«الأصدقاء يموتون ويصيبني الدوار»
ج. سيمنون
يا أبا الوليد، مثلك لا يليق به الرثاء الاعتيادي، مثلما لم تلق بك الحياة النمطية الاعتيادية، رغم أنك عشت حياتك في بلاد الأسلاف والقسر، بلاد الصراع التراجيدي الأزلي المفتوح بوحشية قلْ نظيرها على بوابات التاريخ والعالم … وعلى رغم شروط الإكراه العاتية والتي كنت تحلم بالهروب منها إلى البلاد الحضارية الأخرى ولم يتحقق ذلك إلا في الحلم والمعرفة، كنت (نسيج وحدك) ثقافة ً وسلوكاً، مزاجياً حاداً في مزاجك وفي معايير القيمة النقدية والجمالية التي كنت تقصي أيَ شيء خارج فضائها الانتقائي الروحي الملتهب، كانت روح التراجيديا والملحمة التي أسست نواة وعيك الممزق منذ جائحة 1948 في فلسطين وقرية ولادتك (لوبيا) وحتى الفصل الأخير في مخيم اليرموك بدمشق التي كنت تمجدها كقيمة جمالية، عاصمة للأمويين وللروح والمعرفة، أولئك (الذين ألحقوا الدنيا ببستان هشام)، ومن ثَم رحلتك (السلامونية) نسبة الى اسماك السلامون، باتجاه المنابع الاولى التي لم تصلها، بعد خراب المخيم والمدينة …
كان شكسبير ودانتي، ديستوفيسكي، هنري جيمس المتنبي ومحمود درويش … دليلك الحدس، البصيرة الإشراقية والذوق ورهافة العاطفة محمولة على ثقافة موسوعية شرقاً وغرباً بنيتها (طوبة طوبة) كما يقول الأصدقاء المصريون، بدأب وكدح في خضمّ الشقاء والشتات، الاقتلاعات والمنفى في بعده المكاني والاجتماعي المفتوح على أبعاد ميتافيزيقية لا ترى الوجود إلا من خلال تكاثف ضبابها وغيومها العميق … روح مقاتل شرس في كافة جبهات الواقع، ومتعبد مغمور بنور التأمل والموسيقى في ردهات الوجود، غوامضه وخوافيه … حتى الصوفيه لم تأخذ منها اليقين والاستقرار، في الوصول والحلول، أخذتَ توتّر الأشواق وجحيم الحنين الذي غالبا ما يفضي إلى العَدمْ الوحشي والغياب القاهر … أخذت رعب الطريق وهوامّها التي لا تسلمك إلى محطة وصول، هدوء وسعادة … لأن تلك النعمة التي تتضمن نوعاً من التواطؤ، لا تتماهى مع هدير الأعماق المأهولة برؤيا خراب العالم وانحطاطه الواضح … كنت كالسهم المشدود بين النظريات والنصوص، المتناقضات والعلاقات، قدامة وحداثة، المتنزه، لكن ليس من غير خطر وألغام بين حقول المعرفة والخيارات الايدلوجية والفكرية… حتى نظريات التحرير اليسارية والماركسية التي وصلت في تلك المرحلة حدّ اللاهوت والقداسة، لم تر فيها شيئاً عظيماً وذا قيمة … لم يكن المعسكر الاشتراكي وطليعته الاتحاد السوفييتي قبلة ذلك اليسار يمثل لك، على طريقة نيتشه، إلا مرحلة انحدار في الفكر والتاريخ، بما جلبه عليك هذا الموقف من عداوات كثيرة كونه خروجاً على إجماع المرحلة بين مثقفي المستقبل الموعود … وعلى ما كنت عليه من كره للغرب وخاصة انجلترا، وتتمنى له المحو والاحتراق جراء ما صنعه من ألآم وإبادات تشكل عارا على البشرية جمعاء، بالشعب الفلسطيني، بزرعه إسرائيل واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. على رغم ذلك كنت ترى في الغرب الحضارة المكتملة الناضجة، إنساناً وأدباً فلسفة ً صناعة ً وابتكاراً، لكن ذاهبة نحو أُفولها الحتمي، كذلك على صعيد الأدب لم ترق لك موجات الحداثة المتلاحقة، وكان ميلك الكلاسيكي غالباً يطغى في الذائقة والتحليل، وكنا نختلف حول الكثير في هذا السياق… (أبا الوليد) كان عليّ أن أبقى في ضفاف الوجدان والذكريات الأكثر حميميّة، وهي كثيرة تنجز كتاباً على الأقل، لكن القلم أخذني عنوة إلى الأسطر الآنفة… أنا القادم في تلك الفترة، مطلع العشرينات من عمري، من القاهرة إلى دمشق. وكانت من هدايا هذه المدينة التي تمزقها حِراب التتار في هذه اللحظة، والقنابل الروسية بعد أن أطبق الاطلسيون بدروعهم الصاروخية والفكرية على الكرملين وكبرياء القياصرة والبلاشفة، وذلك الجورجي العنيف ستالين الذي كنت معجباً بمقولته هذه فقط: (إن الموت سيسحق الجميع اشتراكيّة كانت أم رأسمالية) لكن هذه الأخيرة استطاعت أن تجدد دورتها الدموية بعد تخثر وعلامات انهيار كانت تلوح في الأفق، حتى استطاعت وتعاظمت نحو العالم بأكمله، مراكز وهوامش ومستنقعات، وشملت الدول الأكثر عدائية لها مثل (صين ماو وكومفيشيوس) بصورة أكثر فضاضة ووحشية رغم ديكورها الاشتراتكي وفي غياب الحدّ الأدنى من الحرية ومؤسسات المجتمع المدني التي ربما تستطيع في حدود لجم ذلك التوحش الذي يجتث أي قيمة أخلاقية وإنسانية ويكون المجال مفتوحاً إلى آخره لهيمنة قيم المال المُطلقة، ذلك (العجل الذهبي) كما كنت تدعوه،- كانت من هدايا دمشق التعرف عليك أستاذاً وصديقاً، الأكثر حضوراً وصدقاً في خضم علاقات هذه الحياة التي أخذ الزمن في التقادم الصاعق عليها، هذا الزمن الذي كان هاجسك المخيف ..
أتذكر وكأنما بالأمس التسكع اليومي في فضاء دمشق الكريمة وغالباً بصحبة أصدقاء تحضرني في هذه العجالة أسماء: طاهر رياض، إبراهيم الجرادي، عبدالقادر الحصني،حسان عزت، خالد درويش، محمد البخاري الذي كنت تدعوه بصاحب شنقيط وآخرين ..
أتذكر مرة قلت لك: أبو الوليد (شو رأيك نروح الندوة الشعرية؟) سألتني، مَن الشعراء؟ وحين قلت أسماءهم أجبتني (هذول دبّيكة يا سيف مش شعراء) ..
لا أقول وداعاً يا أبا الوليد لأنني سأعود إليك مرات ومرات، حتى ينكسر القلم على الورقة كما يقول صديقك التوحيدي الذي كنت معجباً بإتلافه لكتبه وحرقها… وستزورنا في الحلم واليقظة وفي جلسات الأصدقاء إذا ثمة أمل في تجمع ولقاء.
j h j
مقهى اللاتيرنا في دمشق
ريح تنثرُ أماَمه نشارَ الصنوبر المحروق
وتعيد ترتيبَ الذاكرة
لا يمكن وصفه في وضحِ النهار الذي نحن فيه، يلزمنا شموعُ كثيرة
تعمل في الظلمه كي تعود الريحُ المتقطعة
أدراجَها بعد الكأس الخامسة وتصعقُ الكراسي
والعابرينَ في الردهة الخشبيّة المضاءةِ بنور خافتٍ
حتى النافورة الدمشقية الباسقة في وسطه،
والتي تتدلّى منها حيواناتُ سماءٍ بعيدة.
بعد قليل يدخل يوسف اليوسف بقامته الفارعة
يلعنُ العالم والأبدّية التي لم يوفرها هذه المرة
يدخل نزيه أبو عفش، حامل المسامير والصلبان،
يتقدمه ذئب أرقهِ الدائم،
يدخل الجرادي والقادمون من وراء النهرين
يقذفون قبعات وهمية في الفراغ.
يدخل حلمي سالم وقد خَسر حب أيام الجامعة
وعوّضوه بسجن يومين على الحدود.
j h j
أحشاء الصباح
إلى يوسف سامي
الصباح يجرجرُ أحشاءه تحت
قدم التيه
والمساء دائما تحت معطفك
عينا جاحظةً
وأخرى تراقب الغيم يسقُطُ
فوق الجبال
تسوقُ قطيع السنوات
بعصيان المحبة
وتحت الشّجر المضرّج بالغُروب
تجلسُ وحيداً
كشارع تلسعهُ أفعى
بينما خطواتك المتعثرة بأحجار الألوهة
وأحلام لا تتحققُ
تنهمر على أوجه المارة
فلول لعنات.
في رؤياك الأخيرة: «ابن عربي»
يسرق قبعة
من طفلة
ويتغذى من لهاث الشجر الطالع
من قعر المحيطات.
لكنك المنفيّ أبداً
وعلى بعد خطوات
من موتكْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
j هذان المقطعان كتبا في ثمانينات القرن الماضي.
الناقد والمبدع الفلسطيني الراحل
يوسف سامي اليوسف..
قراءة وشهادات فـي حياته وإبداعاته
عمر شبانة
كاتب وشاعر من فلسطين
اليوسف: حياته
ونتاجه الثقافـي المتعدد
كان الناقدُ الكبير، الراحلُ، ابنُ فلسطين، يوسف سامي اليوسف (1938 ــ 2013)، ثروة ثقافية حقيقية متميزة على غير صعيد وأكثر من مستوى، بدءا من قراءاته المعمقة في الشعر العربي القديم، وصولا إلى مذكّراته الفذّة عن «تلك الأيام»، ومرورا بترجماته ونقوداته الأدبية والفكرية وحتى السياسية. وعلى صعيد حياته الشخصية- الإنسانية والوطنية، تميزت رحلة اليوسف بزخم وتعدد في المحطات من جانب، ومن جانب آخر وسَمَتْها المعاناة والكفاح المرير، رحلة عناوينها «العصامية» و«الزهد»، وطابعها الأساس هو العزلة حد التصوف، مع لمسة من العبثية العميقة.
ذلك كله هو حصيلة رحلة العذاب والتميز التي عاشها اليوسف، وأثمرت نتاجا ثقافيا متعدد الاتجاهات والاهتمامات.
وإلى ذلك فاليوسف هو صنيع ذاته، وصنيع ظروف كثيرة خلقت «مزاجه» الذي ظل يعوِّل عليه كثيراً، المزاج الذي هو صنيع ثقافة عالية ووعي اغترابي بامتياز. وعي اغترابي عاشه بدوره ضمن ما عاش من تجارب امتزجت فيها غربة عن الوطن، مع غربة عن العالم الأرضي وحنين إلى «المتسامي» في الحياة. فكان الجرح الوطني يغذي نزوع الوعي بانحطاط العالم وانحدار البشر نحو الحيوانية الوحشية.
يبوح في حوار معه «لم يؤسسني أفلاطون ولا أرسطو، ولا كانط ولا هيجل، ولا الدكتور جونسن ولا ت. س. إليوت الناقد، ولا الآمدي ولا الجُرْجانيّان، وإنّما أسّسَتْني النكبةُ، أو الكارثة التي حلت بفلسطين سنة 1948». ولهذا جاء كتابه الشهير «رعشة المأساة»، الذي كرّسه لدراسة أدب غسان كنفاني، ليعلن أن الجانب الوطني أو الجانب المقاوِم، هو ما أبرزه في معظم الدراسات التي قدمها عن الأدب الفلسطيني، وهو يقول «لكنني لم أغفل القيم الإنسانية التي اهتم بها غسان، ولا سيما في مسرحه الذي ما أتيحت له فرصة النضج، فقد اغتيل الرجل وهو في أوج العمر، أو عند بداية النضج بالضبط». (حوار أجراه معه كل من عبد المنعم قدورة وسعيد البرغوثي في العدد 30 من مجلة نزوى، وسنعتمد كثيرا على هذا الحوار المعمق، في قراءتنا هذه).
