أيوب مليجي
شاعر وكاتب مغربي
يقف التاكسي أمام الفيلا العامرة، أتوجه إلى الباب مباشرة وبخفة لأجده مشرعا على أصوات الموسيقى وأضواء الشموع والإنارة الخافتة.
يناديني زاهر: أهلييييين أيوب! كنت دائما أحب هذا المد الطويل في لكنته.
زاهر الغافري هذا الإنسان والشاعر الذي تعددت حيواته وعوالمه بين مدن ودول عديدة من عُمان إلى العراق مرورا بالمغرب وأميركا ثم السويد وأماكن أخرى مكنته من التعرف على ثقافات أخرى متنوعة كان لها الأثر الكبير على شخصيته وثقافته وكتاباته.
بعد مقامه في العراق سيتوجه زاهر سنة 1978 إلى المغرب، وتحديدا إلى مدينة الرباط، قاصدًا كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس، حيث تسجل طالبا في شعبة الفلسفة، في وقت توافد فيه الرعيل الأول من الطلبة العرب ومنهم العُمانيون على المغرب بقصد الدراسة.
الرباط العاصمة كانت فضاء يضم أسماء عديدة من مشارب وعوالم عديدة: ظاهرة الفرق الموسيقية، واتجاهات الفن التشكيلي، والمشهد الأدبي والحزبي الذي كان في أوج انصهاره وألقه.
يقول عن هاته الفترة من حياته بالمغرب: «كنتُ أعرفُ عن المغرب وأنا في بغداد في السبعينيات من القرن الماضي، ففي ذلك الوقت كنتُ أقرأ لبعض الكُتاب المغاربة ثم عندما ذهبتُ إلى باريس تعمقت معرفتي أكثر بالمغرب عبر القراءة عن الكُتاب والشعراء والفنانين. عشتُ في المغرب ما يقارب العشر سنوات، في البداية كنتُ طالب فلسفة في جامعة محمد الخامس، أنهيتُ الدراسة فبقيت بالرباط ثم بعدها انتقلت إلى طنجة في الشمال».*
وسط كل هذا الحراك الثقافي والفني والإبداعي، استطاع زاهر أن ينسج علاقات مع أسماء عديدة وينصهر مع تمغرابيته، حيث لكنته المغربية وسمار بشرته الذي يقترب من سمرة بشرة سكان بعض الجهات في المغرب. ثم إن زاهر حفظ عن ظهر قلب وعشق أغاني رويشة وناس الغيوان وبلخياط والدكالي، وما زلت أتذكره أيام ليالي الموالح وهو يؤدي أغنية أمازيغية للفنان محمد رويشة (ناسي ناس) دون أن يعرف معنى كلماتها.
عشق زاهر للمغرب لم ينقطع رغم إنهائه لدراسته الجامعية بالرباط، حيث توجه إلى طنجة، هناك سيكون رفيقا لمحمد شكري، وسيقتفي أثره في حفرها الليلية أينما حل وارتحل.
«كونّت صداقات كثيرة في المغرب مع الكُتاب والشعراء والفنانين في السينما والمسرح، وفي طنجة تعرّفت على الكاتب محمد شكري والكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه والأمريكي بول بولز. في طنجة ولدت طفلتي الأولى من سيدة إعلامية معروفة هي فاطمة الوكيلي. طنجة التي يسميها المغاربة “العالية” أو “عروس الشمال” تختلف عن أغلب المدن المغربية لأنها تجمع بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
عشت في طنجة خمس سنوات وخبرتها على نحو عميق خصوصًا أن طنجة كانت في سنوات سابقة مدينة دولية فكان يذهب إليها جيل البيت الأمريكي وعازفو الجاز والبلوز وكُتاب مثل صموئيل بيكيت الذي رأيته ذات مرة في مقهى باريس وألبرتو مورافيا وتنسي وليامز وآخرين، وميزة طنجة لا تنام إلا في الفجر، أعني مدينة مفتوحة على الحياة في مقاهيها ومطاعمها وحاناتها».*
لطالما اقترحت وأكدت على زاهر أن يصدر عملا سرديا أشبه بسيرة أو رواية، يتحفنا من خلالها بما تختزنه ذاكرته من أحداث وأسماء عايشته وعايشها في مراحل عديدة من حياته، وتكون بمثابة ذاكرة أو أرشيف يمكننا من الوقوف على أحداث تعنينا ولو بصفة غير مباشرة، وتؤرخ لفترة من تاريخنا الثقافي.
