سنجاب يتسلق الأسلاك، أتذكر شوقي أبي شقرا (سنجاب يقع من البرج) وكنت ذات زمن في بيروت، أهم بمغادرتها إلى مدينة أخرى، كنت في مقام التردد والحيرة القصوى، هل أغادر أم لا؟ سحر بيروت وأهلها، فتنة الليالي، السهرات والكتب (أندلس وشام) وباريس أو ما يشبه ذلك.. كنت في مقام الحيرة حين باغتني عنوان كتاب أبي شقرا (حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة)..حين أقرأ أبي شقراء تتهادى أصوات رعاة تائهة في البراري، أو صخب أطفال يلعبون… أبو شقراء طفل الشعر العربي الكبير من غير ادعاء ولا حفلات تطويب لعالميّة كاذبة.. «أفتح أظافرك مروحة /تخدش الحياة/ في بطنها»..
من (يوميات آسيويّة) س.ر.. سيصدر قريباً
شوقي أبي شقرا
المُعلّم والمؤسس
فـي الشعر الحديث
شوقي أبي شقرا
شاعر لبناني، ولد سنة 1935، صدر له :
أكياس الفقراء، (1959)
خطوات الملك، (1960)
ماء الى حصان العائلة، (1962)
سنجاب يقع من البرج، (1971)
ماء الى حصان العائلة والى حديقة القديسة منمن، (طبعة ثانية مضاف اليها)، (1974).
يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، (1979)
حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة، (1983).
لا تأخذ تاج فتى الهيكل، (1992).
صلاة الاشتياق على سرير الوحدة، (1995).
ثياب سهرة الواحة والعشبة، 1998 (دار نلسن)
سائق الامس ينزل من العربة، 2000 نصوص (دار نلسن).
نوتي مزدهر القوام، 2003 (دار نلسن).
تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، 2004 (دار نلسن).
ابجدية الكلمة والصورة، 2009 (دار نلسن).
«المأدبة يجب أن تتم»، هكذا جاء عنوان إحدى القصائد في ديوان الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا. هذا ما قاله في ديوانه «ثياب سهرة الواحة والعشبة» الذي صدر عن دار نلسن سنة 1998. أعود الى هذا العنوان لأنه يذكرني دائماً بأن هذا القول الشعري هو في الوقت ذاته قول تنبؤي إذا جاز لي، بمعنى ان كتابة ابي شقرا الشعرية كان عليها حتماً أن تتم في الحياة الثقافية. كان لا بدّ لها أن تأتي الى النور، لأنها القدر ولأنها الحاجة. انها الكتابة التي لا مفرّ منها، وكأن كُتب لها منذ البداية ان تكون موجودة. كُتب لها أن تنوجد لأنها الشعر المحض.
وأبي شقرا هو الشاعر الذي ترك أثراً كبيراً وعميقاً في شعراء من كل الأجيال، والذي دائماً اعتبرناه المُعلّم الأكبر في الصياغة الشعرية الحديثة كما في المهنية الصحفية وكذلك في ترجمة الشعر الأجنبي ومنه الفرنسي بشكل خاص، هو الشاعر الذي كان من المفترض ان يكون موجوداً بقلمه، بقصيدته، وهكذا كان، ناثراً موهبته على صفحات الثقافة بين مجلة «الثريا» اولاً ثم مجلة «شعر» ومن بعدها جريدة «النهار» وبشكل خاص من خلال 13 كتاباً وضعَ فيها عالماً شعرياً غنيا ً ومميزاً. كان عليه أن يكتب وأن ينشر إذ كان على قصيدته أن تولد وأن تنوجد، كان عليها ان تكون وهجَ الصورة وجماليتها المبتكرة ووهج الكلمة الفريدة، تلك الكلمة الشعرية التي لم يبلغ طاقتها سوى عمالقة الشعر.
لم يلجأ في تجربته الشعرية الطويلة التي تمتد على أكثر من خمسة عقود، لم يلجأ شاعرنا يوماً، كما قلتُ قبل سنوات في محاضرتي عنه، الى تقنيات غربية غريبة عن طاقته الشعرية الداخلية، تلك الخلاقة لأنها العفوية، لم يستفد يوماً من أي لعبة او تقنية غربية ممّا قرأ او ترجم، أكانت لعبة صورية او تعبيرية، إنما غَرفَ فحسب من عمقه الإنساني، من بئر وجدانه الثري. لم يتكل كذلك يوماً على أي نظرية أدبية ممّا صيغ في الغرب على أيدي شعراء ونقادٍ غربيين. إنما قصيدته هي التي أوجدت لنفسها طريقها وأسُسها، أوجدت لنفسها ركائز ودعائم الكتابة الشعرية. لذلك هي بعيدة كل البعد عن أي تفلسف تنظيري. فهي اُسس ودعائم غَرفَها أبي شقرا من كونية رؤيته الى الشعر والى العالم، اي الى الإنسان ومنه الى الموت والحياة. انها اُسسه هو وأتت من جعبته الشاسعة. انها أدوات لغته هو لأن «لغتي، مجرفتي»، لغته مجرفته كما عَنْونَ إحدى قصائده في الديوان الآنف الذكر.
انه المنهل والمصدر ومنه كم أخذ الآخرون من الشعراء الذين عرفوه وأحبوا شعره وحاولوه (حاولوه ولم يفلحوا) ! ظلّ شاعرنا محافظاً على نضارة عبارته وشفافية صورته وحيوية قصيدته التي لم تتخلَ حتى اليوم عن وهجها وبهجتها وتلويناتها على أنواعها. ظلّ الشاعر أبي شقرا رائداً حتى ما بعد الحقبة الريادية التي بدأت مع مجلة «شعر» وعميدها يوسف الخال. لم يضمحل رونق بيته الشعري مع الوقت بل زاد تألقاً مع مرور الوقت وكأن الوقت أخذ يتجدد في قصائده فلا يتعب ولا يكلّ.
لا تذوي كلمته عبر كتبه مهما تعددت ومهما اتسعت المسافة الزمنية في ما بينها. لا تذوي ولا تنضب. انها المتجددة المتوالدة دائماً وكأن شاعرنا لا يستطيع سوى ان يكون شاعراً في كل لحظة من حياته، في كل ومضة، في كل فكرة وفي كل حركة يتحركها. وما يؤكد ذلك، ميله الدائم الى الكتابة الشعرية حتى عندما يكتب مقالاً وعندما يكتب رثاءً وعندما يكتب محاضرة او أي مادة صحافية تخطر على البال. كل عبارة يطبعها على ورقته تأتي على شكل صورة شعرية فننسى اننا ازاء محاضرة مثلاً او أننا ازاء مقال او عامود من أعمدته الأسبوعية التي عوّدنا عليها في جريدة «النهار» سابقا ً.
شوقي أبي شقرا مَعلم من معالم الشعر اللبناني والعربي الذي ترك، كما أسلفتُ، أثراً واضحا ً وعميقاً في مجال الأدب عامة والشعر خاصة. كذلك في عالم الصحافة ترك بصمته الكبيرة. فمَن منا لم يمرّ على صفحته الثقافية في جريدة «النهار» عندما كانت «النهار» في أوجها والحركة الأدبية والثقافية في عزها، أعني في حقبته هو والتي لحسن حظنا جميعاً استمرت عقوداً طويلة، الأمر الذي انقذ جوانب كثيرة من الحياة الثقافية والصحافية في مهنيتها وأخلاقيتها. أنقذها من الركود والخمول، أنقذها من الفساد، فمنحها، اي حياتنا الثقافية والصحافية، الدفعة الضرورية التي تؤمّن فعل الابتكار. كم من شاعر تدرّب عنده على مهنة الصحافة الحرة وغير المبتذلة. كم من صحافي اكتشف نفسه صحافياً ماهراً في صفحته لأن ابي شقرا كان وراء اكتشاف الحَسن والأحسن، وراء دفع العجلة المهنية دائماً الى الأمام، وكم من شاعر اشتهر من خلال صفحته (صفحة ابي شقرا) الثقافية اليومية في جريدة «النهار» التي كانت تبرز وتشهر كل مَن ساهم في صناعة الخبر والمقالة عنده، من خلال تكراره ( اي اسم الصحفي والشاعر- الصحفي) شبه اليومي وظهوره على القراء.
إذاً، كم من مثقف وكاتب وشاعر وأديب ومفكر مرّ في هذه الصفحة المرموقة وبفضله كانت مرموقة، بفضل اندفاعه اللامحدود في سبيل القضايا الثقافية، بفضل تفانيه من أجل الكِتاب والمقالة والحوار والخبر، كل خبر أدبي ! وإشارة هنا الى انه كان دائماً في هذه الصفحة الثقافية الجندي المجهول، كان يعمل من أجل الصحافة بصمت وبتقشف مذهلين.
انه المُعلّم في مهنية الصحافة من أجل الثقافة، إنه المُعلّم في اللغة العربية، وبالمناسبة، ما أزال حتى اليوم، كلما احتجتُ الى مساعدة في الصرف والنحو، ألجأ اليه سائلة إياه حتى تصحّ عبارتي او جملتي.
وعودة الى صرحه الشعري، فلا بدّ انه أنجز عالماً متكاملا ً قائماً بذاته، قائما ً على أدوات القصيدة الصرفة، حيث لا نقع سوى على جوهر القول الشعري وجوهر التقنية الأبي شقرية وجوهر الأسلوب واللغة. انها الكتابة الشعرية الجوهرية وهي في كلمة أخرى، خلاصة الشعر الأنقى. انه مبدع الأبجدية الشعرية ومبدع أبجدية صورتها، انه النغم واللحن في كل بيت من أبيات القصيدة الحرة والطليقة، وهي كذلك، لأنها المبنية على متانة القول في وقته وفي مكانه. شاعرنا هو الذي يعرف متى وأين تتناسب الصورة والكلمة وهو الذي يعرف تاليا ً كيفية أسلبتهما. لا يستولي على الكلمة صدفة ولا يتبنى المفردة مزاجياً ولا يصنع الصورة كيفما اتفق، وذلك لأن الصياغة الشعرية عنده ليست بنت اي مجانية وليست طارئة، إنما العكس هو الصحيح، حيث للشاعر رؤياه ووعيه في اللعبة الكتابية وحيث للمبنى الشعري ركائزه التي لا تقوم أولاً وآخراً سوى على الجمالية الإستيتيكية الأصلية. وأعني بالأصلية، تلك النابعة من الشعرية المطلقة وهي التي عرفناها ولا نزال، في أعمال شوقي أبي شقرا.
الميزة الكبيرة والفريدة التي عرفها ابي شقرا في شعره، هو انه وكما أسلفتُ، لم يتأثر بتقنيات عقلانية أوغيرعقلانية أتت من الغرب، كذلك لم يحذُ حذو الكثيرين من مجايليه الأجانب والعرب واللبنانيين في اعتماد مكوّنات أسطورية وتاريخية وأدبية عالمية ليبني منها وعليها قصيدته. هذا ما قلته سابقاً وأكرره اليوم، فهو الشاعر المتفرد في صياغة عالم شعري لم يسبقه اليه أحد، ومن هنا فرادته وكونيته. انه وحيد في ابتكاره اللغة الشعرية هذه التي أسمّيها حكما ً ابي شقرية. فكما أشرت أعلاه، لم يأتِ من أي شعرية تنظيرية ولا من أي موجة كتابية كانت رائجة في حينها بين الشعراء العرب، عند بداياته، ولم يأتِ الى الشعر من أي أدلجة سياسية. أتى الى الشعر ناصعاً ونظيفاً من أي «تلوّث» تثاقفي. إنها الطهارة الشعرية التي مارسها ولم يتخلَ عنها. انه بذاته البئر الشفافة ومنها غرف، ولا يزال، كل طاقته الشعرية، الطاقة التي لا تنضب عنده. فلم يتراجع وهج قصيدته في أي من كتبه. بل كلما كتب ونشر كلما وقعنا في صفحاته الوفيرة على المزيد من المتانة الشعرية.
يصنع الأبجدية ويصنع الصورة، فهو صانع حرف القصيدة النابضة حياة في كل سطر وكل كلمة، صانع المفردة والبيت الشعريين من دسم الطبيعة ودسم ذكريات الطفولة وما بعد الطفولة، وأحبُ أن أعيد وأكرر نفسي هنا ايضا ً في ما قلته مرة عنه «فصاحب الزيز والنملة والضفدعة والغصن والجل والخوخة، هو قبل كل شيء صاحب الفتحة والضمة والألف والياء والضاد والتاء وكل أبجدية الشعر واللغة وما بعد الأبجدية». انه ألِف القصيدة وياؤها، انه الفنان الأكبر في رسم كل عناصر الطبيعة في تلاوين كلمات ترفرف فوق الأبيات الشعرية كطيور مزركشة وفرحة لتنطنط من صورة الى أخرى دون كلل ودون الوقوع في البهتان.
انه الشاعر الحديث والراهن، لأنه لم يكن سورياليا ً على الطريقة السوريالية التقليدية الفرنسية. بل يمكنني ان اقول انه لم يكن سوريالياً كما ظنه البعض ولفترة طويلة من الزمن حيث رافقته هذه الصفة عن غير حق وعن غير بحث عميق حول كتابته. هو الشاعر الحديث والراهن، إنما لأنه لم يتبع اي مدرسة من المدارس التي عرفتها أوروبا وأمريكا، أي انه لم يفعل كما سواه من الشعراء الذين أحبوا أن ينضموا الى مدرسة ما او فلسفة ما في الصنعة الشعرية. أنه الشاعر الحديث ودائما ً الراهن لأنه بدأ حرا ً وظلّ حراً من أي موضة، ونعرف ان الموضة موجة ذات مدة محددة وبعدها تموت وتنتهي. هكذا هي الموجات الأدبية والفنية كلها التي عرفناها، أقله منذ مائة عام ونيف، حيث السوريالية سرعان ما انطفأ وهجها والدادائية سرعان ما تآكلت واستهلكت نفسها والبارناسية بهتت ووقعت في النسيان وكذلك الرمزية الخ. هذا شأن كل موضة، اي كل نظرية عقلانية (مهما أدعت اللاعقلانية الشعرية كالسريالية وسواها)، فتنشر بيانها وقوانينها، تروّج لها لتأخذ قسطاً من الدعاية والشهرة، لكن لا بدّ ان يعود الشعر الى مجراه الطبيعي والشاعر الى طريقته الشخصية والعفوية. ما من شيء يدوم في الشعر وفي الفن عامة سوى ما يقوم على العفوية، وأعني بالعفوية وحصرياً، تلك التي أصلاً تقوم على وعي جمالي محض ووعي فني كبير نابع من الذات. في كلمة مختصرة، أعني بالعفوية ما يظلّ متحرراً من أي ايديولوجيا فنية (وسياسية) ليطير طليقا ً في مطلق الشعر الفذ كما لدى شوقي ابي شقرا !
فمنذ البداية، أي منذ أن ترك، ولو في قلبه غصة كما يقول، حلقة «الثريا» أواخر الخمسينات لينضم الى مجموعة شعراء مجلة «شعر» (وبالمناسبة ابي شقرا حاز في ذلك الوقت «جائزة مجلة شعر» عن كتابه «ماء الى حصان العائلة». وكان الثالث في حيازتها مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وأدونيس، ومن بعدهم توقفت الجائزة)، إذا ً منذ ترك حلقة «الثريا» وعى الشاعر تلقائياً وعفوياً، من خلال حدسه الشعري، مستلزمات الكتابة الجديدة المعاصرة ملتقطاً سريعاً جوهر اللعبة الشعرية الحديثة، ولا مُعلم له سوى ذاته. ويجب القول انه من باب الحدس فحسب شعرَ بضرورة الإنتقال الى مجلة «شعر» وأعتقدُ بذلك انه لم يأتِ الى هذه المجلة صدفة. بل قدومه اليها كان ضرورة حتمية لأنه في أي حال كان سيبتعد عن القصيدة الموزونة التي بدأ معها، كونه برز في حقبة مجلة «شعر» تلك، كأحد أهم أركان الكتابة الشعرية الحديثة التي كانت حاجة ملحة في المجال الأدبي حينها، وهو حدس بهذا الإلحاح الشعري الحديث والذي لا بد منه لتستوي القصيدة.
وجوده أساسي، شعراً وصحافةً (في مجلة شعر وفي ما بعد في جريدة «النهار» حيث أنشأ الصفحة الثقافية). انه الشاعر الأساسي في المشهد الشعري اللبناني والعربي.
مُعلمٌ في رسم الصورة الشعرية وفي نحت بيت القصيدة، مُعلّمٌ في ضرب قلمه الفذ حيث بلوغ منتهى القصيدة بنيةً وصياغةً وهيكلةً، منتهى التصوير والإيقاع. انه الشاعر المغامر الذي أسس لشعرية جديدة تركت أثرها الكبير على شعراء كثر، تركت أثرها على القصيدة الحديثة ككل.
v
شوقي أبي شقرا
اللون الأصفى في القصيدة
سليمان بختي:
كاتب وناشر من لبنان.
لا يزال الشاعر شوقي أبي شقرا منذ ديوانه الشعري الاول «أكياس الفقراء» (1959) وحتى « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» (2004) دار نلسن للنشر- يحوم على المعنى المستحيل كما يحوم القلب على الذهن على حد تعبير الشريف الرضي، يراقب النجمة في اول السطر ويرافقها غالباً الى منزلها المنيف. وسأكمل شعراً ما وددت ان أقوله مقتبساً من قصيدة له من كتابه الاخير «تتساقط الثمار …» وهي بعنوان «أصفق للحياة وقوفاً»:
« لا ازال الورق الاخضر والاقوى وليس الورقة والطيور
من حراب النور
واللون الاصفى في لوحة الافق.
واصفق وقوفاً على الحجر للحياة
والطويل الإهاب
والمغني المزدان بالأوسمة
من والدته الطبيعة»
حكاية الشاعر شوقي أبي شقرا مع الشعر هي حكاية العمر كله. حكايته مع الكلمة التي صارت انساناً، والانسان الذي صار هو المكان، والمكان هو الاثر، والأثر هو الرمز، والرمز هو الشعر.
من زمان اضطجع شوقي أبي شقرا على الطلل والعرزال وعلى المطلع والقوافي والاوزان. وانهمك في صياغة قصيدة مشغولة من طفولة وغياب، من طبيعة وصور، من أسى ودهشة وخيال، من عزلة وتعب ولعب. ولبث يقترب شيئاً فشيئاً من وهج الحقيقة مدركاً ان الشكل باهظ التكاليف أو انهم سيسيئون تفسيره حتماً. وانه سيمشي حافياً فوق الجمر ليدل الاخرين على جمال جديد، على المغامرة القصوى، على أفق مغاير للقصيدة العربية الحديثة. وان يوضح مراراً ما التبس او غمض. ليس فقط ان تخرج الى شكل جديد بل ان تحمل المعنى اذ يشرق من شق العبارة الى الحرية، وتحتفي بالكلمة قطعة من الحياة، غرزة من الامل، حفنة من خلاص:
«وهات الكلمات للخلاص
من الاخطبوط،
لنرشفها ونشفى من الحنين
أيها الصائغ»
(قصيدة القلادة )
من مجموعة «تتساقط الثمار …..»
كانت لديه منذ البداية لغة مغلقة على الكنز وقادته عصا الغابة الواسعة الاجنحة، وقادته عصا الخيال والحجر لان يزحزح الباب العملاق. كان له من الوجد كل الوجد، ومن الهوى الفة الهوى، ومن الشوق ما شاق على الشاعر ان يحمل او يرود.
جاء شوقي ابي شقرا الى الشعر من الطفولة والخيال مثلما جاء ايضاً من المشقة والشغف.
حمل زوادته وكتابه ومشى. ادرك منذ بداية الرحلة التي غاب عنها والده حصان العائلة باكراً. ان المعارك امامه وفيرة وانه سيعيش في الفقدان ولكنه سيرفض الانصياع لقانون الحياة والعادة. هاجمته قسوة الحياة لأجل رجولة مبكرة فرفض التخلي عن الطفولة او خسرانها. وهاجمه ايضاً التشتت في الأمكنة فرفض ان يخسر المكان الاول المكان الاصل رحم القرية ونبع الريف. وهاجمه ايضا الواقع بضراوة فرفض ان يخسر الخيال، عالمه السري السحري . مشى وكتم رغبة في الانتقام من الحياة وكل ما يمكله اللغة والكلمات وزوادته القليلة . أذكر أني سألته في حوار لكتابي « إشارات النص والابداع» قلت مرة انك صرت شاعراً لتنتقم من الحياة، سؤالي هل انت راض ٍ عن الحياة ام عن الانتقام؟ صمت برهة ثم أجاب « أعتقد أنني انتقمت من الحياة دون ان أجرحها. لكن عبرت عن الذي عبرت عنه بطريقة انتقامية وشريفة ونبيلة. وكما يقولون بالفروسية أي الذي يقلب الآخر عن الحصان هو المنتصر. أنا قلبت الحياة وانتصرت عليها بهذه الطريقة. لم يكن لدي طريقة أخرى ولا سلاح. سلاحي القلم والخيال. هذاالخيال الذي أوصلني الى أبعد ما يكون وهو الذي أرضاني وجعلني من أكون. الخيال العظيم. وأعترف ان ما لدي من الخيال لا يملكه أحد. وربما جر علي مشاكل وصعاباً».
كيف يولد الشاعر من الخيال؟ كيف يولد الشعر في الحقول؟ وكيف تولد القصيدة في البساتين؟ ورث شوقي أبي شقرا عن اسلافه نقاوة النظر الى التلال. رأى كيف يتحول عنقود العنب المتدلي من العريشة الى عنقود الصور المتدلي من اللغة. وشاهد كيف تدنو اللغة من المعنى النادر ويقترن المعنى بضيافة الامل بعناية الالم بحرقة الغياب.
لا أعرف من قال ان الشعر هو حضور الغياب. غاب الوالد وغابت الطفولة وغاب المكان. وحضرت اللغة والقصيدة والخيال. وحضر أيضاً الحنين ذاك التلمس الأعمى لإعادة تشكيل عالم غائب. حنين ازلي الى جنة مفقودة. حنين متواصل الى مكان كلما اقتربنا منه تناثر او توارى. هذا الحنين بات التجربة الأصلية التي وحدت هذا العالم، ومن خلاله وحدّ أبي شقرا المسافات بين الذات والمكان والروح وبين القرية والمدينة والكون.
صنع أبي شقرا مساره من الداخل ولم يستعن بخطاب او اسطورة. قريته هي اسطورته ورمزه، قريته هي عالمه، وتجربته الشعرية هي تجربة الحقيقة الوجودية الكيانية، ورفع الواقع الى عالم الخرافة. وبذلك غدا شوقي أبي شقرا شاعر المكانية اللبنانية المفتوحة على مداها الانساني الشمولي الرحب. واختصرت مغامرته الشعرية جوهر الحياة في لبنان وألوانها ومداها المفتوح على النقد والاختبار والتسامح والتنوع واحترام الآخر. مع شوقي ابي شقرا بتنا نعرف كيف تستقبل فسحة الخيال في قريتنا طفلاً يلهو. وكيف تستقبل الحياة في عالمنا شاعراً لا يشبه احداً. واكتشفنا في صوته صوت التطهر من الآثام والمرارات. صوت الفضاءات في المكان والروح والاشياء. صوت نكران كل شيء الا حقيقة الذات. صوت الخيال حين يضج بأعنف صوره وتشكيلاته. صوت الجمال المسكوب في الكلمة والمتأنق في العبارة والمتجهد في حضرة الطبيعة الارض الأب – الام- النبع- التعزية.
ماذا يريد شوقي ابي شقرا ؟ يريد من الحياة ان تظل تدهشنا ونكتشف فيها كل هذا الغلط الوجودي الذي يستحيل شعرا ً الشعري رغم القدر والأشواك. يريد من الطفولة ان تسكننا كالملح فلا نفسد ابداً.
يريد من اللعب طرافته وغرابته ولو اننا على حافة الهاوية والمأساة فلا يفني الامل ولا يبيت الرجاء في العراء. يريد ان لا يأتي شعراء أقل من القصيدة لأن هذا يدفعه الى الخوف والحزن.
يريد ان نظل نحمل حيلة القول، وذروة الكمال الملقى على كاهل الانسان اولاً وأخيراً.
هذه الرحلة الوجودية الجمالية الصوفية المنتظرة دائماً بكل جديد وقشيب تجعلنا نسأل ماذا يفعل شوقي ابي شقرا اليوم؟
بعد ثلاث عشرة مجموعة شعرية، وريادة في فتح الابواب وتمهيد الطرق، وبعد المشقة والشغف، وبعد المشوار الذي سلخه من الطبيعة الى مدرسة الحكمة والقسم الداخلي فيها الى التعليم في المدارس والمشي الطليق في شوارع بيروت وركوب الترامواي، الى حلقة الثريا 1956 الى مجلة شعر 1959 والمغامرة الكبرى الى الصحافة وجريدة «الزمان» وجريدة «النهار» وصفحاتها الثقافية، الى السعي اللانهائي لأجل القصيدة، الى الطرقات التي وطأها ولم يعكف شوقي اليوم على كتابة مذكراته شهادة للزمن الآتي والآني والذي عبر، وثيقة لمن يؤثر معرفة قصة القصيدة العربية الحديثة، ولمن يودّ ان يعرف كيف انضمت التباشير وحلقت الطيور في سماء خفيضة ووسيعة وصنعت الربيع.
وها أنا كلما زرته في بيته في الأشرفية أطمئن الى وجود ذلك الخاتم في أصبعه، خاتم الطفولة الذي يضيء الطريق كلما هبطت الظلمة وأليل الليل.
وأخيراً، أود ان أروي صلتي به كناشر لكتبه الاربعة الاخيرة التي صدرت في دار نلسن للنشر لبعض طقوسه في التعامل فهو مثلاً لا يعطيك المخطوطة الا قبل ان يشعر حقاً ان الكتاب صار في فضاء خلفه. وحين يعطيك المخطوطة فيقدمها اليك كمن يستل اوراقاً من قلبه او قطعة من ذاته. ينظر في انسان عينك كأنه يأتمنك على اسرار عاشت معه طويلاً وحان وقت ولادتها الجديدة.
أذكر حين صدر كتابه النثري الشعري الجميل «سائق الأمس ينزل من العربة» عام 2000 انه اتصل بي في مساء متأخر والكتاب في المطبعة وقال أريد ان أغير العنوان من «الامس محمولاً على عربة» الى «سائق الامس ينزل من العربة» فقلت له «طبعا نغير ومن يقدر ان لا يغير العنوان لجوهرجي الشعر ولسيد العناوين على مدى ثلث قرن في الشعر العربي والصحافة اللبنانية».
وبعد، شوقي ابي شقرا من الشعراء الكبار الذين تعرف قصائدهم ومفرداتهم وعوالمهم وحتى ولو لم يوقعوا. انه على ما يقول فاليري «شاعر اللغة داخل اللغة».
وامتيازه في ذاتيته الحادة لغة وخيالاً وخربطة علاقات وإن كان لبعض الشعراء أهمية في تاريخ الشعر ولبعضهم الآخر أهمية في فن الشعر فإن لشوقي أبي شقرا أهمية في كليهما، وأيضا في أبجدية الكلمة والصورة.
ذرف شوقي أدق التعب وأرقه على تجربته. انه الشاعر الحق الذي يحتفل بالحياة ويصفق لها من بعيد ويحملها بأوجاع يديه حتى يبقى للأمل والجمال المكان الأبهى الأمثل والبين في مسارنا الشعري العربي، ويبقى هو اللون الأصفى في لوحة القصيدة العربية الحديثة.
v
شوقي أبي شقرا
وجمالية الحداثة
قيصر عفيف
شاعر من لبنان وصاحب مجلة «الحركة الشعرية».
مع حركة الحداثة بدأ الخروج من قواعد الكتابة القديمة. تبدلت القواعد والاجواء وخرجت القصيدة بألوان وحِلل مدهشة أعطتْ الشعر العربي المعاصر وهجاً جديداً. وكان لا بدّ لهذه الحركة الجديدة المندفعة منذ خمسينات القرن الماضي الى شاعر عملاق يرشد خطواتها، يحدّد معالمها، يرسم مسيرتها ويحرس لغتها. وجاءها الشاعر شوقي ابي شقرا الذي راح منذ بداياته في مجلة «شِعر» اولا ومن ثم في تأسيسه وإشرافه على الصفحة الثقافية في صحيفة «النهار» اليومية يخترع جمالية جديدة للشِعر العربي المعاصر ويوجّه الاجيال الجديدة نحوها. فما أبرز سمات هذه الجمالية التي نراها في أعمال هذا الشاعر الفذ؟
في العصور الماضية كانت تُقاس الحضارات بما تنتجه من فنون. فاليونان، والالمان من بعد، اعتبروا ان الحس الجمالي مركوز في جبلة الانسان. ولهذا لم يكن غريباً أن يقول غوته (1749-1832) مقولته الشهيرة :»على الانسان ان يسمع في كل يوم قليلا من الموسيقى، وأن يقرأ قليلا من الشِعر، وأن يتأمل لوحة او منحوتة حتى لا تطمس مشكلات الحياة اليومية الحس الجمالي الذي زرعه الرب في القلب». ولكن بعد ان ضربت الحروب اوروبا تبدلت الاولويات. وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تزعزعت القيم التقليدية والاخلاقية ولم تسلم الفنون من هذه الخلخلة وخصوصا الشعر. فبدأ الناس يتساءلون عن أهمية الشعر ودوره وقيمته في الحياة المعاصرة حتى أن بعضهم بشَّر بأفوله وموته. وانتقلت هذه العدوى الى العالم العربي مع حركة الحداثة وكان على الشعراء أن يذكّروا الناس ان الشعر من جوهر الانسان ولن تقف امام الشاعر عقبة تمنعه من الخلق. أدرك الشعراء ان الخطر على الشِعر يأتي من الناشر الذي ترك للسوق ان تحدد الأهمية والأولوية. والناشر اعتبر الشِعر هامشيا سطحيا لأنه لا يدر المال . أما الشاعر فكان يرى ان الشعر جوهر الوجود لأنه يكشف عن جوانب خفية في التجربة الانسانية.