اليوسف كان واحدا من أهمّ النقّاد في عالمنا العربي، كان واحدا من أشدّ نقادها ومبدعيها خصوصية وعمقا، وهو الذي ملأ خريطة الإبداع والنقد بنتاج ثقافي لا يتكرر. لقد تمتّع الناقد الفلسطيني الكبير بأدوات لم يمتلكها سوى قلة من نقادنا العرب، وتميّز بنكهة لاذعة حدّ القول إنها حارقة. فهو عاش بقليل من الشهرة التي كان عازفا عنها، ورحل بصمت الكبار الذين عاش معهم. ومن عرفه عن قرب، يعرف كم كان وكم ظلّ عزيز النفس، لا طموح لديه خارج دائرة الإبداع العميق والخاص. وعلى صعيد حياته وعلاقاته، جمع اليوسف بين التزمُّت والتسامح في شخصه المعطاء.
لم ولن يذهب عمله هباء، رغم العزلة التي فرضها على نفسه، مبتعدا عن البذاءة، ومخلصا لحريّته واشتغالاته، وذلك بفضل إنجازاته الفريدة، منذ مقالاته «في الشعر الجاهلي» (1975)، و«الشعر العربي المعاصر» (1978)، و«تاريخ فلسطين» (1989)، «مقدمة للنّفري» (1997)، حتى مذكّراته متجسدة في «تلك الأيام»، وهي مذكرات في أربعة أجزاء، فقد كان، وبحسب حديث له، يتطلع إلى البرهة التي يكف فيها عن ممارسة هذا العناء السقيم العقيم الذي يسمى الكتابة، «فلا مراء في أنني أشقى وأتعب بغير مردود، أيا كان نوعه. فلو لم يكن هنالك سوى مردود معنوي لرضيت. ولكن، ما من شيء إلا التعب اللامجدي، والعداء من كل حدب وصوب، واللصوص ينهبون الكثير مما أكتب، من دون أن يشعروا بأي حياء أو خجل».
أسس النظرية النقدية
وللإحاطة بأبرز معالم نظراته، وبأسس نظريته النقدية، النظرية «اليوسفية» كما يمكن القول، نستحضر بعض مفهوماته ومصطلحاته التي كرّسته ناقدا متميزا ومتفردا، بدءا من اعتباره أن «جل العملية النقدية يتجذر في مزاج الناقد»، وتعريفه المزاج بأنه «هو الطبع الذي يولد مع المرء، ولكنه يتأثر كثيرا بالحوادث الحادة التي يعيشها في حياته، ولا سيما بالكوارث الوطنية والاجتماعية التي من شأنها أن تشحذ الحساسية، وأن تمدها بزخم عارم لم يكن لها من قبل. والحساسية عندي هي اليخضور الساري في شجرة الحياة كلها». إضافة إلى ما يتبع ذلك من اعتبار وتقدير لما يسميه بـ«نازع التقزز والازدراء، وحاسة من شأنها أن تكتشف الغثاثة والرثاثة بسرعة، وأن تقرف منهما وتجتنبهما فورا». وفي التطبيق يرى أن احترامه للمتنبي يأتي «لجملة من الأسباب, أولها وأهمّها أنه شخصية ازدرائية لا تضاهى بتاتا، وإن كان شخصية تنديدية في الوقت نفسه، وهذه مثلبة من مثالبه الشائنة. فلئن كان الازدراء تلميحيا واستعلائيا، في آن معا، فإن التنديد جهوري وغوغائي أيضا. وفي هذا فرق كبير بين العلو والدنو».
وبالنسبة إليه، وبعد خبرة طويلة في النقد، وفي ما يتعلق بمصطلح «المزاج» وعلاقته بالنقد، فقد كان يرى أن «جُلّ العملية النقدية يتجذر في مزاج الناقد، والمزاج هو الطبع الذي يولد مع المرء، ولكن يتأثر كثيرا بالحوادث الحادة التي يعيشها في حياته، ولا سيما بالكوارث الوطنية والاجتماعية التي من شأنها ان تشحذ الحساسية، وأن تمدها بزخم عارم لم يكن لها من قبل، والحساسية عندي هي اليخضور الساري في شجرة الحياة كلها».
هذه الروح الخاصة، في عمقها وفرادتها، هي التي قادته إلى رؤى وآراء نافرة، مستفِزّة، وربّما منفِّرة أيضا، ذلك أنه لم يكن يتساهل أبدا في رأيه ورؤيته، بل كان حادا متشبثا بما يرى، لا تغريه المجاملات، ولا تنال منه المدائح. اختار منهجه في الحياة وفي الكتابة، مستندا على ركائز أساسية لا تتغير، ولكنها تتطور، فكان موسوعيا كما يتطلب الأمر من الناقد الحقيقي، وصاحب ذائقة لا تتساهل مع الرداءة، مؤكدا في عمله على رفض النظرية الواحدة، ليُرسّخ التعددية والصدقية أساسين في كل عمل إبداعي ونقدي كذلك.
ومما يسِم منهج اليوسف أيضا، تميزه في استخدام مصطلح الاغتراب، ونحت المصطلح الخاص به في هذا الإطار، وبما يرتبط بزمننا هذا، فهو يصف المغتربين بأنهم «عشاق السمو»، في مقابل «التسافل» إن جاز التعبير، معتبرا أنه لم يبق أمام هؤلاء العشاق «إلا ان يحتقروا بصمت، وبخاصة هذه الحضارة الحديثة التي أسميها حضارة السخام، والتي أخذ إنسانها يتحول بالتدريج من كائن بشري إلى كائن بقري. ولكن الاحتقار لا يسعه أن يكون جماع وظيفتهم، إذ لا بد لهم من رسالة إيجابية. ولعل في الميسور أن تتلخص تلك الرسالة في وجوب صيانة المسافة التي تفصل بين النفيس والخسيس. وبإيجاز، فإن أخلاق العلو هي لباب الحياة، ولا يبقى سوى اللحاء وحده». ويؤكد ناقدنا على أن الشعور بالاغتراب هو واحد من أكبر المصادر الغزيرة للأدب العظيم. وقد ارتبط عنده بنصوص مؤسِّسة، ومن أبرزها «الكوميديا الإلهية»، فهو يعتقد أن «دانتي المغترب الذي كابد اللوعة بعدما طردته فلورنسا، فراح يتشرد في الأرض، ما كان له أن ينتج «الكوميديا الالهية»، التي هي درة الآداب الأوروبية في القرون الوسطى كلها، لولا شعوره بأنه ليس من نسيج عصره، وربما ليس نسيج هذا العالم الآخذ بالتخمج يوما عن يوم. ثم إن شعور دانتي بالاغتراب هو الذي استطاع أن يؤسّس الآداب في أوروبا من جبال الأورال شرقا إلى جزيرة آيرلندا غربا. وفي الحق أن آثاره على شكسبير، الذي لم تنفه أيّة حكومة، لا يخفى على أي بصير. وأهم ما في أمره أنه كان أعرف الناس في زمنه بكيفية توظيف الخيال، ودمجه بالواقع والوجدان ابتغاء إنتاج نص أدبي خالد».
وبخصوص حكم القيمة النقدي، يجزم اليوسف في كتابه «القيمة والمعيار»، كما عبّر في الحوار المذكور أعلاه «أن الحكم النقدي إنما ينبع من مزاج الناقد، أكثر مما ينبع من ذهنه البرهاني، مهما يكُ حصيفا أو فارِهَ القامة. وما النص الأدبي العظيم إلا ذاك الذي يناسب أمزجة متباينة، ويصلح للقراءة في أماكن كثيرة وأزمان طويلة». أما في ما يتعلق بمحتوى الأدب والفن بعامة، فهو بالنسبة له «محتوى النفس حَصرا، وإلا سقط الإبداع في الخارجية المبتذلة التي من شأنها أن تزيل كل مسافة بين الأغبياء والألبّاء. فالشاعر الجيد يملك أن يصف الزهور وكأنها تنبت، لا في الطبيعة، وإنما في تربة روحه». وخلاصة الأمر لديه أن النشاط النفسي، أو الجواني، هو المنتج للعلاقة، أي للشعور، أو للشعر والآداب بوجه عام.
ورغم ما يعرف من مثالية منهجه النقدي، إلا أن قراءة معمقة في هذا المنهج، تكشف توازنا بين الواقعي والمثالي، يتمثل فيرؤيته إلى العلاقة بين جماليات الإبداع وبين وظيفيته، حيث يعتقد «بأنه ما من أدب قط يملك أن يستقلب المشروع البشري على نحو مباشر. ولكن الأدب يستطيع أن يغير الذات، أو النفس التي سوف تغير التاريخ، أي تُغير وجودها، أو جملة شروطها». ويتابع القول فأن يكون النص برسم الذائقة يعني، كما قال عز الدين بن الأثير في «المثل السائر» أن تكون له نشوة كنشوة الخمر. لقد فسد الذوق الفني في هذا الزمن القاحل البليد»، وفساد الذوق يعني بالضرورة فساد الآداب والفنون. فلا خروج عن سمت السواد إذا ما أعلن المرء بأن العالم العربي لم يخرج من عصر الانحطاط بعد».
وفي إطار تنظيره للعلاقة بين الأدب (الشعر خصوصا) واللغة، وكذلك بين الأدب والواقع، يرى ناقدنا أن «الشعر الجيد هو كمال اللغة»، و»أن الأدب الناجح يمزج العنصر الواقعي بالعنصر الخيالي». كما يؤكد أن «من شأن النص الجيد أن يدمج الخيالي بالوجداني أو العاطفي»، ويوضح هذه العلاقة بالقول «إنما أعني بالدرجة الأولى أن الفحوى الاجتماعي، وكذلك التاريخي والروحي، قد بلغ إلى أكمل ظهور ممكن، أو صيغ بأسلوب مناسب، إذ ينبغي أن نذكر دوما أن الأدب تعبير وقدرة على تفعيل اللغة بنهج تلقائي ناج من الافتعال، بحيث تستجيب لمطالب الروح، ولا سيما لحاجة الحساسية والذائقة والغريزة الفنية التي هي برهة ما هوية في بنية النفس. وعندي أن الأدب الذي يلبي حاجات الذائقة، لا يسعه البتة إلا أن يكون ملاءً يُترعه الهم الإنساني قبل كل شيء، أي يأهلَه همٌّ تاريخيٌّ أو اجتماعي صار أزمة روحية، أو أزمة تفعل فعلها في داخل الروح بالدرجة الأولى».
وفي رد على ما يعتبره البعض محاولة للتسوية بين النظرة المثالية وبين النظرة الواقعية، أو رغبة المماهاة بين أنصار الفن للفن والفن للحياة، يقول «في الحق أن مثل هذه التسوية لا تعنيني، بل إن هذه المثنوية ليست من اهتماماتي بتاتا، فما أعنى به هو مثنويات أخرى مثل الصحيح والمغلوط، والأصيل والنغيل، والوهمي والحقيقي، والنفيس والخسيس، والعالي والداني، وما إلى ذلك. ولست أريد أن أوفق بين مذهب «الفن للفن» ومذهب «الفن للحياة». فأنا أؤمن جازما بأن الفن ما كان ولن يكون إلا من أجل الانسان، أي من أجل الحياة البشرية، التي هي اجتماع وتاريخ بالدرجة الأولى. ولكنني لن أتنازل قيد أنملة عن وجوب احتقاب العمل الفني أو الانجاز الأدبي للأصالة الناجية من كل تزوير. لا خلاف البتة على غاية الفن، ولكن الخلاف على كيفيته».
