذ فقدت مكانتها بوصفها أهم ميناء في الساحل العماني خلال القرن الخامس عشر، وحلت محلها مسقط ولقد ذكرنا عدة دواع تأدت إلى هذا الأفول في ما تقدم وأشد هذه الدواعي معقولية هو الامتياز الطبيعي لمسقط: ذلك أن ميناءها محمي حماية جيدة وبالغ من العمق بما يسمح برسو آمن للسفن التي صارت تتخذ أحجاما أكبر فأكبر خلال القرن ذاته وفي هذا الأمر فقد لحق بقلهات الاندثار الذي لحق بالعديد من الأماكن التي غزاها البرتغاليون، سواء أكانت على الساحل الغربي أم على الساحل الشرقي لإفريقيا.
– شرق إفريقيا والشيرازيون:
كانت معاناة المرافئ والمواقع المتواجدة عبر الساحل الشرقي لإفريقيا من جنوب الصومال إلى الموزمبيق تحت الغزوات البرتغالية شبيهة بما عانته المرافئ والمواقع المتواجدة بسواحل شبه الجزيرة العربية- بالخليج- في الطريق إلى الهند وفي الهند نفسها ذلك أن وصول البرتغاليين تأدى إلى تدمير الاقتصاد المزدهر والحضارة الغنية المتعددة الإثنيات والديانات وإن الفظاظة التي أعملها البرتغاليون على طول ساحل المحيط الهندي بين البحر الميت والساحل الغربي للهند لقابلتها نفس الغلظة وقد أعملت هذه المرة في الساحل الشرقي لإفريقيا وإن إحدى أوائل الأمكنة التي عانت من الهجومات البرتغالية وغزوات السلب والنهب كانت هي كلوة المركز المزدهر من مملكة الجزر الواقعة في جنوب ساحل ما صار يعرف اليوم باسم كينيا.
والحال أن فاسكو دي جاما، مكتشف طريق العبور إلى الهند، كان أول برتغالي يصل إلى كلوة وفي رحلته الثانية عام 1502م التقى بملك كلوة وفرض عليه إتاوة ههنا نورد بعض المقاطع المجتزأة من مروية رحلة «كوريا» عن هذه المقابلة:
«بعد مفاوضات طويلة هدد دي جاما ملك كلوة قائلا: «أنا عبد للملك عاهلي، وكل هؤلاء الذي ترى والذين يوجدون في هذه السفن الحربية سوف ينفذون ما آمر به وليكن في علمك علم اليقين أنني إذا ما أنا اخترت [أن آمر جندي بالهجوم] فإن مدينتكم سوف تستحيل رمادا في غضون ساعة واحدة، وإذا ما اخترت أن أقتل شعبكم، فإنهم سوف يُحرقون عن آخر بكرتهم بالنار وعندما تدركون ذلك، وتنتبهون إلى أنني قادر على إتيان ذلك جاد في أمري فإن عليكم، أن تقدموا أكثر مما أطلبه الآن، ولن يجديكم آنها ما سوف تقدمونه؛ وإذا كنتم لا تؤمنون بأنني قادر على فعل ذلك، فإن بمستطاعكم، إذا ما أنتم تمنيتم أن تروني أقدم على فعل ذلك ولم تكونوا تخشون أن يقع مثل هذا، فانطلقوا إذن إلى الضفة حتى يتحقق هذا الخطب الجلل في الحال» وكان أن أجاب الملك: «لو أني علمت أنكم كنتم تنوون أن تتخذوني أسيرا ما قدمت بالمرة وإنما هربت لأختبئ بالأدغال وذلك لأنه من الأفضل للمرء أن يكون ثعلبا في الخلاء طليقا من أن يكون كلبا سلوقيا مقيدا بقيود من ذهب» وعند سماعه هذا القول غضب القبطان الأعلى وقال: «ليس يوجد عربي يمكنه أن يتحقق له الوفاق معنا ما لم يتم إيذاؤه، فعد إلى بيتك العودة الأخيرة إذن فإنني أعدك بأني سوف أقفو أثرك» ثم قال للمترجم بأن يخاطب القبطانات بلغة البلد أن عليهم أن يلحقوا بسفنهم وأن يعودوا بكل فرقهم مسلحين فيذهبوا لإحراق المدينة قال هذا بصوت مرتفع حتى يدرك الملك القصد ثم قال القبطان-الأعلى للملك أَنْ اذهب إلى الضفة واختبئ بالأدغال، مادام أن لديه كلابا