وأنا القادم من المغرب كنت أتفاجأ بالكم الهائل من الطرائف والحكايات التي كان يسردها لي زاهر عن شكري، وعن علي (أخ زاهر) الذي سافر إلى المغرب باحثا عن أخيه بعدما انقطعت أخباره عنه، في رحلة مضنية مليئة بالمصاعب وشح المعلومات، في زمن لا هاتف محمول ولا شبكة إنترنت آنذاك، حيث سيعرف بعد بحث طويل في الرباط أن زاهر مستقر بطنجة، وفي طنجة سيكون سبيله في إيجاد زاهر رفيقه محمد شكري.
وبقدر ما كنت ألح على زاهر أن يصدر عملا سرديا عن مقامه بالمغرب، بقدر ما كان يلح علي أيضا بدرجة أكبر ويتمنى أن يحتفى به في مناسبة ثقافية ما بالمغرب، أو أن يدعى ضيفا على المعرض الدولي للكتاب، الأمران معا لم يكتب لهما أن يتما وكان ما كان.
ارتباط زاهر بالمغرب كان أيضا ارتباطا عاطفيا وروحيا، حيث ارتبط بالإعلامية الراحلة فاطمة الوكيلي التي أنجب منها قصيدة شعرية اسمها يارا، وسيرتبط لاحقا بعد انفصاله عنها بالكاتبة والمترجمة العراقية أثمار عباس وسينجب منها قصيدة شعرية سمياها إرم.
عندما تلقيت خبر رحيله، نزل الخبر علي كصاعقة، وأنا أتخيل زاهرًا المقبل على الفرح، والبهجة، ولمة الأصدقاء، الملازم لقبعته وغليونه، وجيش من الولاعات التي لم يفرط فيها بعد انتهاء مهمتها. زاهر المنهمك بكتابة نص شعري، أو المشغول بمهاتفة الأحبة في كل مكان، زاهر (الموسوعة) الذي يكفي أن تستفزه أو تطرح عليه موضوعا ما، أو اسما ما، فيأخذك في رد وحديث طويلين لا تمل منه أبدا.
لم يكن ينزل ضيف ما على عُمان وتحديدا مسقط إلا وزار بيت زاهر العامر بالموالح، حيث لا داعي لأن تطلب إذنا كي تبيت أو موعدا كي تأخذ ضيافتك، والحق أنني تعرفت على العديد من الأسماء العُمانية والعربية في بيت زاهر.
تنقلت برفقة زاهر كثيرا، كانت أمكنته هي نفسها لا تتغير، ما بين بيته بالموالح ونادي الطيران حيث كان يحب أن يطل على بحر عُمان العظيم، حيث تتوطد علاقة الإنسان بموطنه وبيئته. وهذا ما كان يفعله زاهر من زيارات منتظمة لبلده عُمان، ثم حضور البحر وما يمثله في حياة الشاعر من رمزية (البحر الشعري). هاته العلاقة التي نسجها زاهر الغافري مع بحر عُمان العظيم كانت أسطورية، لدرجة أن أول شيء كان يفعله بعد خروجه من مطار مسقط الدولي هو اتجاهه مباشرة إلى نادي الطيران المجاور للمطار، وآخر مكان أيضا كان يزوره قبل توجهه إلى المطار هو زيارة النادي، ذلك المكان كان بمثابة شرفة زاهر المطلة على بحر عُمان، أمواجه ورماله.
في قريته سرور، قرية سيف الرحبي وسيف الرمضاني ومحمد الرحبي وسليمان الحسيني وأعلام أدبية وثقافية ترعرت فيها، عرفت سرور أكثر بوفرة الشجر خاصة النخيل وبالمياه العذبة تشقها ثلاثة أفلاج مائية وهي: فلج الحيلي وفلج بوجدي والفلج الأوسط. ولد زاهر ودرس في مرحلة طفولته بمسجد الفج الواقع على حافة الوادي، وهو معلم تاريخي تلقى فيه العلوم الدينية كعلم القرآن الكريم، وعلم التجويد وغيرها من العلوم. هناك تفتحت قريحته الشعرية والبصرية على جمال الطبيعة وغناها، وقد زرت القرية ومسجدها، وليس اعتباطا أن يتخرج منها مثل هؤلاء الأعلام.
لا أخفي هنا أنني ما إن وطئت قدمي أرض عُمان وأصبحت مقيما فيها، عملت جاهدا على مجاراة واقع الحياة الرتيبة والبطيئة، ضجيج وصخب الدار البيضاء لا يمكننا مقارنته بهدوء ورتابة جو مسقط. وأنا هنا لا أنتقد شيئا ولا أقارن وإنما أنقل تصور إنسان قادمٍ من روتين مدينة لا تنام إلى مدينة هادئة ووديعة.