وفي تحديده لموضوع الخيال، يرى اليوسف أن «ابن عربي كان أول من أسس نظرية للخيال في تاريخ الفكر البشري برمته. وفي هذا الأمر دليل على أنه خبير بالنفس حقا. والأهم من ذلك أن رؤيته للنفس بعيدة كل البعد عن أن تكون رؤية سكونية، وذلك لأنه قد رأى الخيال بوصفه قوة ابتكار، أو قوة خلق وإبداع، بل نوه الشيخ بأن الخيال غريزة في الإنسان تطالب بإشباعها الخاص».
وعلى صعيد موقفه من الشعر العربي الحديث والمعاصر، لا يفاجئنا الناقد الكبير وهو يعلن أن «السياب هو من فجر الشعر الحديث في الخمسينات ونحن تعاطفنا معه جميعا، لكني أظن أنه إذا قُرئ السياب مرة ثانية لن ينال الإعجاب الذي ناله في الخمسينات». وأن «أدونيس بحياته لم يشدني»، و«الجواهري شاعر تقليدي جميل، لكنه ليس ابن العصر، فهناك مسألة مهمة في الشعر تكمن في أن يكون ابن عصره، يحكي عن هموم معاصرة، تشعر بأن الجواهري عاش في زمن المتنبي وتتلمذ على يديه، لغة المتنبي واضحة في شعر الجواهري، لذا لا يمكن وصفه بأنه مجدد، بعكس السياب وأدونيس، السياب جدد بشكل سطحي، وأدونيس شطح، إذ لعب لعبة الشكل لا أكثر ولا أقل. نريد محتوى حارا، وأدونيس لم يقدم هذا المحتوى الحار والدافئ الذي يصل الى سويداء الفؤاد». أما بخصوص درويش فاليوسف يخشى أن يكون «مصير محمود درويش مثل مصير أحمد شوقي، فأحمد شوقي احترمه جيله أيّما احترام، ونسيته الأجيال الأخرى، وأخشى أن محمود الذي صار نجما أن يأفل وينطفئ ذات يوم لأنه أيضا لعب لعبة الشكل، والشكل وحده مغامرة».
فـي «تلك الأيام»
وأخيرا، ومن بين كتاباته الأخيرة، نتوقف عند سيرته التي أطلق عليها اسم «تلك الأيام»، وجاءت في أجزاء تجعل من حياته أربع مراحل ومحطات، ففي الجزء الأول يتناول المرحلة الممتدة من ولادته 1938 حتى سنة النكبة 1948، والثاني من 1948 حتى 1975، والثالث من 1975 حتى 2007، ويتناول الرابع الفترة الأخيرة من حياته. ونتوقف هنا عند ملامح ومحطات من المرحلة الأولى. السيرة التي حرص فيها على استظهار «جوهر» المشروع الصهيوني وطبيعته الاستعمارية، من خلال سيرة قرية فلسطينية صغيرة هي قريته، «صورة القرية التي ولدت فيها، والتي رأيت بيوتها تتهاوى بيتا إثر الآخر، لتتحول إلى حطام، بعدما عاركَتْهم طوال بضعة أشهر. ولكي تصان تلك الصورة لا بد من عرض الكثير من التفاصيل ذات الصلة بالموقع والأرض المحيطة والبناء والعادات الاجتماعية.. وسواها».
والسيرة أيضا هي، «سيرة الطفل الذي يفتح عينيه على قرية وادعة وجميلة حد السحر، لكنه ما يكاد يبلغ العاشرة من عمره حتى يجد نفسه منفيا في الشتات اللبناني والسوري. وهاهو في كهولته في المخيم، وبعد التقاعد من التدريس، يسرد روايته لما شاهد و»رأى» خلال رحلة العمر،.. وكما يكتب «لقد رأيت حتى أصابني الذهول». ذهول سينتج قراءة في عالم القرية بما تنطوي عليه من ظروف وأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، تلخص حال القرية الفلسطينية خصوصا، وحال فلسطين عموما، كما رآها اليوسف.
وقبل التعرض لكتاب اليوسف هذا، أقول إن سيرة النكبة الفلسطينية لم تبدأ بالعام 1948، ولا بالخامس عشر من أيار من ذلك العام، حين انسحبت القوات الإنجليزية بعد تمهيد المناخات لقيام الكيان الغاصب، بل كانت لهذه النكبة بدايات وتحضيرات منذ القرن التاسع عشر، بدأت بالهجرة «الخجولة»، إن جاز القول، لليهود إلى فلسطين، و»الاستضافة» الفلسطينية الطيبة لهذه الهجرات التي سرعان ما راحت تتحول مع مؤتمر 1897 إلى مخططات عدوانية، فتحول اليهودي الضيف وجار الفلسطيني، وشريكه في بيته وحقله، تحول إلى مشروع عدو يخطط للاغتصاب والقتل والتهجير التي تصاعدت فصولها منذ العشرينات من القرن العشرين، وصولا إلى النكبة التي كشفت عن الوجه القبيح لعصابات هذا الشعب.
كتب الكثير حول هذه الرحلة والمخططات في الأطر السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكن قلة من الكتاب الفلسطينيين هم من كتبوا هذه الرحلة من منطلقات تجمع الشخصيَّ والوطني، وتجمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومن بين هذه القلة تأتي هذه السيرة لليوسف.
إحدى الغايات الكبرى لهذا الكتاب- كما يحدد المؤلف- أنه «يبتغي أن يكون واحدا من الآثار التي تملك أن تساعد الزمن المستقبل على «إيعاء» (حفظ ووعي) الزمن الذي عشت فيه.. وتخليد
القرية الفلسطينية الثرية بالتفاصيل، تاريخا ومكانا. هنا لوبيا القرية الكنعانية: خط طبريا- الناصرة يلامس قريتنا من جهتها الشمالية. ومما هو مؤكد أن السيد المسيح كان يسير عليه في تجواله بين الناصرة وبحيرة الجليل، إنه الحد الذي يحد قريتنا من تلك الجهة نفسها، إذ كانت لوبيا كلها إلى الجنوب منه، ما عدا بيتا واحدا حديث البناء. كما أن الدرب الممتد بين طبريا والناصرة يمر بين سهل الحمى وبين تل حطين، الذي يقال إن السيد المسيح قد صعد إلى مكان فيه وألقى على أتباعه خطبة مشهورة تسمى خطبة الجبل، وهي التي ورد ذكرها في العهد الجديد.
والقرية في كتابة اليوسف، هي معالم وملامح وتفاصيل، وهذه تتجسد في أجزاء من البيئة القروية، بيئة تنطق اجتماعيا ومكانيا، فتبرز التقاليد والقيم، ومن ذلك وِقْفة مع «حَجَر الغمّارة»، والغمارة هي: الفتاة التي تلم أكداس القمح بعدما يحصدها الحصادون. والحجر مخصص للنساء الشابات، يقفن عليه حين يردن الركوب على حميرهن عندما يذهبن إلى العمل في الحقول، إذ لقد كان من المعيب أن تركب المرأة الشابة على أيّة دابّة في أزقة لوبيا، فقد كان يتوجب عليها أن تقود دابّتها وأن تسير على أقدامها حتى تصل إلى حجر الغمارة، وهنالك تركب وتنطلق إلى السهل حيث العمل، بعدما تستفيد من الحجر كمَرقاة.
وفي السياق نفسه يأتي الحديث عن «حكورة السبيل»، التي هي كرم صغير جدا، ويقول عنها اليوسف «لا أحسبها إلا كلمة سريانية». وكذلك الأمر في ما يتعلق مثلا بتفصيل مثل عين من عيون الماء تسمى «ماء دامية»، حيث يرى أن السبب وراء هذه التسمية هو على الأرجح «أن تكون قد سميت بهذه التسمية التي تؤشر إلى الدم، لأن صداما جرى بين الإفرنج وبين الجيش الأيوبي من أجل السيطرة على تلك العين.. فما هو مؤكد أن الإفرنج أنهكهم العطش يوم حطين، وأنهم كانوا يلوبون على الماء ولكن دون أن يصلوا إليه».
وعلى هذا النحو نجد عناصر وتفاصيل مختلفة، فننظر كيف يزرع الفلسطيني حقله، نجد كيف اعتاد الجد أن يزرع «حقل العوينة» المطل على طريق طبريا- الناصرة والقريب منها، بالبطيخ والشمام والقثّاء والخِيار وعباد الشمس، وذلك في الموسم الصيفي الذي تبدأ زراعته في نيسان. ونرى أن الأرض كلها هنا تُروى بالأنداء (الندى) طوال الصيف، وأن «تساقط الندى يبدأ زهاء التاسعة مساء. وفي الصباح ترى الأرض وكأنها مغسولة بالماء المُقطّر، ويظل الندى يغشّيها حتى العاشرة صباحا..»، وبحسرة شديدة نسمعه يصرخ «خسرنا أرضا نفيسة لا تبزّها أية أرض سوى أرض الفردوس وحدها». هي الفردوس المقود إذن.
وفي الحالة الخاصة بالبيئة والطبيعة في القرية الفلسطينية، لا بد من التوقف عند فصول السنة وما تنتجه «ففي الربيع تكثر الأعشاب البريّة الصالحة للأكل أو للغلي، فالشرب هو من (العكوب والقرصعنة والعلت والخبازي والشومر والرشاد والسنارية والعوصلان والحليان والبابونج والميرمية والزعتر البري..الخ)، تخرج النساء، ولا سيما الشابات، إلى المروج والحقول في دفء الشمس ولطف النسيم، بحثا عن تلك الهبات الطبيعية السخية. وهنا ننظر إلى الأرض كما يصفها اليوسف بوصفها «أرض الغبطة والسعادة في ذاكرتي أو في مخيلتي».
وهنا نميّز أيضا بين الأرض الواقعية وأرض الحلم أو الخيال، إنها الأرض كما ينظر إليها من جرى تهجيره عنها، فهو سيتحدث من ذاكرة محتشدة بالحب والشجن والحنين، لذلك فهو سيكتب عن «لوبيا الواقع» التي رأينا بعض ملامحها الحقيقية، وعن «لوبيا الداخل التي تخصّ الفؤاد وحده. إنها المكان الذي تصون الروح رعشته في جوفها الدافئ الحنون»، وهذه الصورة تنطوي على قدر من العشق الصوفيّ، فهي صورة «تستمد فحواها من الأزلي الساكن في نواة الباطن السحيق».
