المفارقة مصطلح غربي لم تعرفه العربية، ولم يدخل دراساتها إلا من وقت قريب عبر الترجمة. والحقيقة أن هذا المصطلح – تحديدًا – سبب جدلاً واسعًا حوله في الغرب، فهو مصطلح غامض وشائك ويثير الالتباس. فإذا كان «مالا تاريخ له يمكن تعريفه» على حد تعبير نيتشه؛ فإن مسألة إيجاد تعريف محدد لهذا المصطلح المراوغ، العصي على الفهم، يعد مسألة صعبة جدًّا نظرًا لتاريخه الطويل المتشعب.
فهو أشبه بجسد قطعت أوصاله – دونما اتفاق مسبق – ووزعت بين العديد من اللغويين والفلاسفة والبلاغيين، وآخرين تداولوه بأشكال مختلفة، وطوروه بحيث أصبح له في كل سياق يرد فيه معنى مختلف وجديد.
نجـــــاة عــــلي
شاعرة وباحثة من مصر
عند الرجوع إلى «قاموس أكسفورد» وجدناه يشير إلى أن مصطلح(Irony ) مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
١- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ – عادة – شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.
٢- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور.
٣- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتستخدم الكلمة – بشكل خاص – للإشارة إلى ما يسمى بـ «المفارقة السقراطية» من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.(١)
أما «معجم تاريخ الأفكار» فإنه يعرف ((Irony)) بأنها ذلك التصارع بين معنيين الذي يوجد في البنية الدرامية المتميزة لذاتها: بداية؛ المعنى الأول هو الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه حقيقة واضحة، لكن عندما يتكشف سياق هذا المعنى، سواء في عمقه أو في زمنه، فإنه يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر متصارع معه، هو في الواقع في مواجهة المعنى الأول الذي أصبح الآن وكأنه خطأ، أو معنى محدود على أقل تقدير، وغير قادر على رؤية موقفه الخاص.(٢)
وقد وردت كلمة (آيرونيئيا) لأول مرة في كتاب أفلاطون «الجمهورية» وقد أطلقها على سقراط أحد ضحاياه، وهي تعني «طريقة ناعمة هادئة في خداع الآخرين»، وتشير كلمة (آيرون) عند «ديموسثينيس» إلى رجل يتهرب من مسؤولياته كمواطن بادعاء عدم اللياقة. كما تعني الكلمة عند ديموسثينيس «إنسانًا مراوغًا لا يلتزم بحال، يخفى عداوته، يدعى الصداقة، يسيء التعبير عن أفعاله، ولا يدلي بجواب واضح أبدًا».(٣)
وكان أرسطو الذي كان دائم التفكير بسقراط يضع (آيرونيئيا) بمعنى المغايرة التي تقوم على الحط من الذات، بمنزلة أعلى من نقيضتها (الآزونيئيا) أو المغايرة التي تقوم على الادعاء؛ فالتواضع حتى عندما يكون تظاهرًا، يدل على حسن تربية أكثر من التفاخر. وفي الوقت نفسه، عادت الكلمة – التي كانت تشير في أول الأمر إلى نمط من السلوك – لتنطبق على استعمال اللغة بشكل خادع، ثم أصبحت (آيرونيئيا) صيغة (بلاغية): الذم بما يشبه المدح، والمدح بما يشبه الذم.
ولا تفيد كلمة (آيرونيئيا) عند «كيكيرو Cicero)) ما تفيده الكلمة الإغريقية من معانى الإساءة، فهى تظهر لديه إما على شكل صيغة بلاغية The Rethorical Figure، أو على شكل ذلك (التظاهر المتمدِّن) العجيب عند سقراط؛ عادة المراوغة في الحديث، لذلك عندما نستخدم كلمة (مفارقة) في وصف طريقة سقراط بالتظاهر أن له آمالاً كبيرة أن يتعلم من محدِّثه معنى القداسة والعدالة، يكون مفهومنا عن المفارقة رومانيًا وليس إغريقيًا.(٤)
ولا تظهر كلمة المفارقة في الإنجليزية حتى عام ٢٠٥١، ولم يجر استعمالها بشكل عام حتى بواكير القرن الثامن عشر، فقد استعملها «درايدن» مثلا مرة واحدة، لكن اللغة الإنجليزية كانت غنية بمفردات تجري على الاستعمال اللفظي بما يمكن احتسابها مفارقة من حيث الجوهر مثل: يسخر، يهزأ، يعير، يغمز، يتهكم، يذري، يحتقر، يهين.(٥)
ويشير« د. سى. ميوك»D. C. Muecke في كتابه Irony and the Ironic إلى أن مفهوم «المفارقة» قد تطور بشكل بطيء جدًّا في إنجلترا كما هو في بقية دول أوروبا الحديثة، فقد أهملت أول الأمر المعانى الأكثر عمقًا عند «كيكيرو» Cicero و«كوينتليان» Quintilian حيث كانت المفارقة طريقة في معاملة خصم في جدال، وفي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر اكتسبت كلمة «المفارقة» عددا من المعانى الجديدة دون أن تهجر المعاني القديمة كلية.(٦)
على أننا سوف نجد أن كلمة «مفارقة» قد اتخذت عدة معانٍ في خضم التأملات الفلسفية والجمالية المتفاعلة، والتي جعلت من ألمانيا مركزًا للزعامة الفكرية، وقد برزت في ذلك الحين أسماء «فردريك شليجل»Friedrish Schlegel وأخيه «أوجست فلهلم» August Wilhem و«كارل زولجر»Karl Solger.
