اسم باسكال كينيارد ليس عاديا في الأدب الفرنسي المعاصر، ولا في الرواية الفرنسية، فعلاوة على فوزه بجائزة الغونكور قبل سنوات، وهي أعرق جائزة أدبية فرنسية، وجوائز أخرى، يكتب بلا توقف، وفي غير ما موضوع: الرواية والشعر والمقالة، وفي نصوص تجمع بينها جميعا. ويعتبر من أصعب الكتّاب، بسبب اشتغاله العديد على نصوصه وتقطيرها وتشذيبها واختيار المفردة الملائمة. ولهذا السبب فهو من الفائزين على جائزة الغونكور الذي باع أقل عدد من نسخ الرواية الفائزة. ففي حين باعت مارغريت دوراس أكثر من مليون نسخة عن روايتها «العشيق» (وقد اقتبس منها فيلم بنفس العنوان) (الفائزة بالغونكور) لم تتجاوز مبيعات كينيارد 300 ألف نسخة. وإذا كان جمهور القراء لا يُقبل كثيرا على نصوصه ومؤلفاته، بسبب صعوبتها، فإنه يعتبر مُدللا في الأوساط الثقافية والأكاديمية، ويشكل جديدُهُ، على الدوام، حدثا يُنتَظَر بشوق كبير.
ولكن مع ذلك لا يجب أن ننسى أنه يكتب، من حين لآخر، نصوصا جماهيرية، لعل من بينها رواية «فيلا آماليا»، التي ترجمنا، لمجلة نزوى الغرّاء، فصليْها الأخيرين. وهي روايةٌ اقْتُبِس منها فيلم جماهيري حمل نفس العنوان، وكانت البطولة فيه من أداء الممثلة الفرنسية الكبيرة إيزابيل هوبير. كما أن عشاق السينما يعرفون الروائي الفرنسي باسكال كينيارد، قبل ذلك، فهو الذي كتب رواية «كل صباحات العالَم»، والتي اقتبس منها فيلم شهير بنفس العنوان، من بطولة جيرارد ديبارديو وابنه الراحل غيوم والممثل الكبير جان بيير ماغييل (وهو يعتبر، حاليا، من آخر العمالقة بعد أن مات معظم رفاقه).
الفصل السابع
كانت تحب الوصول إلى المطارات، في وقت مبكر، حتى تستطيع أن تتحرك، تشتري، تقرأ، تتأمل، تحلم في مأمن من أي خوف من التأخر. لم يكن ممكنا أن تفوّت «السفر». كانت تحب السفر. شيء ممتع أن نكون متأكدين من السفر. أغلقت باب كوخ الغامبوندورف. كانت السادسة صباحا. كانت السماء خالية من السحب. والنهار بالكاد بدأ يبزغ. بدأ الضباب يصعد على الماء. لن تحدث ضجيجا. لن توقظ جورج كما طلب منها.
ستتصل بتاكسي في تييي ليوصلها إلى محطة القطار في سانس.
ستستقل أول قطار.
كانت تفضل الوصول إلى المطارات، باكرا.
كانت تقرأ مقطوعة وهي جالسة على الكرسي الباردة في قاعة الانتظار، بدل تصفحها، بطريقة شاردة، وهي خاضعة للخوف من عدم وصولها في الوقت المناسب.
غادرت بيتها الصغير المغطى باللبلاب، اجتازت حديقة الورد، مشت في طرف الساحة الخضراء الأقل تعرضا للندى.
رأت عن بعد ضوء الصالون المضاء. أرغم نفسه على الاستيقاظ باكرا حتى لا يفوته ذهابها إلى نيويورك.
رأت وجهه عبر زجاج النافذة مائلا نحو الكتاب الذي يقرأه، مضاء بنور المصباح.
اقتربت.
طرقت النافذة بلطف. بدا مستغرقا في قراءة كتابه ولم يجب على إشارتها. دخلت ووضعت حقيبتها في الردهة. دفعت باب الصالون. لم يرفع جورج رأسه.
اقتربت منه لتقبله وهي تسير على أطراف أصابع رجليها حتى لا توقظه. لكن جموده كان غريبا. وضعت يدها على جبينه. وجدته أبرد من قطعة الثلج. سقط الكتاب من بين يديه. التقطته وجلست بطريقة فجائية واضعة مؤخرتها على الأرض وهي تمسك يدي صديقها اليابستين.
ظلت على هذه الحالة فترة ورأسها خاوية.
[ [ [
رافقتْ، في الشارع، رجُل الدرك إلى سيارة الخدمة. عندما عادت، كان باب المنزل المجاور مفتوحا على مصراعيه. رأت رجلا نحيلا، شعره أبيض، يرتدي رداء قطنيا مشغولا بغرزات كبيرة، يحمل في يده مكنسة غبار صغيرة، يقف هناك.
تقدّمَ على الطريق المعبد.
هل كل شيء على ما يرام؟
عندها أجهشت بالبكاء وأخبرته أن جورج روهلينجر قد مات.
[ [ [
كان أنفها يسيل. ووجهها منتفخ. جلست على كرسي أبيض في مطبخ السيد دولور الرائع.
تنبعث رائحة قهوة. وخلف رائحة القهوة رائحة التبغ الهولندي. وخلف رائحة التبغ مزيج من رائحة جافيل والأنتميت.
كانا ينظران إلى القهوة تصعد في الإناء الزجاجي. رأت انعكاس صورتها في كل مكان، على واجهات الألمنيوم، على مربعات الخزف الصيني الأبيض، على باب الفرن الزجاجي. ولم تر طيلة حياتها مطبخا بمثل هذه النظافة.
هل أنت زوجته؟
أجل.