تفاصيل وعناصر كثيرة تمثل عالم القرية، خيرِها وشرِّها، فمن جهة يتجرأ المؤلف على القول إن «لوبيا لا تخلو من اللصوص والزناة والمقامرين والمحتالين وهواة الشجار والعدوان»، ومن جهات أخرى يتوقف مطولا أمام بعض التفاصيل، ويستخدم أسلوبا خاصا في الوصف يتحفنا به، ففي العادات والتقاليد «يبدأ الزواج عادة بـ..»، وفي وصف البيت «يبدأ البيت بباحة..»، وفي وصف الأطعمة يتحدث عن «طبخ الطعام في الفرن الطينيّ»، فيقول «مأكولاتنا كثيرة ومتنوعة»، ولا ينسى تقاليد «الكتاتيب»، وأنه «دخل الكتاب سنة 1944 أي عندما كان في السادسة، وفي عام 1945 أنهى عامه الأول، وكان قادرا على تلاوة بعض سور القرآن على مسامع أبيه»، ويتذكّر الخراريف (المسرودات) في «حضارتنا الريفية بسيطة». ومن ذلك يَستخلص أن الفلسطينيين «مُؤصّلون في المكان، أما أعداؤنا فعرضيون زائلون وزائفون، لأنهم بغير جذور ولا أصول، والفيتو الذي بناه لهم الغربيون لا يساوي قشرة بصلة». وكما جاء في سيرته، فإن السنة السوداء في حياته هي سنة 1947 التي انتشرت فيها الشائعات عن قدوم جيوش الإنقاذ العربية إلى فلسطين، كي تمنع الصهاينة من الاستيلاء عليها وتهويدها، وصولا إلى 17 أيار من العام التالي 1948 حين أعلن الصهاينة قيام دولتهم.
من أبرز أعماله:
1 – مقالات في الشعر الجاهلي – بحوث في المعلقات. – الغزل العذري- الشعر العربي المعاصر – ما الشعر العظيم – تاريخ فلسطين- ابن الفارض- مقدمة للنفري- القيمة والمعيار- الخيال والحرية- رسالة إلى سيدة 12- تلك الأيام.
j h j
شهادات في حياته وثقافته وإبداعاته
يوسف اليوسف
«مِلعقةٌ مِن ماءِ القَلْبب
يوسف حطيني
ناقد وأكاديمي من فلسطين.
صديقي الشنفرى كان سبباً من أسباب قراءتي المبكرة لما أنتجه الناقد الفلسطيني الراحل يوسف اليوسف.. تلك قصة قديمة تعود إلى عام 1977، عندما كنت في الصف الثاني الإعدادي..
ما أزال أذكر ذلك الفتى أخضر العينين الذي صادفته في أثناء دراستي تلك السنة، كان اسمه مروان يوسف؛ وإذ قامت بيننا صداقة طفولية، أو شبه طفولية زرته في بيته، وهناك في غرفة الضيوف رأيت مكتبة، لم أكن قد رأيت مثلها في حياتي، ولم أكن آنذاك على علاقة وثيقة بالكتب المرففة في الخزائن، فسألت مروان:
ـ لمن هذه الكتب؟
ـ لأبي.
في ظهيرة ذلك اليوم من عام 1977 رأيت يوسف اليوسف، لأول مرة في حياتي، دخل بقامته المديدة ووجهه المتجهم، وألقى في وجهي ابتسامة سريعة، ثم أنّب ابنه على تقصيره، وقال لنا: نحن ـ الفلسطينيين ـ ليس لنا إلا العلم، فتبرع مروان: «يوسف أشطر طالب في الصف»، فسألني: ماذا تقرأ غير كتبك المدرسية؟ أشرت إلى «تاريخ الأدب العربي» لحنا فاخوري، فأردف: ومن تعرف من الشعراء، قلت له: عنترة، فازورَّ عنّي قائلاً: كل الناس يعرفون عنترة، قلت له مرتبكاً: والشنفرى أيضاً. وإذ ذكرت اسم الشنفرى تلبسته حالة من الفرح الذي لم أعرف له سبباً، ثم حدثني دقيقتين، وأعطاني من رفوف المكتبة كتاباً، بعد أن وعدتُه بقراءته..
عُدت في ذلك اليوم فرحاً إلى البيت، فقد كانت تلك المرة الأولى التي أتلقى فيها هدية، كتاباً من المؤلف نفسه، ولم أكن قد رأيت مؤلفاً قبل ذلك، ولعلّي كنت أظنّ أن المؤلف كائن نوراني لا يدبّ على الأرض، ولا يظهر بين الناس إلا في أيام التجلّي.
هكذا بدأت علاقتي مع يوسف اليوسف، مع كتابه «مقالات في الشعر الجاهلي»، وكنت قبل أن أقرأ كتابه قد مررت مروراً سريعاً على بعض ما كتبه شوقي ضيف وحنا الفاخوري في هذا المجال. وإذ أسرعت إلى ما قاله عن الشنفرى رأيت شيئاً عجباً: إن ما يقوله يختلف اختلافاً بيناً عما قاله الرجلان. لقد عدّ وجود الحيوان في لامية الشنفرى تجلّياً من تجليات المعادل الموضوعي، وهذا ما لم أفهمه حينذاك، فعدت إلى أبيات الشنفرى:
ولي دونكم أهلـون: سيدٌ عَمَلّس
وأرقطُ زهلولٌ، وعرفاء جيألُ
هم الرهطُ لا مستودعُ السرّ شائعٌ
لديهم ولا الجاني بما جرّ يُخذلُ
عندئذ شعرت بلذة مختلفة، شعرت كأنني أقرأ الأبيات لأول مرة، أحسست أنّ قراءة يوسف اليوسف قد أضافت شيئاً لإحساسي بالنص، شيئاً يمكن أن اسميه (لّذة النص)، وعليه سأفهم هذا المصطلح «البارتيّ» في ما بعد مستنداً إلى تلك القراءة المبكّرة.
رافقتني هذه الحالة من ثمّ إلى الجامعة، وكانت كتب الناقد يوسف اليوسف رفيقاً دائماً، وكنت أحرص دائماً على إعادة قراءة النصوص الشعرية بعد قراءة نقد اليوسف، سعياً للشعور بتلك اللذة. وأشير هنا بشكل خاص إلى (مقالات في الشعر الجاهلي) و(بحوث في المعلقات) و(الغزل العذري)؛ إذ وجدت فيهما نقداً يتجاوز ما كنت قد ألِفتُه من قراءات موضوعية للنصوص الجاهلية، أو قراءات تدّعي أنها قراءات فنية، مكتفية باستخراج الجمل الإنشائية والخبرية، وتحليل الصور الجمالية بطريقة تقليدية، دون التغلغل في عمق النص، وكشف دلالاته الخبيئة.
لقد قدّم اليوسف للنظرية النقدية التي تناولت الشعر الجاهلي خدمات جُلّى، فأدخل إلى قراءة النص الأبعاد النفسية التي تعنى بكشف الدوافع (الجوّانية) المحفّزة لإنتاج الشعر، مستفيداً من التراث النقدي العربي والغربي لإنتاج نقد عربي جديد يرسّخ ما دعاه د. نعيم اليافي، في ما بعد، بالمنهج التكاملي، دون أن يتخلّى عن التحليل الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للنص الجاهلي، رابطاً إياه بما عاناه الشاعر الجاهلي من تهدّم حضاري وقمع جنسي وطبيعة قاسية لا ترحم.
نضيف إلى ذلك أنّ عناية الناقد بفكرة اغتراب الشاعر عن مجتمعه الجاهلي، لأسباب مختلفة (النابغة، عنترة، الشنفرى)، وهو ما سيتجلّى لاحقاً بفكرة اغتراب الشاعر ـ أي شاعر ـ عن مجتمعه، لأنّ ظاهرة الإبداع وفقاً لرؤية اليوسف تتجلّى بفكرة جوهرية هي اختلاف المبدع عن الآخرين، وتفرّده، ومن ثم اغترابه الذي يقوده إلى فكرة نبيلة يحملها، وتمنح أدبه جدارة الأدبية.
ولا نريد ها هنا أن نختلف مع الناقد يوسف اليوسف، في أثناء الحديث عن رحيله الفاجع، حول ماهية الشعر، وجوهره، والبحث عن القيم المتسامية التي تمنح النص جوهر خلوده، و«الغريزة المثالية» التي تنتجه، بل نريد أن نسجّل أن اهتمام اليوسف بالفلسفة المثالية قاده إلى نوع من القراءة المتعمّقة التي ستظهر في كتبه الأخرى، وهي تبحث عن الشخصيات التي حققت ذاتها بطريقة مثالية، بدءاً من تناوله لشعراء الغزل العذري، مروراً بتجربتي ابن الفارض والنفري، وصولاً إلى غسان كنفاني، إذ يسعى أولئك، كلّ بطريقته، إلى تحقيق الذات عبر الإخلاص للفكرة التي يؤمن بها، والسعي إلى تحقيقها في كتابته وفي حياته.
لقد كان الناقد يرى في الأدب، وفي الشعر بشكل خاص، علاقة خاصة بين النفس والأشياء، فهو يقول في حوار أجراه معه كل من عبد المنعم قدورة وسعيد البرغوثي في العدد 30 من مجلة نزوى، قبل سنوات: «إن الشعر شعور، وعلى الأشياء أن تستحيل إلى مشاعر كي تصير صالحة للولوج في بنية القصيدة الحية الفاتنة. ولست أؤكد على شيء بقدر ما أؤكد على أهمية التجربة الانسانية، أقصد بالضبط ممارسة الإنسان للحياة وعلاقته بها. إن الشعر، بل الفن بعامة، إنما يخزن أو يستضيف العلاقة التي بين النفس والأشياء، فالنفس بغير الأشياء ليست سوى خواء، والأشياء بغير النفس ليست سوى حياد، أو حتى بلا معنى. ولهذا يجوز القول بأن الكون لم يكتمل إلا يوم جاء الإنسان، أو الوعي، إلى الوجود.
يقودني هذا الكلام إلى مغامرة كنتُ قد قمت بها عام 1988، أي في بداية أحداث الانتفاضة الأولى، إذ (غامرتُ) بعرضِ مقطوعة شعرية عليه، كنتُ قد كتبتها حول الانتفاضة، (وعرض قصيدة على الأستاذ يوسف اليوسف مغامرة كبيرة، فهو الذي لا يعجبه العجب، ولم ينجُ من نقده أكبر الشعراء وأعظمهم). أذكر أن عنوان القصيدة كان «ما تبقى من الجرح»، فكتب لي تحتها ملاحظة مختصرة: «تنقصُها ملعقةٌ من ماء القلب».
جلست يومذاك مع الأستاذ أحمد السرساوي، وهو من أصدقاء الأستاذ يوسف المقرّبين، وضحكنا كثيراً على «ماء القلب» هذه. غير أنني اكتشفت في ما بعد أن هاتين الكلمتين تلخصان نظرته للشعر، وللأدب عموماً، فهو يرى أن السامي المتسامي جوهر الأدب الخالد في الشرق والغرب، وأنّ التعبير عن الأشياء دون القدرة على نقل إحساس المبدع إلى القارئ يفقد الأدب، في نظر الناقد، جوهره النبيل.
j h j
وعلى الرغم مما يبدو من ثقافة نقدية رفيعة في كل عبارة ينحتها الناقد يوسف اليوسف، فإنه يبقى مصرّاً على أن وعيه النقدي لم يتشكّل من هيغل وفرويد والآمدي والجرجاني، بل من النكبة الفلسطينية ذاتها، لأن النكبة جعلته يؤمن أن الضمير هو الخير الأعظم في الإنسان، وأنّ جوهر الأدب، بوصفه نشاطاً إنسانياً، هو التعبير عمّا أسماه الروح النبيل.
من هذا الروح النبيل الذي يراه اليوسف ضرورة تجعل من الإنسان جديراً بصفته الإنسانية ينطلق ليقدّم للمكتبة العربية عدّة كتب، تحيل على فسطين ماضياً وحاضراً، فيؤلّف كتباً عن حطين وغسان كنفاني وسميرة عزام، وغير ذلك من الكتب التي يدافع بها عن الثقاقة الإنسانية، والشخصية الحضارية للشعب العربي الفلسطيني الذي يراه شعباً شهيداً، وفقاً لمقابلة أجراها معه أسامة العبد، ونشرها الملحق الثقافي لصحيفة الثورة الدمشقية في 7/1/2006:
« إننا شعب شهيد ضحى به العالم على مذبح يهوا، ولصالح كائنات ذات أنياب زرقاء».