سلوقيين سوف يلقون القبض عليه هناك، ويأخذونه من أذنه ويسحبونه إلى الشاطئ، وأنه لسوف يضع قيدا من حديد حول عنقه، ويطوف به الهند بأكملها حتى يظهر للكل ما الذي سوف يلقاه ذاك الذي لم يختر أن يكون أسير ملك البرتغال ثم ما لبث أن تحادث الملك مع قومه الذين كانوا حاضرين معه في جو من التأهب والتهيب شديد وبعدها وقد اضطرته المخاطر الجلية التي كانت تحدق بحياته وبحياة المدينة، فضلا عن أن قومه نصحوه، وافق الملك على كل ما كان طلبه منه القبطان-الأعلى، متوسلا إليه أن لا يضيف إلى مطالبه الحالية مطالب في المستقبل؛ وهو ما استجاب إلى التعهد به القبطان-الأعلى قال إنه سوف يقدم في المرة الأولى بعض الأساور وبعض الدرر قيمتها 5000 كروزية يعطيها ثمنا لها، أو مثل هذه القيمة فضة وذهبا وعند تمام هذا الاتفاق بعث إلى كاتبه بالقدوم من الضفة حاملا ورق ذهب كتب عليها كل ما جرى عليه الاتفاق وأمضاها الملك وأولئك الذين كانوا يرافقونه» (ستانلي 1889،291-306)
على أن هذا الاتفاق ما التزم به ملك كلوة، فكان أن قدم فرانسيسكو دالميدا ثلاثة أعوام في ما بعد لاستكشاف المنطقة برفقة ترسانة بحرية مكونة من 22 سفينة تحمل فريقا من حوالي 1500 جندي وههنا نورد المقاطع التي تحكي عن الهجوم على كلوة من لدن فرانسيسكو دالميدا كما دبجها خواو دو باروس:
«في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو عام 1505م، عبر دالميدا إلى شاطئ كلوة بالسفن الحربية الثماني التي كانت ترافقه وكان جو من عدم التفاهم والتوجس قد ساد في البدء بين ملك كلوة ودالميدا وقد نظم لقاء بين الإثنين، وكان أن انتظر دالميدا زمانا قرب القصر، لكن الملك لم يقدم، منتحلا في ذلك العديد من الأعذار، من بينها أنه بينا هو في طريقه إلى دالميدا صادف قطا أسود يعبر الطريق نفسه، مما كان يعني عند قومه سوء طالع بأن لا شيء حسن يمكن أن يبرم أو يدوم في ذاك اليوم، وأن عليه أن ينتظر مواتاة الحال وإسعاف الزمان، وأنه بما أنه كان يتمنى أن تدوم آثار ما تقرر إنجازه، فإنه التمس منه أن يعذره في تأجيل اللقاء إلى يوم الغد» والحال أن دالميدا تغير وجهه من هذا الأمر وتحدث إلى قبطانيه بوفق هذه العبارات: «سادتي وأصدقائي، يبدو لي أن من شأن من يبعث بمثل هذه الرسائل أن يكون في الغد أكثر تطيرا مما فعله اليوم دعونا نسرع بالعودة ونزوره من جديد وقد شكينا زينا الحقيقي، هو ذا الأمر الذي يناسب البرتغاليين أفضل مما تناسبهم هذه الألوان المزركشة التي نلبس، وذلك لأنه كما علمتم، فإن من أمر العرب أنهم أدوا دائما الثمن بفضل حديدنا أكثر مما فعلوا بفضل ذهبنا» وقد اتفقوا على أن ينزلوا في اليوم الموالي بقوة الجنود حتى يلزموا العربي بالطاعة وقد تم التهيؤ للنزول وانقسمت الجند إلى فرقتين وكان على دالميدا أن يهاجم المدينة بفرقة، وكان على دوم لورينكو، ابنه، وهو يقود الفرقة الأخرى، أن يهاجم قصر الملك الذي كان على أطراف المدينة هذا وقد تم الاتفاق على أن تغادر السفن الحربية عند الفجر
