حسين جواد قبيسي *
كثيرة هي إسهامات الناقد والباحث الأكاديمي وأستاذ علم الجماليات والأدب المقارن في جامعة السوربون ومدير معهد العالم العربي في باريس، د. معجب الزهراني، في ميدان النقد الأدبي بخاصة وفي ميدان الأدب بعامة؛ فهذا هو، بعد روايته التي صدرت العام الماضي بعنوان “رقص”(1)، يقدّم كتابه الجديد، تحت عنوان “سيرة الوقت. حياة فرد، حكاية جيل”، فنرى فيه وجهاً ثقافياً وأدبياً آخر لهذا الناقد الروائي، هو وجه الأديب الانتروبولوجي؛ فالكتاب، إذا شئنا تصنيف هذه السيرة الذاتية، ينخرط في الأدب الانتروبولوجي(2)، إذ يحمل حلاوة الحياة وطعمها الحقيقي الصادق على الرغم من قسوتها ومرارتها. . . وما الانتروبولوجيا(3) إن لم تكن تسجيلاً لنبض العيش وفضائه ومادته وأحاسيسه؟ ولئن كان للأدب دور كبير في أركيولوجيا المعرفة، فأدب السيرة الذاتية (كسائر الفنون الأخرى، كالرواية والرسم والغناء. . . ) هو مصدر ثرّ للانتروبولوجيا، بوصف السيرة الذاتية وثيقة ثقافية ومعرفية تنطوي على عناصر تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسانية، وتمتلك آلية داخلية ترتبط بالسياق الذي أنتجها.
ذلك أن أدب السيرة الذاتية، ينتمي إلى جنس أدبي سجل نجاحا باهراً، عربياً وعالمياً، خلال القرن الماضي هو الأدب الانتروبولوجي؛ فالسيرة الذاتية، سواء عندنا أو عند سوانا، باتت الفن الأدبي الأكثر شعبية في العالم المعاصر قاطبة. وفعل السيرة الذاتية كفعل الرواية، فهي “فنّ استخدام أقل ما هو ممكن من تفاصيل الحياة اليومية الخارجية لبعث أعنف حركة ممكنة في الحياة الداخلية” كما يقول شوبنهور. ويستطيع الأنّاسون (الانتروبولوجيون) من خلال النصوص الأدبية التي يدرسونها تصوّر الآخر والإحساس به وتقمّص الحالات البشرية في المجتمعات المختلفة، أكثر مما يستطيعونه من خلال العلوم الإنسانية(4).
فالأدب الانتروبولوجي هو الذي يشق طريق الوصل بين المجتمع المعيوش والمجتمع المعقول؛ هذا الطريق الذي يصل العلاقات الاجتماعية بفَهم تعقيداتها، يُطلق عليه الباحث الانتروبولوجي جيلبير دوران تسمية “الطريق الانتروبولوجي” أو “المسار الانتروبولوجي للأديب”(5) (Trajet anthropologique) . فالوعي الفردي الذي يكتب “نصه” الفردي/ الاجتماعي، أو يتلفّظ به (أي يشير إليه أو يبلغ عنه أو ينوّه به) ويشكّل مجموع التبليغات السياقية للبيئة والمجتمع، في حركة ذهاب وإياب لا تنقطع (في مسيرة أنثروبولوجية)، يُثبِت أن ليس ثمة من قطيعة بين الثقافي والاجتماعي، بين “النصوص” الثقافية، والأدبية بخاصة، وبين “السياقات” الاجتماعية التي أنتجتها. ولم يكن رُوَّاد الأنثروبولوجيا يجدون صعوبة في قراءة النصوص الأدبية واستثمار كنوزها المعرفية. فقد كانوا هم أنفسهم في أغلب الأحيان رجال أدب، وكانت تلك الآداب تشكل أساسا للتكوين الذي تلقوه6.
** ** **
لنعُد إلى ” الوقت” وسيرته، فأصل تسمية الكتاب “سيرة الوقت” هو وفاء الزهراني للمقالة التي كتبها في العام 2009 في جريدة “الوقت” (في العدد 119) بناء على طلب من الصحفي علي الديري وتشجيع صديقهما المشترك قاسم حداد. فتلك المقالة التي كتبها الزهراني بعد تردد، وجاءت مختصرَةً إلى حدّ بعيد، لكنها ضمّت، على ضمورها، المفاصل الرئيسة في سيرة حياة الكاتب، أخذت مع مرور الوقت تلح على الكاتب وتدعوه إلى إيضاح تفاصيلها، فكان كتاب “سيرة الوقت. حياة فرد، حكاية شعب” الذي رأى النور مع مطلع العام الجاري (2019) عبارة عن استعادة مطوّلة لتلك السيرة المقتضبة التي نُشِرَت في جريدة الوقت. إذ حال انشغال الكاتب بمهام التدريس في جامعة الملك سعود ثم في جامعة اليمامة حيث أسس “كرسي غازي القصيبي” دون انصرافه إلى إنجاز تلك المهمّة، ولاسيّما أنه كان متخوّفاً من “صعوبة الوفاء بشروط النص السيري، في مجتمع كان بسيطاً سَمِحاً متفتّحاً، وأصبح يتّجه نحو التعقيد والتزمّت المَقيت في كل شيء”. (ص8)، فقد كان الزهراني واعياً منذ البداية أن توافر هذا الشرط هو ما يُتيح له تحويل تلك السيرة إلى “حكايةً أكثر اتّساعاً وغنىً وشفافية”، بـ “كتابة نص حميم يُعيد لي بعض صور الحياة المفتقَدَة، وقد يُسهم في تعميق الوعي بتحوّلات جذرية شاملة عايشها جيلي ولم تشهد مجتمعاتنا مثيلاً لها من قبل طوال تاريخها”، (ص7).