في هذا السجال وقف الشاعر أبي شقرا يؤكد الا زوال للشعر. أعلن بوضوح: «… أما الشِعر فهو الأخضر ولا قدرة لأحد على ان يلفّه وأن يقدّده ويعلقه في السقف مع البصل والثوم.» (سائق الامس ينزل من العربة، دار نلسن 2000 ص 174) ويضيف مشدداً على أهمية الشعر في عصرنا قائلاَ: «ولا عجب ان يسبق الشعر كل المبتكرات فهو، في عصرنا، وفي حقبتنا الآن، يأخذنا أكثر الى حيث تأخذنا الألكترونيات، الى الاوهام الراقية.» (سائق الأمس، ص 175) ويؤكد أيضا ان الشِعر نشاط ثقافي روحي أي انساني بامتياز يتجاوز العادي والمألوف وما دام في الانسان قلب وشعور وأحاسيس فالشعر قائم. «ووظيفته ان يسرّك وأن يدخل الى عبّك الى صدرك، وأن ينقلك من حيّز الى حيّز، ومن بهاء الى بهاء.» (سائق الامس ينزل من العربة، ص 175) ويرى الشاعر ان من اهمية الشعر أيضا انه يحفظ اللغة وينقذها. يقول: «ولا تجد هذه اللغة تجمد أو تموت، بل ان الشعر هو المنقذ وهو الثريّ جداً يقلّمها ويرويها في حكايته، في مغامراته، في سهوله الخصبة…فهذه اللغة تتعالى عن الواقع وتذهب في اتجاه غير ترابي غير أرضي.»( سائق الامس، ص 176).
لا أعرف شاعراً رفع من شأن الشاعر والقصيدة كما فعل شوقي ابي شقرا. لم يترك مناسبة الا وتناول أهميتهما. فهي «الفانوس وقت الخراب» والشاعر «من السلالة النورانية والساهر على اللعبة والقوة فيه زهرة طالعة».. . والقصيدة «فتاة يطل عليها الشاعر ويسقيها من عمره جرعة الخمر، ويمنحها صفة الارتفاع وبلوغ النضج»(سائق الأمس ص 119) وتكون معاناة الشاعر على أشدّها حين تغيب هذه الفتاة لأنها تتركه وحيداً ضائعاً هائماً . إسمعه يحدثنا في نثره السحري عنها:» ولا يشقى (الشاعر) ابداّ إلا حين تهرب منه، تهرب القصيدة إلى أبيها ثم يسرع من المتكأ إلى الخارج ويخطف القصيدة من ذويها،من أبيها، من خالتها وأمها، ويذهب إلى السوق ليشتري لها الخلخال والحجر الأزرق والقلادة……وتظهر في الإطار الزجاجي هكذا وهي تضحك للزوّار وفي يدها الباقة، باقة العهد.» (سائق الأمس ص 273).
تمنى الشاعر ان تأتيه القصيدة جاهزة، جميلة، كاملة الاوصاف. والحقيقة انها لا تأتيه إلا بعد عناء. فالخلخال والحجر الأزرق والقلادة بحاجة الى صائغ ماهر. والشاعر جوعان والقصيدة سمكة لكنها لا تأتيه جاهزة مهما طلب منها:
طلبنا من القصيدة بجمال ساقيها
وبهاء معدتها وأملس البطن
أن تأتي مقلية او مشوية
على صينية النادل
فلم تأتِ لأنها منهمكة في الماكياج
وطلبنا من السماء الرأفة
فلم تقبل ان تلتفت.
(تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة) دار نلسن 2004 ص 181
واذا تساءلنا كيف يزيّن الشاعر فتاته، قصيدته ويجمّلها؟ يجيبنا ابي شقرا ببساطة ان أداة الشاعر الأهم هي خياله. كلمات المعاجم أدركتها المعاني، أسرتها في خانات وحددتها. يشعل خيال الشاعر ناراً في اللغة ويبدع لغة داخل اللغة. يحمّل الكلمات المعاني والصور التي تعجز عنها المعاجم فتترك معانيها المتعارف عليها وتلبس ثياباً لم تألفها من قبل. يقول في قصيدته « نيران الأسطورة» من مجموعته تتساقط الثمار ص 79: «وأدَعُ خيالي يلعب وخيالي». وفي «سائق الأمس ينزل من العربة « ص 143 كتب « وأتكلم في خيالي مع خيالي». ولكن ما الخيال؟ انه ذكاء يلعب داخل الدائرة وخارجها، فوق الحدود وتحتها لا حدود تحدّه ولا عقبات أمامه. الخيال ذكاء تخلى عن الألاعيب الفكرية والمماحكات النظرية وراح يلعب على مسارح الإبداع بالكلمات والصور فتأتيه القصيدة نتيجة هذه اللعبة الذكية. أنه حصان مجنّح يحمل الشاعر الى عوالم لم تولد بعد يستمد منها رؤاه ويحدد نظرته الى الكائنات. في خياله الخصب والمشرّع على الاتجاهات يكمن السر في غرائبية هذا الشاعر الذي ينقلك من غرائبية إلى غرائبية، من دهشة إلى دهشة، من فصاحة الى فصاحة، لتحملك قصيدته الى ألوان جديدة وبهجة جديدة وكلما عاودت قراءتها كلما ظهرت لك زوايا كانت خفيّة ومعانٍ كانت محجوبة. إنه الخيال الفريد يبدع رموز القصيدة، يرتّب صورها، يطرّزها، يصقل نتواءتها ويزرعها بالكلمات «النادرة الريش» على حدّ تعبيره. أسمعه يتحدث عن علاقته مع خياله:
أملك الاسطبل حيث خيالي
يمرح بي ويسرح فرساً أو نعجةً تهمدر
أوعنقاء تسافر على طريق العين
وفي مطار الامنيات
سائق الأمس، ص. 44
لأنه اعتبر ان الخيال عند الشاعر هو حجر الزاوية في البناء الجميل للقصيدة، عارض ابي شقرا شعراء جيله من عرب وأجانب الذين اعتمدوا الاساطير في أعمالهم الشعرية وبنوا قصائدهم عليها واعتبروها ضرورة تمنح القصيدة رحابة ومدى وأبعاداً. ويشير إلى ذلك في أكثر من قصيدة وأكثر من نصٍّ نثري. يرى ان على الشاعر ان يترك الأساطير على رفوف الكتب ويستمد موضوعاته من الشارع والبيت والمدينة والناس والأرض وكل شيء حوله ويُعمل خياله ليبدع البطل الخاص به ويكون ابن بيئته بدل ان يستعيره من بطون الاساطير، صفحات الكتب وأخبار الآخرين. يتساءل أبي شقرا : «لماذا نرغب ان ننطح بسيف غيرنا وأن نصل من هذا الباب الى العمق الوجودي والكيان الأصيل الذي هو الغاية والرسالة» (سائق الأمي ينزل من العربة ص. 354) وليحدد موقفه استعار اسطورة عوليس وكتب شارحاً: «ولا نستقبل الممثل العوليسي بل نلتفت إلى منظر آخر، يقع في ناحيتنا، في جغرافيتنا، ونبرهن له أننا نسافر ونرحل معا ونحن على مركبنا، على خيالنا، ونبصر البحر من لوننا الأزرق….ونظل أحرارا من الاسطورة كما ولدتنا الأمهات. ونضع عوليس على الرف، ورفاقه وعجائبه، ونصنع الجميع دمى لنلهو بها ساعة نشاء، ونرسم على الحائط بطلاً منا كي يحيا وينتقل من العدم إلى الكينونة.» (سائق الأمس، صفحة 233) وحده الشاعر الذي يخلق أبطاله وموضوعاته مما يراه حوله يستطيع ان يقول:
ولي شعلتي الوحيدة الوهج
لا تفنى ذبالتها،
ولا استعير من بنات القمر الصوّان والقداحة،
إنها راسخة في درعي
وفي الشمعدان،
ولا يوما إلى الرقاد
ولا يتعدّى على املاكي أيّ صيّاد.
( تتساقط الثمار والطيور، ص 80 )
وحتى تشرقط القصيدة في جمالها الخاص يلزمها ان تكون مغلّفة الجوانب بالغموض. يرى الشاعر شوقي ابي شقرا ان البساطة، كما الوضوح، تقضي على النص كما السوسة على الخشب. فالبساطة الموغلة صنو السخافة لانها تُفقِد النص أبعاده. وهذا منحى جمالي تناوله الشاعر أيضاً في قصائده ومقالاته النثرية وأحاديثه الخاصة. وأفرد فصلاً كاملاً من كتابه «سائق الأمس ينزل من العربة» سمّاه «السهولة قاتلة للنص والقصيدة» يتحدث فيه عن الذين يعتمدون السهولة في نصوصهم، الشعري منها والنثري، يقول عنهم انهم يظنون انهم يبدعون الصور والرسمات ويفعلون الحسن والأحسن ولكنهم «في غير هذا المجال، في حالة من السهولة التي إن دخلت في المرء، في الإنسان، في الفنان، فقل انها السوسة وإنها تعطل الإبداع، والرذل والأشاحة هما أقلّ العقاب واقلّ اللامبالاة تجاهها» ص 181. وحتى لا تتعرض اعماله للإهمال والرذل على الشاعر أو الكاتب ان يتخلى عن هذه السهولة القاتلة فلا يبقى على السطح بل يعمل على الدخول إلى الابعاد والأعماق يصطاد منها معانيه وصوره. مرة اخرى لنسمع كيف يشير إلى ذلك:
«انها السهولة التي نطردها من باب الدار، ونردّها الى السياج، لتلعب هناك في الحقل، وتتمرّن على الطعام، وعلى إرسال منقارها في الأرض لالتقاط الغذاء، الى ان ترتفع من مرتبة الدجاجة إلى مرتبة الصقر الذي يرى من عليائه مثلما يرى من الأسفل…. أو هو القارىء الذي يبصر اللمعة والقصيدة واللوحة…. وعندئذ يأخذ من هذا الموضع كنزه، ويروح يتباهى بأنه حصل على اللذة…وأن اللذة مستعادة، فلا تكون مرة واحدة، بل مراراً ويكون الطيران والتحليق جزءاً من اللعبة» (سائق الأمس، ص 182)
ومِن صفات الجمال ايضا ان يكون الشاعر فردا مميّز الأسلوب والصقل والتركيب. فالشاعر الذي يُكرِّر أنماط السابقين، أساليبهم، وطرقهم يعرض قصيدته للابتذال. يقول ابي شقرا «إن الشاعر الذي ننشده يختلف عن الكلمات السابقة والشعراء السابقين» (سائق الأمس ص269).على الشاعر اذن ان يكون دائم الابتكار والخلق ليكون له الاسلوب الخاص والنكهة المميزة. فالشاعر، بتعبير أبي شقرا، هو «أبو الخليقة بدءاً من الله، ووصولاً إليه» (سائق الأمس، ص.264) وبهذا المعنى لا يتكرر أبداً ولا يتشابه مع سلف او معاصر. لا يسكب من صحن غيره ولا يصب كلماته في قوالب غيره، ولا خلاص له إلا اذا كان فريداً يحمل بصمته الخاصة يتركها على اللغة ويبدع بها لغة جديدة. ويحذّر ابي شقرا قائلاً: «علينا ان نهرب من اللغة إلى اللغة لئلا نتشابه ونقف في الصف ونصير الصحراء التي تشابه رملها، والنخيل هو ذاته والسعف والثمار.» ( سائق الأمس، ص 120) وباختصار كلما تنوعت الورود والازاهير في حديقة الشِعر كلما ازداد جمالها وسطع رونقها.
ومن علامات الجمال في قصيدة أبي شقرا استعماله كلمات من اللغة اللبنانية المحكية يطرّز بها النص. ولا غرابة في ذلك لأنه من بيئته، ناساً وجغرافية ومؤسسات استمدَّ موضوعاته. تراه «يحتطب من بيداء اللغة» (التعبير له) ليشعل ناراً في القصيدة فهي لا تأتيه كما يقول جاهزة من فانوس علاء الدين وجنيّاته، ولا يشتريها كما السكر والباذنجان من الدكان. عليه أذن ان يصقلها بحنكته، يصوغها بموهبته ويلّونها بعبقريته الخاصة. فالى بعض الذين عابوا عليه استعمال الكلمات العامية في نصه أفرد امثلة تشير إلى كيف استطاع ان يأخذ الكلمة المحكية ويركب صورة شعرية جميلة تقف على قدميها وترفع رأسها. قال في مجموعته «نوتي مزدهر القوام»، دار نلسن 2003، ص. 136 «وقجّتك تمتلىء بالنُور». لو استبدل «قجتك» بـ «محصلتك» ألا تنكسر الصورة وتجرح سمعنا وتخسر شفافيّتها؟ او كيف تستبدل كلمة «الكمشة» في الصورة التالية دون ان تخدشها؟ «وترسل الكمشة من المسك» (نوتي مزدهر القوام ص. )45 ثم ان كلمة «كمشة» تعني ما تعنيه في المجتمع اللبناني ولو بدلّناه لخسرت معناها المقصود والمتعارف عليه في المجتمع اللبناني. أو كيف تستعيد حياة القرية اللبنانية لو استبدل كلمة «مشاوير» في قوله :» ولا مشاويرإلى نسيم نشمّه» بكلمة أخرى من الفصحى؟ ولنأخذ مثلاً آخر: « ومن سكارى نفرت عيونهم إلى الامام، وإن سقطتْ نلمّها بالمحرمة» أو هذه الصورة « أبو الحن بالفوطة البرتقالية تحت ذقنه» ( نوتي مزدهر القوام، ص. 37) أترانا نستطيع ان نستبدل «المحرمة» و«الفوطة» دون ان تخسر الصورة لبنانيتها؟ اذن فالشاعر أبي شقرا ابن بيئته أخذ المفردة من لغتة المحكية لكنه عرف كيف يسكبها في النص لتكسبه جمالاً في الصورة ودقة في إداء المعنى المقصود. كيف لا نتذكر اذن، ونحن نقرأ شعر أبي شقرا، مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر بأن الكلام المحكي شعر.
ومن جماليات الحداثة عند ابي شقرا ألّا يلجأ الشاعر الى الأشكال القديمة والأوزان الخليلية لأن هذه لم تعد تناسب العصر أولا ً ولأن الشعر لا يقاس بالاوزان والقوافي. ولعله هنا يعيد المقولة النقدية عن العرب القدامي الذين ميّزوا بين الشاعر والنظّام. فليس من الضرورة ان تحدّد الاوزان جوهر القصيدة فالمقصود شيء آخر مختلف تماماً. يذكّرنا انه بدأ الشعر خليليلاً ولكنه تخلى عنه. اسمعه يقول عن تجربته في كتابه «سائق الامس، ص. 270
ا وترغب ايضاً في إلباس الشاعر زّيه اللائق، لا ان يرتدي ثوبا ليس أنيقا وليس لا ئقاً بك….إذ لا القافية ولا الوزن هما مسألتك او ميدانك، بل انك مررت على الخيمة وصافحت الملك الخليل ابن احمد، واعتذرت من القافية، لانك بدأت المشوار إلى الكروم معها، وخطبت الشمس من إصبعها، وأدخلت الخاتم في سياقها، في مرونتها، في لهبها، في لحمها.»
منذ مجلة «شِعر» وعلى مدى عقود كان فيها القيِّم على الصفحة الثقافية في صحيفة «النهار» وقت كانت هذه الصحيفة في تألقها السابق، كان شوقي ابي شقرا «النوتي المزدهر القوام» وسائق العربة الجمالية في أدب الحداثة من نثر وشِعر. تسنَّى له في هذه العربة أن يرسم طُرق الجمال في الابداع الادبي ويحدّد معالمه لأنه أُوتي حاسة جمالية رفيعه مع ذوق لغوي عالٍ ورشاقة في التعبير عَزَّ نظيرها. على يديه تطوّرت اللغة العربية وتزيّنتْ فجاءتْ أكثر طراوة وصفاء، أكثر رهافة وليونة، أكثر غنى ودقة في التعبير. صارت صفحته الثقافية الشعلة اليومية تضيء طريق الجمال لأجيال فكان له الفضل على كثيرين وكاتب هذه الكلمات واحد منهم. أتراني أغلو حين أقول ان ابي شقرا قيمة جمالية حين كان سائق الامس واليوم لانه لا يزال يقود في كلِّ ما يكتب عربةَ الجمال نحو الأحلى والأسمى والأكثر تفرداً وتميّزاً في عربة العربية المعاصرة.
v
شوقي ابي شقرا
في حلقة الثريا
جان دايه
كاتب وباحث من لبنان.
لو كانت المنبرية معيار الشعرية الوحيد والأساسي، والمهرجانية الخطابية بطاقة دخول الى الجمعيات الأدبية وتسلّم مسؤوليات رفيعة في هيئاتها الإدارية، لما كان أحد سمع بالشاعر المجدد شوقي ابي شقرا. ولحسن حظ الشعر والجمعيات الأدبية ذات الثقل الشعري كحلقة الثريا، فإن الموهبة والإجتهاد الجدي المتواصل والمفجر للمواهب والنتاج المبدع، والعمل الشاق الصامت في المؤسسات الثقافية ودورياتها، كانت في خمسينات القرن الماضي أحد المعايير الرئيسية- ولا اقول المعيار الوحيد لأن الجمعيات الأدبية وصفحات الدوريات الثقافية مليئة بالشعراء المهرجانيين والخطباء- أما اذا التقت المنبرية والمهرجانية والشاعرية في الشاعر الموهوب كما هي الحال مع الشاعر والناثر نزار قباني، فيكون «زيت على زيتون» على حد تعبير الشوفيين وشوقي منهم وإبن احدى قرى قضاء الشوف في جبل لبنان.
كان شوقي دون العشرين ربيعاً حين بدأت مجلة «الحكمة» البيروتية تنشر بعض قصائده وقد سبقت غيرها من الدوريات الأدبية اللبنانية. كانت «ذهب» باكورة قصائد شوقي في «الحكمة» وقد نشرت في عدد نيسان (ابريل) 1955، وفي الصفحة نفسها المنشورة، قصيدة «الى أسمر» لجورج غانم. قال في القصيدة الموزونة المقفاة التي توحي مكان ناظمها شاعر محترف:
«هذه الأوتار المهذبة التحنان، ترغي برغوة صوفية
هذه الغمرة الوليدة منها قد كستني بكسوة الحرية
بللتني كما يبلل ينبوع رهيف اضمامة وردية
غسقٌ طاب بعدها موئلاً للشعر طيب العصفور في أغنية
طيب غيم تحت السماء وطيب الغيم فوق المسارح البشرية».
وتتابعت القصائد بصورة دورية في تلك المجلة الأدبية الشهرية. فيسألها شوقي في قصيدة «سرور» المنشورة في عدد أيار (مايو) 1955 :
«هل نظرتِ السهولَ يشمخ فيها
زيزفون وسنديان مماثل ؟…
والبراري التي عليها أكاليل
وعيدانٌ فاغمات الجدائل ؟»
يضيف، ودائماً اليها :
«هوذا الحنبلاس قد ظهر الحَبُ
عليه وناتئات اوائل
لملميها وهدّئيها بحضنٍ
حضنك الفاتن الأنيق الشامل»
الى ان يقول :
« انظري المؤمنين اي غموضٍ حلّ بكراً في خطوهم للهياكل».
ونقرأ في «فجر» المنشورة في «الحكمة» عدد حزيران (يونيو) 1955 :
«هو طفلٌ من التباشير مئنافُ سريرٍ وشبه طفل المهادِ
وغلامٌ له البعاد شغوفاً رفضتع البلاد الا بلادي
أهلها يحرثون ارضاً لتعطي
ويشقون صدرها المتمادي
عندهم معولٌ يحثحث ترباً بانقلابٍ ولهثةٍ وجهاد»
في عدد تموز (يوليو) 1955 نشر شوقي قصيدة «ميميا».
وفي قصيدة «انفراد» المنشورة في عدد آب (أغسطس)، والتي يوصينا الشاعر بأن «نقرأها متمهلين»، نقرأ وفق الوصية :
«انا وأنتِ وحدنا… وسط غاب
أسوده لطيفة… والذئاب
انا وأنتِ وحدنا … في جنان
وعندنا الزمان غير زمان
وليتنا، ثم، نكزنا الكمان
بريشة مجلوة… ليتنا»
وفي العام نفسه 1955 توفي الشاعر صلاح لبكي الذي كان يرأس «جمعية أهل القلم» فرثاه شوقي بقصيدة في عدد ايلول (سبتمبر) قال له فيها عبر ابيات غير تقليدية:
«نشأت على دنيا من الشعر بضةٍ
ودنياكَ أثراها رشيق تلفّتِ
بها الهمسات الحور غراء تلتظي
وفيها انثلام الريح بين شجيرة
ذرأتَ فرادى في القريض نقية
ً وحلّقت بالأهزوجة العربيةِ
رقيتَ بتحديدٍ الى مسمع الورى
وشنّفتَ أسماع الورى بنقيةِ»
واحتلّت قصيدة «ميلادية» المنشورة في عدد كانون الثاني (يناير) 1957 صفحة كاملة، وقد أهداها «الى والدي الميت الحي» وقال في مطلعها :
«أهدني يا يسوع في الميلاد
دميةً تستحي كمثل فؤادي
أهدني والدي الذي مات عني
وأنا بعدُ أصغر الأولادِ
فرسا ً يعلو بي الى حيث لا قا
نونَ للظالمين والأسيادِ»
اضاف مخاطباً صاحب العيد بلغة «خوشبوشية» يتداولها عادة المؤمنون الحقيقيون مع قادتهم التاريخيين :
«يا أخي يسوع عيدك هذا
كالندى في عرمرم الأعواد
واصلٌ يا رفيق مني الى قدْ
ركَ شعري وسمعتي وودادي
جلْ بمغنايَ…ليس هذا رديئا
انه مغنىً مثلُ مغناكَ عادي
في زواياه مبلغ من قصاصا
تي وحبري وريشتي وعنادي»
تميزت هذه القصيدة عن سابقاتها، ليس فقط بصورها الشعرية الحافلة باللمعات الإبداعية، بل أيضاً بالإهداء والتوقيع. حين نعلم ان والدة الشاعر توفيت منذ اشهر قليلة، نفهم أكثر لماذا اهدى والده، المتوفى منذ 55 سنة، القصيدة، في الوقت كان سائر الشبان يتلقون الهدايا من آبائهم. اما التوقيع، فلم يقتصر على اسم الشاعر كما هي حال القصائد السابقة، بل أضيف الى الإسم عبارة «حلقة الثريا». فماذا عن هذه الجمعية الأدبية ودور شوقي فيها ؟
لم تكتفِ مجلة «الحكمة» بنشر نتاج مؤسسي الحلقة، بل هي نشرت أخبارها وغطت نشاطاتها بدءاً من الخطوة الأولى، فكتب رئيس تحريرها الروائي فؤاد كنعان في عدد كانون الثاني (يناير) 1957 الخبر التالي : «ابصرت «حلقة الثريا» النور في ليل اليل، على كأس عرق في مطعم «الأميرال» ثم تألفت، ثم تنظمت، ثم طلعت بميثاق. وأما مؤسسوها فهم : ادمون رزق، جورج غانم، شوقي ابي شقرا، ميشال نعمة. اما لماذا اسموها «الثريا»، فلأنها، كما نعتقد، سباعية، اي انها مؤلفة من سبعة نجوم في عنق الثور… لا يزال ثلاثة منهم في عالم الغيب. وقد دعيت هذه الحلقة، غب تأليفها ، الى مائدة رئيس معهد الحكمة الخوري خليل ابي نادر، فكانت لها مأدبة عشاء، وكانت لها وعليها تمنيات وآمال».
والسؤال مرة أخرى : هل من علاقة بين فرسان الحلقة والحكمة ؟ المجلة والمعهد الذي أسسه المؤرخ المطران يوسف الدبس ودرس فيه جبران خليل جبران اللغة العربية في العام 1900 ؟
في لقاء طازج مع النائب والوزير السابق والأديب الدائم ادمون رزق، اكد لي انه وسائر مؤسسي الحلقة تخرجوا في معهد الحكمة المشهور بتفوقه في تدريس اللغة العربية وأوزان الخليل في بيروت وعموم لبنان.
وفي لقاء مماثل مع مسؤول الصفحة الثقافية السابق في جريدة «النهار» البيروتية، وأحد أركان حركة الشعر الحديث التي قادها يوسف الخال، أكد أن مجلة «الحكمة» أصدرها معهد الحكمة، وأن «حلقة الثريا» تربطها علاقة عميقة ولكن غير رسمية مع المجلة والمعهد، عبر رئيس تحرير الأولى فؤاد كنعان، ورئيس المعهد الخوري ابي نادر الذي اصبح مطراناً.
وبالمناسبة، لم تكن «الثريا» الجمعية الثقافية الأولى التي ارتبطت معنوياً بصرح تعليمي عريق. اولم ترعَ الجامعة اليسوعية
في بيروت «الجمعية المشرقية» التي كان من مؤسسيها رائد المسرح في العالم العربي مارون النقاش في العام 1850 ؟
وسالتُ شوقي عن دستور الجمعية التي تاسست في أواخر 1956 الذي يتضمن ميثاقها ونظامها الداخلي، فأعلمني انه نظم أرشيفها وكتب معظم محاضر جلساتها، وسلّمها مع ألبوم القصاصات الصحفية التي تغطي نشاطاتها، الى ادمون رزق. وفي مكتب الأخير الذي يلتقي فيه المحامون والسياسيون والأدباء، قرأتُ في السجل المكتوب بخط شوقي الذي لم يتغير عن خطه بعد سنين وهو يعيد صياغة مقلات الصفحة الثقافية في «النهار»، النص التالي بعنوان « ميثاق الحلقة» : «إن ادمون رزق، شوقي ابي شقرا، ميشال نعمة، جورج غانم، بما هم أدباء شباب يتطلعون معطيات الأدب في نظرة شاملة الى الكون، ويؤمنون بفعل الطاقة الخيّرة في مصير الإنسان فالمجتمع، وبما هم ينزعون الى الأفضل ويعتنقون التكامل نمطاً، يعلنون : غايتها : العمل على الإنماء الفكري ورفع مستوى العطاء الأدبي متوسلة الى ذلك : أ بعقد اجتماعات بين افرادها ؛ ب تنظيم امسيات شعرية وأحاديث دورية ؛ ج بمعايشة التيارات الفكرية المعاصرة والإتصال بالحلقات المماثلة ؛ د- بنشر مؤلفات الأعضاء ؛ ه – بإنشاء جوائز ادبية.
أعضاؤها : المؤسسون الأربعة ، وثمة مجال لقبول ثلاثة آخرين لا يُقبل أحدهم الا بإجماع الأربعة المؤسسين.
ومن بنود النظام الداخلي التسعة يجدر التنويه بالبنود التالية ونصوصها :
البند الثاني : تحرر محاضر جلسات الحلقة في سجل خاص يؤتمن عليه أحد الأعضاء. البند الثالث : يتبادل الأعضاء عرض نتاجهم ويوحدون آراءهم حوله. البند الرابع : يتخذ الأعضاء مواقف منسجمة حيال الحركات الأدبية. البند السادس : يضيف الأعضاء اسم الحلقة الى تواقيعهم كلما نشروا من أدبهم.
والسؤال الآن : ماذا تحقق من الميثاق والنظام الداخلي ؟ ليس في سجلات الحلقة المنظمة والملونة والمكتوبة بخط جميل، ما يشير الى اسم العضو الذي اؤتمن عليها. ولكن بصمات شوقي على معظم محاضر الجلسات، وبقاء السجلات في منزله قبل ان يسلمها لإدمون رزق، يدل على انه كان المؤتمن. والمثير للعجب، ان شوقي الشاعر النيوكلاسيكي وقتذاك والمجدد في القصيدة الموزونة، لا يختلف عن شوقي الإداري المدبج المحاضر بلغة أدبية جميلة وبمضمون غير تقليدي بحيث يتضمن النص وقائع الجلسة وتفاصيل امور شخصية طريفة من مثل عشق فرسان الحلقة الشباب وبخاصة ادون رزق.
والمحاضر التي تصدر قريباً في كتاب، تؤكد على نقد الأعضاء لنتاج بعضهم البعض، وبمنهج لا تنقصه الصراحة. ونال شوقي حصة الأسد من النقد الموجه نحو الكلمات الشعرية التي يتداولها في قصائده، خصوصاً من ميشال نعمه، وقد ردّ عليه بما حرفيته : «خُيل اليه ان اسلوب قصائدي ناقص. كأنه وهو الغزِل الرقيق، ما تعود صقل اللغة وأساليب الكلام المدهشة، وكأنه لم يعانِ السبك الفني. الم يقرأ بودلير كيف كان ينحت الفاظه ويجعلها هيكلاً ؟ إذا كان يعتبر هو في الأساس ان الشكل لا بد منه، وأن السلوب يجب ان يكون طرازه من طراز الذي للصحف والمجلات، فهذا شيء لا يجوز البحث فيه مطلقاً لأن الأسلوب الحاد ينم عن صاحبه مسافة ميل. ويليق بالكتابة ايضاً ان الدارس المتعشق للأدب اين يجد الكمال اللغوي؟ هل يجده في شعوذات المتطفلين ؟ ام يجده عند ابي تمام والمتنبي واضرابهما ؟ لأنه اذا ادعينا ان كل شعر انما يكون موزوناً، فسلام على الشعر والشعراء». وهنا يكمن سرّ انتقال شوقي من حلقة الثريا الى خميس شعر، كما سيجيء.
ومع ذلك، فالفرسان الأربعة، وشوقي منهم، استفادوا من النقد الصريح المتبادل، خصوصاً وأنهم كانوا في طليعة المحاضرين والشعراء الذين ألقوا المحاضرات وأحيوا الأمسيات الشعرية في القاعة التابعة لوزارة التربية في شارع بشارة الخوري، إضافة الى إلقاء قصائدهم وشدشدتها قبل نشرها في الدوريات. وبالمناسبة، فالجميع وضعوا اسم الحلقة الى جانب اسمائهم، ليس فقط في الدوريات، بل على أغلفة كتبهم. والطريف ان شوقي لم يغيّب اسم الثريا عن ديوانه الأول «اكياس الفقراء» رغم أن يوسف الخال هو الذي تولّى طبعه بسبب فقر الثريا المادي.
وعلى ذكر المحاضرات والأمسيات، فالصور وقصاصات الصحف، تؤكد ان حلقة الثريا التي بقي عدد أعضائها دون الرقم 7، كانت تحشد مئات المثقفين في القاعة الفسيحة المجاورة لمطعم «علي بابا والأربعين فروج» وقد عدّل الشاعر موريس عواد في الإسم ليصبح «علي بابا والأربعين حرامي».
طبعاً، لم يبقَ كل اعضاء الحلقة فيها. وفي المقابل انتمى اليها اعضاء جدد. كانت الأديبة والشاعرة نور سلمان في طليعة المنتمين. ولحقها المحامي الشاعر ريمون عازار، والأكاديمي الباحث جوزيف ابو جوده. وهنا علّق صديق الحلقة فؤاد كنعان في «الحكمة» بأسلوبه الساخر : «كم من ملايين الكيلومترات سيقطع العضو الجديد قبل الثريا؟». وانضم الى الحلقة ايضاً اديب مغمور وموظف مشهور هو جان جبور. وكان قد سبقه الى الإنتماء الروائي جورج شامي. ومع ذلك لم يصبح العدد ثمانية. ذلك ان بعض المنتمين قد انسحبوا من الثريا. وكان أول المنسحبين شوقي ابي شقرا. وبقدر ما أسف سائر المؤسسين والمنتمين الجدد في حلقة الثريا على انسحابه وفي طليعتهم ادمون رزق، هلل يوسف الخال وسائر فرسان «خميس شعر» لانضمامه الى صفوفهم.