في جزء من تلك المقابلة يقدّم اليوسف تعريفاً بكتابه (تلك الأيام) الذي يؤكّد فيه أن طرد الفلسطينيين تم بفعل مسلسل من المجازر الشنيعة؛ لذلك يرى من واجبه، بوصفه مثقفاً كونياً يسعى إلى إعلاء قيمة الوجدان، ألا يسمح للعدو بإزالة تفاصيل الحضارة الفلسطينية، وأن يبرز في ذلك الكتاب تقاليد الزواج والعرس والعيد والدبكة والغناء واللباس، وغير ذلك مما يمنح الإنسان الفلسطيني حصانة حضارية لا تمكّن أعداءه من اقتلاعه.
إنّ من يقرأ «تلك الأيام» يدرك مدى اهتمام اليوسف بالتفاصيل، تلك التفاصيل القابعة في ذاكرة الطفل الفلسطيني الذي خرج من فلسطين، وهو ابن عشر سنوات، وحمل معه الزمان والمكان إلى المنفى، وحاول أن يرسم في منفاه ظلاً لذلك الوطن، تَجَسّدَ في حديقة منزله في مخيم اليرموك، تلك الحديقة التي كان يشرب فيها قهوته الصباحية، وينتمي إليها كمن ينتمي إلى ذاكرة وطن.
أتذكّر تلك الحديقة مثل ظلّ باهت، وقد كتبت إلى صديقي عصام سعيدان (وهو صديق المثنى أحد أولاد الناقد الكبير) أسأله أن يثبت لي تفاصيلها في ذاكرتي، فأشار إلى أن اليوسف الذي كان يشرب قهوته الصباحية ويدخن ويقرأ في تلك الحديقة الأثيرة إلى نفسه، أصبح رجلاً صعب المزاج حين تمّ، بناءً على رغبة أولاده، هدمُ منزله العربي، وبناؤه على طراز حديث، أطاح بالحديقة وما تحيل عليه من ذكريات غالية.
خيبة جديدة تنضاف إلى خيبات ذلك الرجل، ونفي جديد، داخل منزله الجديد. وكأنّ رحيله القسري من فلسطين، وكأن هجرته من لبنان إلى مخيم اليرموك، لم تكفي لكسر قلبه.. لذلك جاءت هجرته الثالثة، من مخيم اليرموك بعد أن دخله المسلحون، وصار جزءاً من لعبة الأمم في سورية، لينتقل إلى مخيم نهر البارد، ثمّ إلى عالم أخير ينتظر فيه عدلاً كان يبحث عنه طوال حياته.
وإذا كان «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله» كما يقول المتنبي، فما هو شأن يوسف اليوسف، وهو ذو العقل الذي كان يعاني جحيم النفي والقهر والخيبة؟؟
j h j
شذرات شخصية عن الصديق
يوسف سامي اليوسف
فرج بيرقدار
شاعر وكاتب من سورية.
اتصل بي أحد الأصدقاء، ليقول لي إن هناك مخرِجاً فلسطينياً اسمه حسين الأسمر، موجود الآن في حمص ويرغب في لقائك. كان ذلك أواسط السبعينيات، بعد أن منعتني المخابرات السورية من العودة إلى بودابست لمتابعة دراسة الإخراج، وذلك بسبب موقفي المعارض لتدخل النظام السوري في لبنان، وبالتالي تم سوقي إلى الخدمة الإلزامية. نزلت إلى موعد اتفقنا عليه والتقيت بحسين. كان معه رجل رمحيّ القامة، سهميّ الملاحظة والتعليق، ومتشابك الأغصان في أفكاره وتنوعها أدبياً وفلسفياً ونقدياً وتصوفياً وعلم نفس إلخ. سألت حسين عنه فأجابني باختصار: إنه يوسف اليوسف «أبو الوليد»، ناقد عميق الأغوار وسيعجبك كثيراً. كنت حينها تحت دورة في كلية الدفاع الجوي في حمص، وكان من السهل عليّ تدبر أمور الهرب ليلاً من الكليَّة للقاء حسين ويوسف ولمّة الأصدقاء حولهما خلال أيام وجودهما في حمص.
لاحقاً تم فرزي للالتحاق بإحدى كتائب الصواريخ المتمركزة في غباغب، أي قريباً مما كان يسمَّى «الجبهة»، وقد استأجرت حينها غرفة في مخيم اليرموك. كان يزورني أصدقاء كثر من أمثال عبد القادر الحصني ونوري الجراح ومختار العلي، وكانوا يعرفون يوسف اليوسف، وأبلغوني أن بيته لا يبعد عن سكني سوى أمتار. زرته مع بعض الأصدقاء، وكم غمرتني حميميته وحميمية أم الوليد وأولادهما. أسرة فلسطينية حقاً وبامتياز.
كان أهداني في حمص كتابه «بحوث في المعلقات». لا أبالغ أبداً حين أقول إنه أهم كتاب قرأته في حياتي عن المعلقات، وإن شرح المعلقات السبع للزوزني، الذي اعتمدته جامعة دمشق مرجعاً لطلاب اللغة العربية، لم يكن أكثر من شروح ضحضاحة قياساً إلى غنى وعمق وشمول وجماليات بحوث يوسف اليوسف. كأني لأول مرة أصحو على حقيقة أن مراجعنا الأهم ليست في الماضي. لاحقاً قرأت كتابه «مقالات في الشعر الجاهلي». مع يوسف اليوسف تجدَّدَ الشعر الجاهلي بالنسبة لي، فلم يعد غريباً عن عصرنا وفهمه ومعارفه ولغته وأدواته. بدا لي أن ذخيرة يوسف اليوسف عن الشعر الجاهلي غير قابلة للنفاد، وربما لا متسع معها لأي نقد أدبي آخر. ولكن كتاباته اللاحقة عن الشعر العربي المعاصر، والشعر العذري، وأدب غسان كنفاني، والرواية العربية والعالمية، والنفّري وابن الفارض والتصوّف عموماً، بالإضافة إلى ما أسمعه منه في حواراتنا شبه اليومية لسنوات طويلة، جعلتني أدرك أن المرء قادر على أن يعيش أكثر من حياة وأكثر من عصر. مع مرور السنوات تنوعت أحاديثنا وانسربت إلى تفاصيل حياتية اجتماعية وشخصية. حدثني عن قريته لوبية، وعن مغارة العريس التي اقتضت الأعراف أن يستحمّ في نبعها «عينها» كل شاب لوباني قبل ليلة دخلته. ولكن تلك المغارة للأسف تحوَّل اسمها إلى مغارة الشهداء، بعد أن دُفن فيها سبعة وعشرون شاباً قتلتهم الهاجاناه، وهم في طريق عودتهم من العمل إلى قريتهم. وحدثني عما تعرّضت له القرية من قصف صهيوني في تلك الأيام، وكيف أُجبر الأهالي أطفالهم على الاختباء تحت الأسرّة. كما حدثني عن بطولات رجال القرية من أمثال أبو حسن رشراش الذي تمكن ببندقيته القديمة أن يطفئ برجكتور أحد القوارب الإسرائيلية في بحيرة طبريا، وكذلك من أمثال أبو رسمي عودة وغيرهما الكثير. حينها تشكَّلت في ذاكرتي قصيدة عن لوبية وكتبتها لاحقاً ونشرتها في ملحق الثورة الأدبي في تلك الأيام، فكرَّستني تلك القصيدة شاعراً فلسطينياً، حسب ما كتبه شوقي بغدادي عن القصيدة في الصفحة المقابلة في الملحق. فيما بعد التقيت الشاعر شوقي بغدادي وعاتبته على قوله إن حرارة القصيدة مفهومة كون الشاعر فلسطينياً، وواقع الحال أني سوري. قال لي شوقي إنه سأل ثلاثة أو أربعة أصدقاء عني وكلهم قالوا له إنني فلسطيني. في الحقيقة لم يكونوا مخطئين، تماماً كما أرى نفسي غير مخطئ حين رأيت ولا أزال أن الآلاف من أصدقائي الفلسطينيين إنما هم سوريون أيضاً، وذلك قبل الثورة وليس بعدها فقط.
بعد تلك القصيدة شعرت كما لو ان كنيتي في المخيم تغيَّرت من بيرقدار إلى اليوسف أو عودة أو اللوباني بصورة عامة.
أم الصديق علي الشهابي، الذي لا يخرج من اعتقال إلا ليدخل في مثله، وللأسف هو معتقل الآن، بحثت «ودقدست» كثيراً عني إلى أن وصلت إليّ، ودعتني إلى وليمة يصعب أن يحلم بها شخص مطلوب ومتخفٍّ من أمثالي، ثم رجتني أن أسمعها القصيدة.
آمل أن تعذروني على الاستطرادات.. إنها لوبية وأنا ابنها، كما أبو الوليد ابنها، وأم علي ابنتها.
لسبب ما، ولغامض علمه، صرت جزءاً من أسرة أخي أبي الوليد. لم يعد يختلف دخولي إلى بيتهم عن دخولي إلى بيت أهلي، وبخاصة بعد انتهاء خدمتي الإلزامية وبقائي في المخيم. أزعم أن تلك الفترة أعادت تكويني بالمعنى الثقافي، وجعلتني فلسطينياً أكثر مما كنت، وملأت حياتي، كما حياة الكثيرين، أشجاراً وطيوراً وأحلاماً وصُوىً وخيالات وعناقيد؟
يوماً ما قال لي أبو الوليد: ينبغي أن أبدِّل شيئاً في اسمي يا فرج، فماذا تقول؟. في الحقيقة لم أكن مرتاحاً للفكرة، ولكني سألته عن السبب، فقال لي: إن هناك ناقداً عربياً بنفس الإسم، ولا أريد أن أتعرّض لاحتمال أن يحملني بعض القرّاء مسؤولية كتاباته. سألته عن البديل، فقال: سأضيف اسم والدي الذي توفي شاباً وتركني صغيراً لنكبات لها أول وما لها آخر. فيما بعد صارت مقالات وكتب أبي الوليد تصدر باسم: يوسف سامي اليوسف. قلبي على سامي الأب، ويوسف الابن وأمثالهما ممن اكتووا بجمر التغريبة الفلسطينية.
تغيَّرت الدنيا في سوريا كثيراً بعد عام 1982. قلت لأبي الوليد: لا أريد لك المزيد من وجع الرأس.. لقد أصبحتُ مطلوباً وحالي واحد اتنين تلاتة إلخ. قال لي: لا تقلق أبداً، فهذا بيتك، ونحن أهلك، ولست أنت من يحتاج لنصيحتي في كيفية مراقبة نفسك خارجاً.. أما في بيتنا فلا خوف.. للبيت منافذ عديدة للهرب عند الضرورة.
مرّت سنوات والأمور على ما يرام، إلى أن جاء ذات يوم الصديق السيناريست حسن سامي اليوسف، أخو أبي الوليد الأصغر. كان هادئ الملامح، رغم تلاهث أنفاسه بسبب المسافة الفاصلة بين منزليّ أبي النور وأبي الوليد، وهو يبلغنا أن الضابطة الفدائية وربما فرع فلسطين، أو كليهما معاً عند أخيهما الأكبر أبي النور ويسألون عن فرج بيرقدار، وأضاف أن أخاه أبا النور قال لهم إنه لا يعرف شيئاً عن فرج بيرقدار، ولكن لو كان يعرف فإنه لن يدلَّ عليه. مشتاق إلى الغاليين حسن وأبي النور، وللأسف أني لا أعرف أخبارهما في هذه الأيام.