على أن “الوقت” في عنوان الكتاب يفلت من أسار اسم الجريدة لينفتح على المدى الأقصى بمعنى الزمن والوجود والعالم والحياة برمتها. ولقد وفّى الزهراني بأوّلَ شروط كتابة السيرة التي كان يتهيّب الإقدام عليها قبل استيفائه: وهو شرط الصدق. فقد نسج نصّه مادةً غنيةً كثيفة من خيوط حياته، منذ ولادته في قريته الصغيرة، واسمها “الغرباء”، إلى ارتمائه في أرجاء العالم الرحب الذي على الرغم من اتّساعه لم يتّسع لأحلامٍ تجاوزته. ولا يفوته الاعتراف بمأساة الذاكرة: “لعل من أظهر وجوه الوضع التراجيدي الملتبس للإنسان نسيان مجمل تجارب حياته في طفولته الأولى، رغم أنها قد تكون الأهم والأبقى أثراً. وأنا أحاول أن أتذكر شيئا منها الآن أشعر أنني كمن يصر على قراءة طلسم في يوم غائم أو في ضوء نجوم بعيدة. لا بديل إذن عن بقايا أحداث متقطعة وصور باهتة علقت بخلايا الجسد الوفي وتسلل أثرها إلى حيز صغير من فراغات الذاكرة العتيمة” (ص29)، كالذكرى التالية: “استلقيت ذات مرة على طفلة من قرابتنا، ويبدو أننا مثلنا دورالعرسان حتى النهاية ثم نمنا إلى أن جاء من أيقظنا وفرقنا بنهرة خفيفة لا تخلو من حنان. وأقول ’حتى النهاية’ لأن في جسدي خلايا مازالت تحتفظ بدفء تلك الأعضاء الغضة وبعذوبة تلك اللحظة الهاربة”. (ص30)
والكتاب شلال كلامٍ متدفق رقراق، ما أصدقه وما أعذبه. وإذا كان لنا ان نتوقف عند بعض المقاطع نجتزئها من هذا النص، فمن الضروري أن نذكّر القارئ بأن مشاهدة الشيء بأم العين ليست كما لو نُمِيَ إليه عن هذا الشيء؛ وأن تغرف دلواً من مياه النهر الجارية وترى إلى مائه، فلن ترى الماء فيه رقراقةً كما كانت تنساب في مجرى النهر؛ فالمقاطع التي لا بد أن نورِدها مقتطعَةً من مجرى انسيابها في النص الزهراني، لا بد للقارئ أن يعود إليها في مواضعها استكمالاً لقراءة رونقها وروعة انسيابها فيه.
بصدق يكتب الزهراني: “بقيت حتى ما بعد العاشرة أعاني من تأتأة أوشكت أن تتحول إلى علة مستحكمة لأن هناك من كان يضحك مني ويسخر وأنا أحاول إخراج الحرف وهو عالق في مكان ما من حنجرتي أو تجاويف فمي. ومع إنني لا زلت أتهيب الكلام الخطابي أمام جمع كبير إلى اليوم، إلا أن مهنة التعليم الجليلة خففت من معاناتي ثم عودتني على أن “الوقت” في عنوان الكتاب يفلت من أسار اسم الجريدة لينفتح على المدى الأقصى بمعنى الزمن والوجود والعالم والحياة برمتها. ريجيا على ما هو أسمى وأجمل”. (ص30)
وبالصدق والعفوية إياهما يكتب: “لم أرَ قط المواضع الحميمة من جسد أمي لأنها لم تكن تنام من دون سروالها الطويل أبدا، لكن تلصص عين الطفولة يسمح لي الآن بالقول أنها كانت تعاني فتقا صغيرا لم يلتئم أبدا. ولا أتذكر جسدها المشع، حتى في العتمة، إلا وتحضر حكاية طريفة لها مع أبي روتها لنا تاليا عديد المرات وهي تضحك: ذات مرة عادت من حلق الوادي البعيد قبيل شروق الشمس بحِمْلِ حطبٍ ثقيل يبدو أنه أرهق جسدها الصغير فقررت أن تخلع ثوبها وتضعه حاجزا بين الأعواد وظهرها وحين أشرفت على القرية ارتاحت ولبست وواصلت طريقها. ولأنها صادفت أبي في طريقه لمزارعنا فقد سألها عن سر ذلك البياض الذي رآه عن بعد وليس معها حوكة بيضاء، وحين أخبرته بما حصل دون تردد راح يبتسم ويوبخها بلطف على الفضيحة التي كانت ستحصل فيما لو صادفها أجنبي وهي على تلك الحال”. (ص32) ويكتب أيضاً: “أمر آخر آلمني وأورثني شعورا بالنقص لفترة، ويتعلق بالجسد مباشرة. ففي مرحلة مبكرة أدركت أن أخويَّ طويلان وأنا بين المتوسط والقصير، وهذا ما ظللت أحاول التعويض عنه بحيل شتى: حيناً أقول لنفسي أنني الأصغر سنا وسألحق بهما ذات يوم، وحينا آخر أدعي أنني أقوى بدنِيّاً من أخي الأوسط ومن عديد أترابي وهذا يكفي، ومرة ثالثة ألجأ إلى طاقاتي الذهنية علّها توهمني بأنني متفوق على الجميع، وإنجازاتي الصغيرة في المدرسة دليلي الوحيد على ذلك”. (ص31)