ان انتماء الشاعر شوقي ابي شقرا الى «حلقة الثريا»اولاً و»خميس شعر» تالياً، يضعه في طليعة الشعراء الذين يؤمنون بالمؤسسات الأدبية التي تدوزن نتاجهم وتنشره وتساعد على تعميمه، فيصبح الشاعر «مفرداً بصيغة الجمع» على حد تعبير أدونيس الذي هو أيضاً شاعر مؤسساتي.
يبقى ان «الحكمة» أجرت مقابلة مع شوقي ابي شقرا في مطلع شباب «حلقة الثريا». تميزت أجوبة الشاعر بالطرافة والكثافة و «التواضع» والسخرية والثقة بالنفس والشاعرية ايضاً. ولو لم تتوقف المجلة عن الصدور، ويتقاعد شيخ الشباب شوقي، لظن القراء ان عمر المقابلة 56 ساعة وليس 56 سنة.
فلنختم، إذن، هذه العجالة بالنص الكامل للمقابلة المنشورة في «الحكمة» عدد كانون الثاني (يناير) 1957 :
س- كيف بدأت حياتك الأدبية ؟
ج- بدأت حياتي الأدبية فيما انا قاعد على كرسيّ في شرفة، والنفس في ذلك الحين يلاطمها الأسى والإكتئاب.
س- هل كان لأساتذتك او لبعض الأدباء من تأثير عليك ؟
ج- لم يك قط لأحد، بين الأساتذة، تأثير في بدايتي الشعرية اي حياتي. استاذي العلامة الفهّامة الذي له اقتدار وتأثير انما هو قلبي، ولم ينفك استاذاً لي…
س- ما هي باكورة نتاجك ؟
ج- باكورة نتاجي قصيدة نظمتها أمس. كل ما انظمه هو عندي باكورة أروي هذا مقدراً الطيب والعنفوان في الباكورة ليس الا… لأنه كثر لديّ الشعر عدداً والحمدُ…للملاح !
س- ما هي أحب الأنواع الأدبية اليك ؟
ج- أحب الأنواع اليّ الشعر، وما هو مكتوب بترسل وحنان وعظمة.
س- هل تكتب هذه الأيام، وماذا تكتب ؟
ج- اكتب كل يوم…وخيالي اتمنى ان يخبو فيه الأوار لأنه عما قليل سيقتلني قتلاً…اكتب شعراً.
س- هل لديك مؤلفات للنشر ؟ وهل من صعوبات تحول دون نشرها ؟
ج- عندي للنشر قصدان مكتنزة جمة. ومع وجودها تظل لا تغريني بالطبع وجمعها في الديوان. وفي اعتقادي انها كاملة، وفيها «شعر» يبقى.
س- ما رأيك في حالة الأدب والأدباء في لبنان اليوم ؟ وما هي اقتراحاتك بصدد هذه ؟
ج- لا اجيب على القسم الأول. وأما الثاني فأجيب عنه بما يتبع ! لو كان لهم عنفواني لنجحوا…
س- ما رأيك في مهمة الأدب والعمل في سبيل أدبٍ منضوٍ ؟
ج- رأيي ان لا يكون لهذا وجود وسعة.
س- هل ينسجم العمل الذي تقوم به مع نشاطك الأدبي ؟
ج- على ما في الأعمال كلها من غيظ لمثلي، لا أفتأ احد لنفسي مجالاً طليقاً…لا استطيع غير ذا…
س- الى ما تطمح ؟
ج- اليها… والى ان اكون تاما ً، وأن يتحقق وينجلي لي الآن ما اطمح اليه وهو كبير، وأن تحيط بي «الحكمة»، وأن تنشر صورتي… وأن لا يلومني اصحابي وساداتي… وأن تسلّم لي كبريائي التي ليست بذميمة.
v
شوقي أبي شقرا
لامع الحر
شاعر وناقد وصحفي من لبنان.
شوقي السلامُ على القصيدة ِ حاضناً شغبَ الطفولة ِ مثل أزهارِ الضباب. منادياً أحبابَه ُ القدماء … يا أحبابُ… .
يا ظلّ الوجود ِ المنتشي بمياهِه الأولى. ويا شوق َ الخرافة ِ للخرافة ِ في تصاعدِها النبيل.
هناك َ كان َ الشعُر يسأل ُ عن تناسلِه، وعن ملامحِه الشهيِة في المدار ِ الصعب. حَين تكّررُ الأيام ُ نشوتَه، بايقاع ٍ يضيء كلامَهُ المنسيّ قربَ حكاية ِ الولد ِ المشاغب ِ، في حقول ِ الضيعةِ الفيحاءِ بحثاً عن سطوعٍ لا يُجاريه المدى.
طفٌل يجيء بزيّه القروي. تنطلقُ «الثريا» من محّياه قصائدَ تسكبُ الحبّ العميق َ على صباح ٍ لا يفارقُه الندى.
شوقي هوَ للشوق ُ الخفيُّ الى الضياء مباغتاً ليل َ الكلام ِ بنفحة ِ المعنى الذي ينسلُّ من عمق ِ الليالي دهشة ً. تختارُ من ماضي الجمال ِ هواءه الانقى. وتمضي في مغامرة ٍ تجوبُ السحبَ بحثاً عن هوى فقد الوصول َالى الرجاء.
شوقي السؤالُ عن الحقيقة ِ في مدار ِ الحلم. والشعرُ المرّشحُ للصعود ِ الى فضاء ٍ أخر ٍ . واللغُز مفتوحاً على الدنيا التي ابتعدَت لتدنوَ راية ً بيضاء تختارُ السماءُ صفاءهَا. وتعيدُها الأنقى الى برج ِ الجمال ِ كأنهّا اللون ُ المواكب ُخلمنَا المنسيَّ في بوابِة العهدِ القديم خرافة ً أولى تبدّدُ ما تراكمَ في رحاب ِ الدهشة ِ الاولى، وفي الكتب ِ التليدة ِ من هباءْ.
هوَ شاعٌر يختارُ نكهتَهُ التي تمضي بعيداً في السماء تعيد ُ للفن َّ الشهيَّ قداسة ً. تختال ُ حسناً. لا يجاري نفحَها غيرُ التوغل ِ في حياة ِ الأولياء.
شوقي أبي شقرا …. يصعّدُ حبَّه نجماً الى الأعلى. بقاربُ سدرة َ الجوزاء ِ. يجتازُ الحطوطَ الحمرَ. لا تعنيه ِ أوهام ُ الكتابة ِ، في خضَّم فراغِها الأبقى. ولا يختارُ من تفّاحة ِ الأيام ِ أجملهَا. بل يحفُر التاريخ َ بالنبض ِ المولد لابتكار ٍ خارق ٍ، لأصول ِ أوصال ِ المحال. كأّنه ُ الأسم ُ الجديدُ لخمرة ِ الأقلام ِ وَهْيَ تعانق ُ الدربَ المكّبلَ بالبهاء.
شوقي الطريقُ الى الكلام ِ الحّر، والايغالُ في يمّ الحداثة، والسؤالُ عن الغرابة ِعن فضاء ٍ لم يزل في الحلم ِ أبعد َ من تخّيلِنا . وأبعدَ من نداء ِ الشعر ِ في الآفاق. أبعد َمن سكون ٍ راحل ٍ مثل َ الضياء ِ الى زمان ٍ آخر ٍلسنا نراه.
والى مكان ٍ عامر ٍ بالحب ّ، منساب ٍ الى ما ليس َ يدري قارىءُ الغيب ِ المؤصل ِ منتهاه.
رفيع // شوقي أبي شقرا عالم مدهش وصادم وجريء
رئيس // يصهر الوعي واللاوعي بحبكة متقنة
بقلم : لامع الحر
يأتي الكلام على شوقي أبي شقرا متوّجاً بتجربة كتابية متميزة في الشكل والمضمون. وذلك لأنها تجربة تنهل من بئر الاختلاف الذي لا يُوازيه اختلاف آخر. كأنه كان يسير في اتجاه لم يخطر على بال للآخرين على الرغم من تنّوع مشاربهم واتجاهاتهم.
ربما تجد لروّاد الحداثة آباء شرعيين في مخزوننا التراثي. أو في التجارب الشعرية الغربية. أما تجربة أبي شقرا، فتخرج على كل الأطر التقليدية، ما كان معروفاً منها وشائعاً، أو غير معروف وشائع. وكأن هذا المبدع يغّرد وحده خارج السرب. أو كأنه يضيء ويشعل ليعطي الشعر ماهية أخرى، تخرج على الأصول، وعلى التكرار.
لا يكتب كما أتفق. بل يخرج على ما أتفق عليه خروجاً يتحّقق بمدى الانفصال عن ذلك الموروث، وبمدى الاختلاف عن كل ما أنتج في الزمن الشعري الجميل.
شاعر يعزف على وتر المفاجأة. تنتظره من الشرق فيأتي من الغرب. لا تستطيع ان تتوقّع ماذا يُمكن أن يقول. وفي أي أفق يحلّق . وعلى نار أي جمال يتدفّق ومضه المعطّر بضوء يسطع، او بضوء يتخفّى على جناح البياض المترهبن.
لا يكتب ما أنت تريد، أو ما أنا أريد. أو ما يريد الآخرون. لا يخضع للمقولات النقدية السائدة الآتية من هنا، او من هناك. ولا للمقولات النقدية الهجينة. بل يكتب على سجيته مستجيباً لنداءاتها، محلّقاً في أفيائها، ومنغرزاً في ترابها، الذي لا يشبه ما تجمّع في الذاكرة من تراب.
عالم شوقي أبي شقرا عالم مدهش صادم، جريء. يعرف كيف يكسّر أبراج اللغة، ليبني على أنقاضها لغة تتمّرد على الموروث، لتبدع كينونتها، وخصوصيتها.
ربما يعجبك شعره، وربما لا يعجبك. ربما تنغمس في دفء تجلياته، وربما تستغرب ما جاءت به هذه التجليات، ربما تجده شاعراً استثنائياً وربما تستنكر استنكاراً بالغاً هذه الكتابة الخارجة على كل الطقوس الشعرية.إلاّ أنك لا تستطيع إلاّ أن تعترف أن لهذا الشاعر عالماً شعرياً لا يشبه أي عالم آخر.
شاعر لا يكتب لكي يكتب. وكلامه ليس كلاماً على كلام. بل مسعى صادق وعميق لابتكار الكلام الذي لم يقل بعد، او لاعطاء الكلام بعدا آخر لم يكشف بعد.
يكتب مستحضراً الوعي واللاوعي. صاهراً بينهما بحبكة شعرية، تغرف من رحاب الموهبة والتجربة والاحتراف. حتى ليبدو القول غير القول وتأتي اللغة غير اللغة ويصبح الشعر فعلاً يتجاوز هذا الركام الشعري الذي يستفزّنا منذ داحس والغبراء لغاية اليوم.
شاعر يضيء كهنوت الشعر. يستظل به كمن يستظل برمز مقدّس . يغوص في أغواره بحثاً عن لآلىء لم يكشفها الآخرون., أو لم يعترف بها الآخرون ن فاذا به يجعل منها عالماً تتحرك في أعماقه كائنات لم نألفها سابقاً أو لم نعترف بجدواها سابقاً.
لا يكتب كما يكتبون ولا يتحّرك في فضائه الشعري كما يتحّركون. ولا ينصاع لهذه الجهة او تلك كما ينصاعون. بل يكتب ويكتب ليرمي حجراً في البئر، أو ليبدّد الركود الذي يستفحل إثر ركام من الغبار الشعري، المنتشر في ثنايا المكان، وفي محيط كل الأمكنة.
شاعر لم يأت من فراغ. ولم ينظّر للفراغ. ولم يصل الى أي فراغ. بل هو مبدع عرف الأصول. أتقنها ثم تجاوزها محاولاً أن يؤسس أصولاً جديدة. تتناسب والرؤية الى حداثة مغايرة. تتغّذى بمائها، دون ان تتنكّر للمياه التي غذّتها، وتربّت عليها، وتنفّست منها رحيق الحياة.
عمل على التحرر من ربقة الماضي تحّرراً كلياً لا تشوبه شائبة. تحرراً يتجاوز أنصاف الحلول وفكرة التسويات وذلك لأن تحرير النص الشعري من الأصول الغابرة، يعني ضمن ما يعني تحرير الانسان من القيود التي تعوق حركته، لعلّه يصل الى المستقبل ليصوغه على هواه.
يكتب نصه بلغة يشوبها غموض حار حيناً، وبارد حيناً آخر. لغة تتّسع طوراً، لترى الوجود بين الرائي الذي يحدق في البعيد البعيد، وتنقبض طوراً آخر، لتستغرق في عالم مغلق.
واذا كان الشعر صورة عن الواقع القائم، بكلما فيه من اشراق وعتمة، فان قصيدة أبي شقرا ما هي إلاّ انعكاس لما يعتمل في هذا الواقع القائم. واذا كان هناك ترابط ما في هذا الواقع فان الشعر يأتي مترابطاً وملتزماً بالوحدة الموضوعية، والوحدة العضوية.
أمّا اذا كان غير مترابط، مفككاً ومذبذياً، فان الشعر لا بدّ إلا ان يتأثر بهذه الحال القائمة. ولهذا دائماً نرى أن هناك خيطاً رفيعاً يجمع بين أجزاء القصيدة الشقراوية ويلمّ شملها، ويُعطيها ضوءها. ويسّوغ هذا التدفق الذي يكتمل على إيقاع سيل الصور التي تتنافر حيناً، وتكتمل حيناً آخر، على إيقاع الرؤية المكتملة والشاملة لفنية القصيدة.
قصيدته صور شعرية متتالية . صورة تمسك بصورة وصولاً الى نهايتها التي تضع حدّاً لهذا الانسياب. وكأنها تريد أن تشعرك أنه لا يزال في نفس الشاعر شيء ما لم يقل أو كأنّ على المبدع الاّ يقول كل ما لديه وكأن اكتشاف المتلقي للرؤيا التي لم يقلها الشاعر هي زبدة القول. وكأنه بذلك يعمل على الربط المباشر بينه وبين الآخرمن جهة، وبينه وبين العالم الذي يحيط به من جهة أخرى.
حركة شوقي أبي شقرا الشعرية التي لا تنفصل عن حركة شعر. بل تصب في عمقها، واجهت ضغوطاً كثيرة، على مختلف الصعد الفنية واللغوية والاخلاقية. وذلك ما ساعد على أغنائها وعلى إثراء خيالها. ودفعها لاقتحام العالم الأوسع.
فليس سهلاً تحطيم الأصنام القائمة والوقوف الصارم بوجه التقليديين والسلفيين الذين يرون في الماضي تحربة يفترض ان تستمر في الحاضر الممتد الى المستقبل.
وشوقي لم يُخضْ تجربة الحداثة، ولم يصل الى ابداع قصيدة النثر الى جانب زملائه المعروفين. وفي طليعتهم أنسي الحاج ومحمد الماغوط، وتوفيق الصايغ وفؤاد رفقه، نتيجة لقصور في أدواته الإبداعية بل على العكس من ذلك تماماً. لقد أثبت جدارته في كتابه الاصول، وما نتج عن هذه الأصول عبر ديواني «أكياس الفقراس» و«خطوات الملك».
لقد كتب قصيدة التفصيلة باتقان وتلاعب بالوزن على طريقته، مثبتاً خصوصيته وجدارته. ثم تطلّع الى قصيدة النثر تطلّع من يريد أن يتجاوز نفسه الى ما يراه عالماً أرحب، عالماً يحتضن ما يجول في نفس المرء من رؤى وتجارب واقتحامات.
وإذا بدأ مع « أكياس الفقراء» بكتابة القصيدة الومضة فأنه وصل مع دواوينه الأخيرة ولا سيما « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» لكتابة القصيدة الطويلة وليست المطّولة، لأنها تعبير عن تجارب، تغوص عميقاً في النفس الانسانية، لتعّري مكنوناتها، وتكشف ما يعتريها من إحباطات وحزن وانكسار.
ألصقت بشوقي أبي شقرا بخاصة ومجلة شعر بعامة أسوأ الاتهامات وحاولوا ان يلحقوا حركتهم بحركة مخابراتية رخيصة. وذلك لتشويه إنجازهم وزرع الشك في ابداعهم، ولبثّ علامات الاستفهام حول نتاجهم وحول آراثهم ومواقفهم.
إلا أنهم ظلّوا على قناعاتهم . لم يغّيرواولم يبّدلوا ولم يتراجعوا.حملوا لواء الحداثة وساروا فيه الى أقصى ما يمكن ان يسيروا متحملين عبء الحملات التي تعرّضوا لها، ومتجّثمين مشقّة المواجهة الصعبة مع جهاب تتربّص بهم، وتسعى الى إثبات ما ذهبوا اليه من غي وضلال.
وشوقي أبي شقرا في منتصف المرحلة الآولى كان قد تصّدر مجلة «شعر» كمدير للتحرير مسؤول عن كل ما يصدر عنها، مصوّباً مقالاتها وقصائدها بعناية فنّان شفّاف، يعرف ماذا يريد، وماذا يفعل.
شوقي أبي شقرا كان « يعمل حداده وبويا» للقصائد التي كانت تأتيه في مجلة «شعر» وهو صّرح بذلك متأخراً لأن كثيرين راحوا ينسبون الى أنفسهم أدواراً لم تكن لهم. وهو بعصاميته المشهودة صامت لم يحّرك ساكناً. الى ان قال ما قال ولم يرد أحد من شعراء المجلة ( الذين لم يغادر أحد منهم آنذاك هذه الفانية) عليه او ليقول كلاماً مغايراً لهذا التصريح الخطير الذي يكشف دور أبي شقرا الريادي في مجلة ريادية تمّثل التأسيس الأوّل لحداثة القصيدة النثرية في لبنان والوطن العربي.
وأكمل شوقي هذا الدور عبر مسؤوليته للصفحة الثقافية في جريدة «النهار» لثلاثة عقود ونيّف، وأثبت قدرته على استقطاب المواهب الشابة واطلاقها في فضاء الابداع لتكمل المسيرة. ولتأخذ الحداثة نوراً جديداً يضيء الدرب، ولتبقى المسيرة الابداعية مستمرة، كما لو أنها لا تزال في طور الشباب.
ديك النهار الثقافي
كان شوقي أبي شقرا ديكا يصيح كل صباح. فيغّطي صياحه المعمورة ويملأها شعراً يُحاكي النجوم. ويستضيء بما في فضائها من جمال.
ديك النهار الثقافي هو نفسه «سائق العربة» الذي تبّنى الكثير الكثير من المواهب كّتاباً وشعراء وقاصين وأطلقهم في فضاء الإبداع أسماء كبيرة يُحسب لها الف حساب.
ديك النهار خرّج عشرات الاسماء لا بل مئات الأسماء، من تحت يديه. وأعطاها ما تستحق من اهتمام نثراً وكتابة نقدية، وتلميحاً لصورة يرى فيها كل المقّومات الفنية المفترضة التي تجعل منها إسماً يضيء ويتوهّج في عالم الابداع.
شوقي ابي شقرا جعل من «النهار» منبراً ثقافياً متميزاً واستطاع أن يخلق أجواء من المنافسة الشريفة بين الصحف الرئيسية، دفعت للآخرين الى تحسين أدائهم ليكونوا بمستوى هذه القامة الصحافية الخلاّبة، وهذه القامة الشعرية المتأجّجة.
وشوقي واحد من الذين عملوا على تحطيم الاصنام الشعرية بوعي يقوم على العلم والمنطق. وذلك كمحاولة لردّ الاعتبار الى الفن الذي يعمل على تجسيد صورة الحياة بأساليب مختلفة تخرج على الصورة التقليدية المألوفة. وذلك تأكيداً على دورالفن «كقوة إيجابية تعمل على صنع الحياة»، كما تشاء، وكما تريد.
والشعر لديه كما أراد رامبو أن يكون : مغامرة من أجل المعرفة». والمعرفة ليست حكراً على فئة معينة من الناس. بل هي ملك للجميع إذا توافرت الوسائل الناجحة لإيصالها. وهذا ما لم يكن بالامر السهل. فالنص الشعري الحديث بشكل عام، ونص شوقي بشكل خاص، يحتاجان الى شيء من التمّعن والتبّصر لاكتشاف مكنوناتهما، ولبلوغ المعرفة المخبوءة وراء ستار المعنى. وكل الذين تناولوا شوقي في كتاباتهم النقدية تجنبّوا الدخول في الشرح والتفسير، كي لا يقعوا في المحظور. كما ان الشاعر نفسه يتجّنب هذه المهمة الشاقة كي يبقى النص مفتوحاً على احتمالات شتّى. وكي لا يلزم الناقد او القارىء الحصيف برؤيته الخاصة.
وعلى طريقة السرياليين يمضي شوقي بعيداً في ابتكار نسيج لغوي جديد والذي يعني ضمن ما يعني خلق حياة جديدة. أي قيام مجتمع ثوري على انقاض المجتمع القائم . هذاالتحدّي الكبير للواقع القائم لم يخرج في بلادنا عن اطار النص. لأن الإبداع بكل فروعه في مكان والناس في مكان آخر. أما في الغرب فالأمرمختلف شكلاً ومضموناً.
هذه الغرائبية التي تهيمن على نص شوقي ليست وليدة الصدفة بل هي محاولة مباشرة للتأثير في المتلّقي، والعمل على تغييره تغييراً حقيقياً، يسهم في استيلاء رؤية جديدة الى المجتمع.
غرائبية تُدهش وتمنح النص رؤى جديدة. تفكّك الصورة. وتهتك تآلفها مع ذاتها ومع غيرها لتستقر على وهج جديد لا عهد لنا به يقول «ونختلف ونهجم على جدّنا الحائط/ نركله على خصيته وخيثومه/ يسيل الدهان ومخاط الزبد من جرّنه/ ونضرب الولد من نصفه وعرضه/ حيث لوحة الألم والمسمار/ ولا يقع بنا السلّم ولا يهوي الجمل المروّض».
وعلى الرغم من رؤيته السوداوية الى هذا الواقع، وعلى الرغم من تفاهة العالم الذي نعيش فيه. كان يسعى دائماً الى تأكيد مسؤوليته، كأنسان ومبدع تجاه المعاني التي تختمر على إيقاع حركتها كل الأشياء والتي تستضيء بذلك النبض الآدمي الواعي والمتّيقظ.
يكتب شوقي أبي شقرا معتبراً ان جودة العمل الفني تكمن عنده في القدرة على جعل الآخر يتفاجأ ويتساءل، ويؤيد او يعترض، أي يدفعه دفعاً الى تحريك ذهنه، سعياً الى تحريك أحاسيسه التي ستؤدي حتماً الى تغيير قناعات المتلقي تغييراً يكاد يكون جذرياً.
وعلى الرغم من كون كتاباته غامضة، بشكل إجمالي إلا انه يرفض، وعلى غرار كثيرين، أن يكتب ما لا ينسجم مع قناعاته. وما يعتبره تضحية بالقيمة الفنية، من أجل أغراض ليس سامية.
واذا كان السرياليون الأوائل قدً قاموا بمحاكمة ساخرة للكاتب موريس باريه حيث أتهموه بارتكاب جرائم ضد أمن العقل» فان هناك من كان يعتبر ان كتابات أبي شقرا ما هي الا هلوسات لا تقّدم ولا تؤخر في واقع الأمر شيئاً.
فاذا بالزمن يطوي هذه المقولات غير العلمية وغير الدقيقة وغير الصحيحة.
لتصبح الرؤية الى نتاجه قائمة على بعد نقدي عميق، وعلى رؤية الى إبداع مختلف، يتحدّى السلطات الابداعية القائمة، وينسج ما يهدّد الهيكل بالسقوط او بالتصدّع.
تجربة شوقي ليست تجربة تقوم على المغامرة فحسب، بل هي تجربة قائمة على إدراك واع، مجرّب، وقادر على التقاط الضوء، بحذاقة فنّان بارع، بدرك ماذ يفعل، ويعرف الى أين يريد أن يذهب.
لكن تجدر الإشارة هنا الى أن نزعته الشعرية نزعة لاعقلانية حين تتفذلك وتطرح الفرضيات الخارجة على كل المعايير المنطقية. وحين تترك العنان لحركة اللاوعي، التي تستغرف بعيداً في استحضار اللامعقول الذي يستحضر بدوره رؤى لا تخطر على بال.
هذه النزعة اللاعقلانية كانت تغور عميقاً في فلسفة الجمال، وفي أغوار الخيال الذي يجعل من القصيدة لوحة فنية تمضي نحو التّحرر الروحي، لتحلّق بعيداً في الفضاء على إيقاع نسمات الشوق التي تغّرد، وتكّمل الارض باشراقاتها التي لا تنتهي .
شوقي ابي شقرا شاعرية عربية تفوح ناراً وعطراً. تشرب لُتعطي الآخر شريان الوجود وكينونة الجمال، وتتدلى أغصانها لتملأ الفضاء حيوية تثير في الآخر الرغبة في المعرقة، والرغبة في الاكتشاف.
يكتب ممتلئاً شوقاً الى ذلك المجهول الغامض الذي يؤرق ويدفع المرء الى طرح المزيد من التساؤلات التي لا تُقضي الى اجابات شافية، والتي تحرّك فينا الفضول، للغوص عميقاً، أو للوصول الى ذلك الفضاء الذي لم يدركه أحد بعد.
يكتب على إيقاع ترانيم جديدة، كأن أفق إبداعه يتسع شيئاً فشيئاً مع كل إصدار جديد. أو كان سماءه تأخذ ما تريد من زرقة على إيقاع أنغامه التي تحمل ألف ضوء وضوء.
شاعر من جيل الرّواد، الذين خرّبوا ما استطاعوا أن يخّربوا. لا حباً بالتخريب فحسب، بل سعياً الى زمن شعري مغاير، يتنكّر للماضي، ولا يؤنسه سرب الحاضر ولا يرى في المستقبل غير ما تبدعه مخيلته، ومخيلة الشباب الصاعدين الى السماء على متن بساط الريح.
شوقي أبي شقرا شاعر الجمال الفرد والإبداع الحر، والرؤيا التي تختمر على إيقاع التجليات. والنسيم الذي يتدفق الى الأعماق. ليعطيها ذلك النفح الجميل، والخرافة التي تستحضر اللامعقول لُتعطيه شيئاً من حقيقتها وواقعيتها.
v
شوقي أبي شقرا
الطقوس والنصوص
من التشظي إلى السخرية
محمد علي شمس الدين
شاعر وناقد من لبنان.
الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا, شاعر خاص, بل خاص الخاص, في الشعر العربي الحديث عموما, المكتوب إبتداءً من خمسينات القرن المنصرم, حتى اليوم, وفي الشعر اللبناني منه على وجه الدقة . ولعل عناصر من السريالية واصلت عملها في نصه الشعري الحداثي والمابعد حداثي . وهي الغرابة المعابثة, وتشظي الكلمات واللغة, والعودة بها لما يشبه دادائية طفلية فيها الكثير من الفطرة الريفية, والسخرية .. فكأنه يخلط أمين نخلة بمارون عبود, ويكون من موادهما الأولية كيمياء جديدة لشاعر لبناني, سحري أولي يتسم بالحرية والإسترسال والطرافة . وتتشكل لغته بلعثمة ليست فصيحة بالمعنى التقليدي للفصاحة, ولكنها ليست عامية بالمعنى المحكي للعامية, فهي إذ تكسر حواجز البلاغة العربية التقليدية, فإنها تسترسل على الورقة كقطيع ماعز حر وجبلي, يقضم ما يشاء, ويعتلي الصخور, ويتناطح ويلعب تحت مراقبة عين الراعي . فقصائد أبي شقرا لغة في مناخ, أو لغة مناخ لا يبتعد عن السريالية ولكنه لا يستهلك فيها ذاته .
لقد حاول أبي شقرا الكشف عن الطاقة الجوفية للغة, وهي طاقة بدائية لا يستطيع اللغويون الكشف عنها, ولا يستطيع سبر أغوارها سوى علماء النفس والشعراء الغواصين إلى الأعماق, فلغة الشاعر هي أم الفكر لا وليدته, ولا بد له من ان يترك نفسه بين يديها كالطفل تتصرف به كما تشاء . فالإبداع والتوليد لا يكونان إلا من بئر اللغة الخام. والارض الحقيقية هي أرض الداخل, التي لا ترى إلا بإغماض العين. فشمس الشاعر, كما يقول كارل كراوس, ينبغي توليدها من غياهب الداخل . ولا بد من التلاعب من أجل انتصار الإستعمال الجديد للغة … وكل ذلك لا يتم من دون تشظ وتنافر وسخرية, الأقانيم الضرورية لفنون ما بعد الحداثة في الغرب.
ندخل إلى نصوص أبي شقرا من مدخلين قد يظهر بينهما التباين, ولكن في النتيجة يوحدهما الحال الإبداعي لنصه الشعري ولغته المتدرجة نحو ذاتها .
وهو في تدرج نحو لغته الشعرية الخاصة به, ابتداء من «أكياس الفقراء», مجموعته الشعرية الأولى, وصولاً لآخر إصداراته, مشى في اتجاه التخلص من البلاغة العربية والوزن العروضي الخليلي بالمفهوم التقليدي والحديث معاً, وما نشر له في مجلة شعر في فترتي صدور المجلة, مكتوب بأوزان هادئة, مع تخفيف البلاغة لاقصى حدود التخفيف, والنزعة إلى الإسترسال الغرائبي والطرافة وما يثير الدهشة, والملاحظ انه بقي حتى صيف 1963 لا يفوته الوزن, فكتب في هذا العام, قصيدة نثرات بجمل متتالية بلا وزن, يقول فيها مثلاً : «العصفور بيانو» ونسأل انفسنا بعد رحلة أبي شقرا, على امتداد دواوينه, من «خطوات الملك» إلى «ماء إلى حصان العائلة» (1962) «فسنجاب يقع من البرج» (1971) «فيتبع الساحرة», «فحيرتي جالسة تفاحة على الطاولة» (1983) وصولاً إلى ديوان «لا تأخذ تاج فتى الهيكل» (1992) فصلاة الإشتياق (1995) «فثياب سهرة الواحة والعشبة» مسبوقة بمجموعة نثرية «سائق الأمس ينزل من العربة» (2000), إلى «نوتي من دهر القوام» .. نسأل على أي بر ترسو مراكبه ؟ أم لعله ما زال يطوح في موج لجي هائم وحالم ولكنه غامض وخطير «ليتمازج الحلم والألم والبخور», كما يقول في قصيدة «السهام من منقارها» .