وبعد الصلاة حملت القوارب الرجال إلى اليابسة وبعد أن نزل الرجال، أوكل دالميدا ابنه بمائتين منهم وتكفل بقيادة البقية التي كانت في عداد الثلاثمائة وكان على ابنه أن يسير على طول الشاطئ نحو بلاط الملك، الذي كان يقع بأطراف المدينة، فإذا ما بلغ منتهاه أطلق طلقة بالبندقية إيذانا ببدء الهجوم على المدينة في نفس التوقيت وبعد أن فعل الابن ذلك، تقدم الأب إلى وسط المدينة وقد كانت الشمس آنذاك قد أشرقت ولما يظهر للعرب بعد من أثر لكن بعد أن اخترق دالميدا الأزقة الضيقة تلقى هو وفرقته وابلا من الحجارة والسهام ترمى عليهم من أعالي الدور حتى بلغت منهم مبلغا وأصابت منهم مقتلا وكانت الطريقة الوحيدة لمهاجمة العدو النفاذ إلى الدور واحتلال الأسطح وبعد أمد انجلت الطريق وصار بإمكان الفرقتين أن تلتقيا وبالقصر استمرت معارك عنيفة الأمد إلى أن استسلمت الحامية وأعوانها وقد بعث الملك بأنه سوف يستسلم ويصير «مطيعا وخاضعا طاعة عبد لملك البرتغال» لكن سرعان ما خيب الملك آمال البرتغاليين وفر من باب ثان بقصره إلى أخدود من شجر النخيل حيث كانت تنتظره زوجاته وخيراته للعبور في سفن كانت قد هيئت من قبل وكان من رد فعل دالميدا أن رخص لقوته بنهب المدينة نهبا» (ثيال، 1900، 225-257)
وفي توليفة خواو باروس، التي تضمنت النص المقتبس أعلاه، تم تضمينها نصا في غاية الأهمية ـ وهو النسخة البرتغالية لمروية كلوة وهي الرواية المحلية الوحيد المعروفة في كل ساحل شرق إفريقيا وقد نشر دو باروس كتابه عام 1552م بما أفاد أن المروية كتبت قبل ذاك التاريخ وقد تم اكتشاف رواية عربية للنص بعد ذلك وإن مخطوط هذه الرواية يعود إلى عام 1867م وهو محفوظ في المكتبة البريطانية والحال أن مروية كلوة ليست فحسب الوثيقة الوحيدة الخاصة بتاريخ كلوة والساحل الشرقي لإفريقيا بعامة، وإنما هي أيضا الأساس الذي انبنت عليه مناقشة الباحثين «للمسألة الشيرازية».
تبدأ المروية بالحديث عن الأصل الأسطوري لملوك كلوة على أن ثمة فوارق بين النسخة البرتغالية والنسخة العربية وبما أن النسخة البرتغالية هي الأقدم، فإنه ينبغي تقديم الاستشهاد بها أولا هنا:
«تبعا لما تفيدنا إياه مروية ملوك هذه المدينة، فإنه بعد مضي أقل بقليل من سبعين حولا على بناء موغادوكسو وبرافا، واللتين هما، كما أسلفنا القول في ذلك، أول مدينتين بنيتا على هذا الشاطئ، وذلك مضي حوالي 400 عام على الهجرة، فإن سلطانا يدعى حسين حكم مدينة شيراز ببلاد فارس وعند مماته ترك سبعة أبناء أحدهم اسمه علي كان لا يحظى بتقدير كبير من إخوته إذ كانت والدته جارية من أصل حبشي بينما أمهم كانت تنحدر من سلالة فارسية عريقة ولما كان هذا الابن قد حصل في مؤهلاته الشخصية وحلمه ما كان يفتقد إليه من حيث النسب، فإنه، ابتغاء منه في تفادي إهانات إخوته وسوء معاملاتهم له، خرج باحثا عن بلد جديد يمكنه أن يحصل فيه على حظ وثروة أعظم مما كان بإمكانه أن يحظى به بين ذويه وبما أنه كان قد تزوج، فإنه جمع زوجه وأبناءه وأسرته وبضعا رجال من أتباعه وتبعه الجميع في هذا الرأي واستقلوا سفينتين إلى جزيرة هرمز، ومنها إلى ساحل زنجبار هذا، وذلك بحكم اشتهار البلاد باكتشاف الذهب فيها وإذ بلغ حاضرتي موغاد وكسووبرافا، وبما أنه كان من العرق الفارسي الذي من بين أتباع محمد يختلف عن العرق العربي، كما سنرى ذلك فيما بعد، وبما أن بغيته كان بناء مدينة جديدة يكون حاكمها، وليس خاضعا لغيره، فإنه نزل بعيدا في الساحل إلى أن بلغ مرفأ كلوة.