ونقرأ تحت عنوان: “ساحة القرية – مسرح الحياة الأول”: “يطل بيتنا وغالبية بيوت القرية على تلك الساحة التي طالما شكلت فضاء مفتوحا لكل أشكال الحياة وأنواع الأنشطة الصغيرة والكبيرة. وحين نجلس في نافذته الشرقية أو على السطح الواسع للبيت السلفي فلا يمكن أن يعبرها أحد أو أن يحدث شيء فيها دون أن يتحول إلى موضوع للفرجة، وبكل ما تعنيه الكلمة من ترقب ومتعة ودهشة وصدمات خفيفة أوعنيفة. إنها الفضاء الأكثر حضورا في ذاكرتي ووعيي على الإطلاق، ويمكنني أن أخصها بنص مطول جدا، إلا أنني سأكتفي بوصف أبرز معالمها وسرد أهم حكاياتها كما خبرتها في زمن الطفولة والفتوة، وبعضها لا يزال حيا تتراقص تفاصيله أمامي الآن: الساحة لها شكل نصف المستطيل من الجنوب المرتفع قليلا، وشبه دائرية من الجهة الشرقية الشمالية، ولأنها مفتوحة من غير جهة فلا بد أن يعبرها أهل القرية وحيواناتها كل يوم، عشرات المرات. وإحدى متعي القصوى في طفولتي أن أتشبث بحديد النافذة الكبيرة وأتفرج على أهم أبطال المشهد، وأعني تلك الحيوانات التي طالما بدت لي أكثر حيوية وسعادة من البشر: الدجاج يتجول باكرا بين الدمن، ولا يتوقف ديك للأذان فوق مزبلة أو عود أو حجرإلا ويجيبه آخر، وأحياناً تتطارد الديكة بسرعة وخفة، والأقوى هو الذي يبعد الخصم ويستفرد بالدجاجة اللعوب ليركبها لحظات ثم ينزل مزهوا بالنصر وعلامته الكبرى تاج أحمر ينتصب فيزين الرأس المهيب. ولم أر ديكا محترما يتحرش بدجاجة يتحلق حولها مجموعة من الفروخ (الصيصان) الصغيرة الوديعة” (ص33). و”الكلاب غالبا ما تلبد في أي تجويف دافئ أسفل الدمنة أو تحت أعواد الحطب، ولا نراها مُستفزَّة شرسة إلا حين يعبر كلب غريب حماها الخاص. ويبلغ نشاطها المحموم ذروته في مواسم التلاقح، ففي هذا الوقت تتجمع بالعشرات من حيث ندري ولا ندري، وتظل ذكورها القوية تتهارش للفوز بالأنثى التي تصبح قائدة القطيع وسيدة الموقف. وحينما نرى أحدها قد ارتبط بها نتفرج على المشهد العجيب: الجسدان يلتصقان عند المؤخرة لساعات وكل رأس في جهة؛ ينا تحاول المشي في اتجاه واحد فتخف المعاناة، وحينا تشد الأنثى الفحل المعتقل فيتبعها ذليلا يتخبط يمنة ويسرة لا يدري كيف ومتى الخلاص من المأزق. وتزداد معاناة حبيس الشهوة حين يهجم عليه كلب آخر فينهش أذنه وبعض أطرافه وهو عاجز تماما عن الدفاع أو الهروب. وقد تلسعنا الشقاوة فننزل ونبدأ في مطاردتهما واثقين أن الفصل بينهما أمر متعذر حتى مع الضرب المبرح. أما الفضيحة الحقيقية، فلا غير الحمير لها: فالذكر منها قد يتمشى أو يقف وسط الساحة وعضوه الأسود الطويل يتدلى ليراه الجميع، مرةً متصلّباً حتى ليكاد يلتصق ببطنه، ومرةً ليّناً حتى ليوشك أن يلامس الأرض. والأنثى المتطلبة لا تتردد في رفع ذيلها وتحريكه يمنة ويسرة فيُرى عضوها يَفتَح ويغلق في حركة منتظمة الإيقاع، ونحن نتابع ذلك التجويف الداكن وهو يشع بلون بين الأحمروالزهري من لحظة لأخرى. وبما أن الأمر يتعلق بإغواء واضح تعززه حركة الفك الذي ينفتح وينغلق بشهوة معلنة، فإننا نترقب قدوم الحمار المحظوظ زاعقاً ناهقاً فيركبها ويولج ذلك العضو الطويل بكل مهارة، ويظل يعضُّ الضحية المستمتعة في رقبتها، وهو يتراقص إلى أن يفرغ وينزل منتشيًا ومرهَقاً في الوقت ذاته. أما الثيران والأبقار، فعادةً ما تكون مربوطة في أعمدة خشبية ولذا تبدو لنا أكثر هدوءا وحياءً. أما حين يتناطح ثوران قويان فالمؤكد أن الساحة كلها ترتج وتعج بالغبار حتى يتدخل أحد الرجال الأشداء فيضرب رؤ,سها بخشبة طويلة عسى أن تنفضّ المعركةُ الشرسة قبل أن يصاب ’سيد البلاد’ بجرح خطير. ومشهد الضراب بين ثور فحل وبقرة متطلّبة غاية في الطرافة والإثارة؛ فهناك دائما امرأة تمسك بالبقرة من الأمام ورجل يقود الثور من الخلف وكأن الأمر حفل زفاف حقيقي. وإذا ما اقترب الجرم الثقيل وركبها لا يلبث طويلا فوق ظهر العروس الوديعة الذي يوشك أن ينكسر. عندها يقوده الرجل بعيدا لتعود المرأة سريعا لتعيد الفائض من السائل الثمين إلى مؤخرة البقرة عسى أن تتزايد فرص الحمل وينمو رأس المال”. وكنا نزهو باستقبال قطعان الغنم والماعز وهي تروح من المراعي البعيدة قبيل المغرب لأنها تملأ الساحة عجيجا وضجيجا. الأناث تعلن فرحها بملاقاة أطفالها، والذكور تعلن الشهوة بعد الشبع فتناطح بقرون كالفولاذ، ولا يتردد الفحل المنتصر في ركوب الأنثى التي يحب أمام الجميع. وقد كان لنا تيس بقرونِ وعلٍ تجعله لا يدخل من الباب الكبير إلا وهو يميل رأسه الضخم يمينا أو يساراً. ولن أنسى موقفه الشجاع إذ هجم عليه ذئب شرس ذات يوم فظل يقاومه بكل ثقة وكاد يبقر بطنه غير مرة بفضل قرونه الطويلة إلى أن فزع لنا شاب مسلح ببندقيته فهرب المعتدي. والساحة ذاتها مسرح مفتوح لفعاليات أخرى أبطالها البشر”. (ص33 36)