وقد ارتبط مفهوم الألمان للمفارقة بمفهومها عند «جوته» Goethe، والتي كانت لها مستويات متعددة، وكذا اتجاهات مختلفة، وكانت المرحلة الأولى من هذا التطور الجديد هي النظر للمفارقة ليس من زاوية من يمارسها، بل من زاوية من يسقط ضحية المفارقة.(٧)
ويذكر «رينيه ويليك» René Wellek في الجزء الثانى من «تاريخ النقد الأدبي» A History of Modern criticism (1750-1950) أن «فردريك شليجل» Friedrish Schlegel هو أول من أدخل مصطلح المفارقة في مجال الأدب، ولم تكن هناك أية إشارة إليه سوى عند «هامان» Hamann.
واستخدام شليجل للمصطلح يختلف عن المعنى البلاغي القديم، وعن فكرة التراجيديا عند «سوفوكليس» Sophocles ، الذي طوَّره في أول القرن التاسع عشر «كونوب ثرول»Connop Thirwall ، حيث صارت له أهمية كبرى في النظرية النقدية.(٨) وقد أخذ به «زولجر» Solger، كما أصبح لدينا على يده مفهوم آخر للمفارقة هو «المفارقة الرومانسية»(٩) . Romantic Irony
فالمفارقة عند شليج-ل هـي شكـل مـــن النقيضـة A Form of Paradox، وهى إدراك لحقيقة أن العالم في جوهره ينطوي على تناقض، وأن الوعي الضدي هو الذي يستطيع الإمساك بكليته المتنافرة. والمفارقة عنده تعنى أيضا ذلك الصراع بين المطلق والنسبي، وهى الوعي المصاحب للاستحالة، لذا ينبغي على الكاتب – في نظر شليجل – أن يشعر بالحيرة إزاء عمله، فهو يقف على مقربة منه وبمعزل عنه في الوقت نفسه. ويتعامل معه بطريقة تشبه اللعب تقريبا.(10)
كذلك يرى شليجل أن المفارقة وعي جلي بالفوضى الكاملة اللانهائية، وهى وعي بالذات بدرجة عالية، لأن المفارقة عنده محاكاة ساخرة، فهي الهزل الغامض الذي يحاول أن يرتفع فوق إبداع الإنسان وفضيلته ونبوغه. كذلك تقترن المفارقة عنده بـ «الشعر الغامض» Transcendental Poetry و بـ «شعر الشِّعر» Poetry of Poetry الذي يجده عند بندار Pindar، ودانتي Dante وجوته Goethe. وهو المعنى نفسه للمفارقة الذي أكده الناقد الإنجليزي أيفور آرمسترونج رتشاردز Ivor Armstrong Richards (1893-1979) في كتابه «مبادئ النقد الأدبي»Principles of Literary Criticism حين كان يناقش موضوع الخيال مشيرًا إلى أن الشعر الذي لا يصمد أمام المفارقة ليس شعرًا من الطراز الأول، كما أن المفارقة ذاتها هى دائمًا من الصفات المميزة للشعر الرفيع.(١١)
أما «أوجست فلهلم» August Wilhem (1767-1845) فإنه يفهم المفارقة على أنها توازن بين الجد والهزل أو بين التصور والمألوف، والتصور عنده هو نوع من الاعتراف المتغلغل في التمثيل نفسه، يزيد أو ينقص في وضوح التعبير. ويجد «أوجست فلهلم» ذلك في أعمال «كوّزي» الدرامية التي تقوم على الحكايات الخرافية بما فيها من مشاهد القناعية المتضاربة.(12)
أما الفيلسوف الألماني «سورن كيركيجور»Sorn Kierkegaard (1813-1885) فإنه يتجه بشكل رئيسي في مفهومه عن المفارقة إلى ما يدعوه بـ «الطورين: الجمالي والأخلاقي من التطور الروحي». ويرى «كيركيجور» «أن من يمتلك مفارقة جوهرية، فإنه يمتلكها طوال النهار» فهو لا يتصف بالمفارقة بين وقت وآخر، بل إنه يعتقد أن الوجود كله يقع في باب المفارقة، ولا يتخذ المفارقة وسيلة كي ينال إعجاب الآخرين(13). وقد قدم كتابه الأول: مفهوم المفارقة مع الإشارة المستمرة إلى سقراط