جرت «مراسيم» تهريبي من عند أبي الوليد عبر السطوح المتلاصقة في المخيَّم، ولم يعد في وسعي بعدها لقاء أخي أبي الوليد إلى أن أُفرج عني بعد 14 عاماً. كان أبو الوليد بعد كل ذلك الزمن متعباً.. في الحقيقة كان متعَب القلب، متوقّد الذهن والذاكرة. يا لقلبه كم تحمَّل.
في عام 2004 كنت أدرِّس الأدب الجاهلي في جامعة ليدن في هولندا.. ولم يكن لي مسعف أكبر أو أهم من كتب صديقي أبي الوليد عن الشعر الجاهلي، وكم كان ذلك يجعل حنيني إليه آهلاً بالطراوة والندى.. أعرف أن قاموس أخي أبي الوليد يميل إلى استخدام لفظة الطراء بدلاً من الطراوة، ولكني حين قلتها له فيما بعد، إنما قلتها بطريقة أهلي.
الآن، أعني في شهر (أيار) 2013، وبكامل بساطة الحياة والموت، والقوة والضعف، والحلم والواقع، والحرية والقسر، والورد والشوك، يرحل أبو الوليد. كم كان زاهداً في الشهرة، دؤوباً على ما يمكث في الأرض، مترفعاً عن دكاكين السياسة والثقافة، ولهذا لم تكترث مؤسسات منظمة التحرير به في حياته الإبداعية، وبالطبع لم تكترث مؤسسات النظام السوري. قد يكون أول اكتراث رسمي به جاء بعد رحيله عبر رسالة من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لأسرته. لا أدري إن كان الرئيس عباس قد سمع بهذه القامة الفلسطينية والعربية والإنسانية العملاقة قبل رحيلها، ولا أدري إن كان حاول دعمها أدبياً أو معنوياً أو حتى مادياً.. إن كان لم يدرك ولم يفعل سابقاً فليتفضّل الآن بإنصاف هذه القامة تكريماً ونشراً وإعلاماً وغيره مما يليق برموز فلسطين، بل برموز الثقافة العربية الكبار.
منذ شهور زرت مدينة مالمو في جنوبي السويد، والتقيت بمروان ابن أخي أبي الوليد. كان مروان صغيراً في تلك الأيام التي أتحدث عنها، وقد فشلتُ في أن لا أكسر صورة الماضي، إذ كسرتها قامة مروان الرمحية كأبيه. وتواصلتُ عبر الزاجل السحري مع الوليد، الابن الأكبر لصديقي يوسف، وقد جرشت روحي أخبارهما عن اضطرار الوالد والوالدة إلى ترك مخيم اليرموك بعد قصف شارع الجاعونة، حيث بيتهما، وقصف غيره من شوارع المخيم، إلى الرحيل مجدداً إلى مخيم نهر البارد في لبنان.
كم تمنيت لو استطاع أبو الوليد انتظار حلم المخيَّم، أو حلم سوريا، أو حلم فلسطين.
لم يستطع قلب أبي الوليد المزيد، ولكني آمل لمحبيه، وأنا أو نحن منهم، أن يستطيعوا.
j h j
يوسف سامي اليوسف
وظلم الجغرافيا
فخري صالح
ناقد من الأردن.
ظلمت الجغرافيا الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف (1938- 2013) مرتين، الأولى عندما هُجّر مع عائلته عام 1948 إلى لبنان ثم إلى سوريا، والثانية عندما اضطر إلى مغادرة مخيم اليرموك في دمشق نتيجة المعارك التي وجد أبناء المخيم أنفسهم في وسطها أواخر السنة الماضية. في المرة الأولى كافح اليوسف مع عائلته لينجو من كارثة محو هويّته وهوبّة شعبه ليصبح واحداً من النقاد العرب الذين يشار إليهم بالبنان. لكن الرحيل الثاني في اتجاه مخيّم نهر البارد في لبنان كسر قلبه. لقد أيقن أن الرحيل والتشرد هما قدر الفلسطيني والعلامة الفارقة التي تنطبع على جسده، فآثر الرحيل عن هذا العالم الظالم شديد القسوة.
كان اليوسف يؤمن بأن الكتابة تجربة كيانية، وأن الأدب العظيم هو الذي يعبر عن هذه التجربة الكيانيّة. وقد قادته رؤيته النقدية هذه، التي تستفيد بعمق من الفلسفة المثالية الجدليّة خصوصا فلسفة الألماني هيجل، إلى غزو المنابع الأدبية والثقافية الكبرى في الأدب العربي وكذلك في آداب العالم المختلفة. ومن يقرأ مؤلفاته، التي أنجزها في فترة مبكرة من تجربته النقدية، سيعثر على تأثير المأساة الفلسطينية في تكوينه الثقافي والنقدي، فقد آمن أن تجربة الوجود، والمأساة خاصة، هي المكوّن الأساسي للأدب العظيم.
اتجه يوسف سامي اليوسف إلى الأدب الجاهلي ليرى عناصر التجربة الكيانيّة الوجودية في هذا الأدب. وقد ميّز أسس هذه التجربة الوجودية الكبرى في معلقات شعراء الجاهلية، والغزل العذريّ، محللا بعمق هاتين الظاهرتين الشعريتين الثقافيتين في الأدب العربي. ولعل تلك الفترة التي أنجز فيها اليوسف ثلاثة من كتبه: «مقالات في الشعر الجاهلي»، و«بحوث في المعلقات» و»الغزل العذري: دراسة في الحب المقموع»، أن تكون من أخصب مراحل تجربته. فهو لم يكتف بدراسة الشعر القديم بل انطلق في دراسة الشعر العربي المعاصر من رؤية كيانيّة ليدرس ظاهرة القصيدة العربية الجديدة في خمس مقالات مطوّلة جمعها في كتابه «الشعر العربي المعاصر» مركّزا بصورة أساسية على شعر السياب وأدونيس، إضافة إلى دراسة عن تطور الشعر الفلسطيني المقاوم. والمتأمل لهذه الدراسات يجد أنها طالعة من رؤيته الشاملة للشعر والأدب والثقافة، ولا تنفصل عن قراءته للشعر العربي القديم. فالأدب بالنسبة له هو تعبير عميق عن مأساة الوجود الكبرى، وهو ما عبّر عنه في دراسة مكثّفة عن غسان كنفاني معنونا كتابه صغير الحجم بـ«رعشة المأساة».
الرؤية نفسها تقيم في أساس كتابه «ما الشعر العظيم؟» الذي يؤكد فيه أن الشعر تعبير عن التجربة الكليّة للوجود. وهو يشنّ في هذا الكتاب حملة شرسة على ماديّة العصر ونزعة التسليع والاستهلاك فيه، داعياً إلى إعادة النظر في نظرية الشعر ونظرية الفن اللتين تنتميان إلى الغرب الماديّ المعاصر. وهو من ثمّ يدعو إلى العودة إلى جذور الشعر والفن المركزية والنصوص الكبرى التي تتصل بمنابع الوجود.
لقد ظلم تاريخ النقد العربي المعاصر اسم يوسف سامي اليوسف، كما ظلمته الجغرافيا؛ بل ربما كان ظلم من كتبوا عن النقد العربي المعاصر لليوسف أكثر فداحةً وتجاهلاً ونسياناً؛ فهو ناقدٌ عربي كبير يمتلك رؤية ونظرة عميقتين إلى الأدب والثقافة. فيوسف سامي اليوسف، إضافة إلى عودته لقراءة الشعر العربي القديم قراءة جديدة، لم يتوان عن وضع الظواهر الثقافية العربية المعاصرة موضع البحث والمساءلة، جاعلاً الشعر العربي في بؤرة تفكيره النقدي، لأن الشعر من وجهة نظره هو النوع الأبرز والأهمّ في إنتاج العرب قديماً وحديثاً. ولعل ذلك يدفعنا إلى إعادة الاعتبار لناقد كبير دفعته الانكسارات الكبرى إلى الانزواء بعيداً خلال العقدين الماضيين، كاتباّ مذكرات تشردّه ومنفاه الشخصي والعامّ كفلسطيني تميد الأرض دوماً من تحت قدميه.
j h j
يوسف سامي اليوسف
وداعــــــا
راسم المدهون
كاتب وروائي من فلسطين.
تجربة الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف النقدية تستحق دراسات موسَعة تتناول رؤاه ونتاج ذائقته على مدار ما يقارب عقودا أربعة أمضاها في القراءة والكتابة ومتابعة كلّ ما هو جديد في الأدب المحلي والعربي والعالمي . لكنني هنا لاستدراج الذاكرة الشخصية للحديث عن مشاهد ووقائع جمعتني مع «أبو الوليد» وكانت شيئا من صورته الواقعية كما عرفته خلال سنوات صداقتنا الطويلة .
عرفت يوسف سامي اليوسف مطلع السبعينات من القرن المنصرم : هو في تلك الأيام مدرّس اللغة الإنجليزية في مدارس «أونروا» التابعة للأمم المتحدة في مخيم اليرموك . جاء «أبو الوليد» لسوريا ولمخيم اليرموك تحديدا بعد لجوء عائلته من قريتهم الفلسطينية الجبلية «لوبية» إلى مخيم بعلبك شرق لبنان حيث عاشوا هناك حتى مطلع العام 1957 ليرحلوا بعدها الى سوريا ليستقرُوا في مخيم اليرموك .
يوسف هو الابن الأكبر لعائلة كبيرة كانت كباقي العائلات الفلسطينية تعيش العوز ومصاعب حياة اللجوء بعيدا عن الوطن . هكذا كان عليه أن يتقدم لحمل مسئولية العمل والإنفاق على عائلته : هكذا التحق يوسف بالجيش وتحديدا كتيبة الإستطلاع ، التي ذكر لي أنه كان أصغر عناصرها جميعا ، والتي قضى في صفوفها سنوات استطاع خلالها اجتياز امتحانات الشهادة الثانوية ليلتحق بجامعة دمشق طالبا في كلية الآداب قسم الأدب الإنجليزي . هذا الخيار الدراسي في الجامعة جاء وليد اهتمامه بالأدب العالمي ، ورغبته في التعرٌف على آثاره الكبرى .
يوسف سامي اليوسف الذي قرأ عشرات آلاف الصفحات من آداب أمم الأرض على اختلافها ظلَ حياته كلَها مشدودا لأديبين من عمالقة الأدب في العالم ، هما الإنجليزي وليم شكسبير والروسي فيودور ديستويفسكي ، وظل طيلة حياته يرى في شكسبير وديستويفسكي تعبيرين عن عظمة الأدب كما لا تتجلَى عند أي مبدع آخر مهما علا شأنه .
بين من عرفت من الكتاب والأدباء كان يوسف أشدهم التصاقا بفكرته التي لم تتزعزع يوما ، أعني العلاقة «الشخصية» بين الناقد والنص : النص الإبداعي إما أن يلامس أرواحنا أو لا ، وفي الحالتين الأمر يتعلق بـ«الذائقة» ، ولعلَ هذا «الترمومتر» بالغ الخصوصية كان «أداة» يوسف سامي اليوسف الأبرز في رؤيته للآثار الأدبية ، وكان في الوقت ذاته سبب اختلافات لا تحصى بينه وبين الأدباء ، بل بينه وبين النقاد بالذات . إلى ذلك أشير في هذه العجالة الى حرصه على أن يلامس النصُ روحه فإن لم يفعل رآه «باردا وحييَا» لا تكترث له الروح إن لم يقل أنها «تعافه» وتنفر منه .