القيمة الأبرز لكتاب معجب الزهراني هي في هذه النقطة بالذات، أي في صدق الكاتب وجسارته على تقديم الحياة، بأوفر ما يكون من الصراحة والصدقية. وعلى الرغم من عناوين فاصلة بين فقرات الكتاب (يتراوح طول الفقرة الواحدة بين صفحتين وعشرين صفحة) فإن الكتاب نص واحد ونفَسٌ واحدٌ لا ينقطع ولا تقطعه العناوين الفرعية، حتى أن رغبة القارئ في مواصلة قراءة النص مأخوذاً بالتشويق الذي يختزنه، تدفعه إلى القفز عن قراءة تلك العناوين، ليقف على العفوية والصدق وعلى ما بينهما وفي ثناياهما مِمّا يُنعَت بالبطولة والجرأة، في حين أن تلك الجراة ليست أكثر من عمل إنساني خالص هو أقرب إلى خصال النزاهة والوفاء منه إلى مزايا الشجاعة والبطولة. وحتى العفوية في كتابة أدب السيرة الذاتية هي عفويتان: عفوية ساذجة غافلة، وعفوية واعية نابهة. ولئن كان ثمة من بطولة تُجزى إلى كاتبها، فإن عفوية الزهراني الواعية هي التي تستحق أن يُنسَبَ إليها جرأة أو جسارةٌ ما.
الصدق إذاً والبوح، هُما شرط كتابة السيرة الذاتية، وهُما علة وجودها أصلاً. والصدق في الحوار مع الذات، التي تصبح آخر يحاوره الكاتب: يسأل الزهراني نفسه: “عمّن ستكتُب يا صاحبي؟”، ويُجيب: “عن أنايَ البعيدة، أناي التي هي آخَري الآن”. (ص9) في “سيرة الوقت. حياة فرد، حكاية جيل” ينجح معجب الزهراني الى حد بعيد في التوفيق بين تأريخه لسيرته ولنفسه وبين تأريخه للعالم المحيط به: عالمه وقريته وأهله وبلده وأترابه ومعلميه ومجايليه من مفكرين ومثقفين، كباراً وصغاراً. . . ولأنه يعرف بأن لا مكان في الكتابة للسيرة الكاملة، وأن الحياة تظل بدقائقها وتشعباتها الكثيرة أوسع من الكتابة، فهو يختار من حياته ما يصلح للبوح والاعتراف من جهة، وما يفيد القارئ ويغنيه من جهة أخرى. ويستعيد السؤال: “لكن من أنا خارج التسمية والحكاية العائلية؟ كثير، ولا أحد. وليس هذا مجازا جميلا فحسب، فكلنا أفراد بهوية واحدة وهوايات متشابهة، فلاحون نحب الأرض، ونرى السماء ساحة للنجوم أو معبرا للغيوم ومصدرا للمطر”. (ص 20)
يبدأ الكاتب البوح من اسمه الشخصي (معجب) فيقول إن”النطق بهذا الاسم، صوتياً، غير مريح لفرط التباعد والتنافر بين مخارج حروفه، ولا أُحِبّ سماعه إلا حين يُنطَق باللهجة الفرنسية (موجيب) أما المعنى فأجده جميلاً على أي وجهٍ نُطِق(7)”. (ص 13)
يذكر الزهراني مثلاً شائعاً أن “يتيم الأب يبقى في حضن أمه، أما يتيم الأم فيُرمى فوق المزبلة” ويذكره لأنه: “عبارة ذات دلالة وجيهة تماماً لأنها واقعية مجرَّبَة في الغالب. وأستعيدها الآن لأنني كثيراً ما حمدتُ الله على موت أبي، واثقاً من أن حياته كانت ستغيّر مجرى حياتي دون ريب. فالأب التقليدي في مجتمعاتنا الذكورية سلطة مهابة، والأب الشديد على نفسه وعلى من حوله سلطة مطلقة يخضع لها الجميع دون جدال. وما رأيتُ لاحقاً أشكال العنف الوحشي الذي يمارسه غالبية الآباء على أُسَرِهم وعلى الزوجات والأولاد الذكور بخاصة، إلّا وشعرتُ أن يُتْمَنا رحمةٌ لأمي ونعمةٌ علينا، وراودني نفورٌ مبكّرٌ من سلطة ’الرجال’ كلها (. . . ) وفي كل حال سأدعو له مجدداً بالرحمة لأنه أراح واستراح. ولو بُعِث وقيل له أن أبناءه وأحفاده تجاوزوا المائة، وقد توزّعوا في الباحة والرياض وعسير والخُبَر وباريس، لفضّل العودة سريعاً إلى قبره”. (ص18 19)