سيلزم التزود ببدائية لغوية ورعوية في غالب الأحيان, لمن يقرأ هذا الشاعر, ومن الضروري الإنتباه إلى ان اللاوعي لديه هو الذي يكشف الوعي وليس العكس, من خلال سياقات لغوية طيارة ومرحة, مختلطة, فيها عبث وملعنة طفلية, وملعنة كبار السن المحنكين في الريف الجبلي اللبناني, كقوله في قصيدة «عبدك, لبيك»: «وصقر انت نتخيلك ومنقار, فضاء وضحية, وفي السلة رغيف, ورجاء, وليمونة للسلام عليك والسلام عليكم» … فهي تداعيات طيارة, غير متكلفة, تجمع بين متناقضات بلا منطق تأليفي أو بلا خيط سوى الغرابة .. والجمل مويجات, ولا ما يشيع الهدوء سوى الاستسلام لحركات مرتجلة لكن حرة .
غالبا ما يعبث أبي شقرا بالصور . يقول مثلا : «تأتيك السمكة, تقودها الحورية بالرسن» ويقول «كنت أفور وأفقع في الجو» …ما يستدعي لأول وهلة, توليد عالم صوري افتراضي من المخيلة, غالبا ما كنت أشبهه بعالم «ديزني» للصور المتحركة. ذلك يؤدي إلى شد الإنتباه, وإلى تحرير المخيلة وتحرير اللغة في وقت واحد … أي نحن أمام كتابة حديثة مبتكرة بلا وصاية ولا وصايا ولا تعاليم . من هنا هي كتابة مغامرة حداثية, وكتابة لها طقوسها … بالمعنى الحرفي للقصيدة .
الحداثة الشعرية, ما بعدها,
الطقوس الحرفية للقصيدة
كتابة شوقي أبي شقرا حداثية وما بعد حداثية . نحن أمام نصوص تعيد اكتشاف اللغة من خلال مراوغة التقاليد أو كسرها . وفي ذلك عبث بلا ريب, عبث ضروري, وقلب للقواعد . إن ما بعد الحداثة في أوروبا وامريكا ,اقترنت شواهدها بذلك, في مختلف الفنون الأدائية والكتابية : في العمارة والمسرح بخاصة, وفي الرواية والقصيدة .
و من يقرأ كتاب الأمريكي «نيك كاي» المسمى «ما بعد الحداثة والفنون الأدائية» وقد ترجمته إلى العربية نهاد صليحة, استاذة الفنون المسرحية في جامعة القاهرة, وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب من خلال مشروع «نافذة على الثقافة العالمية», سيقع على شواهد كثيرة لحركة ما بعد الحداثة في الهندسة والمسرح, والرواية والقصيدة .. فإن معرض « احدث طريق» الذي اقيم العام 1980 في إطار بينالي فينيسيا وهو معرض فني لمجموعة من الواجهات صممها ثلاثون مهندسا معمارياً من اوروبا وأمريكا, يتسم بخاصية التلاعب الساخر بأساليب الماضي وتقاليده المعمارية واستخدامها لخلق مفارقات وتوريات بصرية . وقد طرح المعماري والناقد باولو بورتوجيزي أسلوب التلاعب كبديل عن الثبات . وأشار الناقد الإنجليزي تشارلز جينكس إلى عناصر التشظي والتنافر والتناثر في عمارة ما بعد الحداثة مقابل عناصر البساطة والوظيفية والوحدة في المعمار السابق, وقد طرح مبدأ اللعب باللغات والتقاليد المعمارية كوسيلة لتحييد وكسر القراءات المغلقة المحددة لمعاني الأسلوب والشكل والصورة .. ثمة ألعاب ذهنية وتعدد يتقصد عدم الإنسجام . والتقنيات المستحدثة ترمي إلى ما يمكن تسميته «هارمونية النشاز», فثمة تورية ساخرة والتباس معنى وتناقض وتناقص وتعقيد وعشوائية وقلب التراتيب الثابتة . وقد انتقل مفهوم ما بعد الحداثة من العمارة إلى ما سواها من فنون, في مجال الأدب ومجالات التصوير والنحت والسينما والفيديو والرقص والتلفزيون والموسيقى . لقد تم التركيز على رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة» ورواية جونتر غراس «طبل الصفيح» ورواية «العار» لسلمان رشدي «حيث يتم توظيف الحوار توظيفاً ساخراً, وتستعمل تقنية النقد للتاريخ والكتابة نفسها, حيث يسود الشك وتطفو السخرية .
وفي المسرح برزت عناصر تجريب مسرحي وعروض مفاجئة وساخرة, وظهر السرد المبعثر في جزئيات متناثرة … وظهر الكولاج المسرحي المتنافر الذي يجمع بين عناصر مختلفة سمعية صوتية بصرية مستقاة من مصادر متنوعة من اعمال درامية وأفلام سينمائية واصوات … وبرز التجريب, فقد عمدت المخرجة المسرحية « اليزابيت لوكونت» إلى ستة اختبارات لمسرحية ت . س إليوت المسماة «حفلة كوكتيل» وتم تقديم عناصر متباينة بلا تنسيق . يذكر ايضا أعمال الأمريكية «جون جوناس» من خلال العرض المسرحي المسمى «راساً على عقب وإلى الوراء» المكون من كولاج من الخيوط السردية القديمة والجديدة تنتهي إلى خلطة مسرحية أساسها إفساد المنطق والنص .
لعل التدقيق في الجذور الفكرية الفلسفية والجمالية واللغوية, لهذه الظواهر الإبداعية, يشير إلى نظرية جاك دريدا ونقده اللغوي لسوسور والقول بأن المعنى لا يتحقق أبداً بصورة كاملة, بل القول باستحالة المعنى, كما أن فكرة دي سوسور في استقلال اللغة عن التاريخ أو لا تاريخية اللغة اي كونها قائمة بذاتها وسابقة على التفكير, وجدت صداها في التحولات الروائية والشعرية الجديدة. إنها حالة بلا اعماق ولا آفاق متساوية, وهي قلقة ,متشظية, غير مستقرة, وهو ما أمسك به جان بودريار من خلال لعبه بالشيفرات واعتباره نشاط ما بعد الحداثة هو الهدم, ويلتقي معه جان فرنسوا ليوتار في التشكيك بالمرجعية والتنبه للقلق المستدام والتوتر الذي لا يستقر … للمراوغة المستمرة .
فإذا كانت الحداثة تجاوزت الماضي فما بعد الحداثة اعادت طرحه ككيان مبهم .. كتكوين مفتوح, تشظ, تشويش, سخرية, وكولاج وتوليف .
لهذه الناحية, وبناءً على مجمل ما ورد من ملاحظات وشواهد, فإنني أرى أن كتابات شوقي ابي شقرا, في أبرز دواوينه, وبخاصة الأخيرة منها, هي كتابات عربية لبنانية ما بعد حداثية . وليس من الضروري ان الكاتب المزود بالمخيلة وأداة اللغة, يكون دائماً صورة معكوسة لعصره وبلاده ولغته .. بل لعله هو مندوب, وقادر على تغيير جميع قواعد اللعبة الراهنة بترسيماتها الأيديولوجية و الإجتماعية واللغوية, فيغامر ويغير . وليس هذا الكلام كلام قيمة, بمعنى انه ليس من الضروري أن يكون شطح المبدع هو الأولى والأعلى, ولكنه بلا ريب جدير بأن يشار إليه, وأن يقرأ, وأن يفهم, والزمن في النهاية كفيل بوضعه في المرتبة التي يستحقها . فليس كل عبث بالترتيبات والمسلمات, هو بالضرورة, عبث خلاق.
نقرأ لدى شوقي أبي شقرا, الجمل التالية, على سبيل المثال : «عمي النهر في ثياب السكينة .. أعطس من العفص, اصل إلى معلمي الصباح إذ يفلت وعله الشجاع وخريفه الأصلع ويعطيني الطيارة لأقودها في الفضاء, لأقود النعجة إلى الليل وأغصان الزيزفون والتوت, كأننا الرعية ولا نطبخ في الطناجر والصحون سوى عشبة الظفر والفصح وبعض قهوة الجوار « (من ديوان يتبع الساحرة ويكسر السنابل راكضاً ) .
و في ديوان « نوتي مزدهر القوام « نرى اللغة تجري إلى أماكن غير معتادة ولا مألوفة, تتفكك وتخف, وتتخفف ,و لا يسعنا معها سوى القول: لن يكون لنا اتجاهها قضايا كبيرة وإرنان أو بلاغة … بل عبث ومسرة . يقول : «سنضرب نحن الحائط ونسب عرضه جزافاً ونخلع ضرس العقل … ونكتفي بالخشوع والتؤدة في مهرجان الغولف إذ نرفع الطابة البيضاء ولا نعاملها بالعصا لأنها حبلى وتلد نملةً أو جندياً أو حشيشةً « .
و لعله أسس لنفسه طقوساً تخصه في الكتابة . ففي قصيدة «ما يصنع المساء» من مجموعة « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» يجري على عجلة حرف «الواو » جرياناً حراً في استطراد يدور ويدور ويدور : « ..و نمسح جباهنا من الكيمياء, والمرارة دائماً هي الحلوى, والفاكهة أننا ألماس الحرية, وأننا سرعة الرؤيا ,و أننا قصر السموأل, وحيث نحرر المشاعر الزائلة, ونربط جدائلنا بالمعادن, ونتفرج على ثياب التراث, وخزائن الفراشات, ومناشفها تتمازج على الشوك …. والمسألة أننا سمكة الشهوة, وجلدنا رقيق الحاشية, وكل طعنة حتى الحبة من الكرز علامتنا, وينفجر ثقب الشاعر من الضيق, والصديق هو المريخ … «
لا شك في أن مثل هذه الكتابة, تمارس جملة إقصاءات, لكي تقترح وتتبنى جملة طقوس خاصة . فمن ناحية الجوهر الشعري, فهو شعر يعزل نفسه عن التراث العربي ويعتصم بإرث محلي, بعناصر ريفية من إرث لبناني سحري, يلوذ بالبداءة ويلبس جلداً رعوياً, وصاحب عتق في البراري والبيوت الأولية والكلمات الأولية, والغابات والحشرات والنباتات وما أشبه .. وهكذا فإنه ينعقد على ما يشبه هذيان المخيلة واللغة البدائية .
أما من ناحية التأليف, فإن كتابة شوقي أبي شقرا تظهر على صورة كتابة ما قبل بلاغية, بل وحتى ما قبل لغوية, وبالضرورة ما قبل غنائية . هي كتابة طفلية تتساحب فيها الكلمات وتتناسل من أطراف أصابعها تناسلاً مرحاً وأولياً, ولا تسأل عن مقاصد الذاكرة اللغوية ولا المعاني التاريخية, ولا تلتزم تمام الإلتزام بمواصفات قصيدة النثر بنت الحداثة, بل تجنح لما بعدها, وتحاول تأسيس طقوس تخصها, والطقوس ما هي ؟ الطقس كلمة مولدة دينية مسيحية, فقد جاء في العدد الحادي عشر من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ص 232 أن كلمة «طقس» يطلقها المسيحيون على شعائر الديانة, معرب «تكسيس « من اللاتينية .
v
شاعر ينهمر على مهل
ويدغدغ مسامنا
أمين ألبرت الرّيحاني:
أكاديمي من لبنان.
تصوّروا شاعراً يجمع تحت جناحَيه طفولةً كلّلها المشيب، وسرياليّةً بلا حدود، ونزعةً ريفيّةً بلا هوادة! تصوّروا شاعراً يرسم بحبر مزاجه «ماءً لِحصان العائلة»، ويلوّن على هواه «تفّاحة فوق الطاولة»، ويكتب القصائد المغايرة وهي تلاحق أزاهر الحقول وينابيع الأودية! تخيّلوا شاعراً يقضي العمر في المدينة وفي جيبه صورة قريته التي إن أضاعها يجدها مختبئةً في قلبه! افترضوا أنّكم تتجوّلون مع هذا الشاعر في أقاليمه الشعريّة، وفي فضاءاته المتخيّلة، فتصادفون أنفسكم برفقة لغة لا كسائر اللغات، وبين طائفة مفردات ليست كسائر المفردات، وبين معرض صوَر شعريّة مختلفة عن سائر المعارض واللوحاتِ الشعريّة وصوَرِ القصائد!
هذا الشاعر يصعب عليكم أن تتصوَّروه قبل أن تتعرّفوا إليه وتعرفوه بشراً سويّاً يُمسك بناصية اللغة، ويُلَوّح بريشة سورياليّة نزقة، ويجبل الإثنين معاً ببهاء الطفولة، ويقظة الأنبياء، وإكسير العرّافين، وسحرِ خيالٍ ثريّ لا يُضاهَى. هل عرفتم أن هذا الشاعر الذي لا يشبه أحداً بعينه، ولا يشبهه أحدٌ بقلمه، أو نفسيّته، أو روحه، أو قصائده… هذا الشاعر لا يشبه أحداً إلا شوقي أبي شقرا.
ضلّ مَن زعم أن المدرسة السرياليّة ارتدت حلّتها العربيّة بشعر أبي شقرا. والصحيح أن السرياليّة العربيّة، وتحديداً السرياليّة اللبنانيّة، دعت المدرسة السورياليّة الفرنسيّة لقضاء عطلتها في ربوع جبل لبنان، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، فألبستها حلّة جديدة بعد تجربة فريدة لم تعهدها من قبل. وتفصيل ذلك أن أخذَتْ قصائدُ أبي شقرا صديقتها السرياليّة الفرنسيّة وجالت معها في رحابٍ لم تألفها من قبل، وعلّمتها لغة عربيّة فوق واقعيّة، وزوّدتها بصوَرٍ شعريّة لبنانيّة خارقة لكل تقليد ولكل تركيب مألوف بحيث اكتنزت الضيفةُ الفرنسيّة الصديقة بأحمالٍ من المادة الشعريّة الجديدة التي لم تكن لتتوقّعها خارج الأرض الفرنسيّة.
بعد أن تتجوّل في دواوين أبي شقرا تجد أنّ هذا الشعر، الذي لا يشبه أي نصّ شعريّ آخر، لا يشبه إلا صاحبه، يمكن تصنيفه ضمن أربع سمات مميّزة: الطفولة، الريف، اللغة، والصورة الشعريّة. أبادر إلى القول أن هذه السمات متداخلة بحيث تجد في القصيدة الواحدة أحياناً جميع أو معظم ملامحها. لكنّك في كلّ حال، سواء وجدتها مجتمعةً أو متفرّقة، تجدها ملازمة لشعر أبي شقرا بحيث تشكّل كلٌّ منها خاصّة أساسيّة من خصائص شعره المختلف والمميز باختلافه. وسوف نشير إلى كلٍّ من هذه السمات واقفين عند أبرز ملامحها ونماذجها.
الطفولة
لا تقف الطفولة في شعر شوقي أبي شقرا عند معنى البراءة. أو هي ضرب من البراءة اللولبيّة التي تحب أن تلهو بتلافيف الخيلاء، بتصوّراتها اللامحدودة، بل بافتراضاتها اللامتناهية. الشاعر هنا يلاعب ألفاظ الطفولة ليبتدع منها معنى مغايراً، معنى لا كسائر المعاني، فيدخل به الأرض البكر ويكتشف عبره، ومعه، طاقات جماليّة أو بواكير الخيال اللعوب الذي تتساقط عنده حدود المنطق أو أصول القاعدة أو حواجز المألوف والمتداول. طفولة الشاعر بهذا المعنى طائر ملوّن يجوب الفضاءات الرحبة الجديدة ويأخذ القارىء إلى عوالم لم يعهدها من قبل. لعبة الشاعر هنا «ليست قائمة على أزرار وكبسها وليست من الفنون الالكترونيّة وأن نضيء ونكبس ونزيح ونصل إلى النقاط وإلى الحركة وإلى الضرب والقفز أو نرتمي في الشرك ونختفي…»(1) وللطفولة ألعابها ولو اختلفت أدواتها واختلفت أشكالها وألوانها بين أنامل الشاعر وعلى مداد قلمه: «أين لعبتي… وأين قجّتي وأين والدي… يعطيني الورقة الملوّنة لأصنع طيّارة، وأين القصب الذي ينفخ الموسيقى والتعابير، وأين قصبتي لأجرح إصبعي، ولأن آخذ السكّين وأجرح جسدها وأقصّ هذا الهيكل إلى حجر وأنساه في الطبيعة…»(2) الطفولة عند أبي شقرا لعبة جارحة، لعبة حزينة، وأكاد أقول لعبة شقيّة، لكنّها، في كلّ حال، لعبة نقيّة بهيّة أخّاذة، يلعبها وحده. فقد يكون هذا الشاعر جارحاً، حزيناً، شقيّاً، لكنه في كلّ حال، شاعر نقيّ بهيّ أخّاذ، يلعب وحده لعبة فريدة نادرة، ولا ينتظر أحداً أن يأتي.
غير أنّ الطفولة عند أبي شقرا حرباء تتلوّن مع الألوان، من المنظور إلى غير المنظور، ومن البسيط إلى العميق القرار. فإذا حدّثك عن الحبل تراه «حيّة والبنات يرقصن على صفير السهم وأوراقي على الفحيح»(3)، وإذا انكسر القسطل «ركبنا على قصبة، فارت المياه، فتحت قميصي، صرخت، ضحكت.»(4) وإذا حدّثك عن القدَر الأزرق، يبادرك قائلاً أنْ «نشتريه قطّةً في كيس جنفيص، غزل بنات في ورقة، جبنة سوداء…»(5)
الطفولة لديه حالة، والحالة مزاج، والمزاج لغة، واللغة أسلوب، والأسلوب تجاعيد شِعريّة في لولب صورة بالأبيض والأسود، أو ملوّنة بتلاوين طبشورة لم يبقَ منها سوى بقايا مطحونة يخلطها الشاعر بالتراب كما يخلطها بذاكرة الطفولة وألعابها وخيلائها. «قصبَة» هذا الشاعر «حصانه»، وحصانه «أرقه»، وأرقه «أقحوانة الحرير»(6) التي لا تتقطّع خيوطها ولا تذبل بتلاتها.
الريف
والريف عنده نزهة أبديّة. نزهة لا تفارقه حتى ولو ظلّ في قلب المدينة. نزهته الداخليّة لا يمكن إلا أن تكون نزهة ريفيّة بامتياز. لأن «ذاكرتي في القنطرة، حنيني رغيف الصاج… ويختفي العصفور في بطن الوردة، لا يضجّ ولا يبصره الناطور.»(7)
وتتراكم أدوات الريف على كَتِفَي الشاعر حتى ولو كان جالساً إلى مكتبه في بيروت، أو واقفاً على شرفته وسط المدينة. فعالم الريف يطويه في جعبته ليتمكّن من أن ينتقل به إلى كل مكان. شوقي أبي شقرا يكتب قصائده بأوراق «الخرّوبة»، أو بزجاج «المرطبان»، أو بِ«رماد» الوجاق، أو «يتفركش إبريق الزيت، بالأرغفة حروف الحكاية»(8)؛ لماذا؟ لأنّ هذا الشاعر «يمصّ البئر غيمة إلى القلم»(9) إلى قلمه. ودم هذا الشاعر يزهر في ثنايا «زبيب الصحّارة»، وفي تعاريج «القادوميّة» و»خصلة الفرفحين»، ويشرق أمام «مفتاح القبو» و»نبيذ الصلاة» و»مقعد الحطبة»(10).
ويثرَى الريف في قصائد الشاعر عبر مفردات يكاد الزمان يغلّفها بقشرة من النسيان إذ يستوحي بعض شعره من أفياء «التوتة» ولذعة «الدبّور» وإبَر «العلَّيقة» وبُقَع «الكبوش» وألوان «الزيز» وخرير «الشلال» ومشهد «حجل الصخر» وأنوثة «تم السمكة» وندرة «صمغ اللوزة» و»حنان الطبليّة» وعطر «كبش القرنفل.»(11) إنّه عالم قائم بذاته وقد استعاد حياته على مداد قلم الشاعر، وتباهى بتفاصيل جميلة لا يدرك معانيها الساحرة مَن لا يتسنّى له أن يمرّ بتجاربها السعيدة، المديدة، الفريدة.
اللغة
أَنْ تتحدى اللغة يعني أن تبنيها لنفسك دون سواك، أن تشقع مفرداتها وجملَها، مدماكاً فوق مدماك، دون أن تتبع المألوف والمعتاد من التراكيب والمصطلحات. أن تتحدى اللغة يعني أن تخرج عنها إليها، أن تثور عليها من أجلها، أن تتجاوزها وصولاً إلى جوهرها والأعماق. أمّا الشكل فلا يكون إلا شكل الشاعر، والتركيب لا يكون إلا بتركيب الشاعر، وتفتيق أبعاد اللغة لا يتم إلا بقدرة شاعريّة قادرة. هذا هو شوقي أبي شقرا اللغويّ بشعره، والشاعر بِلغته التي لا يمكن تفصيلها إلا على قياسه، ولا يمكن حياكتها إلا بنوله، بل بقلمه الذي يغمسه بحبر طفوليّ ترابيّ ريفيّ ثريّ الخيال، بعيد المرامي، طريف الصوَر بواقعيّة فوق واقعيّة.
وتستوقفك مفردات لقّحها الشاعر في مسام قصائده، فاعشوشبت وأزهرت في شتلات شعره التي زرعها في بستانه اللغويّ الصلب العود والشروش والبنيان: «كم جررنا دنانَ الابتسامة والحصرم القتيل ونحن في منخفضات الوهلة…طالت مرساة السهر… وسنضحك مثنى ونعشوشب بالبرق والعاصفة وغبار الهوَس…»(12) وعليه يمكن القول أنّ لغة شوقي أبي شقرا تبحر «في البعيد الذي يشرف على البعيد، وإذ يلمع المجنّ وظهيرة الرحلة إلى الترياق…»(13)
وأفضل مَن يصوّر لنا لغة الشاعر هو الشاعر نفسه إذ يقول: «واضطربَت لغتي من الحدث، لففتها بالقطن والطحالب واختنقت سفينة الأجوبة».(14) ولئن اضطربت اللغة من الحدث نجد الشاعر «يسبح في الغمر… وقارب النجاة يأخذه إلى مفازة العري والصراخ القاحل… ول]ه[ الكتب العذبة الدخول إلى المطاوي والصعبة الخروج إلى المرفأ والتصابي.»(15) ويكتشف فجأة أنّ «لا ممرّ إلى الحبور الأغرّ… سوى العصفورة…ليصغي الصارخ أمامي إلى نجواي وإلى منقلب الهوان…»(16)
ولا يتردّد الشاعر في توظيف تراكيبه اللغويّة في صور شعريّة غير مسبوقة إذ «يشلح البئر على الحجر… يشلح السطور… والخاتمة ذنب العصفور. يسكب الندم، يسكبه الخدم قبل المائدة وبدء الغبار»(17) هذه لغة، على متانتها وصلابة تراكيبها، لا تشبه أحداً أكثر مما تشبه صاحبها. فزاد هذا الشاعر لغةٌ خاصّة فريدة يغذّي بها شعرَه، وشعرٌ لافت مميّز يغذّي به لغتَه. فالشعر واللغة عند إبي شقرا «نارٌ وموقد، صيحة وحنجرة، صِغَر ونقش حجر، قدح ونبيذ»، وهما عنده في كلّ حال «مرآة ووجه.»(18)
الصورة الشعريّة
قد تكون الميزة الرئيسية للشعر الحديث أنّه مبنيّ على الصورة الشعريّة التي تحاول تفتيق المألوف والمكرّر والمتوقّع بحثاً عن الأرض البكر، والفضاء المستحدث، واللغة الجديدة في قلب اللغة، أو عن تطويع المخيّلة الشعريّة إلى طاقة خلاقة غير مسبوقة، طاقة قادرة على تصوير عالم جديد من المعاني المفتوحة، والدلالات المشرّعة بكل اتّجاه، والاحتمالات غير المتناهية.
لو قرأت شوقي أبي شقرا، قبل أن تدرك خصائص الطفولة والريف واللغة لديه، لاستوقفتك طبيعة الصورة الشعريّة عنده بغرابتها: «أحرث الكسل والتجاعيد»(19)، و«جمجمتي صندوقي… ستهرول المراكب والقصائد»(20)؛ أو بافتراضيّتها المتحرّكة: «السيف والأصابع، والأفواه، والملاقط… اختلطت كالبطّ، سبحَت متمايلة رقصَت جازاً»(21)، و«أنا الرسول المقلّم، حمار وحشيّ سريع، أنا الخفيف لا أطير، أرتبط بجنزير الحائط، بموعد الحق»(22)؛ أو بتداخل المنظور باللامنظور من عناصرها: «يا سنبلة التعب… وحصرمة الليل»(23)، و«الحرف ريف البال، أذرع الغنى»(24).
وكثيراً ما يبني الشاعر لوحته الشعريّة بمزج أطراف الواقعيّة بعناصر فوق واقعيّة فيدخل فضاءً شعريّاً متماسكاً متّقداً متألّقاً ثريّاً بليغاً بذاته ولذاته: «تدقّ أجراسي حين أرتطم باللحظات… وقمّة السكون تشكر الطنين»(25)، و«لن نسمع الوقت… من بوق المدائح وصنوج النقائض. وأوزّة الاختلاف جاثمة على الكوّة»(26)، و«العنبر طفل قديم بلا أسنان حليب يجلس في حضن الدهر ولا يبكي إن قرصناه»(27).
هوذا عالم الشاعر الذي لا يمكن وصفه أو تصويره إلا بالاستعانة بلغة الشاعر نفسه. لذا يمكن القول في ختام هذه العجالة: شوقي أبي شقرا يسكبه الشباب، يفرّ من حضن النجمة، يفرّ إلى عين الرقّة وصوف السعادة، وينسكب على قياس جسده وتقاسيم وجهه في الذي يخطّه قلمه. هو لا يتردّد في أن يفلح الأرض اليباب ويخبر حارس الريح، ويخاطب البرد والعاصفة، ثمّ يغتسل بالنقطة على الورق. هو يتقن خرمشة الحرير وحذف الرسمات القديمة. هو في مهنته الشعريّة ينفخ النيران المسروقة ويستعير من بنات القمر شرراً صوّانيّاً تنتعش به الأسطورة. هو يغنّي للحطب، ينسى طقوسه، يطرب لرنين الصنوبر، يراوح بين مخلب الصقر وقيثارة الفراشة، يغترب في زماننا ويكسر الخمر بالكلمات ثمّ يهدأ هدوء السنديان. شوقي أبي شقرا يكون إيّاه في ما يكتب أو لا يكون. هذا الشاعر يُبعَث حيّاً حين تكتبه القصيدة فهو ربيب الفصول، ينهمر على مهل ويدغدغ مسامنا كرذاذ المطر.
الهوامش
1- أبي شقرا، شوقي، سائق الأمس ينزل من العربة، دار نلسن، بيروت، 2000، ص156.
2- المرجع السابق، ص 189.
3- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، دار النهار، بيروت، 1979، ص38.
4 – المرجع السابق، ص 39.
5- المرجع نفسه، ص 40.
6- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، دار الجديد، بيروت، 1992، ص 51، 41.
7- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، دار النهار، بيروت، 1979، ص53، 60.
8- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، دار الجديد، بيروت، 1992، ص 10، 11، 21.
9- المرجع السابق، ص 21.
10- المرجع نفسه، 24، 28.
11- المرجع نفسه، ص 36، 51، 58، 70.
12- أبي شقرا، شوقي، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، دار نلسن، بيروت، 2004، ص7.
13- المرجع السابق، ص 36.
14- المرجع نفسه، ص 68.
15- المرجع نفسه، ص 76، 79.
16- المرجع نفسه، ص 109-110.
17- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، ص 33.
18- المرجع السابق، ص 71، 85.
19- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، ص 7.
20 – المرجع السابق، ص 20.
21- المرجع نفسه، ص 28.
22- المرجع نفسه، ص 44.
23- شوقي أبي شقرا، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، ص 29.
24- المرجع السابق، ص 74.
25- المرجع نفسه، ص 96.
26- أبي شقرا، شوقي، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، ص 138.
27- المرجع السابق، ص 146.
v
شوقي أبي شقرا
محمود شريح
كاتب من لبنان.
غدًا حين تهدأ قرقعة الادّعاء ودويّها الهائل الذي يكاد يصم الآذان فيحجب عنها سماع موسيقى الطبيعة النضرة، وغدًا حين تخف وطأة التبجّح وأثرها البغيض الذي يكاد يعمي البصر عن رؤية الخضرة الذهبية للواقع، غدًا يدرك جماعة النقد المتسرّعون ورهط البحث المتأنّقون أنّهم أغفلوا سماع نبض الشوق وهمس الوجد، فغاب عنهم نقاء الورد وشفافيّة الندى.
وغدًا حين تهدأ الزوبعة الدائرة على حداثة الجديد وكلاسية القديم، وترقد الخواطر تجاه الصّراع الناشب بين المعاصرين والسّلفيين فيما يختصّ بعلاقة الشّكل بالمضمون، وتجري إعادة النظر في موروث الأمس وإبداع اليوم، غدًا يدرك جماعة التنظير الطيّبون وحماةالأكاديميا الصالحون أنّهم سقطوا جميعًا في مطب الكبرياء، فما الزهو إلّا شاهد قبره.
وغدًا حين ينجلي الدخان المتصاعد من المواجهة الحامية بين شيوخ الأدب وشبابه وهي مواجهة أزلية مبعثها التوتر الناشئ عن قطبي الصراع الأبديين: الثبات والتغير، ومحصلتهما الصيرورة، مادة الحركة سوف تبرز واضحة تضاريس جمرة الشعر المتقدة فتضيء بوهجها خط التماس الفاصل بين الأصالة والتقليد، فيتبدد الوهم ويتبخّر الزيف، وتترسّخ مفاهيم وتنهض تصوّرات، ثم تنكفئ معايير وتنسخها مقاييس فتتغيّر الحساسيّة النقدية المألوفة، ولكن تبقى القصيدة القصيدة معقلا لا يطاولها النقد إلّا عند تخومها، فلا يصيبها مباشرة ولا يعرض شبكة اتّصالاتها الداخلية لأدنى أذى، فالنقد ومهما كانت مدفعيّته ثقيلة جاء بها الدارسون من معدن التراث أو من مقالع الفرنجة يعجز عن البوح. يدل عليه فحسب، فالبوح للقصيدة وفي بيتها الأمان.
وغدًا حين تبرد جبهة الصّراع بين جماعة تقول بأزمة نقد وأخرى تزعم معضلة شعر، وكل منهما تحصن نفرها بذخيرة فسدت، وشهروا رايات تتناظر فملف
شوقي أبي شقرا..