The Concept of Irony: With Continual Reference to Socrates (1841). وتعد هذه الدراسة الأكاديمية – فيما يرى إمام عبد الفتاح إمام – بمثابة المدخل الرئيسي إلى فلسفة كيركيجور النهائية، حيث كان كيركيجور ينظر إلى سقراط على أنه أستاذ المفارقة بلا منازع، فقد ظهرت المفارقة لأول مرة في العالم على يد سقراط. ومن خلال هذه الدراسة التاريخية ينتهي كيركيجور إلى أن يميز عند سقراط بين ضربين من المفارقة؛ المفارقة بوصفها طريقة في الحوار وإدارة الحديث بين الناس، والمفارقة بوصفها أسلوبًا في الحياة، وطريقة في الوجود، وهو ينتهي عند سقراط في الحالتين إلى ضرب من «العدمية» عندما يفضيان إلى نتيجة واحدة هي «السلبية اللا متناهية المطلقة».(14)
ويرد في تاريخ مفهوم المفارقة بعد ذلك اسم الناقد الإنجليزي «كونوب ثرلوال» الذي نشر عام 1988 مقالة طويلة بعنوان «المفارقة عند سوفوكليس» وهى دراسة يعتبرها ميوك، على الرغم من أنها تدين بشيء إلى المفاهيم الألمانية، فإنها تعد – في نظره – آخر خطوة مهمة في التاريخ الطويل لمفهوم المفارقة، لأن بها أفكارًا تخص الكاتب وحده، فقد وضعت تلك المقالة في باب المفارقة، بدرجة تزيد أو تنقص في الوضوح جميع الأنواع الرئيسية منها التي جرت ممارسته، وفي جميع صنوف الظواهر التي نطلق عليها الآن صفة المفارقة. ومنذ ذلك التاريخ يقع كل شيء تقريبًا إما في باب إعادة الصياغة، أو إعادة الاكتشاف.( ١٥)
على أننا سوف نلاحظ أنه بحلول القرن العشرين ساد مفهوم المفارقة النسبية وغير الملتزمة، حيث صرنا نقرأ عبارات مثل: «المفارقة نظرة في العالم تجد الخبرة عرضة لتأويلات متعددة، ليس فيها واحدة صائبة دون غيرها. وأن تجاور المتنافرات هو جزء من طبيعة الوجود».
والمفارقة بهذا المعنى طريقة في الكتابة، ترغب في أن يظل السؤال قائمًا عن المعنى الحرفي المقصود. فثمة إرجاء أبدى للمعنى المقصود؛ فالتعريف القديم للمفارقة – قول شىء والإيحاء بنقيضه – قد تجاوزته مفهومات أخرى كثيرة، منها مثلاً أن المفارقة هي قول شيء بطريقة تستفز عددًا لا نهائيًا من التأويلات المختلفة.( ١٦)
أنماط المفارقة ومستوياتها
يعترف ميوك – وهو من أهم دارسى المفارقة – بصعوبة تعريف المفارقة، ويرى أن الكتابة عن هذا الموضوع أقرب ما تكون إلى المخاطرة. وهى أشبه عنده بمحاولة «لملمة الضباب».(١٧) وهو يقر أن من العسير عليه – كناقد أدبي – أن يجد تعريفًا دقيقًا ومختصرًا يمكن أن يشمل كل أنواع المفارقة، ويستبعد ما هو يقع خارج نطاقها، وأن التمييز بينها من زاوية معينة قد لا يكون كذلك من زاوية أخرى، كما أن أنواعها التي يمكن تمييزها وتحديدها – بشكل نظري – سوف نجدها عند الممارسة العملية متداخلة الواحدة في الأخرى.( ١٨)
يؤكد ميوك أنه لا يوجد تحديد واضح للمفارقة، ولا توجد قائمة تحتوي على تكنيكات المفارقة وطرق استخدامها، حتى يتمكن الناقد من وضع بطاقة تعريف على كل عبارة من عبارات المفارقة التي يجدها في النص الأدبي. وكذلك ترتبط المفارقة عنده بكثير من أشكال التعبير الأدبي،(١) فهى تعد مزيجًا من فن الهجاءSatire وفن السخرية Sarcasm وفن الجروتييسك وفن العبث والفن الضاحكHumour(١٩)
وتكمن العقبة الرئيسية في طريق إيجاد تعريف بسيط للمفارقة في أنها ليست بالظاهرة البسيطة، فهناك بون شاسع بين نوعين من المفارقة، مفارقة الموقف Situational Irony و«المفارقة اللفظية»Verabal Irony . فالمفارقة اللفظية لابد من أن تتضمن وجود «صاحب مفارقة» Ironist، شخص يقوم بإحداث المفارقة أو شخص ما يوظف تكنيكًا عن وعى وعن قصد متعمد. أما «مفارقة الموقف» الناتجة عن موقف ما، فإنها لا تتضمن بالضرورة وجود شخص يقوم بالمفارقة، لكنها مجرد حالة أو ظرف أو نتيجة لأحداث من شأنها أن تضيف إلى ذلك، ويتم رؤيتها والشعور بها كنتيجة للمفارقة. وفي كلا النوعين، المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، يوجد شكل من أشكال المواجهة أو المقابلة حيث يتم وضع شىء بجانب شىء آخر من الأشياء المتعارضة.
