في إطار اهتمامي بالإنتاج الكتابي للأميرة سالمة بنت سعيد (1844-1924)، عثرت على مقال نادر لها في إحدى الصحف الألمانية المعروفة آنذاك والتي تدعى بـ دويتشه كولونيال تسايتُنج(2)، التي كانت تصدر أسبوعيا من برلين، وتختص بقضايا المستعمرات الألمانية. شاركت سالمة بهذا المقال في عدد الجريدة الصادر بتاريخ الأول من أكتوبر سنة 1886، وهي السنة نفسها التي نشرت فيها مذكراتها المعروفة(3). ويبدو أن سالمة كانت تقتبس بعضا من الكلام الوارد في المقال مما ورد في مذكراتها وقد أشرت إلى ذلك في الهامش. إلا أن هناك إضافات أخرى أيضا في الموضوع لا توجد في نص مذكراتها، قدمت سالمة في المقال بعضا من الملاحظات عن مناخ زنجبار في زمانها، وكان منطلق المقال الاعتراض على فكرة السمعة السيئة لمناخ زنجبار، حيث أرجعت الإشكال في ذلك إلى أمر ذاتي وليس إلى طبيعة المناخ هناك، وتحديدا طريقة حياة المرء ومدى اتباعه للمبادئ الصحية. كما أنها أشارت إلى موضوع طريف وهو إشكالية الطبيب الذكر في مكان الحريم آنذاك ومدى صعوبة إجراء الفحوصات اللازمة، واقترحت أن يكون هناك طبيبات نساء يأتين إلى زنجبار ويزاولن عملهن، وأبدت استعدادها لتعليم اللغة السواحلية والعربية لأي طبيبة قرّرت المجيء إلى زنجبار.
تحتفظ مكتبة جامعة برن السويسرية بنص المقال الأصلي(4)، ويُحتمل أن إقامة ابنها سعيد رويته في سويسرا واستقراره فيها أثناء الحرب العالمية الأولى كان سببا لذلك.
تُعدّ مذكرات الأميرة ورسائلها(5) ومقالها وثائق مهمة لحياتها وأفكارها ووثائق أيضا لزمانها الذي عاشت فيه وتصوّرات الناس وأفكارهم، ولا سيما حينما كتبت بوعي حول موضوعات أغفلها كثير من كتب عن زنجبار، على قلتهم أيضا، وتلك الحقبة المزدهرة من الوجود العماني على الجزيرة. والمتتبع للمذكرات يجد بجلاء اهتمامها بتفاصيل ومظاهر قد تغيب، أو غيّبها من أرّخوا لذلك المجتمع والزمان، وترصدها بعفوية مستفيدة من المنهج الأوروبي وقتها في طريقة الكتابة لهذا اللون. والأمر هنا في المقال هو نفسه والطريقة ذاتها، ملاحظات وانطباعات عن جزئية لم ينتبه له المؤرخ العربي “العماني” في ذلك الزمن ولم تكن في وعيه ليرصدها، موضوع المناخ والأجواء في زنجبار، لكن سالمة وهي تعيش في ألمانيا كان وعي الناس هناك مختلفا فأثر في طريقة ونوعية تسجيلاتها ومشاهداتها. إذن من هنا تكمن أهمية هذه الكتابات التي تركتها لنا.