في بدايات مستقري بمسقط كان زاهر من جملة من تعرفت عليهم، لذلك توطدت علاقتنا، وكان المغرب الحاضر المشترك بيننا، ولم أكن أحس بأنني غريب على البلد لبساطة زاهر ومعيشه اليومي الذي يشبهنا إلى حد كبير كمغاربة.
في إحدى الليالي أخبرني بأنه عازم على الرحيل والاستقرار نهائيا بالسويد، كان ذلك ليلة رأس السنة الميلادية، احتفلنا وضحكنا وتبادلنا الفرح، بحضور أسرته وأصدقائه، لم أكن أعرف حينها هل أفرح وأضحك كي أعيش اللحظة، أم أحزن لقرار زاهر.
رحيل زاهر آنذاك كان له الأثر الكبير علي وعلى أصدقائه. شحن زاهر كل متعلقاته الشخصية، كتبه، أثاثه، بحرًا، بينما ترك بعض اللوحات لكبر حجمها. فاقترحت على علي، أخ زاهر، أن يأتي بها إلي في شقتي. وضعتها خلف سريري أتملى فيها في استيقاظي ومنامي. كنت حينها أفتخر بقيمتها وبأثرها الفني والإبداعي.
بالنسبة لي فزاهر رحل ثلاث مرات، رحيله الأول كان نحو السويد بصفة دائمة ولو أنه كان يزور عُمان من حين لآخر، ورحيله الثاني كان نحو الجهة الأخرى من العالم، بينما رحيله الأخير كان عندما قررت الأسرة حذف حساب زاهر الغافري على الفايسبوك، والذي أعتبره خسارة أخرى تنضاف إلى خساراتنا المتعددة. طبعا أنا هنا أحترم قرار الأسرة التي أعرف جيدا مدى تقديرها وإدراكها لشاعر وإنسان بحجم زاهر، ولكن المؤكد أن ذلك الحساب الفايسبوكي الذي كان يطل منه زاهر علينا وعلى العالم، يضم نصوصا ومسودات كتب وصورا وأرشيفا متنوعا الأولى أن يصدر ورقيا كي لا يضيع ويطوله النسيان خصوصا ونحن نعرف مدى وهن العالم الافتراضي.
أعود إلى ليالي الموالح، وأتذكر إقبال زاهر على الكتابة بشكل غزير. حصل مرة أن حكى لنا موقفا حصل له مع الطبيب، يحكي لنا ويضحك ساخرا أن الطبيب حذره من أن اقباله الشديد على الشرب سيؤذي كبده، وتوقع أنه لن يعيش لأكثر من ستة أشهر.
وقف ضاحكا ومبتسما ويقول لنا أنه قد مرت على الواقعة أكثر من سنتين وستمر لاحقا خمس سنوات أخرى بينما زاهر بإصراره على الحياة والشعر بقي حاضرا بيننا، حيث لم نكن نجالسه في سمر ما إلا وكان يصر أن يقرأ لنا نصا أو نصوصا جديدة كتبها، وقبل أن يقرأها كان يقدم لنا نبذة عن اسم العمل الذي سيصدر النص ضمنه وما يتضمنه من رؤى حول قضايا تهمه وتهم الإنسان كذات، كالموت مثلا. وكأن زاهر كان يسارع الزمن والمرض لكي يحظى بالوقت ويترك لنا نصوصا تذكرنا به.
زاهر لم يكن مجرد قصيدة أو دواوين شعرية، أو شاعرا عاديا، أو حتى اسما ينقش على شاهد قبر.
أستحضر هنا تدوينته الأخيرة على صفحته بالفايسبوك:
“زارني نسناس كأنه أبي يطاردني في الأزقة الضيقة. ولا مهرب أنا الواقف خلف هذا الباب لا أحد ينتظر مجيئي، كأنني يتيم في هذه اللحظة وقد تبخر من رأسي دخان الأزمنة”.
…. جخ
يتصل بي زاهر مجددا فأجيبه على الهاتف:
أهليين زاهر، سنلتقي مجددا
متى …. لا أعلم !
الهوامش
التوقيت: الخميس العاشرة ليلا
المكان: حي الخوض – مدينة مسقط – سلطنة عُمان
يرن الهاتف المحمول فأجيب.
يقول صوت: أيووووب وينك نحن بانتظارك أنا وأثمار وأبو طفول وعلي والأصدقاء.
أجيب: أنا قادم حالا.
أستقل تاكسي من شارع السيدة مزون بالخوض متجها إلى منطقة الموالح التي تبعد عن مكان تواجدي مسافة ربع ساعة على امتداد شارع واحد ثم لفات عديدة بين فلل الموالح.
* من حوار أجراه الكاتب المغربي أشرف الحساني لصالح موقع 360 المغربي بتاريخ 07/06/2022
الرابط: https://ar.le360.ma/culture/192999/