وقد سميت «مفارقة الموقف» Situational Irony مفارقة لأنها تبدو مشابهة للمفارقة اللفظية Verabal Irony ، وهي لم تكن معروفة أو مدركة حتى القرن الثامن عشر على الرغم من أن الكثير من الناس كانوا يشعرون بها، وربما كانت مفارقة الموقف كشىء يتم إدراكه لا تقل قدمًا عن المفارقة اللفظية، ولكنهما تختلفان، فبينما تميل المفارقة اللفظية إلى أن تكون هجائية، تميل مفارقة الموقف إلى أن تكون ذات صفة أكثر كوميدية أو مأساوية أو فلسفية.(20)
ويرى ميوك أن تعريف المفارقة اللفظية – باعتبارها شكلا من أشكال القول – يعد أمرًا غير ملائم بالدرجة اللازمة، فهو يغطى مساحة صغيرة مما نعرفه بالمفارقة اللفظيةVerabal Irony ، لكن هذا المصطلح الأساسى «المفارقة اللفظية» يحدد فقط درجة فرعية من درجات أخرى ليس لها اسم مثل المفارقة الموسيقية والمفارقة التصويرية، والمفارقة المعمارية، وجميعها تتضمن التباسًا يصعب تخيله.(21)
وقد ذهب ميوك إلى أن للمفارقة ثلاثة عناصر تميزها:
١- تضاد المخبر والمظهر
The Contrast of Reality and Appearance
حيث نجد أن صاحب المفارقة يقول شيئًا لكنه في الواقع يقول شيئًا آخر مختلفًا تمامًا، وضحية المفارقة مطمئن إلى أن الأمور هى على ما تبدو عليه ولا يحس أنها حقيقة مختلفة تمامًا؛ إذ إن المفارقة تتطلب تضادًا أو تنافرًا بين الحقيقة والمظهر وأنها تكون أشد وقعًا عندما يشتد التضاد.
٢- العنصر الكوميدي The Comic Element
هذا العنصر الكوميدي يكمن في الخصائص الشكلية للمفارقة: التضاد أو التنافر الأساسى بالإضافة إلى غفلة مطمئنة فعلية أو مصطنعة. وليس هناك امرئ يناقض نفسه عن قصد (إلا عندما يريد حل تناقض على مستوى آخر: الأمر الذي لا يكون فيه تناقض فعلى)؛ وينجم عن ذلك ظهور تناقض مقصود يقيم توترًا نفسيًا لا يسرى عنه سوى الضحك. ويحدث أن يكون العنصر الكوميدى ضعيفًا في بعض أمثلة المفارقة إذ يكون العنصر المؤلم شديدًا، لكن المفارقة قد تكون أكثر تأثيرًا إذا اجتمع فيها العنصر الكوميدى والعنصر المؤلم.
٣- عنصر التجرد The Element of Detachment
وهو يوجد أحيانًا في الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة، وأحيانًا يوجد في الموقف الفعلى لدى صاحب المفارقة أو المراقب المتصف بها.
إن ما يشعر به المراقب ذو المفارقة – عادة – في وجود موقف المفارقة يمكن أن يلخص في كلمات ثلاث: التفوق، الحرية، التسلية. فوعي صاحب المفارقة بنفسه بوصفه مراقبًا يميل إلى زيادة شعوره بالحرية وتوفير حالة من الصفاء أو الابتهاج أو ربما من الحبور. وإن وعيه بغفلة الضحية يدفعه لأن يرى الضحية مقيدًا متورطًا حيث ينعم هو بالحرية، مرتبطًا حيث يكون هو غير ملتزم، مطمئنًا سريع التصديق أو ساذجًا، حيث يكون هو منتقدًا، مشككًا أو راضيًا بتأجيل الحكم. وحيث يكون موقفه موقف امرئ يبدو عالمه حقيقيًا ينطوى على معنى، يجد عالم الضحية وهمًا أو تافهًا.(٢٢)
ويشير «واين بوث»Wayne C. Booth (23) في كتابه «بلاغة القص»The Rhetoric of Fiction إلى أن معظم عناصر المفارقة الناجحة قبل العصر الحديث قد نبهت بشكل أو بآخر إلى أنه لا يمكن الثقة بالمتحدث، ويضرب مثالاً على ذلك من كتاب «لوسيان» Lucian «التاريخ الحقيقي» حيث يقدم الراوية نفسه على أنه كاذب مثل المؤرخين الآخرين. ويؤكد «بوث» أنه إذا كان هذا التحذير للقارئ لن يضمن له تفسير المفارقة بسهولة، فإنه يجعله – على الأقل – لا يضل طريقه. وأن أى تنافر غريب بين الكلمة والكلمة أو الكلمة والفعل سيكون كافيًا بالنسبة له.
أما ميوك فقد قسم المفارقة في كتابه «مجال المفارقة» The Compass of Irony عدة تقسيمات انطلق بعضها من ناحية الأنواع أو الأنماط، وبعضها من ناحية درجاتها، وبعضها من ناحية الطرائق والأساليب، وبعضها من ناحية تأثيرها، والبعض الآخر من ناحية الموضوع.
وهي تنقسم عنده إلى مفارقة لفظية ومفارقة موقف.