ويتذكر من أيام المدرسة في طفولته: “المدرسة هنا بناء حديث من طابقين، والطلاب من عديد القرى المعلومة والمجهولة. جزء كبير منهم من قرى وادي قريش الكثيرة ، وبعض آخر يأتون راجلين أو على حميرهم من قرى بعيدة نسبيا ، وجزء ثالث يسكنوها مغتربين مثلنا” (ص49) و”ما كان أقسى كلمة ’سقط’ على الأطفال وعلى أهاليهم . فالساقط في لغتنا مشحونة بكل الدلالات الأخلاقية السلبية، وكم هو تربوي جاهل فاشل من أقر شيئا اسمه النجاح والسقوط في هذه المرحلة العمرية البريئة الحساسة، والأجهل منه والأفشل من لازال يعتمد اليوم هذا المسلك التربوي الغبي!. ” (ص41) و”الجديد في المواد قليل، ولولا دروس اللغة الإنجليزية لقلت إن المواد ظلت حشوا كميا جافا لأذهاننا الغضة، خاصة تلك المواد الدينية التقليدية التي تملأ رؤوسنا أوهاما باسم الحقيقة المطلقة فتسد أبواب التفكر والتخيل لدى جيل بعد آخر. ولا أتذكر خلال ثلاث سنوات أكثر من معلّمَيْن: أحدهما مدرس الرسم السوري المرهف ياسين الذي كان يحوّل وجوه بعض الطلاب لوحات بديعة، وبقلم الرصاص لا غير، وكم تمنيت، وغيري مثلي ربما، أن يدربنا على الرسم ذاته، ولو مرة واحدة؛ ومدرس الرياضيات العراقي أنيس الذي كان كتلة دائرية مرعبة للجميع، وكم استغربنا إذ رأيناه يبكي في زاوية بالفصل إثر نكسة 67″. (ص49) كما يتذكر دروس المحفوظات: “بعض أناشيد تشبه الألغاز وتُثير الضحك الصامت، مثل أنشودة “الولد النظيفو، منظره لطيفو”، “أبي اشترى لي ساعة، فلم أنم من الفرح”، “قطتي صغيرة، سميتها سميرة”، “لا تخافي لا تخافي، نحن أبطال المطافي” الخ!. ” (ص42)
ويسجل ملاحظات انتقادية لمناهج التعليم: “ظلّت مواد الدراسة جافة في مجملها، وليست لها علاقة واضحة بحياة الناس ولم تسهم بشيء يذكر في كشف مواهبنا أوفي تنمية وعينا ببيئتنا الحميمة وبثقافتنا الفلاحية العريقة. فعلا لم يقدم لنا أحد من معلمينا درسا يتصل بجغرافية المنطقة أو بتاريخها أو بنباتاتها أو بحيواناتها، فضلا عن تقاليدها وفنونها الشعبية الوافرة. حتى بعض الرحلات الممتعة إلى أحد الوديان القريبة لم تكن لتستثمر لتزويدنا بمعارف علمية عن بيئة غنية ظلت غير مقروءة جيدا إلى اليوم (وما تمشيت لاحقا مع أطفال في وادٍ أو سفحٍ إلّا وحرصت على تسمية أنواع الأشجار والنباتات والحجارة والطيور والحشرات وبيان ما تيسر من خصائصها) لهذا لا أبالغ حين أزعم أن مدرستنا الوطنية الحديثة أسهمت في تغريبنا عن حياتنا بقسط وافر حيث انتجت أسرابا متعاقبة من” المتعلمين – الموظفين” الذين يحفظون الكثير من المعلومات، لكنهم يجهلون كل شيء عن العمل الفلاحي، وقد يحتقرونه”. (ص43). كما يسجل الزهراني واحدةً من الذكريات التي يستوجب ذكرُها الكثيرَ من الصدق والأمانة في كتابة السيرة الذاتية: “الأستاذ عبد القادر الأردني الطويل الأسمر شخصية تثير مزيجا من الخوف والإعجاب لأنه لا يتردد في ركل أحدنا بحذائه البلاستيكي الخشن. (لم يضربني قط ، إلا أنني أذكر جيدا أنه وقف على رأسي ذات صباح وأنا أرسم بفحم ثخين على الدفتر فتبولت في ملابسي، ما جعلني ألبد مكاني ساعات حتى جف الثوب الخشن ولم يرني أحد). لكنه كان عزيز نفس، وكثيرا ما يشارك بعض الفلاحين حراثة الحقل، ولعله الوحيد الذي كان يحرص على لبس الكوفية والعقال مع البنطلون والقميص والمعطف. ولا أنسى رنة الشجن في صوته وهو يتمشى حول المدرسة ليطل على قرية” القطارة” أقصى الوادي ثم يغني بين نفثة سيجارة وأخرى” قطارة يدموع العين قطارة “كأي عاشق مفارق”. (ص 44 45)
ومن ذكريات الكاتب عندما انتقل إلى التعليم في مدارس الرياض: “بفضل الراتب الأول ومستحقات التعيين الإضافية اشتريت سيارتي الأولى ’سوبارو’ حمراء. طبعا لم تكن لدي رخصة قيادة كغالبية الناس وقتها، ولم أكن أتقن القياد. ة ولذا، صَدَمت في الأسبوع الأول مصريا بدينا ترك الرصيف ليمشي على الأسفلت. ومع يقيني أن الصدمة كانت خفيفة على مؤخرته الكبيرة إلا أنني أخذته إلى المستشفى حالا، وبعد الفحوص والأشعات أدركنا أنها جاءت سليمة فحمدنا الله وتسامحنا وأعطيته مبلغا يسيرا من المال وبدأت انتبه وأحذر كي لا تتكرر الحماقة”. (ص107 108). و”الزميل الذي كنت اغبطه فعلا على لطفه وأناقته هو شاب زيلعي وسيم ومحبوب من الجميع. دعاني مرة إلى شقته القريبة من المدرسة فوصلت قبل الموعد لأكتشف أنه يعيش عالما آخر أحلم به ولا أقاربه!. نعم ، كان الماكر يعطي دروسا مجانية لبعض الطلاب، ويبدو أن له علاقات عاطفية مع قريباتهم البرجوازيات الأنيقات، وهاهي إحداهن تنتظر في الصالون الأنيق، تشرب الشاي وتستمع لمحمد عبده براحة بال حتى ينتهي الدرس. ” (ص 109)