وإذ اطلع على موقع البلدة وسماتها، والتي كانت محاطة بالمياه وكان بإمكانه أن يحيا فيها بأمان من إهانات الكفار الذين كانوا يسكنونها، فإنه بادر إلى شرائها منهم مقابل أقمشة، وبسبب من الأسباب التي تقدم بها إليهم فإنهم انتقلوا عنه بعيدا للعيش بداخل البلد وهنا بعد أن غادروا المحل فإنه حصن نفسه ليس إتقاء منهم في حال ما إذا أبدوا شرا، فحسب وإنما أيضا ضد مختلف المدن العربية التي تقع بجواره فضلا عن تحصين نفسه ضد بعض العرب الذين كانوا يقطنون بالجزيرتين المسميتين سونغو وكسانغا، والذين كانوا قد غزوا البلد إلى حدود مومبانا التي كانت تبعد بحوالي ثلاثين فرسخا عن كلوة وبما أنه كان إمرءا شديد الحلم والحذر ويتمتع بشجاعة كبيرة، فإنه في أمد قصير حصن نفسه إلى درجة أن قريته الصغيرة نمت نموا بحيث صارت حاضرة سماها بالاسم الذي صارت به معروفة اليوم، ثم ما لبث أن شرع في غزو الجيران إلى أن بعث بأحد أبنائه ـ وهو فتى ظريف ـ إلى احتلال جزر مونفيا وغيرها في نفس الجوار، وقد اتخذ من انحدروا عنه اسم الملوك مثلما كان هو نفسه قد تسمى بذلك من قبل.
ثمة من الأنظار التأويلية العديدة المتعلقة بالأسطورة المؤسسة لمروية كلوة الشيء الكثير بعضها تركز عن « الأصل الإفريقي للتحضر السواحلي» وإن رائد هذه النظرة كان هو ألان (انظر بخاصة ألان 1982و 1993)، وليس المرء يخطئ إذا ما هو نعت نظرته هذه بأنها عمياء وعصابية وغير علمية وثمة نظرة معتدلة يمثلها عبد الشريف ( 1985 ، 21-42)ـ وقد نشر ملاحظات وجيزة وحذرة هورتون (1996، 423-427) ـ حتى نشير إلى بعض الأسماء وبينما ساوى ألان شيراز بنرفانا إفريقية وحاول هورتون (وهو أمر يمكن فهمه) أن يقتفي أثر الشيرازيين في مواقع مبكرة مثل شانغا التي كان قد أجرى حفريات بها، فإن مساهمة عبد الشريف تعرض نظرة متوازنة للمسألة وقد رجح شيتيك (1965) تاريخا مبكرا، أما فريمان- كرنفيل (1962) فقد خصص كتابا كاملا للمسائل التاريخية ذات الصلة بمروية كلوة وإن ثمة طريقا ذا أهمية بالغة سلكه ولكينسون (1981) في مقالة له حاول من خلالها تسليط بعض الضوء على «القضية الشيرازية» التي، بالفعل ذات قيمة وفرادة تاريخية، و بلا شك ليس يمكن أن تحل بحل نهائي هذا التعقيد التاريخي. فولكينسون أدخل ضربا جديدا من المصادر على الدراسات الافريقية ألا وهي السير العمانية ، وهي رسائل وجهت من عمان إلى الجماعات الإباضية خارج عمان، وإن أحدى هذه الرسائل – وهي الرسالة المسماة «المقامة الكلوية» – كتبها المؤرخ و المتكلم الشهير محمد بن سعيد القلهاتي وكان أحد أبرز العلماء العمانيين في عصره على أن تواريخ حياته الدقيقة ما حفظت لنا حفظا، فكل ما نعرف عنه انه ولد بقلهات، ودرس بنزوى ومات عند بداية القرن الثالث عشر بيد أن عملين من أعماله حفظا لنا من التلف: الكشف والبيان، وهو كتاب يدور على الفرق الإسلامية والتاريخ وعلم الكلام، بحيث يعد مصدرا مهما لدراسة المنظور الإباضي لمختلف المدارس الإسلامية، و«المقامة» أو «السيرة»، ويمكن اعتبار القلهاتي ثاني أهم مؤرخ عماني بعد العوتبي، وكان العوتبي ينحدر من صحار، والرائع أن كلاهما يمثلان «المدرسة الساحلية» بين المؤرخين العمانيين والتي كان آخر ممثليها ابن رزيق ( توفي عام 1863) الذي ينحدر من مسقط، وهذا يعني أن أغلب المؤرخين العمانيين المتقدمين على نور الدين السالمي ( توفي عام 1914 م) إنما كانوا قدموا من المنطقة الساحلية أكثر مما قدموا من الداخل.