المفارقة اللفظية Verbal Irony
وقد ذكر منها نمطين، أطلق على الأول منهما: أسلوب «الإبراز»
High – Relief، أما الثاني فقد أطلق عليه: أسلوب «النقش الغائر» Intaglio.(24)
كما قسم مفارقة الموقف Situational Irony إلى خمسة أنماط هي:
١- مفارقة التنافر البسيط Irony of Simple Incongruity
هذه المفارقة في أبسط أنواعها وأشكالها تكون غير معقدة من جانب تقديم الحدث أو الشخصية أو وجود مفهوم للضحية. وتتحقق مفارقة التنافر البسيط حينما يكون هناك تجاور بين ظاهرتين بينهما تنافر شديد، يمكن إدراكه بسهولة.(25)
٢- مفارقة الأحداث Irony of Events
تتحقق مفارقة الأحداث عندما يكون هناك تناقض أو تعارض بين ما نتوقعه وبين ما يحدث وحينما يكون لدينا وضوح أو ثقة فيما تؤول إليه الأمور، لكن تسارعًا غير متوقع للأحداث يغلب ويخيب توقعاتنا أو خططنا.
٣- المفارقة الدرامية Dramatic Irony
ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية.
ويضرب ميوك مثالاً على ذلك من قصة «يوسف وإخوته»(٭) بيوسف الذي يستضيف إخوته في مصر وهم لا يعرفونه، وربما أصبحت المفارقة فيها أقل أثرًا لو لم يكن يوسف يعرف إخوته بينما القارئ يعرف.(26)
كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح «مفارقة الأحداث». ولكي يفرق ميوك بينهما، يضرب مثلاً بالمدرس الذي قام بترسيب طالب في الامتحان، في الوقت الذي ظل فيه الطالب يعلن بيقين تام، أنه أدى الامتحان بشكل جيد، وأنه يتوقع النجاح دون شك، فالحالة هنا تمثل حالة مفارقة، ولا يوجد بالنسبة للآخرين شىء من هذه المفارقة إلا بعد أن تظهر نتيجة الطالب.
وعلى هذا الأساس يتم التفريق بين المفارقة الدرامية ومفارقة الأحداث. فمفارقة الأحداث تتحقق بظهور خيبة أمل الضحية (ويمثلها الطالب هنا) بينما المفارقة الدرامية موجودة قبل ظهور النتيجة.
ويرجع ميوك اختياره لهذا المصطلح دون غيره، لكونه يبدو بالنسبة له أكثر ملاءمة وأقل حيادية من أية مصطلحات أخرى يمكن أن نطلقها. ولأننا إذا أردنا أن نطلق مصطلحًا آخر سوف يكون مصطلح «مفارقة المصادفة» Irony of Chance، لكن هذا المصطلح لن يشمل مصطلح «مفارقة الأحداث» فحسب؛ بل إنه سوف يشمل أيضًا مصطلحات: «مفارقة القدر» Irony of Fate، «مفارقة الحياة» Irony of Life، «مفارقة الأشياء» Irony of Things، وهى مصطلحات ليس من السهل التحدث عنها ببساطة، لأنها تتعلق بأمور ميتافيزيقية. فمثلاً إذا أخذنا مصطلح مفارقة القدر بجدية، فإنه سوف يشير إلى اعتقاد ما، وليس من الضروري أن يكون انعكاسًا لسلسلة من الأحداث النهائية أو الحتمية. فالإنسان يكون ضحية للقدر إذا كانت الطرق التي يلجأ إليها – لكي يتفادى مصيره – غير فعالة لمنع حدوث القدر.( ٢٧)
٤- مفارقة خداع النفس Irony of Self – Betrayal
يشير ميوك إلى أن هذا النوع من المفارقة تم تجاهله من قبل المتخصصين في المفارقة، وأنهم ربما قد فشلوا في التمييز بينه وبين المفارقة الدرامية. ويتمثل هذا النوع من المفارقة حينما يكشف شخص ما بشكل – غير واعٍ – جهله أو ضعفه أو خطأه أو حماقته بما يقول أو بما يفعل وليس بما يحدث له. وقد وجد هذا النوع في الدراما الإغريقية ومحاورات أفلاطون ولوسيان. كذلك وجد في أعمال شكسبير وموليير. وقد أصبح منذ فيلدنج هذا النوع من المفارقة هو المفضل في الكتابة الروائية.( ٢٨)
٥- مفارقة الورطة Irony of Dilemma
يذهب ميوك إلى أنه يوجد في هذا النوع من المفارقة مستويان. المستوى الأدنى، وتكون فيه ضحية المفارقة، والمستوى الأعلى، ويكون فيه صاحب المفارقة، أو المراقب. وهذان المستويان يتعارض أحدهما مع الآخر، حيث تأخذ المفارقة فيه أشكال التناقض الظاهري أو المنطقي أو شكل الورطة.( ٢٩)
وقد قسم ميوك المفارقة من ناحية الدرجات إلى ثلاث: صريحة وخفية وخاصة، ورأى أن المفارقة المركبة هي التي تكون داخل مجموعة من المفارقات، وهي تشبه العبارة التي توجد داخل جملة مركبة. وأن درجات المفارقة الثلاثة، يتم تحديدها حسب درجة ظهور المعنى الحقيقي:
أ- المفارقة الصريحة Overt Irony
يكون فيها الضحية Victim أو القارئ Reader أوكلاهما على وعي وإدراك بالمعنى الحقيقي الذي يعنيه صاحب المفارقة ويدركانه في الحال. وما يميز (المفارقة الصريحة) هو ظهور التنافر أو التناقض فيها بشكل واضح.