سنجاب يتسلق الأسلاك، أتذكر شوقي أبي شقرا (سنجاب يقع من البرج) وكنت ذات زمن في بيروت، أهم بمغادرتها إلى مدينة أخرى، كنت في مقام التردد والحيرة القصوى، هل أغادر أم لا؟ سحر بيروت وأهلها، فتنة الليالي، السهرات والكتب (أندلس وشام) وباريس أو ما يشبه ذلك.. كنت في مقام الحيرة حين باغتني عنوان كتاب أبي شقرا (حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة)..حين أقرأ أبي شقراء تتهادى أصوات رعاة تائهة في البراري، أو صخب أطفال يلعبون… أبو شقراء طفل الشعر العربي الكبير من غير ادعاء ولا حفلات تطويب لعالميّة كاذبة.. «أفتح أظافرك مروحة /تخدش الحياة/ في بطنها»..
من (يوميات آسيويّة) س.ر.. سيصدر قريباً
شوقي أبي شقرا
المُعلّم والمؤسس
فـي الشعر الحديث
شوقي أبي شقرا
شاعر لبناني، ولد سنة 1935، صدر له :
أكياس الفقراء، (1959)
خطوات الملك، (1960)
ماء الى حصان العائلة، (1962)
سنجاب يقع من البرج، (1971)
ماء الى حصان العائلة والى حديقة القديسة منمن، (طبعة ثانية مضاف اليها)، (1974).
يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، (1979)
حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة، (1983).
لا تأخذ تاج فتى الهيكل، (1992).
صلاة الاشتياق على سرير الوحدة، (1995).
ثياب سهرة الواحة والعشبة، 1998 (دار نلسن)
سائق الامس ينزل من العربة، 2000 نصوص (دار نلسن).
نوتي مزدهر القوام، 2003 (دار نلسن).
تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، 2004 (دار نلسن).
ابجدية الكلمة والصورة، 2009 (دار نلسن).
«المأدبة يجب أن تتم»، هكذا جاء عنوان إحدى القصائد في ديوان الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا. هذا ما قاله في ديوانه «ثياب سهرة الواحة والعشبة» الذي صدر عن دار نلسن سنة 1998. أعود الى هذا العنوان لأنه يذكرني دائماً بأن هذا القول الشعري هو في الوقت ذاته قول تنبؤي إذا جاز لي، بمعنى ان كتابة ابي شقرا الشعرية كان عليها حتماً أن تتم في الحياة الثقافية. كان لا بدّ لها أن تأتي الى النور، لأنها القدر ولأنها الحاجة. انها الكتابة التي لا مفرّ منها، وكأن كُتب لها منذ البداية ان تكون موجودة. كُتب لها أن تنوجد لأنها الشعر المحض.
وأبي شقرا هو الشاعر الذي ترك أثراً كبيراً وعميقاً في شعراء من كل الأجيال، والذي دائماً اعتبرناه المُعلّم الأكبر في الصياغة الشعرية الحديثة كما في المهنية الصحفية وكذلك في ترجمة الشعر الأجنبي ومنه الفرنسي بشكل خاص، هو الشاعر الذي كان من المفترض ان يكون موجوداً بقلمه، بقصيدته، وهكذا كان، ناثراً موهبته على صفحات الثقافة بين مجلة «الثريا» اولاً ثم مجلة «شعر» ومن بعدها جريدة «النهار» وبشكل خاص من خلال 13 كتاباً وضعَ فيها عالماً شعرياً غنيا ً ومميزاً. كان عليه أن يكتب وأن ينشر إذ كان على قصيدته أن تولد وأن تنوجد، كان عليها ان تكون وهجَ الصورة وجماليتها المبتكرة ووهج الكلمة الفريدة، تلك الكلمة الشعرية التي لم يبلغ طاقتها سوى عمالقة الشعر.
لم يلجأ في تجربته الشعرية الطويلة التي تمتد على أكثر من خمسة عقود، لم يلجأ شاعرنا يوماً، كما قلتُ قبل سنوات في محاضرتي عنه، الى تقنيات غربية غريبة عن طاقته الشعرية الداخلية، تلك الخلاقة لأنها العفوية، لم يستفد يوماً من أي لعبة او تقنية غربية ممّا قرأ او ترجم، أكانت لعبة صورية او تعبيرية، إنما غَرفَ فحسب من عمقه الإنساني، من بئر وجدانه الثري. لم يتكل كذلك يوماً على أي نظرية أدبية ممّا صيغ في الغرب على أيدي شعراء ونقادٍ غربيين. إنما قصيدته هي التي أوجدت لنفسها طريقها وأسُسها، أوجدت لنفسها ركائز ودعائم الكتابة الشعرية. لذلك هي بعيدة كل البعد عن أي تفلسف تنظيري. فهي اُسس ودعائم غَرفَها أبي شقرا من كونية رؤيته الى الشعر والى العالم، اي الى الإنسان ومنه الى الموت والحياة. انها اُسسه هو وأتت من جعبته الشاسعة. انها أدوات لغته هو لأن «لغتي، مجرفتي»، لغته مجرفته كما عَنْونَ إحدى قصائده في الديوان الآنف الذكر.
انه المنهل والمصدر ومنه كم أخذ الآخرون من الشعراء الذين عرفوه وأحبوا شعره وحاولوه (حاولوه ولم يفلحوا) ! ظلّ شاعرنا محافظاً على نضارة عبارته وشفافية صورته وحيوية قصيدته التي لم تتخلَ حتى اليوم عن وهجها وبهجتها وتلويناتها على أنواعها. ظلّ الشاعر أبي شقرا رائداً حتى ما بعد الحقبة الريادية التي بدأت مع مجلة «شعر» وعميدها يوسف الخال. لم يضمحل رونق بيته الشعري مع الوقت بل زاد تألقاً مع مرور الوقت وكأن الوقت أخذ يتجدد في قصائده فلا يتعب ولا يكلّ.
لا تذوي كلمته عبر كتبه مهما تعددت ومهما اتسعت المسافة الزمنية في ما بينها. لا تذوي ولا تنضب. انها المتجددة المتوالدة دائماً وكأن شاعرنا لا يستطيع سوى ان يكون شاعراً في كل لحظة من حياته، في كل ومضة، في كل فكرة وفي كل حركة يتحركها. وما يؤكد ذلك، ميله الدائم الى الكتابة الشعرية حتى عندما يكتب مقالاً وعندما يكتب رثاءً وعندما يكتب محاضرة او أي مادة صحافية تخطر على البال. كل عبارة يطبعها على ورقته تأتي على شكل صورة شعرية فننسى اننا ازاء محاضرة مثلاً او أننا ازاء مقال او عامود من أعمدته الأسبوعية التي عوّدنا عليها في جريدة «النهار» سابقا ً.
شوقي أبي شقرا مَعلم من معالم الشعر اللبناني والعربي الذي ترك، كما أسلفتُ، أثراً واضحا ً وعميقاً في مجال الأدب عامة والشعر خاصة. كذلك في عالم الصحافة ترك بصمته الكبيرة. فمَن منا لم يمرّ على صفحته الثقافية في جريدة «النهار» عندما كانت «النهار» في أوجها والحركة الأدبية والثقافية في عزها، أعني في حقبته هو والتي لحسن حظنا جميعاً استمرت عقوداً طويلة، الأمر الذي انقذ جوانب كثيرة من الحياة الثقافية والصحافية في مهنيتها وأخلاقيتها. أنقذها من الركود والخمول، أنقذها من الفساد، فمنحها، اي حياتنا الثقافية والصحافية، الدفعة الضرورية التي تؤمّن فعل الابتكار. كم من شاعر تدرّب عنده على مهنة الصحافة الحرة وغير المبتذلة. كم من صحافي اكتشف نفسه صحافياً ماهراً في صفحته لأن ابي شقرا كان وراء اكتشاف الحَسن والأحسن، وراء دفع العجلة المهنية دائماً الى الأمام، وكم من شاعر اشتهر من خلال صفحته (صفحة ابي شقرا) الثقافية اليومية في جريدة «النهار» التي كانت تبرز وتشهر كل مَن ساهم في صناعة الخبر والمقالة عنده، من خلال تكراره ( اي اسم الصحفي والشاعر- الصحفي) شبه اليومي وظهوره على القراء.
إذاً، كم من مثقف وكاتب وشاعر وأديب ومفكر مرّ في هذه الصفحة المرموقة وبفضله كانت مرموقة، بفضل اندفاعه اللامحدود في سبيل القضايا الثقافية، بفضل تفانيه من أجل الكِتاب والمقالة والحوار والخبر، كل خبر أدبي ! وإشارة هنا الى انه كان دائماً في هذه الصفحة الثقافية الجندي المجهول، كان يعمل من أجل الصحافة بصمت وبتقشف مذهلين.
انه المُعلّم في مهنية الصحافة من أجل الثقافة، إنه المُعلّم في اللغة العربية، وبالمناسبة، ما أزال حتى اليوم، كلما احتجتُ الى مساعدة في الصرف والنحو، ألجأ اليه سائلة إياه حتى تصحّ عبارتي او جملتي.
وعودة الى صرحه الشعري، فلا بدّ انه أنجز عالماً متكاملا ً قائماً بذاته، قائما ً على أدوات القصيدة الصرفة، حيث لا نقع سوى على جوهر القول الشعري وجوهر التقنية الأبي شقرية وجوهر الأسلوب واللغة. انها الكتابة الشعرية الجوهرية وهي في كلمة أخرى، خلاصة الشعر الأنقى. انه مبدع الأبجدية الشعرية ومبدع أبجدية صورتها، انه النغم واللحن في كل بيت من أبيات القصيدة الحرة والطليقة، وهي كذلك، لأنها المبنية على متانة القول في وقته وفي مكانه. شاعرنا هو الذي يعرف متى وأين تتناسب الصورة والكلمة وهو الذي يعرف تاليا ً كيفية أسلبتهما. لا يستولي على الكلمة صدفة ولا يتبنى المفردة مزاجياً ولا يصنع الصورة كيفما اتفق، وذلك لأن الصياغة الشعرية عنده ليست بنت اي مجانية وليست طارئة، إنما العكس هو الصحيح، حيث للشاعر رؤياه ووعيه في اللعبة الكتابية وحيث للمبنى الشعري ركائزه التي لا تقوم أولاً وآخراً سوى على الجمالية الإستيتيكية الأصلية. وأعني بالأصلية، تلك النابعة من الشعرية المطلقة وهي التي عرفناها ولا نزال، في أعمال شوقي أبي شقرا.
الميزة الكبيرة والفريدة التي عرفها ابي شقرا في شعره، هو انه وكما أسلفتُ، لم يتأثر بتقنيات عقلانية أوغيرعقلانية أتت من الغرب، كذلك لم يحذُ حذو الكثيرين من مجايليه الأجانب والعرب واللبنانيين في اعتماد مكوّنات أسطورية وتاريخية وأدبية عالمية ليبني منها وعليها قصيدته. هذا ما قلته سابقاً وأكرره اليوم، فهو الشاعر المتفرد في صياغة عالم شعري لم يسبقه اليه أحد، ومن هنا فرادته وكونيته. انه وحيد في ابتكاره اللغة الشعرية هذه التي أسمّيها حكما ً ابي شقرية. فكما أشرت أعلاه، لم يأتِ من أي شعرية تنظيرية ولا من أي موجة كتابية كانت رائجة في حينها بين الشعراء العرب، عند بداياته، ولم يأتِ الى الشعر من أي أدلجة سياسية. أتى الى الشعر ناصعاً ونظيفاً من أي «تلوّث» تثاقفي. إنها الطهارة الشعرية التي مارسها ولم يتخلَ عنها. انه بذاته البئر الشفافة ومنها غرف، ولا يزال، كل طاقته الشعرية، الطاقة التي لا تنضب عنده. فلم يتراجع وهج قصيدته في أي من كتبه. بل كلما كتب ونشر كلما وقعنا في صفحاته الوفيرة على المزيد من المتانة الشعرية.
يصنع الأبجدية ويصنع الصورة، فهو صانع حرف القصيدة النابضة حياة في كل سطر وكل كلمة، صانع المفردة والبيت الشعريين من دسم الطبيعة ودسم ذكريات الطفولة وما بعد الطفولة، وأحبُ أن أعيد وأكرر نفسي هنا ايضا ً في ما قلته مرة عنه «فصاحب الزيز والنملة والضفدعة والغصن والجل والخوخة، هو قبل كل شيء صاحب الفتحة والضمة والألف والياء والضاد والتاء وكل أبجدية الشعر واللغة وما بعد الأبجدية». انه ألِف القصيدة وياؤها، انه الفنان الأكبر في رسم كل عناصر الطبيعة في تلاوين كلمات ترفرف فوق الأبيات الشعرية كطيور مزركشة وفرحة لتنطنط من صورة الى أخرى دون كلل ودون الوقوع في البهتان.
انه الشاعر الحديث والراهن، لأنه لم يكن سورياليا ً على الطريقة السوريالية التقليدية الفرنسية. بل يمكنني ان اقول انه لم يكن سوريالياً كما ظنه البعض ولفترة طويلة من الزمن حيث رافقته هذه الصفة عن غير حق وعن غير بحث عميق حول كتابته. هو الشاعر الحديث والراهن، إنما لأنه لم يتبع اي مدرسة من المدارس التي عرفتها أوروبا وأمريكا، أي انه لم يفعل كما سواه من الشعراء الذين أحبوا أن ينضموا الى مدرسة ما او فلسفة ما في الصنعة الشعرية. أنه الشاعر الحديث ودائما ً الراهن لأنه بدأ حرا ً وظلّ حراً من أي موضة، ونعرف ان الموضة موجة ذات مدة محددة وبعدها تموت وتنتهي. هكذا هي الموجات الأدبية والفنية كلها التي عرفناها، أقله منذ مائة عام ونيف، حيث السوريالية سرعان ما انطفأ وهجها والدادائية سرعان ما تآكلت واستهلكت نفسها والبارناسية بهتت ووقعت في النسيان وكذلك الرمزية الخ. هذا شأن كل موضة، اي كل نظرية عقلانية (مهما أدعت اللاعقلانية الشعرية كالسريالية وسواها)، فتنشر بيانها وقوانينها، تروّج لها لتأخذ قسطاً من الدعاية والشهرة، لكن لا بدّ ان يعود الشعر الى مجراه الطبيعي والشاعر الى طريقته الشخصية والعفوية. ما من شيء يدوم في الشعر وفي الفن عامة سوى ما يقوم على العفوية، وأعني بالعفوية وحصرياً، تلك التي أصلاً تقوم على وعي جمالي محض ووعي فني كبير نابع من الذات. في كلمة مختصرة، أعني بالعفوية ما يظلّ متحرراً من أي ايديولوجيا فنية (وسياسية) ليطير طليقا ً في مطلق الشعر الفذ كما لدى شوقي ابي شقرا !
فمنذ البداية، أي منذ أن ترك، ولو في قلبه غصة كما يقول، حلقة «الثريا» أواخر الخمسينات لينضم الى مجموعة شعراء مجلة «شعر» (وبالمناسبة ابي شقرا حاز في ذلك الوقت «جائزة مجلة شعر» عن كتابه «ماء الى حصان العائلة». وكان الثالث في حيازتها مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وأدونيس، ومن بعدهم توقفت الجائزة)، إذا ً منذ ترك حلقة «الثريا» وعى الشاعر تلقائياً وعفوياً، من خلال حدسه الشعري، مستلزمات الكتابة الجديدة المعاصرة ملتقطاً سريعاً جوهر اللعبة الشعرية الحديثة، ولا مُعلم له سوى ذاته. ويجب القول انه من باب الحدس فحسب شعرَ بضرورة الإنتقال الى مجلة «شعر» وأعتقدُ بذلك انه لم يأتِ الى هذه المجلة صدفة. بل قدومه اليها كان ضرورة حتمية لأنه في أي حال كان سيبتعد عن القصيدة الموزونة التي بدأ معها، كونه برز في حقبة مجلة «شعر» تلك، كأحد أهم أركان الكتابة الشعرية الحديثة التي كانت حاجة ملحة في المجال الأدبي حينها، وهو حدس بهذا الإلحاح الشعري الحديث والذي لا بد منه لتستوي القصيدة.
وجوده أساسي، شعراً وصحافةً (في مجلة شعر وفي ما بعد في جريدة «النهار» حيث أنشأ الصفحة الثقافية). انه الشاعر الأساسي في المشهد الشعري اللبناني والعربي.
مُعلمٌ في رسم الصورة الشعرية وفي نحت بيت القصيدة، مُعلّمٌ في ضرب قلمه الفذ حيث بلوغ منتهى القصيدة بنيةً وصياغةً وهيكلةً، منتهى التصوير والإيقاع. انه الشاعر المغامر الذي أسس لشعرية جديدة تركت أثرها الكبير على شعراء كثر، تركت أثرها على القصيدة الحديثة ككل.
v
شوقي أبي شقرا
اللون الأصفى في القصيدة
سليمان بختي:
كاتب وناشر من لبنان.
لا يزال الشاعر شوقي أبي شقرا منذ ديوانه الشعري الاول «أكياس الفقراء» (1959) وحتى « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» (2004) دار نلسن للنشر- يحوم على المعنى المستحيل كما يحوم القلب على الذهن على حد تعبير الشريف الرضي، يراقب النجمة في اول السطر ويرافقها غالباً الى منزلها المنيف. وسأكمل شعراً ما وددت ان أقوله مقتبساً من قصيدة له من كتابه الاخير «تتساقط الثمار …» وهي بعنوان «أصفق للحياة وقوفاً»:
« لا ازال الورق الاخضر والاقوى وليس الورقة والطيور
من حراب النور
واللون الاصفى في لوحة الافق.
واصفق وقوفاً على الحجر للحياة
والطويل الإهاب
والمغني المزدان بالأوسمة
من والدته الطبيعة»
حكاية الشاعر شوقي أبي شقرا مع الشعر هي حكاية العمر كله. حكايته مع الكلمة التي صارت انساناً، والانسان الذي صار هو المكان، والمكان هو الاثر، والأثر هو الرمز، والرمز هو الشعر.
من زمان اضطجع شوقي أبي شقرا على الطلل والعرزال وعلى المطلع والقوافي والاوزان. وانهمك في صياغة قصيدة مشغولة من طفولة وغياب، من طبيعة وصور، من أسى ودهشة وخيال، من عزلة وتعب ولعب. ولبث يقترب شيئاً فشيئاً من وهج الحقيقة مدركاً ان الشكل باهظ التكاليف أو انهم سيسيئون تفسيره حتماً. وانه سيمشي حافياً فوق الجمر ليدل الاخرين على جمال جديد، على المغامرة القصوى، على أفق مغاير للقصيدة العربية الحديثة. وان يوضح مراراً ما التبس او غمض. ليس فقط ان تخرج الى شكل جديد بل ان تحمل المعنى اذ يشرق من شق العبارة الى الحرية، وتحتفي بالكلمة قطعة من الحياة، غرزة من الامل، حفنة من خلاص:
«وهات الكلمات للخلاص
من الاخطبوط،
لنرشفها ونشفى من الحنين
أيها الصائغ»
(قصيدة القلادة )
من مجموعة «تتساقط الثمار …..»
كانت لديه منذ البداية لغة مغلقة على الكنز وقادته عصا الغابة الواسعة الاجنحة، وقادته عصا الخيال والحجر لان يزحزح الباب العملاق. كان له من الوجد كل الوجد، ومن الهوى الفة الهوى، ومن الشوق ما شاق على الشاعر ان يحمل او يرود.
جاء شوقي ابي شقرا الى الشعر من الطفولة والخيال مثلما جاء ايضاً من المشقة والشغف.
حمل زوادته وكتابه ومشى. ادرك منذ بداية الرحلة التي غاب عنها والده حصان العائلة باكراً. ان المعارك امامه وفيرة وانه سيعيش في الفقدان ولكنه سيرفض الانصياع لقانون الحياة والعادة. هاجمته قسوة الحياة لأجل رجولة مبكرة فرفض التخلي عن الطفولة او خسرانها. وهاجمه ايضاً التشتت في الأمكنة فرفض ان يخسر المكان الاول المكان الاصل رحم القرية ونبع الريف. وهاجمه ايضا الواقع بضراوة فرفض ان يخسر الخيال، عالمه السري السحري . مشى وكتم رغبة في الانتقام من الحياة وكل ما يمكله اللغة والكلمات وزوادته القليلة . أذكر أني سألته في حوار لكتابي « إشارات النص والابداع» قلت مرة انك صرت شاعراً لتنتقم من الحياة، سؤالي هل انت راض ٍ عن الحياة ام عن الانتقام؟ صمت برهة ثم أجاب « أعتقد أنني انتقمت من الحياة دون ان أجرحها. لكن عبرت عن الذي عبرت عنه بطريقة انتقامية وشريفة ونبيلة. وكما يقولون بالفروسية أي الذي يقلب الآخر عن الحصان هو المنتصر. أنا قلبت الحياة وانتصرت عليها بهذه الطريقة. لم يكن لدي طريقة أخرى ولا سلاح. سلاحي القلم والخيال. هذاالخيال الذي أوصلني الى أبعد ما يكون وهو الذي أرضاني وجعلني من أكون. الخيال العظيم. وأعترف ان ما لدي من الخيال لا يملكه أحد. وربما جر علي مشاكل وصعاباً».
كيف يولد الشاعر من الخيال؟ كيف يولد الشعر في الحقول؟ وكيف تولد القصيدة في البساتين؟ ورث شوقي أبي شقرا عن اسلافه نقاوة النظر الى التلال. رأى كيف يتحول عنقود العنب المتدلي من العريشة الى عنقود الصور المتدلي من اللغة. وشاهد كيف تدنو اللغة من المعنى النادر ويقترن المعنى بضيافة الامل بعناية الالم بحرقة الغياب.
لا أعرف من قال ان الشعر هو حضور الغياب. غاب الوالد وغابت الطفولة وغاب المكان. وحضرت اللغة والقصيدة والخيال. وحضر أيضاً الحنين ذاك التلمس الأعمى لإعادة تشكيل عالم غائب. حنين ازلي الى جنة مفقودة. حنين متواصل الى مكان كلما اقتربنا منه تناثر او توارى. هذا الحنين بات التجربة الأصلية التي وحدت هذا العالم، ومن خلاله وحدّ أبي شقرا المسافات بين الذات والمكان والروح وبين القرية والمدينة والكون.
صنع أبي شقرا مساره من الداخل ولم يستعن بخطاب او اسطورة. قريته هي اسطورته ورمزه، قريته هي عالمه، وتجربته الشعرية هي تجربة الحقيقة الوجودية الكيانية، ورفع الواقع الى عالم الخرافة. وبذلك غدا شوقي أبي شقرا شاعر المكانية اللبنانية المفتوحة على مداها الانساني الشمولي الرحب. واختصرت مغامرته الشعرية جوهر الحياة في لبنان وألوانها ومداها المفتوح على النقد والاختبار والتسامح والتنوع واحترام الآخر. مع شوقي ابي شقرا بتنا نعرف كيف تستقبل فسحة الخيال في قريتنا طفلاً يلهو. وكيف تستقبل الحياة في عالمنا شاعراً لا يشبه احداً. واكتشفنا في صوته صوت التطهر من الآثام والمرارات. صوت الفضاءات في المكان والروح والاشياء. صوت نكران كل شيء الا حقيقة الذات. صوت الخيال حين يضج بأعنف صوره وتشكيلاته. صوت الجمال المسكوب في الكلمة والمتأنق في العبارة والمتجهد في حضرة الطبيعة الارض الأب – الام- النبع- التعزية.
ماذا يريد شوقي ابي شقرا ؟ يريد من الحياة ان تظل تدهشنا ونكتشف فيها كل هذا الغلط الوجودي الذي يستحيل شعرا ً الشعري رغم القدر والأشواك. يريد من الطفولة ان تسكننا كالملح فلا نفسد ابداً.
يريد من اللعب طرافته وغرابته ولو اننا على حافة الهاوية والمأساة فلا يفني الامل ولا يبيت الرجاء في العراء. يريد ان لا يأتي شعراء أقل من القصيدة لأن هذا يدفعه الى الخوف والحزن.
يريد ان نظل نحمل حيلة القول، وذروة الكمال الملقى على كاهل الانسان اولاً وأخيراً.
هذه الرحلة الوجودية الجمالية الصوفية المنتظرة دائماً بكل جديد وقشيب تجعلنا نسأل ماذا يفعل شوقي ابي شقرا اليوم؟
بعد ثلاث عشرة مجموعة شعرية، وريادة في فتح الابواب وتمهيد الطرق، وبعد المشقة والشغف، وبعد المشوار الذي سلخه من الطبيعة الى مدرسة الحكمة والقسم الداخلي فيها الى التعليم في المدارس والمشي الطليق في شوارع بيروت وركوب الترامواي، الى حلقة الثريا 1956 الى مجلة شعر 1959 والمغامرة الكبرى الى الصحافة وجريدة «الزمان» وجريدة «النهار» وصفحاتها الثقافية، الى السعي اللانهائي لأجل القصيدة، الى الطرقات التي وطأها ولم يعكف شوقي اليوم على كتابة مذكراته شهادة للزمن الآتي والآني والذي عبر، وثيقة لمن يؤثر معرفة قصة القصيدة العربية الحديثة، ولمن يودّ ان يعرف كيف انضمت التباشير وحلقت الطيور في سماء خفيضة ووسيعة وصنعت الربيع.
وها أنا كلما زرته في بيته في الأشرفية أطمئن الى وجود ذلك الخاتم في أصبعه، خاتم الطفولة الذي يضيء الطريق كلما هبطت الظلمة وأليل الليل.
وأخيراً، أود ان أروي صلتي به كناشر لكتبه الاربعة الاخيرة التي صدرت في دار نلسن للنشر لبعض طقوسه في التعامل فهو مثلاً لا يعطيك المخطوطة الا قبل ان يشعر حقاً ان الكتاب صار في فضاء خلفه. وحين يعطيك المخطوطة فيقدمها اليك كمن يستل اوراقاً من قلبه او قطعة من ذاته. ينظر في انسان عينك كأنه يأتمنك على اسرار عاشت معه طويلاً وحان وقت ولادتها الجديدة.
أذكر حين صدر كتابه النثري الشعري الجميل «سائق الأمس ينزل من العربة» عام 2000 انه اتصل بي في مساء متأخر والكتاب في المطبعة وقال أريد ان أغير العنوان من «الامس محمولاً على عربة» الى «سائق الامس ينزل من العربة» فقلت له «طبعا نغير ومن يقدر ان لا يغير العنوان لجوهرجي الشعر ولسيد العناوين على مدى ثلث قرن في الشعر العربي والصحافة اللبنانية».
وبعد، شوقي ابي شقرا من الشعراء الكبار الذين تعرف قصائدهم ومفرداتهم وعوالمهم وحتى ولو لم يوقعوا. انه على ما يقول فاليري «شاعر اللغة داخل اللغة».
وامتيازه في ذاتيته الحادة لغة وخيالاً وخربطة علاقات وإن كان لبعض الشعراء أهمية في تاريخ الشعر ولبعضهم الآخر أهمية في فن الشعر فإن لشوقي أبي شقرا أهمية في كليهما، وأيضا في أبجدية الكلمة والصورة.
ذرف شوقي أدق التعب وأرقه على تجربته. انه الشاعر الحق الذي يحتفل بالحياة ويصفق لها من بعيد ويحملها بأوجاع يديه حتى يبقى للأمل والجمال المكان الأبهى الأمثل والبين في مسارنا الشعري العربي، ويبقى هو اللون الأصفى في لوحة القصيدة العربية الحديثة.
v
شوقي أبي شقرا
وجمالية الحداثة
قيصر عفيف
شاعر من لبنان وصاحب مجلة «الحركة الشعرية».
مع حركة الحداثة بدأ الخروج من قواعد الكتابة القديمة. تبدلت القواعد والاجواء وخرجت القصيدة بألوان وحِلل مدهشة أعطتْ الشعر العربي المعاصر وهجاً جديداً. وكان لا بدّ لهذه الحركة الجديدة المندفعة منذ خمسينات القرن الماضي الى شاعر عملاق يرشد خطواتها، يحدّد معالمها، يرسم مسيرتها ويحرس لغتها. وجاءها الشاعر شوقي ابي شقرا الذي راح منذ بداياته في مجلة «شِعر» اولا ومن ثم في تأسيسه وإشرافه على الصفحة الثقافية في صحيفة «النهار» اليومية يخترع جمالية جديدة للشِعر العربي المعاصر ويوجّه الاجيال الجديدة نحوها. فما أبرز سمات هذه الجمالية التي نراها في أعمال هذا الشاعر الفذ؟
في العصور الماضية كانت تُقاس الحضارات بما تنتجه من فنون. فاليونان، والالمان من بعد، اعتبروا ان الحس الجمالي مركوز في جبلة الانسان. ولهذا لم يكن غريباً أن يقول غوته (1749-1832) مقولته الشهيرة :»على الانسان ان يسمع في كل يوم قليلا من الموسيقى، وأن يقرأ قليلا من الشِعر، وأن يتأمل لوحة او منحوتة حتى لا تطمس مشكلات الحياة اليومية الحس الجمالي الذي زرعه الرب في القلب». ولكن بعد ان ضربت الحروب اوروبا تبدلت الاولويات. وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تزعزعت القيم التقليدية والاخلاقية ولم تسلم الفنون من هذه الخلخلة وخصوصا الشعر. فبدأ الناس يتساءلون عن أهمية الشعر ودوره وقيمته في الحياة المعاصرة حتى أن بعضهم بشَّر بأفوله وموته. وانتقلت هذه العدوى الى العالم العربي مع حركة الحداثة وكان على الشعراء أن يذكّروا الناس ان الشعر من جوهر الانسان ولن تقف امام الشاعر عقبة تمنعه من الخلق. أدرك الشعراء ان الخطر على الشِعر يأتي من الناشر الذي ترك للسوق ان تحدد الأهمية والأولوية. والناشر اعتبر الشِعر هامشيا سطحيا لأنه لا يدر المال . أما الشاعر فكان يرى ان الشعر جوهر الوجود لأنه يكشف عن جوانب خفية في التجربة الانسانية.
في هذا السجال وقف الشاعر أبي شقرا يؤكد الا زوال للشعر. أعلن بوضوح: «… أما الشِعر فهو الأخضر ولا قدرة لأحد على ان يلفّه وأن يقدّده ويعلقه في السقف مع البصل والثوم.» (سائق الامس ينزل من العربة، دار نلسن 2000 ص 174) ويضيف مشدداً على أهمية الشعر في عصرنا قائلاَ: «ولا عجب ان يسبق الشعر كل المبتكرات فهو، في عصرنا، وفي حقبتنا الآن، يأخذنا أكثر الى حيث تأخذنا الألكترونيات، الى الاوهام الراقية.» (سائق الأمس، ص 175) ويؤكد أيضا ان الشِعر نشاط ثقافي روحي أي انساني بامتياز يتجاوز العادي والمألوف وما دام في الانسان قلب وشعور وأحاسيس فالشعر قائم. «ووظيفته ان يسرّك وأن يدخل الى عبّك الى صدرك، وأن ينقلك من حيّز الى حيّز، ومن بهاء الى بهاء.» (سائق الامس ينزل من العربة، ص 175) ويرى الشاعر ان من اهمية الشعر أيضا انه يحفظ اللغة وينقذها. يقول: «ولا تجد هذه اللغة تجمد أو تموت، بل ان الشعر هو المنقذ وهو الثريّ جداً يقلّمها ويرويها في حكايته، في مغامراته، في سهوله الخصبة…فهذه اللغة تتعالى عن الواقع وتذهب في اتجاه غير ترابي غير أرضي.»( سائق الامس، ص 176).