أعرض هنا بداية الترجمة العربية للمقال وسأرفق بعد ذلك الأصل الألماني، الذي كتب بالطريقة القديمة بالآلة الطابعة:
بعض الملاحظات حول المناخ في زنجبار
عُرف مناخُ زنجبار منذ زمن بأنه مضرّ جدًّا للأوروبيين وأقرب لأن يكون مُهلكًا لهم. ويبدو أن حالات الوفيات الكثيرة التي تعرّض لها القادمون والمهاجرون الأوروبيون أكدت هذا الرأي السلبيّ المنتشر بشكل عام، إلا أن هذا الحكم المسبق يتجافى مع الحقيقة بطبيعة الحال؛ فمناخ زنجبار هو أفضل مما يُعرف عنه؛ إذ إنّ حالات الوفيات المبكرة التي يروح ضحاياها الكثير من الأوروبيين هناك هي أمر شخصي تقريبا، ويمكن تجنبها بكل سهولة بكثير من الحذر واتّباع حمية غذائية معتدلة. ولا يُخشى على أحد منهم أيّ مرض مهلك إطلاقا ما دام ينظم حياته وفق أسس الرعاية الصحية الصحيحة. نعم، باستثناء حمّى التأقلم الخفيفة والمؤقتة، التي عادة لا ينجو منها أي أوروبي. وأعني بذلك التزام حمية غذائية خفيفة ينبغي أن تكون نباتية في الغالب، فكلما كان التقليل من اللحم والإكثار من تناول الفاكهة اللذيذة التي تهبها الأرض بوفرة، عاش المرء هناك بصحة أفضل. ولكن قبل كل شيء ينبغي تجنب الإفراط في تناول المشروبات الروحية على نحو صارم؛ لأن هذا هو السبب الرئيسي لحالات الوفيات الكثيرة بين الأوروبيين في زنجبار؛ ففي الواقع تُمزّج الخمورُ والجعة المستوردة من أوروبا إلى المناطق الحارّة المداريّة بالكحول في ظروف غير مناسبة للصحة لتبقى فترة أطول، وعندما يضاف إلى هذه الصفة السلبية إفراطُ تناول هذه المشروبات؛ فحتما ستكون النتائج سيئة ومضرة بالصحة ولا يمكن تجنّبها.
أَعرِف تُجّارا أوروبيين في زنجبار عاشوا هناك أصحّاء لعشر وإحدى عشرة سنة بلا انقطاع (ربما قطعوا إقامتهم وعادوا إلى أوروبا لنصف سنة فقط)، وأنا مقتنعة كثيرا بأنه يمكن لكل أوروبي أن يحافظ على كامل صحته مدة حياته، باتّباع حِمْية غذائية معتدلة، على النحو المذكور سابقا، مع تناول غير مفرط للمشروبات الروحية أو تجنبها تماما، وقبل كل شيء عليه أن يراعي أن يكون ما يُحمَلُ إلى بيته من الماء مِن قِبَل خَدَمِه هو الماء الجيد فقط وليس المالح أوالماء الملوث بكثير من المواد العضوية من آبار المزارع.
ستكون نِعمةٌ، سواء على الأوروبيين وأيضا على كل السكان الأصليين، لو تم الحدّ من التناول المفرط للمشروبات الروحية المهلكة جدّا، والتي لا يُضاهي سوءُ آثارها وباءُ الطاعون، عن طريق فرض ضريبة مرتفعة على استهلاكه واستيراده. ويُضاف إلى جانب الامتناع قدرَ المستطاع عن المشروبات الروحية والتزام حِمية غذائية معتدلة خفيفة، المحافظةُ على حركة الجسم النشطة والمنتظمة يوميا في ساعات الصباح الباكر، وتَتَمثّل الآن في ركوب الخيل والمشي والجمباز والسباحة، والتي تؤدي إلى نتائج أفضل للأوروبيين المقيمين في زنجبار. فالمراعاة المستمرة لهذه القواعد تُمكّنه من أن يتمتع بكامل حالته الصحية طيلة عشرات السنين، كما لو كان في وطنه في أوروبا.
أما بالنسبة للعرب المستوطنين في زنجبار فيمكنهم أن يقدموا نموذجا للأوروبيين فيما يتعلق بالاعتدال؛ فلدى وجبتيهم الغذائيتين اليوميتين يتناولون القليل من اللحم والكثير من المخبوزات والفواكه، ويشربون الماء الصالح فقط وماء جوز الهند المنعش اللذيذ (مادافو بالسواحلية: المحتوى المائي لجوز الهند الغضّ).
ولو أصيب العربي بأحد الأمراض فإنه يبحث للعلاج مما بين يديه من موادّ متاحة في البيت، أو يستعين بِرُقًى منطوية على الأسرار، والتي يُوصى بها من قبل من يُسمَّون بـالبَصّارين (العَرّافات).