ويرى ميوك أن السخرية Sarcasm يمكن أن تكون أكثر أشكال المفارقة قسوة، لكنه يشير إلى أنه ليس كل سخرية مفارقة.
وهناك أشكال من السخرية، لا تعد من المفارقة. ويضرب ميوك مثلاً على ذلك: عندما يقول الأستاذ: حسنًا… بالطبع لم أكن أتوقع منك أن تصل إلى الإجابة الصحيحة، يعد هذا القول قولاً ساخرًا وليس من المفارقات. فنبرة الساخر هنا، تظهر المعنى الحقيقي – بشكل واضح – لا يقبل التردد، بحيث لا يغدو من الممكن التظاهر بأنه لا يعي قصده في ذلك المعنى، بينما نجد أن من شروط المفارقة الإحساس بقوة المعنى الظاهر والحقيقي معًا.( ٣٠)
ب- المفارقة الخفية Covert Irony
يتميز هذا النوع من المفارقة بخاصية التعمد في إخفائها وجعلها غير مرئية، وصاحب المفارقة فيها يتجنب أية إشارة من شأنها أن تكشف مفارقته بشكل مباشر وواضح، سواء أكانت هذه الإشارة في النغمة أم السلوك أم الأسلوب. فهو يحاول أن يمرر ما يريد أن يقوله دون أن يُكتشف. والمفارقة الخفية ربما تكون هي الأفضل والأكثر ملاءمة للتعبير، وغالبًا ما يتم ذلك عن طريق استخدام التعليقات والمقتطفات القصيرة. لكن هذا النوع من المفارقة يفقد قوته إذا صار مبهمًا أو طويلاً أو مسهبًا، كما أنه يعتمد أكثر على فطنة القارئ وذكائه.( ٣١)
المفارقة الخاصة Private Irony
تكمن غالبًا المفارقة الخاصة وراء المفارقة الخفية، وليس الهدف منها أن تدركها الضحية أو أي شخص آخر، والكاتب الذي ينخرط في «المفارقة الخاصة» ينبغي عليه أن يمتلك دليلاً خارجيًا أو إضافيًا يستخدمه هو – وحده – بصورة متفردة؛ فهو يستطيع أن يمتدح أحد رجال السياسة علانية، وهو يعرف أن هذا السياسي يمارس الفساد، و يكون هذا الكاتب قادرًا على الاعتماد على ضحيته التي ليس بإمكانها رؤية هذا التناقض الداخلي.( ٣٢)
وإذا كان ميوك يذهب في تقسيمه للمفارقة إلى درجات: صريحة وخفية وخاصة، فإن اعتماده في ذلك يكون على درجة ظهور المعنى أو إخفائه في الكلام، فإنه حين يقسم المفارقة إلى أربعة أنماط:
١- المفارقة اللاشخصية Impersonal Irony
٢- مفارقة الاستخفاف بالذات Self – Disparaging Irony
٣- المفارقة الساذجة Ingénu Irony
٤- المفارقة الممسرحة Dramatized Irony
يكون هذا التقسيم في ضوء العلاقة بين المفارقة وصاحبها.
المفارقة. وغالبًا ما تكون هناك صعوبة – وهو أيضًا أمر غير مجدٍ – في أن نفرق بين المفارقة اللاشخصية ومفارقة الاستخفاف بالذات، والتي تعد «المفارقة السقراطية» هي إحدى صورها، حيث كان سقراط يظهر في هيئة شخص لا يعرف شيئًا ويسأل الآخرين.(٣٣)
وإلى جانب هذه الأنماط من المفارقة يذكر ميوك أنماطًا أخرى منها:
١- المفارقة العامة General Irony
٢- المفارقة الكونية Cosmic Irony
٣- المفارقة الرومانسية Romantic Irony(34)
أما «واين بوث» Wayne C. Booth في كتابه المهم «بلاغة المفارقة» The Rhetoric of Irony فإنه يركز جهوده التطبيقية على ما يدعوه بالمفارقة الثابتة Stable Irony. ويستبعد في دراسته المفارقات غير اللفظية Non Verbal Irony، وكل المفارقات الكونية Cosmic Ironies، ومفارقات القدر Ironies of fate ومفارقات الحدث Ironies of Event.(35)
ورغم أن «واين بوث» يعترف في هذه الدراسة هو الآخر، بصعوبة مصطلح المفارقة، ويرى أنه موضوع يتسم بالغموض إلى حد بعيد، إلا أنه يعترف بأهمية الموضوع، ويورد الكثير من الأمثلة التطبيقية على المفارقة الثابتة التي يراها مختلفة عن بقية أنواع المفارقات الأخرى. ويشير إلى أن هذا النوع من المفارقة قد ظهر متأخرًا وأصبح موجودًا ضمن «مفارقات الحدث» Ironies of Events و«مفارقات القدر»(٣٦) Ironies of Fate.