وفي معرض سياق كلامنا، فإنه مما يدعو إلى الانتباه أن القلهاتي كتب هذه السيرة والكتاب الثاني المشار إليه، والحال أن نص السيرة لا يحمل تاريخ تدوينه، وقد اقترح ولكينسون له تاريخا جعله حوالي منعطف القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وهذا يبرهن على أن الإباضية كانوا يحيون بكلوة في تاريخ مبكر نسبيا على أنه لا يمكن أن نحدد بالدقة إلى أية درجة كانت أهل كلوة من الإباضيين أو في جزء منهم – ظاهرة مؤقتة عابرة والأهم من هذا ملاحظة ابن المجاور (وقد كتب ما كتب عام 1232-3) التي أورد فيها أن: « كلوة تحولت من الشافعية إلى الخارجية وظلت متشبثة بهذه المدرسة الفقهية إلى اليوم» (ابن المجاور 2، 278) والحال أنه في أقل من تسع عشرة سنة كان قد تحول الكلويون إلى الشافعية من جديد، وذلك إذا ما نحن صدقنا رواية ابن بطوطة هذا، ولقد سعى ولكينسون جاهدا إلى إلقاء بعض الضوء على « الثقوب السوداء» التي تعرفها «مروية كلوة» وتاريخها على الوجه المجمل وإن بعض استنتاجاته لتبدو وجيهة ومقنعة ومهما تصرفت هي الأحوال، فإنه ليس يلزمنا هنا أن نقدم جوابا شافيا عمن كان يا ترى الملوك «الشيرازيون» لكلوة،
إنما اهتماماتنا تنصب على الجذور التاريخية الممكنة للفكرة الشيرازية أو الأسطورة الشيرازية في شرق إفريقيا ولكي نناقش المسألة من جهة اعتبارنا، يجب بداية إلقاء نظرة على أوجه الاختلاف التي عثرنا عليها بين الروايتين المتعلقتين بالأسطورة المؤسسة لكلوة.
في النسخة العربية من المروية ثمة ملك من شيراز هاجر رفقة ابنه من مرفأ ما بإيران وبنى كلوة في منتصف القرن الثالث بعد هجرة النبي.
وفي النسخة البرتغالية من المروية ثم بعد حوالي 400 سنة تقريبا من عهد النبي، إذ كان ملك يحكم بإيران، وعند مماته ترك سبعة أبناء واحد منهم كان لا يحظى بكبير تقدير من لدن إخوته وذلك بما أن أمه كانت جارية من العرق الحبشي، ولكي يتفادى هو إهانات إخوته له وسوء معاملتهم، هجر البلاد بحثا عن بلد جديد، وقد استقل بسفينتين من جزيرة هرمز ،ثم كان ما كان من تأسيسه كلوة.
إن العديد من التأويلات تقتفي الأثر القائل (إنما الأول هو الأفضل) وتربط الهجرة من شيراز (أو إيران) – التي حدثت بعد ثلاثمائة سنة والتي تحدثت عنها النسخة العربية – بانحطاط نظام الاقتصاد الإسلامي المبكر في القرن الثامن – الحادي عشر الميلادي (انظر أعلاه) وفي نظر هذه التأويلات، فإنه من المنطقي أن يكون المكان الذي انطلق منه الملك وأبناؤه هو سيراف، المدينة المرفأ الشهير بالضفة – الشرقية من الخليج، وهو الاسم الذي يعرفه كل من يهتم بتاريخ الشرق الأدنى وفضلا عن هذا، فإن سيراف حازت الشهرة بفضل حفريات وايتهاوس (2004) والحال أن سيراف تناسب التاريخ التقريبي الذي تشير إليه النسخة العربية، حوالي 300 سنة بعد الهجرة، في القرن التاسع الميلادي لكن هذا التاريخ المبكر ليس يتطابق مع ما أثبتته الحفريات التي جرت بكلوة اذ لم يتم العثور إلا على قدر ضئيل من المواد الحفرية المبكرة بكلوة (شيتليك، 1974، 18-19) والأمر نفسه ينطبق على باقي الساحل السواحلي حيث لا توجد سوى ستة مواقع على الأكثر من بين مائة وستة عشر موقعا حيث عثر على مواد تعود إلى الحقبة الممتدة ما بين القرن الثامن والفترة المبكرة من القرن الثاني عشر الميلادي.