في القطار من باريس إلى رويان حيث درس الفرنسية في أحد معاهد المدينة، يسجل الزهراني الملاحظة الطريفة التالية: “كنت أتابع المشاهد المتعاقبة مخطوفا بجماليات هذه الطبيعة الغنية وأنا أباشر رحلتي الأولى من شمال فرنسا إلى جنوبها الغربي حيث لم أكن لأتخيل سهلا أو جبلا مكسوا كله بأنواع الأشجار التي حولتها ألوان الخريف إلى لوحة هائلة مزخرفة بمختلف الأشكال والألوان. وفي تلك اللحظة تبلورت في ذهني عبارة ظلت حاضرة في كلامي دائما وهي إن الشعوب الذكية عرفت تختار مكانها منذ البداية. ولتخفيف شبهة الدلالة العنصرية القوية فقد أستعمل صفة ” الشعوب السعيدة “، وكلي ثقة في أن هذه الملايين من البشر الذين يعيشون في أماكن جافة أو شبه جافة لم يحالفهم الحظ أبدا، وسيظلون محاصرين في جغرافية تمنعهم من التحضر وهم في ضنك من العيش يلزمهم بتدبر المستويات الأدنى من الحياة لاغير”. (ص125).
ويسجّل ملاحظةً أخرى عند شاطئ المدينة البحري: “ذات مرة تمشينا لأقل من ساعة على الشاطئ الغربي للمدينة فإذا بنا نطل على مشهد غريب صادم، عرفنا تاليا أنه شاطئ العراة، وأظنه الأول في فرنسا حينها. ومع أننا تجنبنا الوقوف طويلا على المشهد غير المتوقع فانصرفنا وبعضنا يهجو” الغرب المنحط ” كالمعتاد، إلا أنني شخصيا لم أصدم كثيرا لما رأيت. ولم أصدم لأن رؤية الجسد العاري كانت أمرا مألوفا لدينا نحن الأطفال في بيوت القرية وساحاتها، وكنا عادة ما نسبح كما خلقنا الله في كل غدير ووجرة وبير طوال موسم الصيف، وقد يفعلها الكبار مثلنا دون حرج، خاصة حين يأتي يوم العيد السعيد في موسم كريم مطير. وهو ما قد تفعله الفتيات والنساء أيضا بكل راحة بال حين ينصرف الرجال ظهر الجمعة للصلاة في الجامع البعيد. ورغم خطورة المغامرة إلا أن شقاوة الطفولة وفضول الفتوة دفعتنا غير مرة للاختباء بين شجر التين القريب وترصد المشهد الفاتن لنساء قويات يسبحن بمهارة عالية ويتلاعبن بالماء من حين لآخر. وأزعم أن مشاهدة تلك الأجساد العارية تستحم مرة في الماء ومرة في الهواء تركت في ذهني أثرا قويا انعكس تاليا في عديد مقالاتي ودراساتي النقدية والفكرية. فنساء تلك المرحلة كن يتمتعن برشاقة كبيرة وحيوية عالية افتقدتهما نساء الجيل التالي رغم التحول من شظف العيش إلى وفرته، والسبب المباشر هو العمل اليومي المتصل الذي يصقل الجسد فلا يترهل، ويعالج الروح فلا تنطفئ طاقات الكائن. ثم إن جسد المرأة طالما بدا لي أكثر مرونة وجمالا من جسد الرجل، والفضل يعود لتلك الخطوط المنحنية التي تؤطره عند الصدر والخصر فتبرز مفاتنه، وما رأيت تاليا الجسد ذاته ماثلا أمامي لوحة في متحف أو تمثالا في ميدان إلا وتذكرت بعض تفاصيل ذلك المشهد البعيد”. (ص 145) و”طلبت مني هلموت ذات مرة أن أدلك جسدها الناعم بكريم مضاد للشمس بعد أن سبحنا طويلا في شاطئ نصف القمر ، ثم راحت تتدرب على ركوب الموج وأنا أشجعها وأتهيب المغامرة ، وأخيرا استلقينا لنرتاح على منشفتين كبيرتين فوق الرمال الناعمة ، وكانت المرة الأولى التي أستمتع فيها طويلا وكثيرا برؤية الجسد الأنثوي وبتلمس جل تفاصيله متناسيا قبس الشهوة المتقدة داخلي. الطريف أنني ما إن عدت إلى غرفتي حتى رحت استمع لجاك بريل وأترجم أول نص عن الفرنسية ، وهي كلمات أغنيته الشهيرة ” لا تتركني ” ، ولأنني كنت مستمتعا باللحظة لم أجد صعوبة تذكر في إعادة صياغتها بلغة شعرية جيدة لأضمنها رسالة إلى حبيبتي الوحيدة البعيدة (وهي ما زالت تحتفظ بها إلى اليوم). (ص146)