أرى ذلك أداة قياسه الأبرز والأهم في النظر إلى الشعر الجاهلي والحب العذري الموضوعتين اللتين شغلتا حيزا هاما في جهده النقدي وأنتجتا كتبا لا أبالغ إذ أقول أنها كانت ولا تزال فتوحا نقدية على المستوى العربي عامة . لكنني مع ذلك أرغب هنا بالذات أن أشير الى «سطوة» ترمومتر مشاعره الفردية : عام 1982 وخلال الإجتياح الإسرائيلي للبنان وبيروت قال لي مرَة أنه شعر فجأة بآلام في إحدى ساقيه ، ومضت الأيام ليفاجأ أن إبنه قد أصيب برصاصة في الحرب في تلك الساعة من ذلك اليوم بالذات .
هو بمعنى جميل إبن الحياة وفي كثير من الأحيان الناطق باسمها : أتذكر أننا كنا مرَة نسهر في مطعم «نادي العمال» في دمشق وحين اشتعلت السهرة بالرَقص وبدت السعادة على الجميع سألته فجأة : من هو برأيك الأكثر سعادة بين الساهرين . كنت أعتقد أنني فاجأته بالسؤال ، ولكنه التفت نحوي وقال بهدوء : صاحب المطعم طبعا !!
يوسف سامي اليوسف إبن العاطفة الإنسانية الأشد حساسية : حين صدرت مجموعتي الشعرية الثانية «دفتر البحر» مطلع العام 1985 ، كان يزورني برفقة بعض الأصدقاء وسألني : هل تريد أن تعرف رأيي بالمجموعة ؟
قلت لم لا .
اعتدل في جلسته وقال بهدوء : في مجموعتك عشر قصائد قرأتها وتأمَلتها ، وأصارحك أنني لم أجد بينها قصيدة واحدة ، بل لم أجد مقطعا ولا حتى سطرا شعريا واحدا . ثم أضاف : لقد وجدت بعض «اللمعان» الذي سرعان ما ينطفىء !!
كان الحوار صباحا ، تقبَلته على مضض ، ومضينا عنه إلى موضوعات أخرى . في المساء جاء لزيارتي وطلب أن أرتدي بسرعة لأن بعض الأصدقاء في انتظارنا للذهاب إلى «الرَبوة» الشامية . هناك ، وحين طابت له السهرة واعتدل مزاجه نظر في اتجاهي وقال : إقرأ لنا قصيدتك الجميلة «نجمة» .
فاجأني طلبه وأردت أن أتخابث معه فقلت : ليس عندي أية قصيدة ولا أيَ مقطع أو حتى سطر شعري واحد ، فكلُ ما عندي هو بعض اللمعان الذي سرعان ما ينطفىء !!
يوسف سامي اليوسف رمى ببعض ما يزدحم في ذاكرته من أحداث في كتابه الجميل «تلك الأيام» أحد أجمل كتب الذاكرة الفلسطينية ، يروق لي ككثر من أصدقائه أن نراه «كاملا» فمزاجه الجميل لا ينفصل عن «عدَته» النقدية التي تنهض بالأساس على قراءة لا أعتقد أن أحدا ممَن عرفت وصل لها .
يوسف سامي اليوسف الناقد
أبو الوليد الصديق
وداعا .
j h j
يوسف سامي اليوسف..
حارس القيمة
سعيد البرغوثي
مثقف من فلسطين وناشر «دار كنعان- دمشق»
في الرحلة القسرية الأخيرة من ترحاله الدائم، ترجل فارسنا عن حصان الحياة، في مخيم البدّاوي في لبنان، بعيداً عن بيته في مخيم اليرموك، وقريباً من فلسطين التي لم تفارقه منذ غادرها صبياً.
في تلك الرحلة أسدل الموت ستارة الغياب على الناقد العربي الكبير الأستاذ يوسف سامي اليوسف، كاشفاً لنا حجم هذا الغياب الفاجع. وما ترحاله المكاني سوى الجانب السهل من ترحال روحه الباحثة عن النفيس الغالي في قرارة مكنوناتها، وهي تغوص عميقاً باحثة عن جوهرها النبيل، وعن كل ما يبرز نقاءها، وطهارتها، وعن سبل ارتقائها لتتحد بمطلق هي منه، وهو منها، وهما جديران ببعضهما.
في تلازم مدهش بين صناعة الأجيال التي احترفها كأبٍّ روحي ومعرفيّ للكثيرين، وبين النقد الذي أشعل شمعة فيه تضيء نارها من قبسات الجمال المسكونة في الأدب عبر العصور، وتشير إلى ممر من نور يفضي إلى الجمال الأرحب. في هذا التلازم ليس صدفةً، أن يعمد «اليوسف» في الحالين إلى محاربة الخواء، وكشْف زيف ضحالة الوجود العائم على قشرة الحضارة المستهلكة، وأن يؤكّد على الجوهر المستمد من إنتاج القيم الرفيعة المحمولة على الجمال الخالص بوصفهما صنوانا يتحدران من أب واحد، ومن أم واحدة.
وبهذا وضع ناقدنا الكبير مدماكاً إضافياً في مبنى النقد، وربما يكون المدماك الأهم في عالم النقد الكاشف. فمن «الحب العذري» إلى «ما الشعر العظيم» إلى «القيمة والمعيار» إلى «الخيال والحرية» والكثير من الكتب والدراسات الأخرى، سكب «أبو الوليد» روحه وفكره بلغة أدبية من طراز رفيع نقل فيها النقد من مملكة الجفاف إلى عالم الخصب والحياة ليتحول النقد لديه إلى قطعة أدبية من ثمالة النور والحياة الخالدة.
ذيّل الناقد الكبير «اليوسف» كل مخطوطات كتبه ودراساته بعبارة لم يغادرها منذ كتابه الأول حتى كتابه الأخير «رسالة إلى سيدة»؛ (مخيم اليرموك (ــــــــــ 19))، وكأن اليوسف شاء أن يذكّر من يتذكر ومن لا يتذكّر باستمرار اللجوء الظالم المتجسّد في ذلك المكان.
هناك؛ كتب مذكراته «تلك الأيام» مطرّزاً بأسلوبه العذب، وبيانه الساحر، ملحمته ملحمة الشعب الفلسطيني، وسكب فيها عصارة عذاباته وأحلامه مردداً باستمرار «لا ريب عندي طال الزمان أم قصر، إسرائيل إلى زوال». وبدلاً عن العودة إلى فلسطين التي طالما حلم بها، نزح اليوسف إلى مخيم البدّاوي في لبنان، لتتكثّف في روحه عذابات المنافي..
لم يتحمّل قلبه المتعب وروحه المكتوية بالتراجيديا الفلسطينية، قضى هناك وأطياف لوبيا مرتع طفولته، ومخيم اليرموك أعمق محطات ترحاله، بحاراته وناسه، تُداعب عينيه قبل غيابه الأخير، في برهةٍ هاربة من الجحيم.
هناك ، وبهدوء روحه الصافيه، المفعمة بالوفاء والنبل ، لملم أطياف من أحبهم ومن أحبوه ، جنبا الى جنب ، مع الجورجاني والنفري وابن عربي وامرئ القيس ، ليتبادلوا أنخاب النقد الكاشف والشعر العظيم..
j h j
يوسف سامي اليوسف
وطموحه في أدب تراجيدي عربي
محمود شاهين
روائي وقاص من فلسطين.
تعرفت إلى أبي الوليد في أوائل سبعينات القرن الماضي. كانت بداياتي مع الأدب، وبداياته مع النقد. لا أذكر إن كان كتابه «مقالات في الشعر الجاهلي» قد صدر آنذاك. وكانت الساحة الفلسطينية تعج بالأدب السهل والمتأثر إلى حد كبير بأدب الواقعية الإشتراكية التي فهمها الكتّاب على طريقتهم بأن أضفوا التفاؤل على نهايات قصصهم ورواياتهم، بعكس الكتاب الذين سبقوهم، مثل سميرة عزام وغسان كنفاني وغيرهما ممن كانوا ينهون بعض قصصهم ورواياتهم بموت الأبطال..
كان الراحل يستثني هذين الأديبين الكبيرين من نقده القاسي، وقد لمس الحس التراجيدي في أدب كل منهما، فنادى في حوار معه بالتراجيديا قائلا «إلى التراجيديا أيها الفلسطينيون».
لا شك أن أبا الوليد كان مصيبا إلى حد كبير في نظرته. فالبطل الفلسطيني الذي لا ينتصر، والذي كان يواجه قدره بشجاعة، لم يكن غائبا عن باله، فالبطل الفلسطيني بدءا بـ»جُلْيات» الذي قتله الملك داود بحجر من مقلاعه، مرورا بعبد القادر الحسيني، شهيد معركة القسطل، وانتهاء بالقادة المعاصرين، كان القتل قدرهم الذي لا مفر منه، فكيف لا تتجلى هذه الحقيقة في الأدب؟!
هذه النظرة ألقاها الراحل على الأدب العربي بشكل عام، حين لم يكن يرى الحس التراجيدي فيه. وكان معجبا بشكسبير ودوستويفسكي. وكان يعتبر دوستويفسكي أعظم أدباء البشرية على الإطلاق. كان يتغنى، إذا جاز التعبير، بأبطالهما. (فحين يسقط الملك لير تشعر أن صرحا عظيما قد آل إلى الإنهيار) وهذا للأسف ما لا نلمسه في الأدب العربي. فموت الأبطال في الأدب العربي ( إن وجد ) لا يكاد يؤثر فينا، ولا يشعرنا حتى بانهيار جدار (التعبير من عندي).
في الشعر كان (اليوسف) محبا للرثاء والوقوف على الأطلال والعشق والتحسر والوصف المؤثر والبليغ للحياة الاجتماعية، في معظم الشعر الجاهلي واللاحق له، كشعر المتنبي.
لقد حاول دائما أن يوجِد منهجَه الخاص في النقد، في محاولة جادّة لتأسيس منهج نقدي عربي يستند إلى علم النفس والاجتماع والفكر الصوفي والمأساة الإنسانية بشكل عام، انطلاقا من رؤيته الخاصة للمأساة الفلسطينية. وكما كان يحاول أن يرى المأساة في الأدب، كان يحاول أن يرى مأساته كفلسطيني، فيبدو وكأنه يبحث عن نفسه في الأدب، وفي مقالات قليلة له كان يلجأ إلى إصدار أحكام إطلاقية، ترفع الكاتب إلى أسمى مراحل الأدب أو تنزل به إلى أسفل سافلين.
لجأ الراحل في فترات لاحقة من حياته إلى تأليف كتب نظرية للتعبير عن فهمه للأدب وتوضيح معالم نظريته، ككتابيه «ما الشعر العظيم؟»، و»الخيال والحرية»، وغيرهما.
حمل الراحل ثقافة موسوعية أهلته لأن يكون أحد أهم المثقفين العرب على الإطلاق .
وخير ما سأختتم به كلمتي، كلمة. الصديق الشاعر نزار بريك هنيدي في رثاء الراحل
الكبير، (في مقال له على النّت) يقول: إن أهمية المكانة التي احتلها الأستاذ اليوسف، في صدارة المشهد النقدي العربي، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، ترجع إلى كونه صاحب مشروع نقدي متكامل قائم على أسس راسخة ما انفك يعمل باستمرار على مساءلتها وتوضيحها وإغنائها والإضافة إليها، متسلحاً بما امتلكه من أدوات نقدية وثقافة موسوعية، وبما تميز به من ذائقة رهيفة وقدرة على السبر والكشف والاستبصار، حيث طمح في مشروعه إلى تقديم أسس نظرية عربية حديثة للشعر في مواجهة حالة الفوضى التي وقع فيها النقد العربي المعاصر.