لا أعرف شاعراً رفع من شأن الشاعر والقصيدة كما فعل شوقي ابي شقرا. لم يترك مناسبة الا وتناول أهميتهما. فهي «الفانوس وقت الخراب» والشاعر «من السلالة النورانية والساهر على اللعبة والقوة فيه زهرة طالعة».. . والقصيدة «فتاة يطل عليها الشاعر ويسقيها من عمره جرعة الخمر، ويمنحها صفة الارتفاع وبلوغ النضج»(سائق الأمس ص 119) وتكون معاناة الشاعر على أشدّها حين تغيب هذه الفتاة لأنها تتركه وحيداً ضائعاً هائماً . إسمعه يحدثنا في نثره السحري عنها:» ولا يشقى (الشاعر) ابداّ إلا حين تهرب منه، تهرب القصيدة إلى أبيها ثم يسرع من المتكأ إلى الخارج ويخطف القصيدة من ذويها،من أبيها، من خالتها وأمها، ويذهب إلى السوق ليشتري لها الخلخال والحجر الأزرق والقلادة……وتظهر في الإطار الزجاجي هكذا وهي تضحك للزوّار وفي يدها الباقة، باقة العهد.» (سائق الأمس ص 273).
تمنى الشاعر ان تأتيه القصيدة جاهزة، جميلة، كاملة الاوصاف. والحقيقة انها لا تأتيه إلا بعد عناء. فالخلخال والحجر الأزرق والقلادة بحاجة الى صائغ ماهر. والشاعر جوعان والقصيدة سمكة لكنها لا تأتيه جاهزة مهما طلب منها:
طلبنا من القصيدة بجمال ساقيها
وبهاء معدتها وأملس البطن
أن تأتي مقلية او مشوية
على صينية النادل
فلم تأتِ لأنها منهمكة في الماكياج
وطلبنا من السماء الرأفة
فلم تقبل ان تلتفت.
(تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة) دار نلسن 2004 ص 181
واذا تساءلنا كيف يزيّن الشاعر فتاته، قصيدته ويجمّلها؟ يجيبنا ابي شقرا ببساطة ان أداة الشاعر الأهم هي خياله. كلمات المعاجم أدركتها المعاني، أسرتها في خانات وحددتها. يشعل خيال الشاعر ناراً في اللغة ويبدع لغة داخل اللغة. يحمّل الكلمات المعاني والصور التي تعجز عنها المعاجم فتترك معانيها المتعارف عليها وتلبس ثياباً لم تألفها من قبل. يقول في قصيدته « نيران الأسطورة» من مجموعته تتساقط الثمار ص 79: «وأدَعُ خيالي يلعب وخيالي». وفي «سائق الأمس ينزل من العربة « ص 143 كتب « وأتكلم في خيالي مع خيالي». ولكن ما الخيال؟ انه ذكاء يلعب داخل الدائرة وخارجها، فوق الحدود وتحتها لا حدود تحدّه ولا عقبات أمامه. الخيال ذكاء تخلى عن الألاعيب الفكرية والمماحكات النظرية وراح يلعب على مسارح الإبداع بالكلمات والصور فتأتيه القصيدة نتيجة هذه اللعبة الذكية. أنه حصان مجنّح يحمل الشاعر الى عوالم لم تولد بعد يستمد منها رؤاه ويحدد نظرته الى الكائنات. في خياله الخصب والمشرّع على الاتجاهات يكمن السر في غرائبية هذا الشاعر الذي ينقلك من غرائبية إلى غرائبية، من دهشة إلى دهشة، من فصاحة الى فصاحة، لتحملك قصيدته الى ألوان جديدة وبهجة جديدة وكلما عاودت قراءتها كلما ظهرت لك زوايا كانت خفيّة ومعانٍ كانت محجوبة. إنه الخيال الفريد يبدع رموز القصيدة، يرتّب صورها، يطرّزها، يصقل نتواءتها ويزرعها بالكلمات «النادرة الريش» على حدّ تعبيره. أسمعه يتحدث عن علاقته مع خياله:
أملك الاسطبل حيث خيالي
يمرح بي ويسرح فرساً أو نعجةً تهمدر
أوعنقاء تسافر على طريق العين
وفي مطار الامنيات
سائق الأمس، ص. 44
لأنه اعتبر ان الخيال عند الشاعر هو حجر الزاوية في البناء الجميل للقصيدة، عارض ابي شقرا شعراء جيله من عرب وأجانب الذين اعتمدوا الاساطير في أعمالهم الشعرية وبنوا قصائدهم عليها واعتبروها ضرورة تمنح القصيدة رحابة ومدى وأبعاداً. ويشير إلى ذلك في أكثر من قصيدة وأكثر من نصٍّ نثري. يرى ان على الشاعر ان يترك الأساطير على رفوف الكتب ويستمد موضوعاته من الشارع والبيت والمدينة والناس والأرض وكل شيء حوله ويُعمل خياله ليبدع البطل الخاص به ويكون ابن بيئته بدل ان يستعيره من بطون الاساطير، صفحات الكتب وأخبار الآخرين. يتساءل أبي شقرا : «لماذا نرغب ان ننطح بسيف غيرنا وأن نصل من هذا الباب الى العمق الوجودي والكيان الأصيل الذي هو الغاية والرسالة» (سائق الأمي ينزل من العربة ص. 354) وليحدد موقفه استعار اسطورة عوليس وكتب شارحاً: «ولا نستقبل الممثل العوليسي بل نلتفت إلى منظر آخر، يقع في ناحيتنا، في جغرافيتنا، ونبرهن له أننا نسافر ونرحل معا ونحن على مركبنا، على خيالنا، ونبصر البحر من لوننا الأزرق….ونظل أحرارا من الاسطورة كما ولدتنا الأمهات. ونضع عوليس على الرف، ورفاقه وعجائبه، ونصنع الجميع دمى لنلهو بها ساعة نشاء، ونرسم على الحائط بطلاً منا كي يحيا وينتقل من العدم إلى الكينونة.» (سائق الأمس، صفحة 233) وحده الشاعر الذي يخلق أبطاله وموضوعاته مما يراه حوله يستطيع ان يقول:
ولي شعلتي الوحيدة الوهج
لا تفنى ذبالتها،
ولا استعير من بنات القمر الصوّان والقداحة،
إنها راسخة في درعي
وفي الشمعدان،
ولا يوما إلى الرقاد
ولا يتعدّى على املاكي أيّ صيّاد.
( تتساقط الثمار والطيور، ص 80 )
وحتى تشرقط القصيدة في جمالها الخاص يلزمها ان تكون مغلّفة الجوانب بالغموض. يرى الشاعر شوقي ابي شقرا ان البساطة، كما الوضوح، تقضي على النص كما السوسة على الخشب. فالبساطة الموغلة صنو السخافة لانها تُفقِد النص أبعاده. وهذا منحى جمالي تناوله الشاعر أيضاً في قصائده ومقالاته النثرية وأحاديثه الخاصة. وأفرد فصلاً كاملاً من كتابه «سائق الأمس ينزل من العربة» سمّاه «السهولة قاتلة للنص والقصيدة» يتحدث فيه عن الذين يعتمدون السهولة في نصوصهم، الشعري منها والنثري، يقول عنهم انهم يظنون انهم يبدعون الصور والرسمات ويفعلون الحسن والأحسن ولكنهم «في غير هذا المجال، في حالة من السهولة التي إن دخلت في المرء، في الإنسان، في الفنان، فقل انها السوسة وإنها تعطل الإبداع، والرذل والأشاحة هما أقلّ العقاب واقلّ اللامبالاة تجاهها» ص 181. وحتى لا تتعرض اعماله للإهمال والرذل على الشاعر أو الكاتب ان يتخلى عن هذه السهولة القاتلة فلا يبقى على السطح بل يعمل على الدخول إلى الابعاد والأعماق يصطاد منها معانيه وصوره. مرة اخرى لنسمع كيف يشير إلى ذلك:
«انها السهولة التي نطردها من باب الدار، ونردّها الى السياج، لتلعب هناك في الحقل، وتتمرّن على الطعام، وعلى إرسال منقارها في الأرض لالتقاط الغذاء، الى ان ترتفع من مرتبة الدجاجة إلى مرتبة الصقر الذي يرى من عليائه مثلما يرى من الأسفل…. أو هو القارىء الذي يبصر اللمعة والقصيدة واللوحة…. وعندئذ يأخذ من هذا الموضع كنزه، ويروح يتباهى بأنه حصل على اللذة…وأن اللذة مستعادة، فلا تكون مرة واحدة، بل مراراً ويكون الطيران والتحليق جزءاً من اللعبة» (سائق الأمس، ص 182)
ومِن صفات الجمال ايضا ان يكون الشاعر فردا مميّز الأسلوب والصقل والتركيب. فالشاعر الذي يُكرِّر أنماط السابقين، أساليبهم، وطرقهم يعرض قصيدته للابتذال. يقول ابي شقرا «إن الشاعر الذي ننشده يختلف عن الكلمات السابقة والشعراء السابقين» (سائق الأمس ص269).على الشاعر اذن ان يكون دائم الابتكار والخلق ليكون له الاسلوب الخاص والنكهة المميزة. فالشاعر، بتعبير أبي شقرا، هو «أبو الخليقة بدءاً من الله، ووصولاً إليه» (سائق الأمس، ص.264) وبهذا المعنى لا يتكرر أبداً ولا يتشابه مع سلف او معاصر. لا يسكب من صحن غيره ولا يصب كلماته في قوالب غيره، ولا خلاص له إلا اذا كان فريداً يحمل بصمته الخاصة يتركها على اللغة ويبدع بها لغة جديدة. ويحذّر ابي شقرا قائلاً: «علينا ان نهرب من اللغة إلى اللغة لئلا نتشابه ونقف في الصف ونصير الصحراء التي تشابه رملها، والنخيل هو ذاته والسعف والثمار.» ( سائق الأمس، ص 120) وباختصار كلما تنوعت الورود والازاهير في حديقة الشِعر كلما ازداد جمالها وسطع رونقها.
ومن علامات الجمال في قصيدة أبي شقرا استعماله كلمات من اللغة اللبنانية المحكية يطرّز بها النص. ولا غرابة في ذلك لأنه من بيئته، ناساً وجغرافية ومؤسسات استمدَّ موضوعاته. تراه «يحتطب من بيداء اللغة» (التعبير له) ليشعل ناراً في القصيدة فهي لا تأتيه كما يقول جاهزة من فانوس علاء الدين وجنيّاته، ولا يشتريها كما السكر والباذنجان من الدكان. عليه أذن ان يصقلها بحنكته، يصوغها بموهبته ويلّونها بعبقريته الخاصة. فالى بعض الذين عابوا عليه استعمال الكلمات العامية في نصه أفرد امثلة تشير إلى كيف استطاع ان يأخذ الكلمة المحكية ويركب صورة شعرية جميلة تقف على قدميها وترفع رأسها. قال في مجموعته «نوتي مزدهر القوام»، دار نلسن 2003، ص. 136 «وقجّتك تمتلىء بالنُور». لو استبدل «قجتك» بـ «محصلتك» ألا تنكسر الصورة وتجرح سمعنا وتخسر شفافيّتها؟ او كيف تستبدل كلمة «الكمشة» في الصورة التالية دون ان تخدشها؟ «وترسل الكمشة من المسك» (نوتي مزدهر القوام ص. )45 ثم ان كلمة «كمشة» تعني ما تعنيه في المجتمع اللبناني ولو بدلّناه لخسرت معناها المقصود والمتعارف عليه في المجتمع اللبناني. أو كيف تستعيد حياة القرية اللبنانية لو استبدل كلمة «مشاوير» في قوله :» ولا مشاويرإلى نسيم نشمّه» بكلمة أخرى من الفصحى؟ ولنأخذ مثلاً آخر: « ومن سكارى نفرت عيونهم إلى الامام، وإن سقطتْ نلمّها بالمحرمة» أو هذه الصورة « أبو الحن بالفوطة البرتقالية تحت ذقنه» ( نوتي مزدهر القوام، ص. 37) أترانا نستطيع ان نستبدل «المحرمة» و«الفوطة» دون ان تخسر الصورة لبنانيتها؟ اذن فالشاعر أبي شقرا ابن بيئته أخذ المفردة من لغتة المحكية لكنه عرف كيف يسكبها في النص لتكسبه جمالاً في الصورة ودقة في إداء المعنى المقصود. كيف لا نتذكر اذن، ونحن نقرأ شعر أبي شقرا، مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر بأن الكلام المحكي شعر.
ومن جماليات الحداثة عند ابي شقرا ألّا يلجأ الشاعر الى الأشكال القديمة والأوزان الخليلية لأن هذه لم تعد تناسب العصر أولا ً ولأن الشعر لا يقاس بالاوزان والقوافي. ولعله هنا يعيد المقولة النقدية عن العرب القدامي الذين ميّزوا بين الشاعر والنظّام. فليس من الضرورة ان تحدّد الاوزان جوهر القصيدة فالمقصود شيء آخر مختلف تماماً. يذكّرنا انه بدأ الشعر خليليلاً ولكنه تخلى عنه. اسمعه يقول عن تجربته في كتابه «سائق الامس، ص. 270
ا وترغب ايضاً في إلباس الشاعر زّيه اللائق، لا ان يرتدي ثوبا ليس أنيقا وليس لا ئقاً بك….إذ لا القافية ولا الوزن هما مسألتك او ميدانك، بل انك مررت على الخيمة وصافحت الملك الخليل ابن احمد، واعتذرت من القافية، لانك بدأت المشوار إلى الكروم معها، وخطبت الشمس من إصبعها، وأدخلت الخاتم في سياقها، في مرونتها، في لهبها، في لحمها.»
منذ مجلة «شِعر» وعلى مدى عقود كان فيها القيِّم على الصفحة الثقافية في صحيفة «النهار» وقت كانت هذه الصحيفة في تألقها السابق، كان شوقي ابي شقرا «النوتي المزدهر القوام» وسائق العربة الجمالية في أدب الحداثة من نثر وشِعر. تسنَّى له في هذه العربة أن يرسم طُرق الجمال في الابداع الادبي ويحدّد معالمه لأنه أُوتي حاسة جمالية رفيعه مع ذوق لغوي عالٍ ورشاقة في التعبير عَزَّ نظيرها. على يديه تطوّرت اللغة العربية وتزيّنتْ فجاءتْ أكثر طراوة وصفاء، أكثر رهافة وليونة، أكثر غنى ودقة في التعبير. صارت صفحته الثقافية الشعلة اليومية تضيء طريق الجمال لأجيال فكان له الفضل على كثيرين وكاتب هذه الكلمات واحد منهم. أتراني أغلو حين أقول ان ابي شقرا قيمة جمالية حين كان سائق الامس واليوم لانه لا يزال يقود في كلِّ ما يكتب عربةَ الجمال نحو الأحلى والأسمى والأكثر تفرداً وتميّزاً في عربة العربية المعاصرة.
v
شوقي ابي شقرا
في حلقة الثريا
جان دايه
كاتب وباحث من لبنان.
لو كانت المنبرية معيار الشعرية الوحيد والأساسي، والمهرجانية الخطابية بطاقة دخول الى الجمعيات الأدبية وتسلّم مسؤوليات رفيعة في هيئاتها الإدارية، لما كان أحد سمع بالشاعر المجدد شوقي ابي شقرا. ولحسن حظ الشعر والجمعيات الأدبية ذات الثقل الشعري كحلقة الثريا، فإن الموهبة والإجتهاد الجدي المتواصل والمفجر للمواهب والنتاج المبدع، والعمل الشاق الصامت في المؤسسات الثقافية ودورياتها، كانت في خمسينات القرن الماضي أحد المعايير الرئيسية- ولا اقول المعيار الوحيد لأن الجمعيات الأدبية وصفحات الدوريات الثقافية مليئة بالشعراء المهرجانيين والخطباء- أما اذا التقت المنبرية والمهرجانية والشاعرية في الشاعر الموهوب كما هي الحال مع الشاعر والناثر نزار قباني، فيكون «زيت على زيتون» على حد تعبير الشوفيين وشوقي منهم وإبن احدى قرى قضاء الشوف في جبل لبنان.
كان شوقي دون العشرين ربيعاً حين بدأت مجلة «الحكمة» البيروتية تنشر بعض قصائده وقد سبقت غيرها من الدوريات الأدبية اللبنانية. كانت «ذهب» باكورة قصائد شوقي في «الحكمة» وقد نشرت في عدد نيسان (ابريل) 1955، وفي الصفحة نفسها المنشورة، قصيدة «الى أسمر» لجورج غانم. قال في القصيدة الموزونة المقفاة التي توحي مكان ناظمها شاعر محترف:
«هذه الأوتار المهذبة التحنان، ترغي برغوة صوفية
هذه الغمرة الوليدة منها قد كستني بكسوة الحرية
بللتني كما يبلل ينبوع رهيف اضمامة وردية
غسقٌ طاب بعدها موئلاً للشعر طيب العصفور في أغنية
طيب غيم تحت السماء وطيب الغيم فوق المسارح البشرية».
وتتابعت القصائد بصورة دورية في تلك المجلة الأدبية الشهرية. فيسألها شوقي في قصيدة «سرور» المنشورة في عدد أيار (مايو) 1955 :
«هل نظرتِ السهولَ يشمخ فيها
زيزفون وسنديان مماثل ؟…
والبراري التي عليها أكاليل
وعيدانٌ فاغمات الجدائل ؟»
يضيف، ودائماً اليها :
«هوذا الحنبلاس قد ظهر الحَبُ
عليه وناتئات اوائل
لملميها وهدّئيها بحضنٍ
حضنك الفاتن الأنيق الشامل»
الى ان يقول :
« انظري المؤمنين اي غموضٍ حلّ بكراً في خطوهم للهياكل».
ونقرأ في «فجر» المنشورة في «الحكمة» عدد حزيران (يونيو) 1955 :
«هو طفلٌ من التباشير مئنافُ سريرٍ وشبه طفل المهادِ
وغلامٌ له البعاد شغوفاً رفضتع البلاد الا بلادي
أهلها يحرثون ارضاً لتعطي
ويشقون صدرها المتمادي
عندهم معولٌ يحثحث ترباً بانقلابٍ ولهثةٍ وجهاد»
في عدد تموز (يوليو) 1955 نشر شوقي قصيدة «ميميا».
وفي قصيدة «انفراد» المنشورة في عدد آب (أغسطس)، والتي يوصينا الشاعر بأن «نقرأها متمهلين»، نقرأ وفق الوصية :
«انا وأنتِ وحدنا… وسط غاب
أسوده لطيفة… والذئاب
انا وأنتِ وحدنا … في جنان
وعندنا الزمان غير زمان
وليتنا، ثم، نكزنا الكمان
بريشة مجلوة… ليتنا»
وفي العام نفسه 1955 توفي الشاعر صلاح لبكي الذي كان يرأس «جمعية أهل القلم» فرثاه شوقي بقصيدة في عدد ايلول (سبتمبر) قال له فيها عبر ابيات غير تقليدية:
«نشأت على دنيا من الشعر بضةٍ
ودنياكَ أثراها رشيق تلفّتِ
بها الهمسات الحور غراء تلتظي
وفيها انثلام الريح بين شجيرة
ذرأتَ فرادى في القريض نقية
ً وحلّقت بالأهزوجة العربيةِ
رقيتَ بتحديدٍ الى مسمع الورى
وشنّفتَ أسماع الورى بنقيةِ»
واحتلّت قصيدة «ميلادية» المنشورة في عدد كانون الثاني (يناير) 1957 صفحة كاملة، وقد أهداها «الى والدي الميت الحي» وقال في مطلعها :
«أهدني يا يسوع في الميلاد
دميةً تستحي كمثل فؤادي
أهدني والدي الذي مات عني
وأنا بعدُ أصغر الأولادِ
فرسا ً يعلو بي الى حيث لا قا
نونَ للظالمين والأسيادِ»
اضاف مخاطباً صاحب العيد بلغة «خوشبوشية» يتداولها عادة المؤمنون الحقيقيون مع قادتهم التاريخيين :
«يا أخي يسوع عيدك هذا
كالندى في عرمرم الأعواد
واصلٌ يا رفيق مني الى قدْ
ركَ شعري وسمعتي وودادي
جلْ بمغنايَ…ليس هذا رديئا
انه مغنىً مثلُ مغناكَ عادي
في زواياه مبلغ من قصاصا
تي وحبري وريشتي وعنادي»
تميزت هذه القصيدة عن سابقاتها، ليس فقط بصورها الشعرية الحافلة باللمعات الإبداعية، بل أيضاً بالإهداء والتوقيع. حين نعلم ان والدة الشاعر توفيت منذ اشهر قليلة، نفهم أكثر لماذا اهدى والده، المتوفى منذ 55 سنة، القصيدة، في الوقت كان سائر الشبان يتلقون الهدايا من آبائهم. اما التوقيع، فلم يقتصر على اسم الشاعر كما هي حال القصائد السابقة، بل أضيف الى الإسم عبارة «حلقة الثريا». فماذا عن هذه الجمعية الأدبية ودور شوقي فيها ؟
لم تكتفِ مجلة «الحكمة» بنشر نتاج مؤسسي الحلقة، بل هي نشرت أخبارها وغطت نشاطاتها بدءاً من الخطوة الأولى، فكتب رئيس تحريرها الروائي فؤاد كنعان في عدد كانون الثاني (يناير) 1957 الخبر التالي : «ابصرت «حلقة الثريا» النور في ليل اليل، على كأس عرق في مطعم «الأميرال» ثم تألفت، ثم تنظمت، ثم طلعت بميثاق. وأما مؤسسوها فهم : ادمون رزق، جورج غانم، شوقي ابي شقرا، ميشال نعمة. اما لماذا اسموها «الثريا»، فلأنها، كما نعتقد، سباعية، اي انها مؤلفة من سبعة نجوم في عنق الثور… لا يزال ثلاثة منهم في عالم الغيب. وقد دعيت هذه الحلقة، غب تأليفها ، الى مائدة رئيس معهد الحكمة الخوري خليل ابي نادر، فكانت لها مأدبة عشاء، وكانت لها وعليها تمنيات وآمال».
والسؤال مرة أخرى : هل من علاقة بين فرسان الحلقة والحكمة ؟ المجلة والمعهد الذي أسسه المؤرخ المطران يوسف الدبس ودرس فيه جبران خليل جبران اللغة العربية في العام 1900 ؟
في لقاء طازج مع النائب والوزير السابق والأديب الدائم ادمون رزق، اكد لي انه وسائر مؤسسي الحلقة تخرجوا في معهد الحكمة المشهور بتفوقه في تدريس اللغة العربية وأوزان الخليل في بيروت وعموم لبنان.
وفي لقاء مماثل مع مسؤول الصفحة الثقافية السابق في جريدة «النهار» البيروتية، وأحد أركان حركة الشعر الحديث التي قادها يوسف الخال، أكد أن مجلة «الحكمة» أصدرها معهد الحكمة، وأن «حلقة الثريا» تربطها علاقة عميقة ولكن غير رسمية مع المجلة والمعهد، عبر رئيس تحرير الأولى فؤاد كنعان، ورئيس المعهد الخوري ابي نادر الذي اصبح مطراناً.
وبالمناسبة، لم تكن «الثريا» الجمعية الثقافية الأولى التي ارتبطت معنوياً بصرح تعليمي عريق. اولم ترعَ الجامعة اليسوعية
في بيروت «الجمعية المشرقية» التي كان من مؤسسيها رائد المسرح في العالم العربي مارون النقاش في العام 1850 ؟
وسالتُ شوقي عن دستور الجمعية التي تاسست في أواخر 1956 الذي يتضمن ميثاقها ونظامها الداخلي، فأعلمني انه نظم أرشيفها وكتب معظم محاضر جلساتها، وسلّمها مع ألبوم القصاصات الصحفية التي تغطي نشاطاتها، الى ادمون رزق. وفي مكتب الأخير الذي يلتقي فيه المحامون والسياسيون والأدباء، قرأتُ في السجل المكتوب بخط شوقي الذي لم يتغير عن خطه بعد سنين وهو يعيد صياغة مقلات الصفحة الثقافية في «النهار»، النص التالي بعنوان « ميثاق الحلقة» : «إن ادمون رزق، شوقي ابي شقرا، ميشال نعمة، جورج غانم، بما هم أدباء شباب يتطلعون معطيات الأدب في نظرة شاملة الى الكون، ويؤمنون بفعل الطاقة الخيّرة في مصير الإنسان فالمجتمع، وبما هم ينزعون الى الأفضل ويعتنقون التكامل نمطاً، يعلنون : غايتها : العمل على الإنماء الفكري ورفع مستوى العطاء الأدبي متوسلة الى ذلك : أ بعقد اجتماعات بين افرادها ؛ ب تنظيم امسيات شعرية وأحاديث دورية ؛ ج بمعايشة التيارات الفكرية المعاصرة والإتصال بالحلقات المماثلة ؛ د- بنشر مؤلفات الأعضاء ؛ ه – بإنشاء جوائز ادبية.
أعضاؤها : المؤسسون الأربعة ، وثمة مجال لقبول ثلاثة آخرين لا يُقبل أحدهم الا بإجماع الأربعة المؤسسين.
ومن بنود النظام الداخلي التسعة يجدر التنويه بالبنود التالية ونصوصها :
البند الثاني : تحرر محاضر جلسات الحلقة في سجل خاص يؤتمن عليه أحد الأعضاء. البند الثالث : يتبادل الأعضاء عرض نتاجهم ويوحدون آراءهم حوله. البند الرابع : يتخذ الأعضاء مواقف منسجمة حيال الحركات الأدبية. البند السادس : يضيف الأعضاء اسم الحلقة الى تواقيعهم كلما نشروا من أدبهم.
والسؤال الآن : ماذا تحقق من الميثاق والنظام الداخلي ؟ ليس في سجلات الحلقة المنظمة والملونة والمكتوبة بخط جميل، ما يشير الى اسم العضو الذي اؤتمن عليها. ولكن بصمات شوقي على معظم محاضر الجلسات، وبقاء السجلات في منزله قبل ان يسلمها لإدمون رزق، يدل على انه كان المؤتمن. والمثير للعجب، ان شوقي الشاعر النيوكلاسيكي وقتذاك والمجدد في القصيدة الموزونة، لا يختلف عن شوقي الإداري المدبج المحاضر بلغة أدبية جميلة وبمضمون غير تقليدي بحيث يتضمن النص وقائع الجلسة وتفاصيل امور شخصية طريفة من مثل عشق فرسان الحلقة الشباب وبخاصة ادون رزق.
والمحاضر التي تصدر قريباً في كتاب، تؤكد على نقد الأعضاء لنتاج بعضهم البعض، وبمنهج لا تنقصه الصراحة. ونال شوقي حصة الأسد من النقد الموجه نحو الكلمات الشعرية التي يتداولها في قصائده، خصوصاً من ميشال نعمه، وقد ردّ عليه بما حرفيته : «خُيل اليه ان اسلوب قصائدي ناقص. كأنه وهو الغزِل الرقيق، ما تعود صقل اللغة وأساليب الكلام المدهشة، وكأنه لم يعانِ السبك الفني. الم يقرأ بودلير كيف كان ينحت الفاظه ويجعلها هيكلاً ؟ إذا كان يعتبر هو في الأساس ان الشكل لا بد منه، وأن السلوب يجب ان يكون طرازه من طراز الذي للصحف والمجلات، فهذا شيء لا يجوز البحث فيه مطلقاً لأن الأسلوب الحاد ينم عن صاحبه مسافة ميل. ويليق بالكتابة ايضاً ان الدارس المتعشق للأدب اين يجد الكمال اللغوي؟ هل يجده في شعوذات المتطفلين ؟ ام يجده عند ابي تمام والمتنبي واضرابهما ؟ لأنه اذا ادعينا ان كل شعر انما يكون موزوناً، فسلام على الشعر والشعراء». وهنا يكمن سرّ انتقال شوقي من حلقة الثريا الى خميس شعر، كما سيجيء.
ومع ذلك، فالفرسان الأربعة، وشوقي منهم، استفادوا من النقد الصريح المتبادل، خصوصاً وأنهم كانوا في طليعة المحاضرين والشعراء الذين ألقوا المحاضرات وأحيوا الأمسيات الشعرية في القاعة التابعة لوزارة التربية في شارع بشارة الخوري، إضافة الى إلقاء قصائدهم وشدشدتها قبل نشرها في الدوريات. وبالمناسبة، فالجميع وضعوا اسم الحلقة الى جانب اسمائهم، ليس فقط في الدوريات، بل على أغلفة كتبهم. والطريف ان شوقي لم يغيّب اسم الثريا عن ديوانه الأول «اكياس الفقراء» رغم أن يوسف الخال هو الذي تولّى طبعه بسبب فقر الثريا المادي.
وعلى ذكر المحاضرات والأمسيات، فالصور وقصاصات الصحف، تؤكد ان حلقة الثريا التي بقي عدد أعضائها دون الرقم 7، كانت تحشد مئات المثقفين في القاعة الفسيحة المجاورة لمطعم «علي بابا والأربعين فروج» وقد عدّل الشاعر موريس عواد في الإسم ليصبح «علي بابا والأربعين حرامي».
طبعاً، لم يبقَ كل اعضاء الحلقة فيها. وفي المقابل انتمى اليها اعضاء جدد. كانت الأديبة والشاعرة نور سلمان في طليعة المنتمين. ولحقها المحامي الشاعر ريمون عازار، والأكاديمي الباحث جوزيف ابو جوده. وهنا علّق صديق الحلقة فؤاد كنعان في «الحكمة» بأسلوبه الساخر : «كم من ملايين الكيلومترات سيقطع العضو الجديد قبل الثريا؟». وانضم الى الحلقة ايضاً اديب مغمور وموظف مشهور هو جان جبور. وكان قد سبقه الى الإنتماء الروائي جورج شامي. ومع ذلك لم يصبح العدد ثمانية. ذلك ان بعض المنتمين قد انسحبوا من الثريا. وكان أول المنسحبين شوقي ابي شقرا. وبقدر ما أسف سائر المؤسسين والمنتمين الجدد في حلقة الثريا على انسحابه وفي طليعتهم ادمون رزق، هلل يوسف الخال وسائر فرسان «خميس شعر» لانضمامه الى صفوفهم.