كذلك، لا تغيب الذكريات السياسية في السيرة الزهرانية، حيث يسجّل الكاتب مواقفه تجاه أحداث جسيمة هزّت المنطقة برمّتها وزعزعت استقرارها، كما حدث أثناء احتلال الكويت، مثلاً، فتحت عنوان: “انكسار العمود الفقري للمنطقة” نقرأ: “وكان احتلال الكويت حدثا هز النفوس وأذهل العقول لأنه، وكأي حدث كبير، غير مجرى الحياة ومسار التاريخ في المنطقة كلها. ولم تكن التفسيرات الإعلامية الشائعة مقنعة أبدا لشخص مثلي. لقد تيقنت منذ البدء أنها واحدة من مغامرات الحكام الطغاة الذين قد يحقق أحدهم بعض النجاحات في بعض المجالات وما أن يجد قبولا حماسيا لدى الرأي العام حتى يصاب بمتلازمة جنون العظمة التي تظل تغذي لديه أشكالا من الحماقات الشاذة والمغامرات الخطرة لعقدين أو ثلاثة، ومنطقي تماما أن تدفع الشعوب الغافلة والمغلوبة على أمرها أكلافها الفادحة على مدى عقود وربما قرون. لم يكن هناك شيء معقول لتبرير الحدث غير العجرفة والجهل المطلق بمنطق الجغرافيا ومنطق التاريخ ومنطق السياسة في واقع كوني لم يعد يسمح لقوى عظمى بمغامرات من هذا النوع فما بالك بدول تحاول التنمية في مجتمعات هشة تفتقد للحرية والعدالة وربما لمجمل البنى التحتية. فلقد كان من السهل تماما على صدام تحصيل المزيد من الأموال من جيران أثرياء سبق وأن دعموا العراق في حربه العبثية الشرسة ضد إيران، ولن يمانعوا في مواصلة الجهد إما حرصا على مصالحهم وأمن بلدانهم، أوخوفا من جار فارسي يتبنى إيديولوجيا مذهبية ثأرية عدوانية، أو خضوعا لابتزاز حاكم عسكري متهور يتحكم في مقدرات بلد كبير غني بالماء والنفط والقوى البشرية. وأياً كانت الحال فلا أظن أحدا في الخليج عموما كان يمانع من بقاء العراق قوة إقليمية معتبرة في المنطقة، بل والاستمرار في دعمها وتنمية قدراتها كي تحمي’البوابة الشرقية’”حسبما شاع حينها. أما أن يتوهم أحد، صدام أو غيره، القدرة على التلاعب بموازين القوى العامة في منطقة يعدّها العالم مصدرا أساسيا للطاقة فهنا الخطأ الفادح، وهذا ما حصل لسوء الحظ”. (ص219).
يدفعنا الكلام على شرط الصدق في سيرة الزهراني الذاتية إلى الكلام عليه في سِيَرٍ ذاتية أخرى لكتّاب عرب آخرين، بصرف النظر عن الجدال الدائر حول ما إذا كان فن السيرة الذاتية معروفا في الأدب العربي قبل أن يتبلور في آداب الغربيين، أم غير معروف؛ فالبعض يرى أن “السيرة الذاتية العربية الحديثة، وإن كان لها جذور في تراثنا، فإن مرجعيتها الثقافية والفنية الحديثة هي مرجعية غربية”. وأن “مشروع السيرة الذاتية العربي الحديث احتضن المعضلة الفردية للكاتب كما احتضن المعضلة الاجتماعية، لقد كان يبحث في تأصيل الكيان الفردي وفي إيجاد صيغة أيديولوجية قادرة على تأصيل الكيان الاجتماعي وترميم هويته المتداعية المختلة، ومن ثم اقترن البحث عن الإنسان الأكمل بالبحث عن تأسيس المدينة الفاضلة التي هي في الوقت ذاته العلامة المؤشرة على هذا الكمال، والعالم الذي لا تحقق لأبعاد الإنسان الكامل إلا فيه”(8). في حين يرى غيره أن الأدب العربي عرف هذا الفن الأدبي قبل ذلك بكثير: “على العكس تماماً مما هو شائع، فالعرب هم أهل السيرة الذاتية ورواد في كتابتها، لا بل ان الكتابات العربية القديمة الموصوفة بالسير الذاتية، تفوق بعددها، كل ما كان يعتقد وجوده. وكل كلام عن ان هذا الفن عند العرب، مستورد من الغرب، مجرد بدعة، وسوء قراءة. فالأدب العربي القديم «مشحون حتى السقف بمئات ألوف الرجال والنساء الذين دونت حياتهم بعناية. وحجم هذا التراث ضخم إلى حد أننا نشرع الآن في سبره أو نكاد»، كما يخبرنا المؤرخ طريف الخالدي. هذا الرأي ليس اجتهاداً عربياً، او تنطحاً عنصرياً من قبل باحث كبير مثل الخالدي، انه أيضاً رأي المستشرق الأمريكي دوايت رينولدز، الذي درس السير الذاتية العربية ومنحها جزءاً مهماً من حياته المهنية. ويأتي رأي الباحثين، المفاجئ هذا، ضمن كتاب جميل صدر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بعنوان «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام، قراءة في السير والسير الذاتية»، شارك فيه 14 مؤلفا، وتناول عشرات السير الذاتية، ليكشف عن كنز نعيش بجواره من دون أن ندرك اهميته أو قيمة مضامينه، فهل نحن حقاً أمة السيرة الذاتية وروادها؟ وما هي القيمة الحقيقية لهذه الثروة الأدبية؟ ولماذا اتهمنا دائماً باقتباس سيرنا المكتوبة عن الغرب؟”(9)
