القناة العربية الوحيدة التي تبثُ في هذا الصقع البعيد، المتاخم لذهول البوذا لحظة الاكتشاف الأليم، الذي صدف انني موجود فيه . ووسط زحمة الأخبار والمجازر المذاعة في أشرطة القناة الخاصة بالعرب دون غيرهم من الأمم ليس لغة فحسب وإنما مضمون ودلالة، حتى تلك المنعوتة بالتخلف، التي على ما يبدو تخففت من ثقل هكذا مذابح وشرور وأنظمة وأحزاب أوغلت في الجرائم والاستباحات حتى صارت هي علة كينونتها ووجودها، بغيرها تتحطم وتتلاشى في مزابل التاريخ على ما عبر يساريون ذات يوم غير بعيد… وسط زحمة هذه الأخبار الدموية التي تتلفع بمناخات الفنتازيا واللامعقول، واستباحة «غزة» كاستمرار لاستباحات متكررة، تمرر القناة العتيدة خبر «وفاة الشاعر الكبير سميح القاسم».
هكذا.. ينتهي شريط حياة الشاعر الصاخب المرح المقاوم وقبله كان كما هو معروف رحيل صديقه محمود درويش. الاثنان ارتبطا بأكثر من رباط مشترك واقترنا به، وإن اختلفا في التعبير الشعري، عمقه وطرائقه … وحملا قدر التراجيديا الفلسطينية العاتي مثل سفينة لا تكاد تبحر على حال إلا وتأخذها العواصف والأعاصير في دوامتها العنيفة الجارفة من جديد.
أتذكر فترة وجودي في باريس تلك الرسائل المتبادلة بين الشاعرين الفلسطينيين على صفحات مجلة «اليوم السابع»، درويش الذي كان يقيم في العاصمة الفرنسية بعد تصدع إقامات وشتات أماكن، والقاسم الذي كان في أرض ولادته في الجليل الأعلى. تلك الرسائل والصفحات التي شكلت أجمل ما كتب الشاعران من نثر ومن أجمل ما كتَبَ الشعراء العرب في السياق الخارج، على حصْرِ المدونة الشعرية وتصنيفها، وعلى هوامشها وفيوضها التي تذهب أحيانا إلى مناطق أعمق وأبهى من المدونة نفسها ..
أتذكر سميح القاسم بوجهه البشوش الضاحك دائما على نحوٍ من حزنٍ خبيئ يشرق في الضحك والدعابة ويدفع بهما إلى الاسترسال والمواصلة، من الضاحية الباريسية حيث ترجم له الصديق المشترك عبداللطيف اللعبي أول كتاب له بالفرنسية، وأقيم احتفال في تلك الضاحية التي لم أعد أتذكر اسمها، هل هي «كرتي» حيث يسكن اللعبي منذ خروجه من المغرب أم غيرها؟.
حتى جلسات الحي اللاتيني حيث يُرجئ سميح المقابلات الصحفية حين يطلب منه أصحاب المهنة ذلك، لكنه في الجلسة نفسها يتحدث بما يفيض على مقابلة صحفية، ويشير عبداللطيف اللعبي الى الصحفيين أن يسجلوا، حيث يضفرون بما هو مطلوب وأكثر.
أتذكر سميح القاسم ويشرق وجهه أكثر هذه المرة بمرارةٍ وحزنٍ لا يستطيع إخفاءهما خلف قناع المرح والسخرية، حين زار سلطنة عُمان بدعوة خاصة من وزارة التراث والثقافة وكنت معه في معظم أوقات إقامته في العاصمة العُمانية حيث طقس الشتاء يجمل اللقاءات والمناسبات… كان يدخن بوتيرة كثيفة، ملامحه لم تتغير كثيراً، هناك بريق من دونجوانية يعبرها ثقل الزمن تاركة مطارحها للتأمل فيما مضى وتصرْم من أماكن ووجوه وأصدقاء ونساء كثيرات موزعات في بقاع كثيرة من العالم . لكن في جلِ حديثه كان مأخوذا بأم محمد وأولاده وعائلته، فلسطين والأصدقاء الذين غيبهم الموت، عن محمود درويش الذي عرفت منه انه يكبره سناً، لكنه رحل قبله..
لم يقل انه يشكوا من مرض ما، عدا التفاصيل التي تدهمُ الانسان وهو في السبعينيات من العمر، وقد عاش على نحو كثيف وحافل. لاحظت انه يزهد في السهر ويخلد الى النوم باكراً.. التدخين هو العلامة الأكثر ألقاً وحضوراً، التدخين والشعر والذاكرة المتشظية في الأنحاء والفضاءات، المدن الثاوية في النوم وتلك التي تنقض كالوحوش المحتدمة بمخلوقاتها وجراحها في مخيلة الشاعر..
في تلك الفترة أهداني ديوانه الأخير «كولاج» قال لي حاول أن تقرأه وحين قرأته وجدته مفارقاً لسياقه الشعري النضالي المعهود، وإن لم يفارقه هاجساً ومنطلقاً. كان ثمة تجريب وهذيان مفتوح على آفاق التعبير لم يعهده قارئه من قبل.
مرة قبل عودته من مسقط سألته عن كيفية إرسال كتاب بالبريد أو رسالة وعلى أي عنوان؟ قال لي وكنت أظن انه يمزح اكتب سميح القاسم الجليل الأعلى «الرامة» وحين غادرنا إلى فلسطين بالفعل أرسلت له طرداً بعد فترة ليست طويلة هاتفني بأن الرسالة وصلت ولم يذكر شيئا عن مرضه حتى سمعت لاحقا بأيام بسيطة بأن المرض الصعب قد أصابه وعلى ما يبدو انه اكتشف على نحو مباغت.. اتصلت به قال صحيح لكنه تحت السيطرة، وسأهزمه لن أتركه ينفذ الى إرادة الحياة، ثمة بضع كلمات أريد قولها للحياة والتاريخ قبل أن أغادر… لن يتركه يتسرب الى تلك الإرادة التي خبرت من المواقف والسنين والغيابات الشيء الكثير..
رحل محمود درويش ورحل سميح القاسم ورحل الكثيرون، الكثيرون، وبقيت الكلمات ترددها الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة من أكثر من عدو وأكثر من صهيوني معادٍ للحياة والانسان..
جملة قصيرة في شريط الأخبار الدموي الطويل، تفصح عن موت الشاعر، جملة تسقط مما تبقى من جمال العالم، ورقة من شجرة الحياة الآخذة في الهرم والذبول.
سميح القاسم:
جملة فـي شريط الأخبار الدموي
سيف الرحبي