عماد بن جاسم البحراني
يعود الاهتمام الروسي بعُمان إلى عهد روسيا القيصرية، تحديدًا في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث شهدت هذه الفترة تنافسًا أوروبيًا على منطقة الخليج العربي، وتحديدًا من قبل كل من بريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى محاولات للتغلغل في المنطقة من قبل روسيا وألمانيا.
وقد تطلعت روسيا القيصرية في الوصول إلى منطقة الخليج العربي وبلاد فارس؛ تحقيقًا لإستراتيجية بطرس الأكبر التي هدفت إلى وصول روسيا للمياه الدافئة في المنطقة.
وكانت بداية هذه المحاولات عبر النشاط التجاري من خلال قيام الروس بإرسال عدد من قطع الأسطول إلى ميناء مسقط؛ ويرجع ذلك إلى الأهمية التي تميز بها ميناء مسقط خلال تلك الفترة؛ فقد كان يعد أهم مركز تجاري وله نشاط تجاري مع الهند؛ نظرًا للموقع الجيد الذي تشغله مسقط بين بومباي والبصرة.
حيث ارتفع حجم التجارة في القرن الثامن عشر وخلال عام واحد، فنجد أن خمس سفن من مسقط ارتادت البصرة خلال هذا العام، ويصل عدد السفن التي كان يملكها تجار مسقط في أواخر القرن الثامن عشر خمس عشرة سفينة، حمولة 400 إلى 700 طن، وثلاث سفن صغيرة ذات صاريتين، و50 سفينة كبيرة، و50 صغيرة، فكانت بعض السفن تتجه للهند، والبعض الآخر إلى زنجبار وشرق أفريقيا والبحر الأحمر، وكانت تلك السفن تحمل السلع بأنواعها وتنقل الأدوية واللؤلؤ والنحاس وغيره، وتعود محملة بالسلع بأنواعها المختلفة.
وقد شكّل النشاط الروسي في نهاية القرن التاسع عشر تهديدًا واضحًا لمركز بريطانيا الوطيد في البحار، لاسيما في منطقة الخليج العربي، وهَدِف الروس من إرسال سفنهم إلى الخليج العربي بشكل عام ومسقط بشكل خاص، وعرض العلم الروسي في المنطقة، إلى توجيه رسالة للبريطانيين مفادها أن مياه المنطقة سهلة المنال تمامًا أمام ملاحة السفن لجميع الأمم، وضد السياسة البريطانية التي تعمل على تحويل الخليج العربي إلى بحر مغلق يقع في دائرة نفوذها فقط.
وتكشف لنا الوثائق الروسية معلومة مهمة جدًا عن الرغبة الروسية في وضع موطئ قدم لها في مسقط منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر، وقد ورد ذلك في تقرير يعود إلى عام 1824م معنون بـ”اقتراح المستر سيرفبر للاستيلاء على مسقط في الجزيرة العربية من أجل ترويج تجارة رابحة” والذي رفعه الفرنسي (سيرفبر Cerfberr) إلى إمبراطور روسيا أليكساندر الأول (Alexander I) وأشار فيه إلى ضرورة قيام البحرية الروسية وكتائب الجيش الروسي بالسيطرة على مسقط؛ نظرًا لموقع مسقط المهم ومينائها للتجارة الروسية، وما له من فوائد متعددة ستعود على روسيا من جراء السيطرة عليه، كما بيّن التقرير المكاسب السياسية التي ستعود على روسيا إن قامت بالاستيلاء على ميناء مسقط؛ ومن أهمها أنه إذا نشبت حرب بين روسيا وكل من الدولة العثمانية وإيران، وكان هذا الميناء تحت سيطرتها فيمكنها أن تمارس الضغط والابتزاز عليهما في الخليج العربي، وستزداد بذلك الإمبراطورية الروسية قوة في مجال اتصالاتها وعلاقاتها مع بريطانيا وفرنسا.
كما أشار التقرير إلى أن السيطرة على مسقط ستعطي روسيا نفوذًا على مناطق الجزيرة العربية بشكل عام، وستكسب روسيا إمكانية التوسع في الجزء الغربي للهند والمناطق الجنوبية من إيران، بالإضافة إلى أن الدخل الروسي سيزداد نظرًا لما تحتويه الأراضي المستهدفة من خامات المعادن من ذهب ورصاص وغيرهما.
وقد اقترح سيرفبر على الإمبراطور إرسال أسطول روسي لاحتلال مسقط، على أن يكون هذا الأسطول مكونًا من طراد واحد وفرقاطة واحدة وسفينة شراعية بصاريين واثنين أو ثلاث ناقلات حربية لنقل البحارة الروس والعتاد الحربي والذخائر من روسيا إلى مسقط.
ونصح سيرفبر بضرورة الحفاظ على سرية العملية العسكرية خاصة من أعضاء الحكومة البريطانية أو عملائها، وأوصى بتركيز القوات الروسية في مسقط على القلعتين القديمتين الواقعتين على خليج مسقط (قلعتي الجلالي والميراني)، ومن أجل نجاح هذه الحملة السياسية والعسكرية أوصى سيرفبر بإقامة اتصالات دبلوماسية وسياسية حميمة مع سلطان عُمان، وفتح سفارة روسية بمسقط، والتفاوض مع السلطات فيها من أجل إبقاء حرس وأسطول روسي بمسقط بصفة دائمة.