ان انتماء الشاعر شوقي ابي شقرا الى «حلقة الثريا»اولاً و»خميس شعر» تالياً، يضعه في طليعة الشعراء الذين يؤمنون بالمؤسسات الأدبية التي تدوزن نتاجهم وتنشره وتساعد على تعميمه، فيصبح الشاعر «مفرداً بصيغة الجمع» على حد تعبير أدونيس الذي هو أيضاً شاعر مؤسساتي.
يبقى ان «الحكمة» أجرت مقابلة مع شوقي ابي شقرا في مطلع شباب «حلقة الثريا». تميزت أجوبة الشاعر بالطرافة والكثافة و «التواضع» والسخرية والثقة بالنفس والشاعرية ايضاً. ولو لم تتوقف المجلة عن الصدور، ويتقاعد شيخ الشباب شوقي، لظن القراء ان عمر المقابلة 56 ساعة وليس 56 سنة.
فلنختم، إذن، هذه العجالة بالنص الكامل للمقابلة المنشورة في «الحكمة» عدد كانون الثاني (يناير) 1957 :
س- كيف بدأت حياتك الأدبية ؟
ج- بدأت حياتي الأدبية فيما انا قاعد على كرسيّ في شرفة، والنفس في ذلك الحين يلاطمها الأسى والإكتئاب.
س- هل كان لأساتذتك او لبعض الأدباء من تأثير عليك ؟
ج- لم يك قط لأحد، بين الأساتذة، تأثير في بدايتي الشعرية اي حياتي. استاذي العلامة الفهّامة الذي له اقتدار وتأثير انما هو قلبي، ولم ينفك استاذاً لي…
س- ما هي باكورة نتاجك ؟
ج- باكورة نتاجي قصيدة نظمتها أمس. كل ما انظمه هو عندي باكورة أروي هذا مقدراً الطيب والعنفوان في الباكورة ليس الا… لأنه كثر لديّ الشعر عدداً والحمدُ…للملاح !
س- ما هي أحب الأنواع الأدبية اليك ؟
ج- أحب الأنواع اليّ الشعر، وما هو مكتوب بترسل وحنان وعظمة.
س- هل تكتب هذه الأيام، وماذا تكتب ؟
ج- اكتب كل يوم…وخيالي اتمنى ان يخبو فيه الأوار لأنه عما قليل سيقتلني قتلاً…اكتب شعراً.
س- هل لديك مؤلفات للنشر ؟ وهل من صعوبات تحول دون نشرها ؟
ج- عندي للنشر قصدان مكتنزة جمة. ومع وجودها تظل لا تغريني بالطبع وجمعها في الديوان. وفي اعتقادي انها كاملة، وفيها «شعر» يبقى.
س- ما رأيك في حالة الأدب والأدباء في لبنان اليوم ؟ وما هي اقتراحاتك بصدد هذه ؟
ج- لا اجيب على القسم الأول. وأما الثاني فأجيب عنه بما يتبع ! لو كان لهم عنفواني لنجحوا…
س- ما رأيك في مهمة الأدب والعمل في سبيل أدبٍ منضوٍ ؟
ج- رأيي ان لا يكون لهذا وجود وسعة.
س- هل ينسجم العمل الذي تقوم به مع نشاطك الأدبي ؟
ج- على ما في الأعمال كلها من غيظ لمثلي، لا أفتأ احد لنفسي مجالاً طليقاً…لا استطيع غير ذا…
س- الى ما تطمح ؟
ج- اليها… والى ان اكون تاما ً، وأن يتحقق وينجلي لي الآن ما اطمح اليه وهو كبير، وأن تحيط بي «الحكمة»، وأن تنشر صورتي… وأن لا يلومني اصحابي وساداتي… وأن تسلّم لي كبريائي التي ليست بذميمة.
v
شوقي أبي شقرا
لامع الحر
شاعر وناقد وصحفي من لبنان.
شوقي السلامُ على القصيدة ِ حاضناً شغبَ الطفولة ِ مثل أزهارِ الضباب. منادياً أحبابَه ُ القدماء … يا أحبابُ… .
يا ظلّ الوجود ِ المنتشي بمياهِه الأولى. ويا شوق َ الخرافة ِ للخرافة ِ في تصاعدِها النبيل.
هناك َ كان َ الشعُر يسأل ُ عن تناسلِه، وعن ملامحِه الشهيِة في المدار ِ الصعب. حَين تكّررُ الأيام ُ نشوتَه، بايقاع ٍ يضيء كلامَهُ المنسيّ قربَ حكاية ِ الولد ِ المشاغب ِ، في حقول ِ الضيعةِ الفيحاءِ بحثاً عن سطوعٍ لا يُجاريه المدى.
طفٌل يجيء بزيّه القروي. تنطلقُ «الثريا» من محّياه قصائدَ تسكبُ الحبّ العميق َ على صباح ٍ لا يفارقُه الندى.
شوقي هوَ للشوق ُ الخفيُّ الى الضياء مباغتاً ليل َ الكلام ِ بنفحة ِ المعنى الذي ينسلُّ من عمق ِ الليالي دهشة ً. تختارُ من ماضي الجمال ِ هواءه الانقى. وتمضي في مغامرة ٍ تجوبُ السحبَ بحثاً عن هوى فقد الوصول َالى الرجاء.
شوقي السؤالُ عن الحقيقة ِ في مدار ِ الحلم. والشعرُ المرّشحُ للصعود ِ الى فضاء ٍ أخر ٍ . واللغُز مفتوحاً على الدنيا التي ابتعدَت لتدنوَ راية ً بيضاء تختارُ السماءُ صفاءهَا. وتعيدُها الأنقى الى برج ِ الجمال ِ كأنهّا اللون ُ المواكب ُخلمنَا المنسيَّ في بوابِة العهدِ القديم خرافة ً أولى تبدّدُ ما تراكمَ في رحاب ِ الدهشة ِ الاولى، وفي الكتب ِ التليدة ِ من هباءْ.
هوَ شاعٌر يختارُ نكهتَهُ التي تمضي بعيداً في السماء تعيد ُ للفن َّ الشهيَّ قداسة ً. تختال ُ حسناً. لا يجاري نفحَها غيرُ التوغل ِ في حياة ِ الأولياء.
شوقي أبي شقرا …. يصعّدُ حبَّه نجماً الى الأعلى. بقاربُ سدرة َ الجوزاء ِ. يجتازُ الحطوطَ الحمرَ. لا تعنيه ِ أوهام ُ الكتابة ِ، في خضَّم فراغِها الأبقى. ولا يختارُ من تفّاحة ِ الأيام ِ أجملهَا. بل يحفُر التاريخ َ بالنبض ِ المولد لابتكار ٍ خارق ٍ، لأصول ِ أوصال ِ المحال. كأّنه ُ الأسم ُ الجديدُ لخمرة ِ الأقلام ِ وَهْيَ تعانق ُ الدربَ المكّبلَ بالبهاء.
شوقي الطريقُ الى الكلام ِ الحّر، والايغالُ في يمّ الحداثة، والسؤالُ عن الغرابة ِعن فضاء ٍ لم يزل في الحلم ِ أبعد َ من تخّيلِنا . وأبعدَ من نداء ِ الشعر ِ في الآفاق. أبعد َمن سكون ٍ راحل ٍ مثل َ الضياء ِ الى زمان ٍ آخر ٍلسنا نراه.
والى مكان ٍ عامر ٍ بالحب ّ، منساب ٍ الى ما ليس َ يدري قارىءُ الغيب ِ المؤصل ِ منتهاه.
رفيع // شوقي أبي شقرا عالم مدهش وصادم وجريء
رئيس // يصهر الوعي واللاوعي بحبكة متقنة
بقلم : لامع الحر
يأتي الكلام على شوقي أبي شقرا متوّجاً بتجربة كتابية متميزة في الشكل والمضمون. وذلك لأنها تجربة تنهل من بئر الاختلاف الذي لا يُوازيه اختلاف آخر. كأنه كان يسير في اتجاه لم يخطر على بال للآخرين على الرغم من تنّوع مشاربهم واتجاهاتهم.
ربما تجد لروّاد الحداثة آباء شرعيين في مخزوننا التراثي. أو في التجارب الشعرية الغربية. أما تجربة أبي شقرا، فتخرج على كل الأطر التقليدية، ما كان معروفاً منها وشائعاً، أو غير معروف وشائع. وكأن هذا المبدع يغّرد وحده خارج السرب. أو كأنه يضيء ويشعل ليعطي الشعر ماهية أخرى، تخرج على الأصول، وعلى التكرار.
لا يكتب كما أتفق. بل يخرج على ما أتفق عليه خروجاً يتحّقق بمدى الانفصال عن ذلك الموروث، وبمدى الاختلاف عن كل ما أنتج في الزمن الشعري الجميل.
شاعر يعزف على وتر المفاجأة. تنتظره من الشرق فيأتي من الغرب. لا تستطيع ان تتوقّع ماذا يُمكن أن يقول. وفي أي أفق يحلّق . وعلى نار أي جمال يتدفّق ومضه المعطّر بضوء يسطع، او بضوء يتخفّى على جناح البياض المترهبن.
لا يكتب ما أنت تريد، أو ما أنا أريد. أو ما يريد الآخرون. لا يخضع للمقولات النقدية السائدة الآتية من هنا، او من هناك. ولا للمقولات النقدية الهجينة. بل يكتب على سجيته مستجيباً لنداءاتها، محلّقاً في أفيائها، ومنغرزاً في ترابها، الذي لا يشبه ما تجمّع في الذاكرة من تراب.
عالم شوقي أبي شقرا عالم مدهش صادم، جريء. يعرف كيف يكسّر أبراج اللغة، ليبني على أنقاضها لغة تتمّرد على الموروث، لتبدع كينونتها، وخصوصيتها.
ربما يعجبك شعره، وربما لا يعجبك. ربما تنغمس في دفء تجلياته، وربما تستغرب ما جاءت به هذه التجليات، ربما تجده شاعراً استثنائياً وربما تستنكر استنكاراً بالغاً هذه الكتابة الخارجة على كل الطقوس الشعرية.إلاّ أنك لا تستطيع إلاّ أن تعترف أن لهذا الشاعر عالماً شعرياً لا يشبه أي عالم آخر.
شاعر لا يكتب لكي يكتب. وكلامه ليس كلاماً على كلام. بل مسعى صادق وعميق لابتكار الكلام الذي لم يقل بعد، او لاعطاء الكلام بعدا آخر لم يكشف بعد.
يكتب مستحضراً الوعي واللاوعي. صاهراً بينهما بحبكة شعرية، تغرف من رحاب الموهبة والتجربة والاحتراف. حتى ليبدو القول غير القول وتأتي اللغة غير اللغة ويصبح الشعر فعلاً يتجاوز هذا الركام الشعري الذي يستفزّنا منذ داحس والغبراء لغاية اليوم.
شاعر يضيء كهنوت الشعر. يستظل به كمن يستظل برمز مقدّس . يغوص في أغواره بحثاً عن لآلىء لم يكشفها الآخرون., أو لم يعترف بها الآخرون ن فاذا به يجعل منها عالماً تتحرك في أعماقه كائنات لم نألفها سابقاً أو لم نعترف بجدواها سابقاً.
لا يكتب كما يكتبون ولا يتحّرك في فضائه الشعري كما يتحّركون. ولا ينصاع لهذه الجهة او تلك كما ينصاعون. بل يكتب ويكتب ليرمي حجراً في البئر، أو ليبدّد الركود الذي يستفحل إثر ركام من الغبار الشعري، المنتشر في ثنايا المكان، وفي محيط كل الأمكنة.
شاعر لم يأت من فراغ. ولم ينظّر للفراغ. ولم يصل الى أي فراغ. بل هو مبدع عرف الأصول. أتقنها ثم تجاوزها محاولاً أن يؤسس أصولاً جديدة. تتناسب والرؤية الى حداثة مغايرة. تتغّذى بمائها، دون ان تتنكّر للمياه التي غذّتها، وتربّت عليها، وتنفّست منها رحيق الحياة.
عمل على التحرر من ربقة الماضي تحّرراً كلياً لا تشوبه شائبة. تحرراً يتجاوز أنصاف الحلول وفكرة التسويات وذلك لأن تحرير النص الشعري من الأصول الغابرة، يعني ضمن ما يعني تحرير الانسان من القيود التي تعوق حركته، لعلّه يصل الى المستقبل ليصوغه على هواه.
يكتب نصه بلغة يشوبها غموض حار حيناً، وبارد حيناً آخر. لغة تتّسع طوراً، لترى الوجود بين الرائي الذي يحدق في البعيد البعيد، وتنقبض طوراً آخر، لتستغرق في عالم مغلق.
واذا كان الشعر صورة عن الواقع القائم، بكلما فيه من اشراق وعتمة، فان قصيدة أبي شقرا ما هي إلاّ انعكاس لما يعتمل في هذا الواقع القائم. واذا كان هناك ترابط ما في هذا الواقع فان الشعر يأتي مترابطاً وملتزماً بالوحدة الموضوعية، والوحدة العضوية.
أمّا اذا كان غير مترابط، مفككاً ومذبذياً، فان الشعر لا بدّ إلا ان يتأثر بهذه الحال القائمة. ولهذا دائماً نرى أن هناك خيطاً رفيعاً يجمع بين أجزاء القصيدة الشقراوية ويلمّ شملها، ويُعطيها ضوءها. ويسّوغ هذا التدفق الذي يكتمل على إيقاع سيل الصور التي تتنافر حيناً، وتكتمل حيناً آخر، على إيقاع الرؤية المكتملة والشاملة لفنية القصيدة.
قصيدته صور شعرية متتالية . صورة تمسك بصورة وصولاً الى نهايتها التي تضع حدّاً لهذا الانسياب. وكأنها تريد أن تشعرك أنه لا يزال في نفس الشاعر شيء ما لم يقل أو كأنّ على المبدع الاّ يقول كل ما لديه وكأن اكتشاف المتلقي للرؤيا التي لم يقلها الشاعر هي زبدة القول. وكأنه بذلك يعمل على الربط المباشر بينه وبين الآخرمن جهة، وبينه وبين العالم الذي يحيط به من جهة أخرى.
حركة شوقي أبي شقرا الشعرية التي لا تنفصل عن حركة شعر. بل تصب في عمقها، واجهت ضغوطاً كثيرة، على مختلف الصعد الفنية واللغوية والاخلاقية. وذلك ما ساعد على أغنائها وعلى إثراء خيالها. ودفعها لاقتحام العالم الأوسع.
فليس سهلاً تحطيم الأصنام القائمة والوقوف الصارم بوجه التقليديين والسلفيين الذين يرون في الماضي تحربة يفترض ان تستمر في الحاضر الممتد الى المستقبل.
وشوقي لم يُخضْ تجربة الحداثة، ولم يصل الى ابداع قصيدة النثر الى جانب زملائه المعروفين. وفي طليعتهم أنسي الحاج ومحمد الماغوط، وتوفيق الصايغ وفؤاد رفقه، نتيجة لقصور في أدواته الإبداعية بل على العكس من ذلك تماماً. لقد أثبت جدارته في كتابه الاصول، وما نتج عن هذه الأصول عبر ديواني «أكياس الفقراس» و«خطوات الملك».
لقد كتب قصيدة التفصيلة باتقان وتلاعب بالوزن على طريقته، مثبتاً خصوصيته وجدارته. ثم تطلّع الى قصيدة النثر تطلّع من يريد أن يتجاوز نفسه الى ما يراه عالماً أرحب، عالماً يحتضن ما يجول في نفس المرء من رؤى وتجارب واقتحامات.
وإذا بدأ مع « أكياس الفقراء» بكتابة القصيدة الومضة فأنه وصل مع دواوينه الأخيرة ولا سيما « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» لكتابة القصيدة الطويلة وليست المطّولة، لأنها تعبير عن تجارب، تغوص عميقاً في النفس الانسانية، لتعّري مكنوناتها، وتكشف ما يعتريها من إحباطات وحزن وانكسار.
ألصقت بشوقي أبي شقرا بخاصة ومجلة شعر بعامة أسوأ الاتهامات وحاولوا ان يلحقوا حركتهم بحركة مخابراتية رخيصة. وذلك لتشويه إنجازهم وزرع الشك في ابداعهم، ولبثّ علامات الاستفهام حول نتاجهم وحول آراثهم ومواقفهم.
إلا أنهم ظلّوا على قناعاتهم . لم يغّيرواولم يبّدلوا ولم يتراجعوا.حملوا لواء الحداثة وساروا فيه الى أقصى ما يمكن ان يسيروا متحملين عبء الحملات التي تعرّضوا لها، ومتجّثمين مشقّة المواجهة الصعبة مع جهاب تتربّص بهم، وتسعى الى إثبات ما ذهبوا اليه من غي وضلال.
وشوقي أبي شقرا في منتصف المرحلة الآولى كان قد تصّدر مجلة «شعر» كمدير للتحرير مسؤول عن كل ما يصدر عنها، مصوّباً مقالاتها وقصائدها بعناية فنّان شفّاف، يعرف ماذا يريد، وماذا يفعل.
شوقي أبي شقرا كان « يعمل حداده وبويا» للقصائد التي كانت تأتيه في مجلة «شعر» وهو صّرح بذلك متأخراً لأن كثيرين راحوا ينسبون الى أنفسهم أدواراً لم تكن لهم. وهو بعصاميته المشهودة صامت لم يحّرك ساكناً. الى ان قال ما قال ولم يرد أحد من شعراء المجلة ( الذين لم يغادر أحد منهم آنذاك هذه الفانية) عليه او ليقول كلاماً مغايراً لهذا التصريح الخطير الذي يكشف دور أبي شقرا الريادي في مجلة ريادية تمّثل التأسيس الأوّل لحداثة القصيدة النثرية في لبنان والوطن العربي.
وأكمل شوقي هذا الدور عبر مسؤوليته للصفحة الثقافية في جريدة «النهار» لثلاثة عقود ونيّف، وأثبت قدرته على استقطاب المواهب الشابة واطلاقها في فضاء الابداع لتكمل المسيرة. ولتأخذ الحداثة نوراً جديداً يضيء الدرب، ولتبقى المسيرة الابداعية مستمرة، كما لو أنها لا تزال في طور الشباب.
ديك النهار الثقافي
كان شوقي أبي شقرا ديكا يصيح كل صباح. فيغّطي صياحه المعمورة ويملأها شعراً يُحاكي النجوم. ويستضيء بما في فضائها من جمال.
ديك النهار الثقافي هو نفسه «سائق العربة» الذي تبّنى الكثير الكثير من المواهب كّتاباً وشعراء وقاصين وأطلقهم في فضاء الإبداع أسماء كبيرة يُحسب لها الف حساب.
ديك النهار خرّج عشرات الاسماء لا بل مئات الأسماء، من تحت يديه. وأعطاها ما تستحق من اهتمام نثراً وكتابة نقدية، وتلميحاً لصورة يرى فيها كل المقّومات الفنية المفترضة التي تجعل منها إسماً يضيء ويتوهّج في عالم الابداع.
شوقي ابي شقرا جعل من «النهار» منبراً ثقافياً متميزاً واستطاع أن يخلق أجواء من المنافسة الشريفة بين الصحف الرئيسية، دفعت للآخرين الى تحسين أدائهم ليكونوا بمستوى هذه القامة الصحافية الخلاّبة، وهذه القامة الشعرية المتأجّجة.
وشوقي واحد من الذين عملوا على تحطيم الاصنام الشعرية بوعي يقوم على العلم والمنطق. وذلك كمحاولة لردّ الاعتبار الى الفن الذي يعمل على تجسيد صورة الحياة بأساليب مختلفة تخرج على الصورة التقليدية المألوفة. وذلك تأكيداً على دورالفن «كقوة إيجابية تعمل على صنع الحياة»، كما تشاء، وكما تريد.
والشعر لديه كما أراد رامبو أن يكون : مغامرة من أجل المعرفة». والمعرفة ليست حكراً على فئة معينة من الناس. بل هي ملك للجميع إذا توافرت الوسائل الناجحة لإيصالها. وهذا ما لم يكن بالامر السهل. فالنص الشعري الحديث بشكل عام، ونص شوقي بشكل خاص، يحتاجان الى شيء من التمّعن والتبّصر لاكتشاف مكنوناتهما، ولبلوغ المعرفة المخبوءة وراء ستار المعنى. وكل الذين تناولوا شوقي في كتاباتهم النقدية تجنبّوا الدخول في الشرح والتفسير، كي لا يقعوا في المحظور. كما ان الشاعر نفسه يتجّنب هذه المهمة الشاقة كي يبقى النص مفتوحاً على احتمالات شتّى. وكي لا يلزم الناقد او القارىء الحصيف برؤيته الخاصة.
وعلى طريقة السرياليين يمضي شوقي بعيداً في ابتكار نسيج لغوي جديد والذي يعني ضمن ما يعني خلق حياة جديدة. أي قيام مجتمع ثوري على انقاض المجتمع القائم . هذاالتحدّي الكبير للواقع القائم لم يخرج في بلادنا عن اطار النص. لأن الإبداع بكل فروعه في مكان والناس في مكان آخر. أما في الغرب فالأمرمختلف شكلاً ومضموناً.
هذه الغرائبية التي تهيمن على نص شوقي ليست وليدة الصدفة بل هي محاولة مباشرة للتأثير في المتلّقي، والعمل على تغييره تغييراً حقيقياً، يسهم في استيلاء رؤية جديدة الى المجتمع.
غرائبية تُدهش وتمنح النص رؤى جديدة. تفكّك الصورة. وتهتك تآلفها مع ذاتها ومع غيرها لتستقر على وهج جديد لا عهد لنا به يقول «ونختلف ونهجم على جدّنا الحائط/ نركله على خصيته وخيثومه/ يسيل الدهان ومخاط الزبد من جرّنه/ ونضرب الولد من نصفه وعرضه/ حيث لوحة الألم والمسمار/ ولا يقع بنا السلّم ولا يهوي الجمل المروّض».
وعلى الرغم من رؤيته السوداوية الى هذا الواقع، وعلى الرغم من تفاهة العالم الذي نعيش فيه. كان يسعى دائماً الى تأكيد مسؤوليته، كأنسان ومبدع تجاه المعاني التي تختمر على إيقاع حركتها كل الأشياء والتي تستضيء بذلك النبض الآدمي الواعي والمتّيقظ.
يكتب شوقي أبي شقرا معتبراً ان جودة العمل الفني تكمن عنده في القدرة على جعل الآخر يتفاجأ ويتساءل، ويؤيد او يعترض، أي يدفعه دفعاً الى تحريك ذهنه، سعياً الى تحريك أحاسيسه التي ستؤدي حتماً الى تغيير قناعات المتلقي تغييراً يكاد يكون جذرياً.
وعلى الرغم من كون كتاباته غامضة، بشكل إجمالي إلا انه يرفض، وعلى غرار كثيرين، أن يكتب ما لا ينسجم مع قناعاته. وما يعتبره تضحية بالقيمة الفنية، من أجل أغراض ليس سامية.
واذا كان السرياليون الأوائل قدً قاموا بمحاكمة ساخرة للكاتب موريس باريه حيث أتهموه بارتكاب جرائم ضد أمن العقل» فان هناك من كان يعتبر ان كتابات أبي شقرا ما هي الا هلوسات لا تقّدم ولا تؤخر في واقع الأمر شيئاً.
فاذا بالزمن يطوي هذه المقولات غير العلمية وغير الدقيقة وغير الصحيحة.
لتصبح الرؤية الى نتاجه قائمة على بعد نقدي عميق، وعلى رؤية الى إبداع مختلف، يتحدّى السلطات الابداعية القائمة، وينسج ما يهدّد الهيكل بالسقوط او بالتصدّع.
تجربة شوقي ليست تجربة تقوم على المغامرة فحسب، بل هي تجربة قائمة على إدراك واع، مجرّب، وقادر على التقاط الضوء، بحذاقة فنّان بارع، بدرك ماذ يفعل، ويعرف الى أين يريد أن يذهب.
لكن تجدر الإشارة هنا الى أن نزعته الشعرية نزعة لاعقلانية حين تتفذلك وتطرح الفرضيات الخارجة على كل المعايير المنطقية. وحين تترك العنان لحركة اللاوعي، التي تستغرف بعيداً في استحضار اللامعقول الذي يستحضر بدوره رؤى لا تخطر على بال.
هذه النزعة اللاعقلانية كانت تغور عميقاً في فلسفة الجمال، وفي أغوار الخيال الذي يجعل من القصيدة لوحة فنية تمضي نحو التّحرر الروحي، لتحلّق بعيداً في الفضاء على إيقاع نسمات الشوق التي تغّرد، وتكّمل الارض باشراقاتها التي لا تنتهي .
شوقي ابي شقرا شاعرية عربية تفوح ناراً وعطراً. تشرب لُتعطي الآخر شريان الوجود وكينونة الجمال، وتتدلى أغصانها لتملأ الفضاء حيوية تثير في الآخر الرغبة في المعرقة، والرغبة في الاكتشاف.
يكتب ممتلئاً شوقاً الى ذلك المجهول الغامض الذي يؤرق ويدفع المرء الى طرح المزيد من التساؤلات التي لا تُقضي الى اجابات شافية، والتي تحرّك فينا الفضول، للغوص عميقاً، أو للوصول الى ذلك الفضاء الذي لم يدركه أحد بعد.
يكتب على إيقاع ترانيم جديدة، كأن أفق إبداعه يتسع شيئاً فشيئاً مع كل إصدار جديد. أو كان سماءه تأخذ ما تريد من زرقة على إيقاع أنغامه التي تحمل ألف ضوء وضوء.
شاعر من جيل الرّواد، الذين خرّبوا ما استطاعوا أن يخّربوا. لا حباً بالتخريب فحسب، بل سعياً الى زمن شعري مغاير، يتنكّر للماضي، ولا يؤنسه سرب الحاضر ولا يرى في المستقبل غير ما تبدعه مخيلته، ومخيلة الشباب الصاعدين الى السماء على متن بساط الريح.
شوقي أبي شقرا شاعر الجمال الفرد والإبداع الحر، والرؤيا التي تختمر على إيقاع التجليات. والنسيم الذي يتدفق الى الأعماق. ليعطيها ذلك النفح الجميل، والخرافة التي تستحضر اللامعقول لُتعطيه شيئاً من حقيقتها وواقعيتها.
v
شوقي أبي شقرا
الطقوس والنصوص
من التشظي إلى السخرية
محمد علي شمس الدين
شاعر وناقد من لبنان.
الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا, شاعر خاص, بل خاص الخاص, في الشعر العربي الحديث عموما, المكتوب إبتداءً من خمسينات القرن المنصرم, حتى اليوم, وفي الشعر اللبناني منه على وجه الدقة . ولعل عناصر من السريالية واصلت عملها في نصه الشعري الحداثي والمابعد حداثي . وهي الغرابة المعابثة, وتشظي الكلمات واللغة, والعودة بها لما يشبه دادائية طفلية فيها الكثير من الفطرة الريفية, والسخرية .. فكأنه يخلط أمين نخلة بمارون عبود, ويكون من موادهما الأولية كيمياء جديدة لشاعر لبناني, سحري أولي يتسم بالحرية والإسترسال والطرافة . وتتشكل لغته بلعثمة ليست فصيحة بالمعنى التقليدي للفصاحة, ولكنها ليست عامية بالمعنى المحكي للعامية, فهي إذ تكسر حواجز البلاغة العربية التقليدية, فإنها تسترسل على الورقة كقطيع ماعز حر وجبلي, يقضم ما يشاء, ويعتلي الصخور, ويتناطح ويلعب تحت مراقبة عين الراعي . فقصائد أبي شقرا لغة في مناخ, أو لغة مناخ لا يبتعد عن السريالية ولكنه لا يستهلك فيها ذاته .
لقد حاول أبي شقرا الكشف عن الطاقة الجوفية للغة, وهي طاقة بدائية لا يستطيع اللغويون الكشف عنها, ولا يستطيع سبر أغوارها سوى علماء النفس والشعراء الغواصين إلى الأعماق, فلغة الشاعر هي أم الفكر لا وليدته, ولا بد له من ان يترك نفسه بين يديها كالطفل تتصرف به كما تشاء . فالإبداع والتوليد لا يكونان إلا من بئر اللغة الخام. والارض الحقيقية هي أرض الداخل, التي لا ترى إلا بإغماض العين. فشمس الشاعر, كما يقول كارل كراوس, ينبغي توليدها من غياهب الداخل . ولا بد من التلاعب من أجل انتصار الإستعمال الجديد للغة … وكل ذلك لا يتم من دون تشظ وتنافر وسخرية, الأقانيم الضرورية لفنون ما بعد الحداثة في الغرب.
ندخل إلى نصوص أبي شقرا من مدخلين قد يظهر بينهما التباين, ولكن في النتيجة يوحدهما الحال الإبداعي لنصه الشعري ولغته المتدرجة نحو ذاتها .
وهو في تدرج نحو لغته الشعرية الخاصة به, ابتداء من «أكياس الفقراء», مجموعته الشعرية الأولى, وصولاً لآخر إصداراته, مشى في اتجاه التخلص من البلاغة العربية والوزن العروضي الخليلي بالمفهوم التقليدي والحديث معاً, وما نشر له في مجلة شعر في فترتي صدور المجلة, مكتوب بأوزان هادئة, مع تخفيف البلاغة لاقصى حدود التخفيف, والنزعة إلى الإسترسال الغرائبي والطرافة وما يثير الدهشة, والملاحظ انه بقي حتى صيف 1963 لا يفوته الوزن, فكتب في هذا العام, قصيدة نثرات بجمل متتالية بلا وزن, يقول فيها مثلاً : «العصفور بيانو» ونسأل انفسنا بعد رحلة أبي شقرا, على امتداد دواوينه, من «خطوات الملك» إلى «ماء إلى حصان العائلة» (1962) «فسنجاب يقع من البرج» (1971) «فيتبع الساحرة», «فحيرتي جالسة تفاحة على الطاولة» (1983) وصولاً إلى ديوان «لا تأخذ تاج فتى الهيكل» (1992) فصلاة الإشتياق (1995) «فثياب سهرة الواحة والعشبة» مسبوقة بمجموعة نثرية «سائق الأمس ينزل من العربة» (2000), إلى «نوتي من دهر القوام» .. نسأل على أي بر ترسو مراكبه ؟ أم لعله ما زال يطوح في موج لجي هائم وحالم ولكنه غامض وخطير «ليتمازج الحلم والألم والبخور», كما يقول في قصيدة «السهام من منقارها» .
سيلزم التزود ببدائية لغوية ورعوية في غالب الأحيان, لمن يقرأ هذا الشاعر, ومن الضروري الإنتباه إلى ان اللاوعي لديه هو الذي يكشف الوعي وليس العكس, من خلال سياقات لغوية طيارة ومرحة, مختلطة, فيها عبث وملعنة طفلية, وملعنة كبار السن المحنكين في الريف الجبلي اللبناني, كقوله في قصيدة «عبدك, لبيك»: «وصقر انت نتخيلك ومنقار, فضاء وضحية, وفي السلة رغيف, ورجاء, وليمونة للسلام عليك والسلام عليكم» … فهي تداعيات طيارة, غير متكلفة, تجمع بين متناقضات بلا منطق تأليفي أو بلا خيط سوى الغرابة .. والجمل مويجات, ولا ما يشيع الهدوء سوى الاستسلام لحركات مرتجلة لكن حرة .