ولئن نحن صدقنا الرواية البرتغالية، فإننا نقيم أنها على أرض أشد صلابة ومن الحقائق المقدمة سابقا صار واضحا أنه حوالي عام 1200م كانت قيس مركزا تجاريا مزدهرا، وذلك حتى أن أتابك شيراز سعى إلى أن يضمها إلى منطقة نفوذه وبما أنه لم يكن يتوفر على سفن حربية كان بإمكانها أن تحقق هذه البغية، فإنه كان عليه أن يطلب المدد من حاكم هرمز والحال أن هذا الحاكم كان من القوة وكانت له السفن الحربية المناسبة لغزو قيس من أجل أتابك وهذا يعني أنه في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي (ولربما في فترة مبكرة عن هذه) كانت توجد قوتان بحريتان عظيمتان بالخليج: واحدة منهما (قيس) أثارت غيرة أتابك بلاد فارس، والثانية (هرمز) كانت من القوة بحيث تقتدر على غزو قيس.
وبعد أن تم غزو قيس، نجا تجار قيس وهاجروا إلى شيراز ولربما كان التآلف بين دراية تجار قيس وتجار هرمز هو الذي أحدث فترة ازدهار جديدة للتجارة في المحيط الهندي والحال أن عام 400 بعد الهجرة يناسب تمام المناسبة هذا السيناريو – دون أن نذكر هرمز التي كانت، حسب الرواية البرتغالية لـ«التاريخ»، نقطة الانطلاق الموهومة لمؤسس كلوة.
إن الثروة المشتركة للتجارة التي لعبت فيها هرمز، ومعها قلهات، دورا هاما إنما تشهد عليه فخاريات متجانسة تجمع بين كشوفات من ساحل مكران-بلوشستان والخليج وهرمز -قلهات وطيوي وبعيدا في الجنوب عدة مواقع في وخارج سواحل شرق إفريقيا وأن هذا الأمر لمن الأهمية بمكان بالنسبة إلى اقتراحنا وضع الأسطورة الشيرازية في حقبة هرمز-قلهات بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين والحال أن العديد من تحليلات ما عثر عليه بالمواقع الكائنة بين منطقة لامو في الشمال ومنطقة كلوة بالجنوب لتشهد على نمو مطرد للنشاط الإعماري وللتوسع العمراني بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين مع بلوغ الذروة في القرن الرابع عشر الميلادي (43 من بين 116 مواقع تم فحصها) والقرن الخامس عشر الميلادي (53 من بين 116 مواقع تم التنقيب فيها) فإذا ما نحن ضممنا هذه الوقائع جمعاء، صرنا نتحرك من جديد بين الأساطير والوقائع التاريخية.
لقد أحلنا على ثلاثة أساطير (مرويات) ذات احتمال تاريخي متباين: مروية/أسطوة أزد – قلهات ومروية / أسطورة قلهات -هرمز، من جهة ، ومروية شيراز – كلوة (شرق إفريقيا) من جهة ثانية, والأولتان تهدفان إلى بيان الأصل العربي الجنوبي الشريف للموقعين ذلك إن مروية/أسطورة أزد- قلهات هي الأقل احتمالا وهي مروية مشتركة مبتذلة يفترض بها إضفاء قيمة على القبائل أو الحواضر، ولمروية / أسطورة قلهات-هرمز بعض إمكان الاحتمال وهي تربط بين الموقعين الحضريين ربطا وظيفيا و«تعرِّب» الطبقة الحاكمة بهرمز المتعددة الإثنيات، ولمروية /الأسطورة الشيرازية النواة التاريخية الأرجح، وإن الربط بين مضمون المروية / الأسطورة وبين حقبة الدور المهيمن لمنطقة الخليج وقلهات بتجارة المحيط الهندي وتناسق الفخاريات والخزفيات والتي عثر عليها بين مكران – بلوشستان (ولربما أبعد في اتجاه الشرق)، ومنطقة الخليج، والساحل الغربي والساحل الشرق إفريقي، إنما يشكل حججا ودلائل راجحة على الادعاء بأن «الشيرازيين» كانوا تجارا قدموا في القرن الحادي عشر /الثاني عشر الميلادي من منطقة الخليج- قلهات وأسسوا مملكات تجارية أو على الأرجح كانوا معاونين على تأسيس مثل هذه الممالك في الساحل الإفريقي الشرقي وإن التجلي المادي الشاهد على أحد هذه الممالك التجارية لهو موقع حسني كوبا بكلوة ( جارليك، 1966، 97-1007،الشكل 68)، وهو عبارة عن توليفة فريدة بين القصر والخان ومتجر الدلالة.