ويقدم «بوث» نماذج متعددة من الأمثلة على المفارقة الثابتة التي يجعل لها أربع خصائص تميزها هي:
١- أن المفارقات كلها مقصودة، وهي أُبدعت أو «خُلقت» بواسطة كائنات بشرية كي تُسمع أو تُقرأ ولكي تُفهم بالدقة نفسها من قبل كائنات بشرية أخرى. فهي ليست مقدمات، جاءت عفوية، أو تعبيرات جاءت بمحض المصادفة، تسمح لمن يبحث عن المفارقة أن يقرأها على أنها انعكاسات لأفكار في مواجهة المؤلف.
٢- أن كل أشكال المفارقة الثابتة خفية، حتى يتم إعادة بنائها بمعانٍ مختلفة عن المعاني السطحية، فهي ليست محض تعبيرات صريحة مثل: «إنه من المفارقة أن…» أو أية إشارة مباشرة مثل القول بأن«هذه الأشياء» ترجع إلى المفارقة أو أنه عالم ذو مفارقة.
٣- وهي كذلك تتصف بالثبات، بمعنى أن إعادة بناء المعنى بمجرد أن يوُضع، فإن القارئ ليس مطالبًا بأن يقوِّضه أو يُحرِّفه بوسائل تدمره. وإذا ما اختار القارئ أن يفعل، فإنه بذلك يحول أي نوع من المفارقة الثابتة إلى مفارقة غير ثابتة. لكننا طالما سوف نأخذ العلاقة الأولى على محمل الجد، فإنه ينبغي علينا أن نبقى مهتمين فقط بالمفارقة المقصودة.
٤- وهي كذلك أيضًا محددة عند التطبيق، على عكس تلك المفارقات غير المحددة منها، الثابتة أو غير الثابتة.
ويعتقد بوث أن هذه العلامات الأربع التي تميز السخرية الثابتة تفتح أمامنا موضوعًا يمكن دراسته بشكل متعمق، حيث إن هذه العلامات لا تميز بوضوح بين المفارقة والمقاصد الأخرى المقصودة وغير الحرفية والمضللة. وهي دعوة لقراءة ما بين السطور. وثمة حيل لفظية كثيرة: «تقول شيئًا» وتعنى «شيئًا آخر»، وبذا فهي تدعو القارئ لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.( ٣٧)
إن الاستعارة Metaphor والتشبيه Simile والحكاية الخرافية ذات المقصد الأخلاقي Apologue، والمجاز Allegory، والتقليد والمحاكاة، والجناس، كلها درست ونوقشت بطرق مشابهة لتلك التي استخدمت في دراسة المفارقة. وبعضها كان له علاقات متشابكة تثير التوتر مع مصطلح المفارقة، بل إن هناك ما هو أكثر توترًا، فقد ذهب بعض النقاد ومنهم أ. آ. رتشاردز I. A. Richards وكلينيث بروكس Cleanth Brooks وكينث بيرك Kenneth Burke إلى أن كل سياق أدبي هو سياق ذو مفارقة، لأنه يقوم بمنح خصوصية لكل كلمة ترد فيه. وهذا الأمر يتطلب من القارئ أن يكتشف المعاني غير المرئية في ظاهر الكلام. وبهذا المنظور تصبح كل المعانى الأدبية نوعًا من المفارقة الخفية (المقنَّعة)، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة.( ٣٨)
ويرى بوث أن على كل قارئ متمرس أن يمتلك – إلى جانب صفات أخرى – حساسية خاصة في اكتشاف وإعادة صياغة أو بناء معانى المفارقة. فهو ربما سيبتهج حين يتمكن من الوصول إلى تفسير أو تأويل المفارقة الموجودة، اعتمادًا على المؤلفين متحاشيًا قراءة الكُتَّاب المتخصصين في المفارقة؛ لذا فهو يقدم لنا أربع خطوات لقراءة المفارقة.( ٤٠)
الخطوة الأولى
ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده. فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات وما يعرفه هو «أى القارئ». وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي.
وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما رفض افتراض ما، لأننا ينبغى علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح، وهذا ليس أمرًا غريبًا على المفارقة، بل هو أمر أساسى وجوهرى، مع وجود تضارب فيما يقال، وأحيانًا ما تكون الجمل التي بها مفارقة متناغمة ومتسقة مع نفسها.
كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض مفاتيح خارجية. إلا أن التمييز بين مفاتيح داخلية وخارجية – وهي التي تعتمد في الأساس على مفاهيم النقد الحديث – مسألة لا معنى لها إذا كان المرء بصدد الحكم بأن الفقرة تتضمن مفارقة أو العكس.
الخطوة الثانية
يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحى الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه. وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شىء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لى به.
وهناك بديل آخر – عادة – يتبلور عندما يقنعنا هذا التعارض الموجود في موضع الشك إزاء النص، وهو أن هذا الكاتب نفسه به درجة من الحمق حيث لا يستطيع أن يدرك أن كلامه لا يمكن تقبله بهذا الوضع الذي هو عليه: «لابد من أن فولتير كان غبيًا أو مغفلاً أو مجنونًا عندما كتب هذه الفقرة، حتى أنه لا يدرك ما يقصده». ونحن نتقبل هذا البديل فقط عندما لا نعثر على أية بدائل أخرى ترضينا.