كما اقترح سيرفبر مجموعة من الهدايا التي يجب أن تُرسل من روسيا إلى السفارة الروسية في مسقط وذلك لتقديمها إلى السلطان ووزرائه وأعيان البلاد، ومن بين الهدايا التي ذكرها، علب فضية وذهبية صغيرة مزينة بأحجار كريمة ومجوهرات متنوعة، ومسدسات وسيوف ومنظارات وأقشمة وفابريكات خاصة ذات لون أزرق؛ لأن سلطان عمان يفضل اللون الأزرق كما أشار سيرفبر.
وأشار سيرفبر إلى أنه إذا قرر الإمبراطور تعيينه سفيرًا لروسيا في بلاط سلطان عُمان، فإنه مستعد لإرسال أخيه لروسيا رهينة للدلالة على ولائه المطلق لروسيا وإمبراطورها.
وفي ختام تقريره التمس سيرفبر من الإمبراطور ألكساندر الأول منحه رتبة عقيد فخري في الحرس الإمبراطوري الروسي (دون التزامه بتأدية واجبات العقيد)، ومنحه أيضًا وسامًا من أوسمة الإمبراطورية، كما طلب منحه حق شراء وامتلاك الأراضي في روسيا، وذلك مقابل جهده في تقديم معلومات عن ميناء مسقط، وإقامة علاقات روسية مباشرة مع عُمان.
الجدير بالذكر أن هذه الوثيقة -كما يذكر سيرجي جريجوريف- كانت مجهولة حتى وقت قريب، حيث لم يطلع عليها الروس أو العمانيون أو أحد من المستشرقين أو المستعربين، وهي من مقتنيات الأرشيفات التاريخية المركزية للاتحاد الروسي في مدينة سان بطرسبيرج، العاصمة السابقة للإمبراطورية الروسية، وقد كتبت باللغة الفرنسية، وتتكون من 12 صفحة، بالإضافة إلى خريطة مفصلة لشبه الجزيرة العربية.
وكاتب هذا التقرير “سيرفبر” فرنسي أقام في روسيا عقب حربها مع نابليون بونابرت عام 1812م، وكان من سكان مدينة سان بطرسبيرج، وقد كان مُلمًا باللغة العربية. وذكر سيرفبر في تقريره هذا أنه زار مسقط متنكرًا كمسلم، وأنه يعرف سلطان عُمان شخصيًا لكنه لم يذكر اسمه (كان السيد سعيد بن سلطان سلطان عُمان آنذاك).
وقُسمت الوثيقة إلى ثلاثة فصول، كل فصل يحتوي على أربع صفحات، في الفصل الأول وصف لعُمان وأهميتها وخاصة ميناء مسقط وأهميته في الخليج العربي من المنظور الاستراتيجي والاقتصادي والتجاري، وفي الفصل الثاني شرح للمنافع التي ستعود على الإمبراطورية الروسية في حال فرضت سيطرتها على ميناء مسقط، وذكر فيه عدد السفن ووسائل النقل المطلوبة لإرسالها إلى مضيق هرمز من سان بطرسبيرج في روسيا لاحتلال ميناء مسقط، وأما الفصل الثالث فقد ذكر فيه معد التقرير وصفًا دقيقًا لعُمان، ومعلومات دقيقة ونادرة عن الطقس والزراعة والتركيب السكاني والعقائدي وأوضاع الحياة العامة في عُمان.
وشاءت الأقدار أن لا تتبنى الحكومة الروسية هذا المقترح الخطير، حيث إن الكتابات التي نشرت في الصحيفة اليومية “كاميرفوريير” والتي نشرت قائمة بأسماء الأشخاص الذين كانوا مخولين بعقد لقاءات رسمية مع الشخصيات البارزة نيابة عن الإمبراطور الروسي، أشارت إلى أن مقترح سيرفبر دخل ضمن هذه المقابلات، لكن الإمبراطور لم يتلقاه سواء في العام الذي رفع فيه التقرير (1824م)، أو العام الذي يليه (1825م)، وهو العام الذي توفي فيه الإمبراطور الروسي.
ويبدو أن الإمبراطور ألكساندر الأول لم يطلع على تقرير “سيرفبر”، ولم يتخذ أي قرار حول مقترحه بالاستيلاء على ميناء مسقط، حيث لم تحمل صفحات الوثيقة أي ملاحظات من قبل الإمبراطور عليها.
الهوامش
أحمد عبد الوهاب الشرقاوي، الخليج العربي في وثائق الأرشيف الروسي، أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، عمّان- الأردن، 2015م.
إيمان بنت مرزوق الرشيدي، الأطماع الروسية في مسقط وموقف بريطانيا منها (1297-1325هـ/1880-1907م)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القصيم، 2018م.
ج.ج. لوريمر: دليل الخليج، القسم التاريخي، ج 1، ترجمة مكتب ديوان حاكم قطر، مطابع علي بن علي، الدوحة، 1993م.
سيرجي جريجوريف: عمان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال الوثائق الموجودة في الأرشيفات الرسمية لسان بطرسبيرج، مجلة الوثيقة، البحرين، مج 21 ، العدد 41، 2002م.
صبري فالح الحمدي، الخليج والجزيرة العربية في المصادر الروسية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2013م.
فاطمة بنت محمد الفريحي. الأطماع الروسية في مسقط (1886- 1903م)، مجلة جامعة حائل للعلوم الإنسانية، العدد الثالث، يونيو 2019م، جامعة حائل، المملكة العربية السعودية.