والحق أن النسخة البرتغالية من «تاريخ كلوة» لتظهر أن الأمر ما تعلق وحسب بمجيء وتأسيس وإنما بعملية أعقد بكثير أفضت إلى إقامة دول التجار «الشيرازيين» في ساحل شرق إفريقيا، وفي هذه النسخة، فإن الأم الحبشية لباني كلوة أمر دال بهذا الصدد والحال أن إقحامها في القصة يمكن أن يفهم فحسب بوصفه تفسيرا لتعقد إثنية ملوك كلوة: إذ ما كانت لهم سحنة فارسية فاتحة، وإنما كانوا أيضا من ذوي الأصول السواحلية المختلطة الإثنيات؛ أي أنهم كانوا ثمرة زيجات بين النساء المحليات والمهاجرين التجار العرب والفرس والهنود وحتى الصينيين الذين أقاموا بالساحل السواحلي.
ثمة ثلاثة مواقع حضارية غير بعيدة عن بعضها البعض بالساحل الكيني جنوب مومباسا ـ وهي طيوي وشيرازي وخرمزي ـ تحظى بأهمية إضافية داخل إطار تأويلنا والإقتراح المتعلق بتاريخ نزوح الشيرازيين ومن المفاجئ أن هذه المواقع بهذه الأسماء تقع قريبة نسبيا من بعضها البعض، وسوف يكون من الأهمية بمكان إجراء أعمال حفريات جديدة لهذه المناطق، وذلك لأنه وحده بموقع طيوي (المتواجد بشرق إفريقيا وليس بعمان) تم الاستدلال بالآثار على أن البلاد كانت قد عمرت في القرن الرابع عشر الميلادي وليس يمكن استبعاد أن طيبي قيس والموقع العماني طيوي، وطيوي المتواجدة بالساحل الكيني إنما كانت أجزاء من « الامبرطورية التجارية لطيبيس» ( بيكانتيني2004 )؛ أي مواقع من «العهد» الشيرازي، وذلك لأن علينا أن نحفظ في أذهاننا أن: «من الممكن أن لا أحد من المصادر المكتوبة والشفاهية تقدم لنا أخبارا عما حدث بالفعل بشرق إفريقيا ما بين القرن السابع والقرن الثاني عشر الميلاديين، ومن المحتمل أنها كلها تتضمن وقائع ذات أهمية بالنسبة إلى التاريخ الوسيط وما بعده، وذلك حتى ولو كانت تفتقد إلى التحقيب المطابق للقرون، وحتى لو أنه تم إيرادها وفق صورة تغلب عليها المغالاة الشديدة» (ماتيو1963،105)
ببليوغرافيا:
Abdul Sheriff 1985
Abdul Sheriff, The History of the Shirazi Tradition along the East African Coast In: Azania 20, (1994), 21-41.
Allen 1982
Allen, J de V, The “Shirazi» Problem in East African Coastal History In: Paideuma, 28 (1982), 9-28.
Allen 1993
Allen, J de V, Swahili Origins Swahili Culture and the Shungwaya Phenomenon, London, 1993.