الخطوة الثالثة
وبناء عليه يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات الكاتب، فعندما يقول فولتير: «إنها تمطر»، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم المفارقة تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة «كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها». إن هذا الحكم على معتقدات الكاتب يتماشى مع تأويل المفارقة الثابتة Stable Irony ولا يتم إدراك المفارقة الثابتة بدون الوصول إلى هذا الحكم.
ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها مفارقة.
ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة وأنها محض زيف واضح. ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟. من البديهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسئول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى بـ «المؤلف الضمنى» Implied Author الموجود في العمل. والحديث عن «المغالطة المتعمدة» أو «المقصودة» حديث صحيح لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب فولتير على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته حول الملوك المتنافسين. إن أفضل دليل على النوايا الخفية التي تكمن خلف أية عبارة في «كنديد» Candide، هو رواية «كنديد» كلها. ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد «النص» وليس عن مقاصد «الكاتب». ولكن التعامل مع المفارقة يجعلنا نشعر بأن الحكم – بشكل نهائي – على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي الكاتب حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح.
وفي نهاية الأمر: ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون الكاتب قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه المفارقة الدقيقة.
الخطوة الرابعة
بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات الكاتب أو المتحدث، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدًا أو نختار حزمة من المعانى التي نشعر معها بالاطمئنان. وعلى عكس الافتراض الأوَّلى، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر الكاتب أن يعزوها إلى فولتير. وهكذا فإن فعل إعادة البناء ينتهي إلى اعتقاد يمكن أن يوضح على النحو التالي: «في تناقض مع الكلام الذي يتظاهر فولتير بأنه صاحبه، والذي يتضمن معتقدات ليس بإمكاننا أن نؤمن بها. في الواقع هو يقول مثل ومثل مما يتفق مع ما أعرفه أنا أو ما أستطيع من خلاله أن أستدل على معتقداته ومقاصده».(41)
إشارات
١- The Shorter Oxford English Dictionary on Historical Principles, Prepared By William little, H. W. Fowler, J. Coulson, Revised and Edited by C.T. Onios, Oxford, At the Clareendon Press, (1956), p.1045
٢-Dictionary of the History of Ideas, Studies of Selected Pivotal Ideas, Volume ?, Charles Scribner s Sons, New York, (1973), p. 626
٣-ميوك، المفارقة، مرجع سابق، ص 26.
٤-المرجع السابق، ص ٧٢.
٥-المرجع نفسه، ص ٨٢.
٦-Muecke, D. C; Irony and The Ironic, Methuen, London and New York, (1982), p.17
٧-Ibid. p.19
٨-Wellek, René; A History of Modern Criticism (1750-1950), Volume 2 (The Romantic Age), Cambridge University Press, (1981), p16
٩-ميوك، المفارقة، مرجع سابق، ص 35.
10-Wellek, René; A History of Modern Criticism (1750-1950); p14.
١١- Ibid. p15
12- إ.ا. رتشاردز، مبادئ النقد الأدبي، ترجمة مصطفى بدوى، مراجعة لويس عوض، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، مطبعة مصر 1963، ص 321.
13-Muecke, D. C; Irony and The Ironic, p. (29-30)
14- إمام عبد الفتاح إمام، كيركيجور رائد الوجودية، مرجع سابق، ص 13.
15-المرجع السابق، ص 34.
16-ميوك، المفارقة، مرجع سابق، ص (36-40).
17-Muecke, D. C; Irony and The Ironic, p. 33
18- The compass of Irony, Methuen, London and New York, (1980), p.1
19- Ibid. p. 14
20- Ibid. p. 41
21- Ibid. p. 4
٢٢- Mueck D. C: The compass of Irony, p. (43-44)
23- Muecke, D. C; Irony and The Ironic, p. 41
24- Kierkegaard, S; The Concept of Irony: with Continual Reference to Socrates, Edited and translated with introduction and Notes by Howard V. Hong and Edna H. Hong, Princeton University, Press, (1989), p. 273
25- ميوك: المفارقة، مرجع سابق، ص (24-62).
26-Booth, Wayne C; The Rhetoric of Fiction, Chicago: University of Chicago Press, (1961), P. 455
27- Mueck D. C: The compass of Irony, P. 52
28- Ibid. p. 100
(*) العمل المقصود هنا هو رواية «يوسف وإخوته» Joseph and His Brothers وهى تعد أشهر رواية للروائى الألمانى توماس مان Tomas Mann (1875-1955)، وهى تعتمد على قصة «سيدنا يوسف» التي وردت في العهد القديم وتحولت إلى أسطورة من الأساطير العبرية والبابلية والمصرية والإغريقية.
29-Ibid. p. (102-103)
30- Ibid. p. 104
31- Ibid. p. 107
32 Ibid. p. 113
٣٣- Ibid. p. 54
34- Ibid. p. 56
35- Ibid. p. 92
36- Ibid. p. (159-177)
37- Booth, Wayne c; The Rhetoric of Irony, Chicago: University of Chicago Press, (1975); p.
38- Ibid. p. (5-6)
39- Ibid. p. 7
40- Ibid. p. 1
41- Ibid. p. (10-11)
(1) Ibid. p. 41