عزيز الحاكم *
في شهر نوفمبرمن عام 1994 ، وصلني من الصديق الشاعر سيف الرحبي ظرف بريدي كبير وبداخله العدد الأول من مجلة نزوى ، مرفقا برسالة استكتاب ، فغمرني فرح لايضاهى ، وانتابتني نشوة من ينشر لأول مرة ، وقلت في سري: «ها قد صار لنا الآن ملاذ آمن لنشر إنتاجاتنا الأدبية والفكرية المؤلفة والمترجمة ، بجوار كتاب ذوي باع طويل ومصداقية حقيقية»، بعد أن أفل نجم مجلات عربية رصينة من عيار «مواقف» أدونيس و«الكرمل» لمحمود درويش و«الآداب» لسهيل إدريس، تصفحت العدد بنهم من يبحث عن البديل في واقع ثقافي محبط، محاصر بإكراهات كثيرة، وكان أول ما استوقفني هو طبيعة المشاركين ونوعية التبويب الذي جمع بين البحوث والدراسات والملفات والنصوص الإبداعية من شعر ونثر، ومقالات حول المسرح والسينما والتشكيل وحوارات. ولأني كنت أعرف عزيمة سيف الرحبي وإصراره على تقديم ما هو جديد وحداثي، من غير تفريط في الجوانب المضيئة من التراث، منذ أن كان يرأس مجلة «أوراق» اللندنية – التي كان لي شرف النشر فيها في منتصف الثمانينيات – فقد شعرت بالاطمئنان على مستقبل هذا الوليد الجديد وهيأت نفسي للانخراط في المشروع دونما تردد أو تشكيك في قدرته على الاستمرار والتجدد، خصوصا وأنه لم يكن مجرد نزوة مهددة بالانطفاء في أية لحظة ، لأن وراءه مؤسسة إعلامية صلبة ، ويسهر على تحريره طاقم نشيط متعدد الاختصاصات ، بقيادة المايسترو سيف الرحبي .
كان العدد يقع في 150 صفحة من الحجم الكبير بغلاف أنيق، تتخلل مواده المتنوعة بعض الصور والرسوم، مما يغري بالقراءة دونما عناء أو نفور، فضلا عن كونه يستضيف بين دفتيه كتابا ومفكرين عربا وأجانب من مختلف الأطياف والاتجاهات ، مما جعله بحق مشتلا فكريا وإبداعيا من ضمن غاياته لم شتات الدياسبورا المثقفة العربية ، في الشرق والغرب ، والتحول بالتدريج إلى أغوار تتحاور فيها النصوص وتستأنس ببعضها البعض.
وهكذا ظلت المجلة تطور نفسها على مستوى الكم ، إذ ارتفع عدد الصفحات من 150 إلى 303 صفحات في الأعداد الأخيرة ، وعلى مستوى الكيف ، حيث أصبحت الأعداد مزدانة بالصور واللوحات كأنها رواق تشكيلي محمول، شكل نافذة كبيرة لتنفس الرسامين العمانيين (مع إيلاء أهمية خاصة للتشكيليات العمانيات) واغتنت المحتويات بأبواب جديدة لعل أهمها نصوص بعض السيناريوهات العالمية الشهيرة المترجمة، وهدية العدد من إصدارات الكتاب العمانيين التي جاوزت الآن أربعين كتابا.
كل هذا أضفى على المجلة، وهي تحتفي بالعدد 100 ،طابعا خاصا ، وحولها إلى منبر نظيف يتهافت على النشر فيه كبار الكتاب والمفكرين ، لما يتسم به من رصانة في اختيار المواد وأناقة في الطبع قلما تحققتا لمجلة عربية أخرى.
لقد استطاعت مجلة نزوى، على امتداد ربع قرن ، أن توفق بين المحلية والعالمية، من خلال تعريفها بالتراث العماني، عمرانا وتاريخا وثقافة، والأدب العماني الحديث، شعرا وقصة، الذي يشهد تطورا ملحوظا منذ الثمانينيات، وانفتاحها في الآن نفسه على الآداب والفنون العربية والعالمية بكل مكوناتها وتجلياتها الموسومة بالتوجه الكوني ، وبذلك شقت لنفسها سبيلا متميزا ضمن لها كل الاحترام من طرف القراء العرب والمستعربين في شتى أنحاء العالم.
ومما يحسب لمجلة نزوى أنها لم تتخل عن الطبعة الورقية رغم أنها فتحت لها موقعا إلكترونيا موازيا تتقاسم فيه مواد العدد لتعميم الفائدة ، لاقتناع الساهرين عليها بأن للورق جاذبيته ولرائحته قدسية خاصة؛ ما يوفر على القارئ تعب القراءة المكهربة، وييسر له متعة القراءة بشتى الأوضاع (جالسا أو مستلقيا) ، ويضمن له مزيدا من التركيز والتمعن.
بكل هذه المميزات تكسب نزوى رهان الانتظام والاستمرارية والتجدد، بخطى ثابتة، في وقت أضحت فيه القراءة عادة غريبة ، واستبدت به مشاغل الاستهلاك الفيسبوكي الفج ، وثقافة الإثارة والتسفيه، ومن خلال هذا الصمود الاستثنائي تتوثق بينها وبين القارئ المحترم أواصر المودة الثابتة، ويزداد تعلقنا بها – نحن معشر المبدعين والمفكرين- باعتبارها ملاذنا المريح ، في هذا الزمن العاصف ،،،