Aubin 1953
Aubin, J: Les Princes d’Ormuz au debut du XIII au XV siècle In: Journale Asiatique 241 (1953) 77 137
Aubin 1973
Aubin, J: Le royaume d’Ormuz au dbut du XVIe sicle In: Mare Luso-Indicum 2 (1973) 77-179
العوتبي
العوتبي، سلمة بن مسلم: كتاب أنساب العرب تحقيق محمد إحسان النص مسقط 2006
Bhacker 2004
Bhacker, MR and B Bhacker: Qalhat in Arabian History: Context and Chronicles In: Journal of Oman Studies 13 (2004) 11-55
Carls 1982
Carls, HG: Alt-Hormuz Muenchen 1982
Chittick 1965
Chittick, HN: The “Shirazi» Colonization of East Africa In: Journal of African History 6 (1965) 275-294
Chittick 1974
Chittick, HN: Kilwa An Islamic Trading City on the East African Coast Nairobi 1974
Costa 2002
Costa, PM: The Great Mosque of Qalhat In: Journal of Oman Studies 12 (2002) 55-70
Da Gama 3
Stanley, E J (trans): The Three Voyages of Vasco da Gama London 1869
Dalboquerque
Dalboquerque, A: The Commentaries of the Great Alfonso Dalboquer-que Second Viceroy of IndiaTranslated from the Portuguese Edition of 1774 by Walter De Gray Birsch London 1875
d’Almeira
Theal, GM(trans): Records of South-Eastern Africa VI, London 1900, 80-104
de Alcacaçova
Theal, GM(trans): Records of South-Eastern Africa I, London 1898, 62-68
الدمشقي
الدمشقي، أبو عبد الله محمد : نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، نشرة مهرن، سان بطرسبورج، 1866
Freeman-Grenville 1962a
Freeman-Grenville, GSR: The Medieval History of the Coast of Tanganyika London 1962
Garlake 1966
Garlake, PS: The Early Islamic Architecture of the East African Coast Nairobi / London 1966
Gaube 1973
Gaube, H: Arragan/Kuh-Giluyeh Wien 1973
Gaube-Leisten 1988
Gaube, H and T Leisten: Die Kernländer des Abbasidenreichs im 10 Jahrhundert n Chr TAVO-map B VII 6 Wiesbaden 1988
Gaube-Leisten 1993
Gaube, H and T Leisten: Die Kernländer des Abbasidenreichs im 10/11 Jh Wiesbaden 1993
Horton 1996
Horton, M: Shanga The Archaeologyof a Muslim Trading community on the Coast of East Africa London 1996
Ibn Battuta
Defrémery,C and BR Sanguinetti: Les Voyages d’Ibn Batoutah Paris 1854
ابن المجاور
ابن المجاور، تاريخ المستبصر، نشرة لوفغن، ليدن 1951/1954
Ibrahim 2000
Ibrahim, M and A Elmahi: A Survey between Quriyat and Sur in the Sultanate of Oman (1997) In: Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 30 (2000) 119-136
Korn et al 2004
Korn, L, Häser, J; Schreiber, J, Gangler, A, Nagib, M, Siebert, S And A Buerkert:
Tiwi, Ash-Shab and Wadi Tiwi The development of an oasis on the North-Eastern coast of Oman In: Journal of Oman Studies 13 (2004) 57-90
Marco Polo
R E Latham: The Travels of Marco Polo Penguin Books 1958
Mathew 1963
Mathew, G: The East African Coast until the Coming of the Portuguese In: Oliver-Mathew 1963, 94-127
Oliver-Mathew 1963
Oliver R And G Mathew (eds): History of EastAfrica Vol 1 London 1963
Piacantini 1982
Piacantini, VF: L’emporio ed il regno di Hormuz (VII-fine XV secolo XV d Cr) Milano 1982
Piacantini 2000
Piacantini, VF: Harmuz and the ‘Umani and Arabian World In: Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 30 (2000) 177-188
Piacantini 2004
Piacantini, VF: The Mercantile Empire of the Tibis Economic Predominance, Political Power, Military Subordination In: Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 34 (2004) 251-260
Piacantini 2009
Piacantini, VF: The 13th Century Julfar: A Prosperous Colony of the Tibis’ Power-System The First Example of True Urbanism in this Part of Arabia In: National Center for Documentation & Research, Abu Dhabi, UAE: New Perspectives on Recording UAE History Abu Dhabi 2009, 157-176
Whitehouse 2004
Whitehouse, D: Siraf History, Topography, Environment London 2004
Wilkinson 1981
Wilkinson, JC: Oman and East Africa: New Light on Early Kilwan History from the Omani Sources In: The International Journal of African Historical Studies 14 (1981) 272-305