أنت وحيدة؟
لم تفهم سؤاله. كرر الرجل العجوز:
أنت وحيدة؟
ماذا تعني؟
أنت بدون أطفال؟
أجل.
إذا أنت وحيدة.
صاحت، فجأة:
تركت المنزل مفتوحا!
انطلقت بأسرع من الريح. لم تستقل الطائرة. لم تسافر.
ساعدها السيد دولور في ما يخص الأوراق. لم تكن تتألم، لكنها كانت ضائعة.
[ [ [
الفصل الثامن
جعلت الشيخوخة والوحدة جسمها يبدو عظميا أكثر. أصبح جسمها متصلبا. أصبح شعرها أبيض تماما.
غيرت مرة أخرى طريقتها في اللبس جذريا. بضربة عصا سحرية جاءت التنورات الكبيرة. كان يجب التخلص من سراويل الجينز الباهت، قمصان القطن الأبيض الرجالية، جاكيتات جورج الجلدية.
الألبسة القديمة الفاخرة، سترات من الحرير،
قمصان شاحبة،
سترات قطبية كبيرة رمادية وناعمة
تحتل الفضاء.
[ [ [
توجد متعة ليس في تحمل الوحدة ولكن في القدرة على ذلك.
O Oh How I.
تغني كاترين فيليب ثم تسكن.
ثم يبتعد، في الأخير، كلُّ شيء، وتستريح.
ثم يصمت كل شيء.
رفعت آن هيدن عينيها نحو النافذة.
طلع النهار.
كل شيء أبيض.
لم أعد أرى أرضية غرفتي. لم أعد أرى الأرض ولا الضفة. يبطئ الضباب في الانحسار. كل شيء يبدو فارغا. فقط الأرض ما زالت تطلق رائحتها عندما نمشي عليها، عندما نحط أقدامنا على العشب ووحل الضفة الذي يتهشم تحت الثلج.
مرت ساعة الزوال، بدأ الضباب في الانحسار، وبدأت تظهر الأسقف، وأعمدة الكهرباء، والقبب، ورؤوس البط البري الصغيرة.
تجتاح الشمس كل شيء دفعة واحدة.
تحضر غداء متقشفا ( مفروم دواجن) وكأس نبيذ (إبينوي).
تصل الخادمة، وهي من جزيرة موريس.
ترتب آن المائدة. تصدم الصنبور المدور. تسقط قلادتها. ينفتح المشبك على حافة المغسلة.
تسقط سن صغيرة، ترتفع بعد الارتطام دون أن تحدث صوتا، تنزلق في ثقب المغسلة، تختفي.
سألت الخادمةُ:
ما هذا الشيء؟ كان سنا؟
قالت آه هين، هامسة:
لا، لا.
أغلقت الميدالية الفارغة. فرت إلى الحديقة.
غسلت الناقلة بأنبوب الري.
[ [ [
أضاءت الشمس الأرض الخضراء فجأة.
لمست الضفة.
برزت العظام خلف جلد الوجه.
يشبه وجهها وجه والدتها، قليلا. لكنه أنحف من وجه والدتها في نفس العمر. كانت جميلة لمن لا يعرفها، لكن شيئا من الصرامة والعنف ظهر على جبينها وفكها. في الخلف كانت تقف امرأة، مستعدة للوثوب، أكثر نحافة، أكثر جفافا من والدتها وجداتها وجدات جداتها من ناحية أمها. عندما تضحك كانت ضحكتها لذيذة لكن ذلك كان نادرا: الأسنان الكبيرة الضخمة الجميلة كانت تضيء كل شيء لكن بضوء بارد.
المعاناة، السباحة، الحب، الموسيقى، الجوع صنعت منها امرأة حادة.
كانت تخرج كثيرا. كانت قد اشترت شقة صغيرة قرب محطة ليون. كان الجميع يراها في الحفلات الموسيقية، يلاحظها الجميع تلبس دوما على الطريقة اليابانية، بماركات يوجي ياماموتو وإيسي مياكو. كان الكل يحييها. وكانت تتأهب لبيع تويي.
حل الصيف. مساء. وقفت مائلة على ضفة اليون، في ظل الغومبندورف الذي اصفر طلاؤه وامتلأ بالشقوق. كانت ترمي فتات الخبز للبط والإوز الذي يصل مسرعا في صمت إلى سطح الماء الداكن. نبح كلب. فجأة تذكرت ماجدلينا رادنيتزكي. كانت ستكون في السادسة عشرة. ستظهر فجأة بشعرها المبلل، وثوب النوم القطني، ستصل جارية خلف ظهرها، وهي تصيح، وتقول…
فجأة دوى جرس ناحية الشمال.
وصلت ناقلة مائية، جاءت من زمن آخر. هولنديون يشقون قنوات البورغون. مروا وهم يصرخون ويشيرون بأيديهم إلى الجميع.
جلست ببطء على الدرج لرؤيتهم يمرون.
ماء البورغون المليء بالوحل كان يضرب الرصيف والحلقات. كانت تجلس في الشمس، مثل جوليا في الماضي، ساقاها متدليتان في ماء البحر الأبيض المتوسط الأزرق، مترا أسفل من المطعم . هنا، كان الماء أقل جمالا. الصيف أقل حرارة. لم تعد تملك الشجاعة للنهوض، للمشي، للجري، للانطلاق، للموت. هنا بدأت تحس بالخوف من الشمس. هناك، عندما كن معا، عندما كن يعشن معا ثلاثتهن، لم يكنّ يخشين الشمس أبدا، مستلقيات على كراسيهن الطويلة، يشربن، جميعا، الماء المثلج من القناني الزجاجية الكبيرة التي يغطيها البخار، على الشرفة، في أعلى الرابية، في الجنة.
قاص ومترجم من المغرب يقيم في فرنسا