غالبا ما يعبث أبي شقرا بالصور . يقول مثلا : «تأتيك السمكة, تقودها الحورية بالرسن» ويقول «كنت أفور وأفقع في الجو» …ما يستدعي لأول وهلة, توليد عالم صوري افتراضي من المخيلة, غالبا ما كنت أشبهه بعالم «ديزني» للصور المتحركة. ذلك يؤدي إلى شد الإنتباه, وإلى تحرير المخيلة وتحرير اللغة في وقت واحد … أي نحن أمام كتابة حديثة مبتكرة بلا وصاية ولا وصايا ولا تعاليم . من هنا هي كتابة مغامرة حداثية, وكتابة لها طقوسها … بالمعنى الحرفي للقصيدة .
الحداثة الشعرية, ما بعدها,
الطقوس الحرفية للقصيدة
كتابة شوقي أبي شقرا حداثية وما بعد حداثية . نحن أمام نصوص تعيد اكتشاف اللغة من خلال مراوغة التقاليد أو كسرها . وفي ذلك عبث بلا ريب, عبث ضروري, وقلب للقواعد . إن ما بعد الحداثة في أوروبا وامريكا ,اقترنت شواهدها بذلك, في مختلف الفنون الأدائية والكتابية : في العمارة والمسرح بخاصة, وفي الرواية والقصيدة .
و من يقرأ كتاب الأمريكي «نيك كاي» المسمى «ما بعد الحداثة والفنون الأدائية» وقد ترجمته إلى العربية نهاد صليحة, استاذة الفنون المسرحية في جامعة القاهرة, وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب من خلال مشروع «نافذة على الثقافة العالمية», سيقع على شواهد كثيرة لحركة ما بعد الحداثة في الهندسة والمسرح, والرواية والقصيدة .. فإن معرض « احدث طريق» الذي اقيم العام 1980 في إطار بينالي فينيسيا وهو معرض فني لمجموعة من الواجهات صممها ثلاثون مهندسا معمارياً من اوروبا وأمريكا, يتسم بخاصية التلاعب الساخر بأساليب الماضي وتقاليده المعمارية واستخدامها لخلق مفارقات وتوريات بصرية . وقد طرح المعماري والناقد باولو بورتوجيزي أسلوب التلاعب كبديل عن الثبات . وأشار الناقد الإنجليزي تشارلز جينكس إلى عناصر التشظي والتنافر والتناثر في عمارة ما بعد الحداثة مقابل عناصر البساطة والوظيفية والوحدة في المعمار السابق, وقد طرح مبدأ اللعب باللغات والتقاليد المعمارية كوسيلة لتحييد وكسر القراءات المغلقة المحددة لمعاني الأسلوب والشكل والصورة .. ثمة ألعاب ذهنية وتعدد يتقصد عدم الإنسجام . والتقنيات المستحدثة ترمي إلى ما يمكن تسميته «هارمونية النشاز», فثمة تورية ساخرة والتباس معنى وتناقض وتناقص وتعقيد وعشوائية وقلب التراتيب الثابتة . وقد انتقل مفهوم ما بعد الحداثة من العمارة إلى ما سواها من فنون, في مجال الأدب ومجالات التصوير والنحت والسينما والفيديو والرقص والتلفزيون والموسيقى . لقد تم التركيز على رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة» ورواية جونتر غراس «طبل الصفيح» ورواية «العار» لسلمان رشدي «حيث يتم توظيف الحوار توظيفاً ساخراً, وتستعمل تقنية النقد للتاريخ والكتابة نفسها, حيث يسود الشك وتطفو السخرية .
وفي المسرح برزت عناصر تجريب مسرحي وعروض مفاجئة وساخرة, وظهر السرد المبعثر في جزئيات متناثرة … وظهر الكولاج المسرحي المتنافر الذي يجمع بين عناصر مختلفة سمعية صوتية بصرية مستقاة من مصادر متنوعة من اعمال درامية وأفلام سينمائية واصوات … وبرز التجريب, فقد عمدت المخرجة المسرحية « اليزابيت لوكونت» إلى ستة اختبارات لمسرحية ت . س إليوت المسماة «حفلة كوكتيل» وتم تقديم عناصر متباينة بلا تنسيق . يذكر ايضا أعمال الأمريكية «جون جوناس» من خلال العرض المسرحي المسمى «راساً على عقب وإلى الوراء» المكون من كولاج من الخيوط السردية القديمة والجديدة تنتهي إلى خلطة مسرحية أساسها إفساد المنطق والنص .
لعل التدقيق في الجذور الفكرية الفلسفية والجمالية واللغوية, لهذه الظواهر الإبداعية, يشير إلى نظرية جاك دريدا ونقده اللغوي لسوسور والقول بأن المعنى لا يتحقق أبداً بصورة كاملة, بل القول باستحالة المعنى, كما أن فكرة دي سوسور في استقلال اللغة عن التاريخ أو لا تاريخية اللغة اي كونها قائمة بذاتها وسابقة على التفكير, وجدت صداها في التحولات الروائية والشعرية الجديدة. إنها حالة بلا اعماق ولا آفاق متساوية, وهي قلقة ,متشظية, غير مستقرة, وهو ما أمسك به جان بودريار من خلال لعبه بالشيفرات واعتباره نشاط ما بعد الحداثة هو الهدم, ويلتقي معه جان فرنسوا ليوتار في التشكيك بالمرجعية والتنبه للقلق المستدام والتوتر الذي لا يستقر … للمراوغة المستمرة .
فإذا كانت الحداثة تجاوزت الماضي فما بعد الحداثة اعادت طرحه ككيان مبهم .. كتكوين مفتوح, تشظ, تشويش, سخرية, وكولاج وتوليف .
لهذه الناحية, وبناءً على مجمل ما ورد من ملاحظات وشواهد, فإنني أرى أن كتابات شوقي ابي شقرا, في أبرز دواوينه, وبخاصة الأخيرة منها, هي كتابات عربية لبنانية ما بعد حداثية . وليس من الضروري ان الكاتب المزود بالمخيلة وأداة اللغة, يكون دائماً صورة معكوسة لعصره وبلاده ولغته .. بل لعله هو مندوب, وقادر على تغيير جميع قواعد اللعبة الراهنة بترسيماتها الأيديولوجية و الإجتماعية واللغوية, فيغامر ويغير . وليس هذا الكلام كلام قيمة, بمعنى انه ليس من الضروري أن يكون شطح المبدع هو الأولى والأعلى, ولكنه بلا ريب جدير بأن يشار إليه, وأن يقرأ, وأن يفهم, والزمن في النهاية كفيل بوضعه في المرتبة التي يستحقها . فليس كل عبث بالترتيبات والمسلمات, هو بالضرورة, عبث خلاق.
نقرأ لدى شوقي أبي شقرا, الجمل التالية, على سبيل المثال : «عمي النهر في ثياب السكينة .. أعطس من العفص, اصل إلى معلمي الصباح إذ يفلت وعله الشجاع وخريفه الأصلع ويعطيني الطيارة لأقودها في الفضاء, لأقود النعجة إلى الليل وأغصان الزيزفون والتوت, كأننا الرعية ولا نطبخ في الطناجر والصحون سوى عشبة الظفر والفصح وبعض قهوة الجوار « (من ديوان يتبع الساحرة ويكسر السنابل راكضاً ) .
و في ديوان « نوتي مزدهر القوام « نرى اللغة تجري إلى أماكن غير معتادة ولا مألوفة, تتفكك وتخف, وتتخفف ,و لا يسعنا معها سوى القول: لن يكون لنا اتجاهها قضايا كبيرة وإرنان أو بلاغة … بل عبث ومسرة . يقول : «سنضرب نحن الحائط ونسب عرضه جزافاً ونخلع ضرس العقل … ونكتفي بالخشوع والتؤدة في مهرجان الغولف إذ نرفع الطابة البيضاء ولا نعاملها بالعصا لأنها حبلى وتلد نملةً أو جندياً أو حشيشةً « .
و لعله أسس لنفسه طقوساً تخصه في الكتابة . ففي قصيدة «ما يصنع المساء» من مجموعة « تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» يجري على عجلة حرف «الواو » جرياناً حراً في استطراد يدور ويدور ويدور : « ..و نمسح جباهنا من الكيمياء, والمرارة دائماً هي الحلوى, والفاكهة أننا ألماس الحرية, وأننا سرعة الرؤيا ,و أننا قصر السموأل, وحيث نحرر المشاعر الزائلة, ونربط جدائلنا بالمعادن, ونتفرج على ثياب التراث, وخزائن الفراشات, ومناشفها تتمازج على الشوك …. والمسألة أننا سمكة الشهوة, وجلدنا رقيق الحاشية, وكل طعنة حتى الحبة من الكرز علامتنا, وينفجر ثقب الشاعر من الضيق, والصديق هو المريخ … «
لا شك في أن مثل هذه الكتابة, تمارس جملة إقصاءات, لكي تقترح وتتبنى جملة طقوس خاصة . فمن ناحية الجوهر الشعري, فهو شعر يعزل نفسه عن التراث العربي ويعتصم بإرث محلي, بعناصر ريفية من إرث لبناني سحري, يلوذ بالبداءة ويلبس جلداً رعوياً, وصاحب عتق في البراري والبيوت الأولية والكلمات الأولية, والغابات والحشرات والنباتات وما أشبه .. وهكذا فإنه ينعقد على ما يشبه هذيان المخيلة واللغة البدائية .
أما من ناحية التأليف, فإن كتابة شوقي أبي شقرا تظهر على صورة كتابة ما قبل بلاغية, بل وحتى ما قبل لغوية, وبالضرورة ما قبل غنائية . هي كتابة طفلية تتساحب فيها الكلمات وتتناسل من أطراف أصابعها تناسلاً مرحاً وأولياً, ولا تسأل عن مقاصد الذاكرة اللغوية ولا المعاني التاريخية, ولا تلتزم تمام الإلتزام بمواصفات قصيدة النثر بنت الحداثة, بل تجنح لما بعدها, وتحاول تأسيس طقوس تخصها, والطقوس ما هي ؟ الطقس كلمة مولدة دينية مسيحية, فقد جاء في العدد الحادي عشر من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ص 232 أن كلمة «طقس» يطلقها المسيحيون على شعائر الديانة, معرب «تكسيس « من اللاتينية .
v
شاعر ينهمر على مهل
ويدغدغ مسامنا
أمين ألبرت الرّيحاني:
أكاديمي من لبنان.
تصوّروا شاعراً يجمع تحت جناحَيه طفولةً كلّلها المشيب، وسرياليّةً بلا حدود، ونزعةً ريفيّةً بلا هوادة! تصوّروا شاعراً يرسم بحبر مزاجه «ماءً لِحصان العائلة»، ويلوّن على هواه «تفّاحة فوق الطاولة»، ويكتب القصائد المغايرة وهي تلاحق أزاهر الحقول وينابيع الأودية! تخيّلوا شاعراً يقضي العمر في المدينة وفي جيبه صورة قريته التي إن أضاعها يجدها مختبئةً في قلبه! افترضوا أنّكم تتجوّلون مع هذا الشاعر في أقاليمه الشعريّة، وفي فضاءاته المتخيّلة، فتصادفون أنفسكم برفقة لغة لا كسائر اللغات، وبين طائفة مفردات ليست كسائر المفردات، وبين معرض صوَر شعريّة مختلفة عن سائر المعارض واللوحاتِ الشعريّة وصوَرِ القصائد!
هذا الشاعر يصعب عليكم أن تتصوَّروه قبل أن تتعرّفوا إليه وتعرفوه بشراً سويّاً يُمسك بناصية اللغة، ويُلَوّح بريشة سورياليّة نزقة، ويجبل الإثنين معاً ببهاء الطفولة، ويقظة الأنبياء، وإكسير العرّافين، وسحرِ خيالٍ ثريّ لا يُضاهَى. هل عرفتم أن هذا الشاعر الذي لا يشبه أحداً بعينه، ولا يشبهه أحدٌ بقلمه، أو نفسيّته، أو روحه، أو قصائده… هذا الشاعر لا يشبه أحداً إلا شوقي أبي شقرا.
ضلّ مَن زعم أن المدرسة السرياليّة ارتدت حلّتها العربيّة بشعر أبي شقرا. والصحيح أن السرياليّة العربيّة، وتحديداً السرياليّة اللبنانيّة، دعت المدرسة السورياليّة الفرنسيّة لقضاء عطلتها في ربوع جبل لبنان، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، فألبستها حلّة جديدة بعد تجربة فريدة لم تعهدها من قبل. وتفصيل ذلك أن أخذَتْ قصائدُ أبي شقرا صديقتها السرياليّة الفرنسيّة وجالت معها في رحابٍ لم تألفها من قبل، وعلّمتها لغة عربيّة فوق واقعيّة، وزوّدتها بصوَرٍ شعريّة لبنانيّة خارقة لكل تقليد ولكل تركيب مألوف بحيث اكتنزت الضيفةُ الفرنسيّة الصديقة بأحمالٍ من المادة الشعريّة الجديدة التي لم تكن لتتوقّعها خارج الأرض الفرنسيّة.
بعد أن تتجوّل في دواوين أبي شقرا تجد أنّ هذا الشعر، الذي لا يشبه أي نصّ شعريّ آخر، لا يشبه إلا صاحبه، يمكن تصنيفه ضمن أربع سمات مميّزة: الطفولة، الريف، اللغة، والصورة الشعريّة. أبادر إلى القول أن هذه السمات متداخلة بحيث تجد في القصيدة الواحدة أحياناً جميع أو معظم ملامحها. لكنّك في كلّ حال، سواء وجدتها مجتمعةً أو متفرّقة، تجدها ملازمة لشعر أبي شقرا بحيث تشكّل كلٌّ منها خاصّة أساسيّة من خصائص شعره المختلف والمميز باختلافه. وسوف نشير إلى كلٍّ من هذه السمات واقفين عند أبرز ملامحها ونماذجها.
الطفولة
لا تقف الطفولة في شعر شوقي أبي شقرا عند معنى البراءة. أو هي ضرب من البراءة اللولبيّة التي تحب أن تلهو بتلافيف الخيلاء، بتصوّراتها اللامحدودة، بل بافتراضاتها اللامتناهية. الشاعر هنا يلاعب ألفاظ الطفولة ليبتدع منها معنى مغايراً، معنى لا كسائر المعاني، فيدخل به الأرض البكر ويكتشف عبره، ومعه، طاقات جماليّة أو بواكير الخيال اللعوب الذي تتساقط عنده حدود المنطق أو أصول القاعدة أو حواجز المألوف والمتداول. طفولة الشاعر بهذا المعنى طائر ملوّن يجوب الفضاءات الرحبة الجديدة ويأخذ القارىء إلى عوالم لم يعهدها من قبل. لعبة الشاعر هنا «ليست قائمة على أزرار وكبسها وليست من الفنون الالكترونيّة وأن نضيء ونكبس ونزيح ونصل إلى النقاط وإلى الحركة وإلى الضرب والقفز أو نرتمي في الشرك ونختفي…»(1) وللطفولة ألعابها ولو اختلفت أدواتها واختلفت أشكالها وألوانها بين أنامل الشاعر وعلى مداد قلمه: «أين لعبتي… وأين قجّتي وأين والدي… يعطيني الورقة الملوّنة لأصنع طيّارة، وأين القصب الذي ينفخ الموسيقى والتعابير، وأين قصبتي لأجرح إصبعي، ولأن آخذ السكّين وأجرح جسدها وأقصّ هذا الهيكل إلى حجر وأنساه في الطبيعة…»(2) الطفولة عند أبي شقرا لعبة جارحة، لعبة حزينة، وأكاد أقول لعبة شقيّة، لكنّها، في كلّ حال، لعبة نقيّة بهيّة أخّاذة، يلعبها وحده. فقد يكون هذا الشاعر جارحاً، حزيناً، شقيّاً، لكنه في كلّ حال، شاعر نقيّ بهيّ أخّاذ، يلعب وحده لعبة فريدة نادرة، ولا ينتظر أحداً أن يأتي.
غير أنّ الطفولة عند أبي شقرا حرباء تتلوّن مع الألوان، من المنظور إلى غير المنظور، ومن البسيط إلى العميق القرار. فإذا حدّثك عن الحبل تراه «حيّة والبنات يرقصن على صفير السهم وأوراقي على الفحيح»(3)، وإذا انكسر القسطل «ركبنا على قصبة، فارت المياه، فتحت قميصي، صرخت، ضحكت.»(4) وإذا حدّثك عن القدَر الأزرق، يبادرك قائلاً أنْ «نشتريه قطّةً في كيس جنفيص، غزل بنات في ورقة، جبنة سوداء…»(5)
الطفولة لديه حالة، والحالة مزاج، والمزاج لغة، واللغة أسلوب، والأسلوب تجاعيد شِعريّة في لولب صورة بالأبيض والأسود، أو ملوّنة بتلاوين طبشورة لم يبقَ منها سوى بقايا مطحونة يخلطها الشاعر بالتراب كما يخلطها بذاكرة الطفولة وألعابها وخيلائها. «قصبَة» هذا الشاعر «حصانه»، وحصانه «أرقه»، وأرقه «أقحوانة الحرير»(6) التي لا تتقطّع خيوطها ولا تذبل بتلاتها.
الريف
والريف عنده نزهة أبديّة. نزهة لا تفارقه حتى ولو ظلّ في قلب المدينة. نزهته الداخليّة لا يمكن إلا أن تكون نزهة ريفيّة بامتياز. لأن «ذاكرتي في القنطرة، حنيني رغيف الصاج… ويختفي العصفور في بطن الوردة، لا يضجّ ولا يبصره الناطور.»(7)
وتتراكم أدوات الريف على كَتِفَي الشاعر حتى ولو كان جالساً إلى مكتبه في بيروت، أو واقفاً على شرفته وسط المدينة. فعالم الريف يطويه في جعبته ليتمكّن من أن ينتقل به إلى كل مكان. شوقي أبي شقرا يكتب قصائده بأوراق «الخرّوبة»، أو بزجاج «المرطبان»، أو بِ«رماد» الوجاق، أو «يتفركش إبريق الزيت، بالأرغفة حروف الحكاية»(8)؛ لماذا؟ لأنّ هذا الشاعر «يمصّ البئر غيمة إلى القلم»(9) إلى قلمه. ودم هذا الشاعر يزهر في ثنايا «زبيب الصحّارة»، وفي تعاريج «القادوميّة» و»خصلة الفرفحين»، ويشرق أمام «مفتاح القبو» و»نبيذ الصلاة» و»مقعد الحطبة»(10).
ويثرَى الريف في قصائد الشاعر عبر مفردات يكاد الزمان يغلّفها بقشرة من النسيان إذ يستوحي بعض شعره من أفياء «التوتة» ولذعة «الدبّور» وإبَر «العلَّيقة» وبُقَع «الكبوش» وألوان «الزيز» وخرير «الشلال» ومشهد «حجل الصخر» وأنوثة «تم السمكة» وندرة «صمغ اللوزة» و»حنان الطبليّة» وعطر «كبش القرنفل.»(11) إنّه عالم قائم بذاته وقد استعاد حياته على مداد قلم الشاعر، وتباهى بتفاصيل جميلة لا يدرك معانيها الساحرة مَن لا يتسنّى له أن يمرّ بتجاربها السعيدة، المديدة، الفريدة.
اللغة
أَنْ تتحدى اللغة يعني أن تبنيها لنفسك دون سواك، أن تشقع مفرداتها وجملَها، مدماكاً فوق مدماك، دون أن تتبع المألوف والمعتاد من التراكيب والمصطلحات. أن تتحدى اللغة يعني أن تخرج عنها إليها، أن تثور عليها من أجلها، أن تتجاوزها وصولاً إلى جوهرها والأعماق. أمّا الشكل فلا يكون إلا شكل الشاعر، والتركيب لا يكون إلا بتركيب الشاعر، وتفتيق أبعاد اللغة لا يتم إلا بقدرة شاعريّة قادرة. هذا هو شوقي أبي شقرا اللغويّ بشعره، والشاعر بِلغته التي لا يمكن تفصيلها إلا على قياسه، ولا يمكن حياكتها إلا بنوله، بل بقلمه الذي يغمسه بحبر طفوليّ ترابيّ ريفيّ ثريّ الخيال، بعيد المرامي، طريف الصوَر بواقعيّة فوق واقعيّة.
وتستوقفك مفردات لقّحها الشاعر في مسام قصائده، فاعشوشبت وأزهرت في شتلات شعره التي زرعها في بستانه اللغويّ الصلب العود والشروش والبنيان: «كم جررنا دنانَ الابتسامة والحصرم القتيل ونحن في منخفضات الوهلة…طالت مرساة السهر… وسنضحك مثنى ونعشوشب بالبرق والعاصفة وغبار الهوَس…»(12) وعليه يمكن القول أنّ لغة شوقي أبي شقرا تبحر «في البعيد الذي يشرف على البعيد، وإذ يلمع المجنّ وظهيرة الرحلة إلى الترياق…»(13)
وأفضل مَن يصوّر لنا لغة الشاعر هو الشاعر نفسه إذ يقول: «واضطربَت لغتي من الحدث، لففتها بالقطن والطحالب واختنقت سفينة الأجوبة».(14) ولئن اضطربت اللغة من الحدث نجد الشاعر «يسبح في الغمر… وقارب النجاة يأخذه إلى مفازة العري والصراخ القاحل… ول]ه[ الكتب العذبة الدخول إلى المطاوي والصعبة الخروج إلى المرفأ والتصابي.»(15) ويكتشف فجأة أنّ «لا ممرّ إلى الحبور الأغرّ… سوى العصفورة…ليصغي الصارخ أمامي إلى نجواي وإلى منقلب الهوان…»(16)
ولا يتردّد الشاعر في توظيف تراكيبه اللغويّة في صور شعريّة غير مسبوقة إذ «يشلح البئر على الحجر… يشلح السطور… والخاتمة ذنب العصفور. يسكب الندم، يسكبه الخدم قبل المائدة وبدء الغبار»(17) هذه لغة، على متانتها وصلابة تراكيبها، لا تشبه أحداً أكثر مما تشبه صاحبها. فزاد هذا الشاعر لغةٌ خاصّة فريدة يغذّي بها شعرَه، وشعرٌ لافت مميّز يغذّي به لغتَه. فالشعر واللغة عند إبي شقرا «نارٌ وموقد، صيحة وحنجرة، صِغَر ونقش حجر، قدح ونبيذ»، وهما عنده في كلّ حال «مرآة ووجه.»(18)
الصورة الشعريّة
قد تكون الميزة الرئيسية للشعر الحديث أنّه مبنيّ على الصورة الشعريّة التي تحاول تفتيق المألوف والمكرّر والمتوقّع بحثاً عن الأرض البكر، والفضاء المستحدث، واللغة الجديدة في قلب اللغة، أو عن تطويع المخيّلة الشعريّة إلى طاقة خلاقة غير مسبوقة، طاقة قادرة على تصوير عالم جديد من المعاني المفتوحة، والدلالات المشرّعة بكل اتّجاه، والاحتمالات غير المتناهية.
لو قرأت شوقي أبي شقرا، قبل أن تدرك خصائص الطفولة والريف واللغة لديه، لاستوقفتك طبيعة الصورة الشعريّة عنده بغرابتها: «أحرث الكسل والتجاعيد»(19)، و«جمجمتي صندوقي… ستهرول المراكب والقصائد»(20)؛ أو بافتراضيّتها المتحرّكة: «السيف والأصابع، والأفواه، والملاقط… اختلطت كالبطّ، سبحَت متمايلة رقصَت جازاً»(21)، و«أنا الرسول المقلّم، حمار وحشيّ سريع، أنا الخفيف لا أطير، أرتبط بجنزير الحائط، بموعد الحق»(22)؛ أو بتداخل المنظور باللامنظور من عناصرها: «يا سنبلة التعب… وحصرمة الليل»(23)، و«الحرف ريف البال، أذرع الغنى»(24).
وكثيراً ما يبني الشاعر لوحته الشعريّة بمزج أطراف الواقعيّة بعناصر فوق واقعيّة فيدخل فضاءً شعريّاً متماسكاً متّقداً متألّقاً ثريّاً بليغاً بذاته ولذاته: «تدقّ أجراسي حين أرتطم باللحظات… وقمّة السكون تشكر الطنين»(25)، و«لن نسمع الوقت… من بوق المدائح وصنوج النقائض. وأوزّة الاختلاف جاثمة على الكوّة»(26)، و«العنبر طفل قديم بلا أسنان حليب يجلس في حضن الدهر ولا يبكي إن قرصناه»(27).
هوذا عالم الشاعر الذي لا يمكن وصفه أو تصويره إلا بالاستعانة بلغة الشاعر نفسه. لذا يمكن القول في ختام هذه العجالة: شوقي أبي شقرا يسكبه الشباب، يفرّ من حضن النجمة، يفرّ إلى عين الرقّة وصوف السعادة، وينسكب على قياس جسده وتقاسيم وجهه في الذي يخطّه قلمه. هو لا يتردّد في أن يفلح الأرض اليباب ويخبر حارس الريح، ويخاطب البرد والعاصفة، ثمّ يغتسل بالنقطة على الورق. هو يتقن خرمشة الحرير وحذف الرسمات القديمة. هو في مهنته الشعريّة ينفخ النيران المسروقة ويستعير من بنات القمر شرراً صوّانيّاً تنتعش به الأسطورة. هو يغنّي للحطب، ينسى طقوسه، يطرب لرنين الصنوبر، يراوح بين مخلب الصقر وقيثارة الفراشة، يغترب في زماننا ويكسر الخمر بالكلمات ثمّ يهدأ هدوء السنديان. شوقي أبي شقرا يكون إيّاه في ما يكتب أو لا يكون. هذا الشاعر يُبعَث حيّاً حين تكتبه القصيدة فهو ربيب الفصول، ينهمر على مهل ويدغدغ مسامنا كرذاذ المطر.
الهوامش
1- أبي شقرا، شوقي، سائق الأمس ينزل من العربة، دار نلسن، بيروت، 2000، ص156.
2- المرجع السابق، ص 189.
3- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، دار النهار، بيروت، 1979، ص38.
4 – المرجع السابق، ص 39.
5- المرجع نفسه، ص 40.
6- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، دار الجديد، بيروت، 1992، ص 51، 41.
7- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، دار النهار، بيروت، 1979، ص53، 60.
8- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، دار الجديد، بيروت، 1992، ص 10، 11، 21.
9- المرجع السابق، ص 21.
10- المرجع نفسه، 24، 28.
11- المرجع نفسه، ص 36، 51، 58، 70.
12- أبي شقرا، شوقي، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، دار نلسن، بيروت، 2004، ص7.
13- المرجع السابق، ص 36.
14- المرجع نفسه، ص 68.
15- المرجع نفسه، ص 76، 79.
16- المرجع نفسه، ص 109-110.
17- أبي شقرا، شوقي، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، ص 33.
18- المرجع السابق، ص 71، 85.
19- أبي شقرا، شوقي، يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً، ص 7.
20 – المرجع السابق، ص 20.
21- المرجع نفسه، ص 28.
22- المرجع نفسه، ص 44.
23- شوقي أبي شقرا، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، ص 29.
24- المرجع السابق، ص 74.
25- المرجع نفسه، ص 96.
26- أبي شقرا، شوقي، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة، ص 138.
27- المرجع السابق، ص 146.
v
شوقي أبي شقرا
محمود شريح
كاتب من لبنان.
غدًا حين تهدأ قرقعة الادّعاء ودويّها الهائل الذي يكاد يصم الآذان فيحجب عنها سماع موسيقى الطبيعة النضرة، وغدًا حين تخف وطأة التبجّح وأثرها البغيض الذي يكاد يعمي البصر عن رؤية الخضرة الذهبية للواقع، غدًا يدرك جماعة النقد المتسرّعون ورهط البحث المتأنّقون أنّهم أغفلوا سماع نبض الشوق وهمس الوجد، فغاب عنهم نقاء الورد وشفافيّة الندى.
وغدًا حين تهدأ الزوبعة الدائرة على حداثة الجديد وكلاسية القديم، وترقد الخواطر تجاه الصّراع الناشب بين المعاصرين والسّلفيين فيما يختصّ بعلاقة الشّكل بالمضمون، وتجري إعادة النظر في موروث الأمس وإبداع اليوم، غدًا يدرك جماعة التنظير الطيّبون وحماةالأكاديميا الصالحون أنّهم سقطوا جميعًا في مطب الكبرياء، فما الزهو إلّا شاهد قبره.
وغدًا حين ينجلي الدخان المتصاعد من المواجهة الحامية بين شيوخ الأدب وشبابه وهي مواجهة أزلية مبعثها التوتر الناشئ عن قطبي الصراع الأبديين: الثبات والتغير، ومحصلتهما الصيرورة، مادة الحركة سوف تبرز واضحة تضاريس جمرة الشعر المتقدة فتضيء بوهجها خط التماس الفاصل بين الأصالة والتقليد، فيتبدد الوهم ويتبخّر الزيف، وتترسّخ مفاهيم وتنهض تصوّرات، ثم تنكفئ معايير وتنسخها مقاييس فتتغيّر الحساسيّة النقدية المألوفة، ولكن تبقى القصيدة القصيدة معقلا لا يطاولها النقد إلّا عند تخومها، فلا يصيبها مباشرة ولا يعرض شبكة اتّصالاتها الداخلية لأدنى أذى، فالنقد ومهما كانت مدفعيّته ثقيلة جاء بها الدارسون من معدن التراث أو من مقالع الفرنجة يعجز عن البوح. يدل عليه فحسب، فالبوح للقصيدة وفي بيتها الأمان.
وغدًا حين تبرد جبهة الصّراع بين جماعة تقول بأزمة نقد وأخرى تزعم معضلة شعر، وكل منهما تحصن نفرها بذخيرة فسدت، وشهروا رايات تتناظر في بهتان ألوانهما وذبول رونقها، غدًا فقط وفقط غدًا يدرك القائمون على الأمر فينا أن البون شاسع بين صخب حجر الرحى وصدى انفلات البذرة من عقالها، فجوعنا الروحي لا يشفيه إلا رغيف ساخن يضحك القلب له وهو يطل من مخبز الشاعر. هذا هو شوقي أبي شقرا.
v
ي بهتان ألوانهما وذبول رونقها، غدًا فقط وفقط غدًا يدرك القائمون على الأمر فينا أن البون شاسع بين صخب حجر الرحى وصدى انفلات البذرة من عقالها، فجوعنا الروحي لا يشفيه إلا رغيف ساخن يضحك القلب له وهو يطل من مخبز الشاعر. هذا هو شوقي أبي شقرا.
v