وأشار هنيدي إلى خصوصية اللغة العالية التي يكتبها اليوسف ويتميز بها، مبيّنا أنه كان ينفر من استخدام المصطلحات الشائعة المتواترة في الكتابة النقدية الحديثة، ويميل إلى اشتقاق مصطلحاته الخاصة التي يصوغها من المعجم الصوفي في أغلب الأحيان، ولذلك يصبح نصه أقرب إلى النص الأدبي الإبداعي منه إلى النص النظري المنهجي. ولا شك أن إعادة قراءة أعماله ودراستها ومحاورتها هي خير ما نفعله وفاءً لهذه القامة الشامخة التي ندر مثيلها في أدبنا العربي الحديث، وعزاؤنا أن روحه ستبقى معنا نسترشد بها في مسالك الأدب والنقد والحياة، ونستلهم منها ما يعيننا على تجاوز أرزاء هذا العالم الذي يضيق بالنفوس المطهمة بنزعة السمو وعشق الحق والجمال.
j h j
يوسف سامي اليوسف..
يد بيضاء
عبد القادر الحصني
شاعر من سورية.
صديقي الناقد العربيّ الكبير يوسف سامي اليوسف مؤلم رحيلك ممتزجا بما تعانيه سورية ويعانيه مخيم اليرموك في دمشق من آلام.
يدك بيضاء على الأدب العربيّ يا صديقي، فقد أغنيت المكتبة العربيّة بمداد قلمك وخصوصيّة رؤيتك وعمق بصيرتك، ويدك بيضاء عليّ أيضا يا صديقي، فقد أتاحت لي صداقتك المبكرة في مطلع سبعينيات القرن الماضي أن أكون الأقرب إلى أغزر من عرفت ثقافةً في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والأدب العالميّ، فاغتنت ثقافتي التراثية آنذاك بما لديك. فأنا على نحوٍ، ما مدين لك بما أنا عليه.
j h j
يمامة ُالفَرْق
عبد القادر الحصني
(إلى يوسف سامي اليوسف)
بدأ الحبُّ غريبًا
وغريبًا سيعودُ الحبُّ،
ما بالي حزينْ
باخعُ النفْسِ على آثارهم، أو
ذاهبُ النفسِ عليهم حَسَراتْ؟
ولماذا كلّما عبّتْ كُريّاتُ دمي من عبَق الشرقِ قبابًا
وبخورًا
وصلاةْ
عصَف الشوقُ، فناحَ القصبُ اليابسُ،
وانثالتْ أغاني القبّراتْ؟
آسِرٌ هذا الحنانْ
أمْ أنا جِدُّ ولوعٍ بالتفاصيلِ التي عتّقها مُرُّ الزمانْ
j h j
يا صديقي يا عميقَ الجرحِ والعينينِ،
يا مشتعلَ الحيرةِ عُمرَكْ
قدّس اللهُ ونَدّى
في الدياميسِ
على الوحشةِ سرّكْ
قمرُ الغربةِ أنتَ
وشذا القُرْبةِ أنتَ
ورحيلٌ في حشاشاتِ الينابيعِ،
إلى ينبوعها الأوّلِ أنتَ
ما عليكَ
ذاهبًا في الكبدِ الكابدِ
حتّى مُنتهاهُ
كابدَ الليلُ عماهُ: كبدُ الليلِ الجُمانْ
والمحاراتُ اللآلي
والعناقيد الدنانْ
كابدَ الزيتونُ في آونةِ العصر؟ِ
فمِمّا كابدَ الزيتونُ بوحٌ
شقّ قلبَ الليلِ،
أورى وردةً مثل الدهانْ
كابدَ الوعرُ فكان السوسنُ البرّيُّ،
والنحلُ،
وكان الأقحوانْ
ثمَّ كابدنا، فكان الجدلُ الفاتنُ:
إطعَمْ لُقمةَ الزقّومِ
في الجنّة
واشربْ سلسبيلًا
في الجحيمْ
واعطِ هذينِ النقيضينِ
الجميلين الأمانْ
j h j
بدأ الحبّ غريبًا
وغريبًا سيعودُ
ليتَ أنّي حاورتْني الأعينُ الحورُ،
وقدَّتني القُدودُ
يومَ أنفاسُ المحبّينَ مراسيلُ
لها الريحُ بريدُ
يومَ «ريّا» مثلُها صفصافةٌ
مالتْ على النهرِ لتسقيهِ
ومثلُ اللهِ دربٌ
هبَّ مِن قلبي،
وشدَّتهُ النهاياتُ إلى ما لا يعودُ
نُقَلٌ في قممِ الثلجِ القصيّا…تِ
انهياراتٌ مع الوديانِ
في سُوقِ الغزالاتِ الرَّقيقاتِ
انسراحٌ
في حفافي الغَيمِ
والغيبِ
إلى حيث يُلاشي كلَّ دربٍ
بُعدُه الأبعدُ إلّا نقطةً
في سرِّها يُطوى البعيدُ
j h j
بدأ الحبُّ غريبًا
يا قريبَ الدارِ، لو كنتَ قريبا
وسِع الشدوُ الحِجارَ الصُمَّ
والعُرسُ، على الجرحِ، القلوبا
آهِ لو كنتَ قريبا
عتّقتْ من يومها الخمرُ،
وأغفتْ،
حِضنَ جمرِ الموقدِ الحاني
الطيورُ الخضرُ
لو كنتَ قريبا
ضوّأ الألماسُ ليلَ الفحمِ
والتبرُ تمنّى بالترابِ العذبِ
لو ظلَّ مشوبا
آهِ لو كنتَ قريبا
خرجَ النُطقُ على الحرفِ،
وقال الصمتَأ
و قالَ السُّهوبا.
j h j
يوسف سامي اليوسف..
مثقف أرستقراطي في المخيم
سمير الزبن
روائي وقانوني من فلسطين.
لم أكن تلميذا لأستاذ اللغة الانجليزية يوسف سامي اليوسف (أبو الوليد) في مخيم اليرموك، والذي عمل مدرسا لها في مدارس الأونروا، وكنت تلميذا في مدارسها، لكن من خاضوا التجربة في صفوفه الدراسية، كانوا يتحدثون عن أستاذ «ظالم»، وهو ما يعني أنه يستخدم الضرب في التعليم، وهي وسيلة تربوية كانت عادية في تلك الأيام، وكان من النادر أن تجد معلما لا يستخدم الضرب مع تلاميذه ليربيهم، لا ليعلمهم فحسب.
كان المدرسون «الظالمون» في التجربة الفلسطينية، يعتقدون أن عليهم مهمة شاقة، وهي صناعة رجال استثنائيين من أطفال اللجوء الفلسطيني، كان أبو الوليد واحدا من هؤلاء المدرسين، الذين كنا ننظر لهم بعين الاحترام والرهبة والهيبة والخوف.
في سنوات دراستي الجامعية الأولى التي بدأت مع حرب لبنان العام 1982 تعرفت على السياسة وعلى الثقافة وعلى (أبو الوليد)، وترافقت هذه السنوات مع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد الحرب، ونقل مراكز مجلات الفصائل اليسارية «الحرية» و«الهدف» وغيرها الى دمشق، وقد كان لهذه المجلات صفحاتها الثقافية الغنية في ذلك الوقت، وكان أبو الوليد واحدا من كتّابها، وفي نفس الفترة تعرفت الى وليد، ابنه البكر، واصبحنا صديقين، وتعرفت على الرجل ذي الهيبة.
لم أكن أنا، ولا أي من اصدقاء أبناء (أبو الوليد) يستطيع زيارة بيتهم في أيام الصيف الحارة، وكان السبب مفاجئا بالنسبة لي.
أبو الوليد القارئ النهم والاستثنائي والناقد اللاذع للقامات الثقافية الفلسطينية من جبرا ابراهيم جبرا الروائي والشاعر والناقد والمترجم والرجل متعدد المواهب وصاحب الشهرة الكبيرة، إلى آخر كاتب فلسطيني لم يسلم من نقده اللاذع، بمن فيهم كاتب هذه السطور. ولا أعتقد أن أحدا كتب عنه أبو الوليد لم تصبه لسعاته النقدية، باستثناء الشهيد غسان كنفاني، الذي كتب عنه كتابا صغيرا وجميلا بعنوان «رعشة المأساة».
كانت المفاجأة أن (أبو الوليد) الذي يسكن شارع الجاعونة في مخيم اليرموك، وهو من أضيق الحارات في المخيم، وقارئ الكتب المثابر في كل الأجواء، والذي كان يملك بيتا من طابق واحد، تحوّله حرارة الصيف إلى فرن حقيقي، كان يقضي كل الوقت في العطلة الصيفية، يقرأ الكتب تحت الدرج وهو المنطقة الأكثر برودة في الصيف اللاهب في بيته، ولأن الدرج كان وراء باب المنزل مباشرة، فإن (أبو الوليد) حظر الدخول والخروج من المنزل وإليه في ساعات قراءته الطويلة، وهو ما كان يوقف الزيارات إلى المنزل نهائيا. كنت أتخيل (أبو الوليد) وهو ينكب على قراءة الأدب الرفيع والأرستقراطي وباللغة الانجليزية، على «طبلية» تحت الدرج المنخفض، حيث تمر كتب شكسبير ولورانس واليوت وفرجينا وولف وبو بلغتها الأصيلة تحت درج (أبو الوليد) في شارع الجاعونة في مخيم اليرموك. وكنت أتخيل الثقافة الإنجليزية وهي ترافق (أبو الوليد) في زواريب المخيم، فقد كان أرستقراطيا بالمعنى الثقافي للكلمة، ولكنه كان تقليديا بالمعنى الاجتماعي للكلمة، ولم أشعر أن ثقافته الأرستقراطية كانت تفعل فعلها في حياته، لقد كان أستقراطيا بين الكتب التي قضى حياته يقرأها، وكان في حياته تقليديا، وكأنهما عالمان لا صلة بينهما، أو كأنه يعيش حياتين، تفصل بينهما هوة عميقة..
لقد كتب ابو الوليد في أكثر من حقل، من الشعر إلى نقد الرواية إلى التاريخ إلى السيرة الذاتية، وتهيّب عند الرواية، فكتب كتابه «رسالة إلى امرأة» كتب عليه تعبير «نص».
ومن المصادفات أن الدار التي نشرت الكثير من كتب (أبو الوليد) «دار كنعان»، التي يديرها الصديق سعيد برغوثي، هي نفسها الدار التي نشرت روايتي «قبر بلا جثة»، ولم يتسنّ لي إرسال نسخة إلى (أبو الوليد)، واكتشفت بمحض الصدفة أنه قد قرأ الرواية وأعجب بها، وكتب عنها مقالا بديعا، أصابتني من خلاله لسعات نقده، وكنت سعيدا وفخورا بما كتب عن روايتي، وكنت سعيدا أن يُعجب أبو الوليد بروايتي المتواضعة في الوقت الذي لا يعترف إلا بدستوفسكي كروائي، ويعتبر ت. هـ . لورانس كاتبا من الدرجة الثانية، عدا عن رأيه السلبي في الرواية الأميركية اللاتينية.
عندما أدرك الموت (أبو الوليد) كان مهجّرا في مخيم نهر البارد- لبنان بسبب الصراع الدموي في سوريا الذي جعل مخيم اليرموك مكانا غير صالح للعيش، وكنت مهجّرا في القاهرة للسبب ذاته، وكان ابنه وصديقي وليد مهجّرا في كندا للسبب ذاته ايضا.
أي قدر أحمق أعاد تهجيرنا من جديد، قبل يومين من وفاته سألت وليد في كندا عن أحوال والده، وكنت أعرف أنه مريض، قال لي: وضعه الصحي جيد إلى حد ما. لكن هيبة (أبو الوليد) لم تحتمل لجوءًا آخر، فقرر أن يرحل بكل هيبته قبل أن تُمَسّ.