للأسف العربي يثق كثيرا بالحِجامة وفصد الوريد ويعتبره نوعا من الدواء الشامل، كما تَعوّد أن يُصنِّف كلّ الأمراض الباطنية إلى صنفين، أوجاع الرأس وأوجاع البطن، فلدى أوجاع البطن يميل كثيرا إلى تدليك الأعضاء والعضلات، والذي في الحقيقة يسبب شعورا بالتحسن الكبير وثبت أنه مهدئ لكثير من أنواع أوجاع البطن. تمرّست إماؤنا منذ زمن على تدليك الأعضاء حتى بلغن نوعا من المهارة في ذلك.
ولأدوية التقيؤ قيمة أيضا عند العربي، إذ تتوافر له تشكيلة متنوعة من الأعشاب التي تُستخدم لهذا الغرض. فمجرد اشتمام رائحة ذلك الخليط البشع من الأعشاب المطبوخة مع بعضها يمكن أن يؤدي الغرض. وفي حالات الأمراض المستعصية يلجأ المسلم المُتديّن أحيانا إلى عبارات من القرآن يكتبها إنسانٌ، عُرِف عنه التُّقى، على صَحْنٍ أبيض بمحلول الزعفران ثم يَنحلّ الخط بماء الورد، وهذه الخلطة تُعطى للمريض ليشربها. إذ يجب أن يتناول هذا الدواء ثلاث مرات يوميًّا، في الصباح والظهر والمساء، ويجب الانتباه عند ذلك ألا يتساقط من هذا السائل المبارك أي قطرة على الأرض.(6)
ولو استُدعي طبيبٌ أوروبيّ إلى مكان الحريم فستُفرَض قيودٌ مزعجة جدّا لعملية فحص المريض، فعلى سبيل المثال، لا يُسمح له أن يجُسّ نبض المريضات أو أن يرى لسانهن، وفوق ذلك لا يُسمح له أيضا أن يرى الوجه الذي يجب أن يكون مغطًّى بشكل كثيف أثناء الفحص، ونتيجةً لهذه المعوّقات التي تعترض الأطباء الرجال في مكان الحريم، فإنه يكون أمرا مستحبا ومرغوبا فيه كثيرا أن تقرر الطبيبات اللاتي يتخرجن الآن كثيرا في أوروبا وأمريكا المجيء إلى زنجبار والعمل كطبيبات نساء، هناك سيجدن بالتأكيد العمل مربحا، ومع التحليّ باللطف والمجاملة لن يجدن صعوبة في كسب قلوب الشرقيّات، وسوف يجدن سريعا العمل مجزيا، وبالتأكيد ستحدثهن أنفسهن أنهن صنعن جميلا، ولكن يجب على الواحدة منهن أن تفهم اللغة العربية والسواحلية قليلا. ولو أن إحدى الجمعيات قرّرت إرسال شخصية مناسبة لهذا الغرض إلى زنجبار فسأكون مستعدة بكل سرور لتعليمها اللغتين؛ لأرد بعض الجميل إلى وطني الحبيب من خلال هذا الجهد القليل(7).
برلين، 1886
إميلي رويته بالولادة أميرة عمان وزنجبار”
هوامش:
1 ربما يكون المقال الوحيد لها، فقد اجتهدت كثيرا في البحث عن مقالات أخرى لها فلم أظفر إلا بهذا المقال.
2 Deutsche Kolonialzeitung
3 Memoiren einer arabischen Prinzessin, Berlin
Friedrich Luckhardt, 1886.
4
https://www.swissbib.ch/ecord/094271887?expandlib=IDSBB-B400#holding-institution-IDSBB-B400
5″رسائل إلى الوطن” هو كتاب سالمة الآخر، وقد صدرت ترجمته العربية حديثا عن منشورات الجمل، ظلت الرسائل مجهولة إلى أن قام الباحث الهولندي E.van Donzel بنشرها سنة 1993 مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ولم تظهر بلغتها الأصلية حتى عام 1999 عندما نشرها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينس شنيبن. تتضمن الرسائل مذكرات لسالمة وتفاصيل حياتها في ألمانيا من بداية انطلاق رحلتها من عدن عبر البحر الأحمر باتجاه ألمانيا وحتى انتقالها للعيش في برلين منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.
6 ينظر: مذكرات أميرة عربية، د.سالمة صالح، ط2، 2006، منشورات الجمل، ص252
7 نفس المرجع، ص262
زاهر الهنائي