وإذاً، لا بد من الإشارة هنا إلى صدق سهيل إدريس في كتابه “ذكريات الأدب والحب”(10) (على الرغم من أن هذا الكتاب هو كتاب مذكرات وليس كتاب سيرة ذاتية(11))؛ فما ورد فيه من اعترافات جريئة للكاتب حول شذوذ والده، أثار عليه نقمة الكثيرين من أقاربه. غير أن هذه المذكرات فتحت الباب واسعاً امام السؤال حول جدوى كتابة السيرة إن لم تكن اعترافية مشحونة بالبوح والتحدي. وفي حديث إلى الصحافة ردّ فيه سهيل إدريس على النقد الذي كُتِب بإزاء ذلك البوح الصادق، يقول: “”حين بدأت بكتابة مذكرات سيرتي الذاتية، كنت مصمما على ان اجعل منها عدة اجزاء قد تصل الى ثلاثة او اربعة اجزاء لان الرقعة الزمنية التي تتناولها من حياتي الشخصية ومن حياة الثقافة العربية المعاصرة، التي سايرتها، تمتد على مدى خمسة عقود على الاقل، وهي تستوعب كثيرا من الهموم الثقافية والذاتية، وقد استطعت ان اضمّن الجزء الاول من هذه السيرة جانبا من ذكرياتي الشخصية المتعلقة بمسيرتي الذاتية مرتبطة بالمسيرة الثقافية، واستطعت فيها ان اكون صادقا وصريحا لايماني بان كتابة السيرة الذاتية تتطلب قدرا كبيرا من الجرأة اذا اردت ان تعري المجتمع تعرية صحيحة بدون زيف ولا أقنعة وكان من الطبيعي ان يحدث ذلك “رجّة” في الوسط الاجتماعي والثقافي وان تقابل هذه المذكرات الاولى بردود فعل مختلفة كان من بينها عدم الموافقة لدى البعض ولا سيما لدى بعض افراد العائلة على ما ضمته هذه الذكريات من احداث شخصية ووقائع كان يفضل بعضهم ان لا اذكرها وقد اصررت وسأظل مصرا على متابعة هذا الخط اذا اردت ان اظل صادقا مع نفسي وان استمر في فضح زيف المجتمع الذي نعيش فيه. (. . . ) أخذ عليَّ البعض ما ذكرته عن سلوك ابي من شذوذ جنسي، ولكنهم لا يستطيعون ان يشعروا بما كنت اشعر به شخصياً حين كتبت ما كتبته، لم يكونوا ليشعروا بالخجل الذي عانيته من سلوك ابي، وهذا شيء انساني وطبيعي، ومن المفروض ان اتحدث عنه كما اشعر بالخجل من اي سلوك يكون فيه الكذب هو الطاغي والتزوير والتضليل. شعرت بشيء من التردد، وهذا بشري ايضاً، لكنني قررت مع ذلك ان اعود الى احساسي العميق والصادق مما كنت اعانيه من هذه المشكلة. صحيح انه اثار كثيرين، ومنهم بعض افراد اسرتي. لكن ليس هناك ما يلغي حقي في الاعتراف بالحقائق. . كل روائي حين يكتب، انما يكتب متخفياً، اما كاتب السيرة فيجب ان يختلف، والا فليكتب روايات اذا كان يخاف الخروج على حدود التقاليد. ففي الروايات، يحق له ان يمارس التشويه الفني للحقائق. اما في السيرة الذاتية فليس امامه خيار غير الصدق والواقعية”(12). ويقول أيضاً: “هناك من كتب بفهم عميق لهذا الموضوع، وآخرون تناولوا الأمر من زاوية ضيقة، فأنا لم أكتب أدباً بورنوغرافياً، وإنما كتبت ما يعانيه الشاب الشرقي حين يلتقي فتاة من مجتمعه. ونحن الأدباء العرب، مقصرون في معالجة موضوع الحرمان في أدب الشباب وأدباء الشباب العرب في شكل عام، وكنا نتجنب هذا الموضوع باعتباره من التابوهات، من المحرمات”(13).
فإذا كانت الحرية والصدق، شرطان لكتابة السيرة الذاتية لكي يستقيم هذا النوع ولتكون له فاعلية وعلة وجود، بحيث يستطيع القارئ أن يقف على حياة المؤلف وهويته الحقيقية وأن يطّلع على ما خفي من وقائع هذه الحياة وتقلباتها وأسرارها، بعيداً عن التزوير والتزويق وتمويه الواقع. فإن الشرط الأساس لكتابة السيرة هو الجرأة على كشف حقيقة تلك الحياة كما هي وعدم إظهار جوانب منها وستر جوانب أخرى. والحق، أن هذا الشرط هو الصدق أكثر منه الجرأة التي تصبح عملاً عادياً وليس بطولياً لأن القارئ لا يُقيس عند الكاتب “جرأته” بل يقيس صدقه وأياً كانت الواقعة التي يريد كاتب السيرة الذاتية أن يكشفها، ومهما كانت غريبة وغير معقولة أو شاذة عن المألوف، فإن القارئ يستسيغها، خلافاً لما لا يستسيغه من الكثير من وقائع يختلقها كتاب آخرون ولا يرمون مِن ذِكرها في كتاباتهم إلى أكثر من الظهور بمظهر الأبطال، لكن هذا الظهور الزائف لا ينطلي على القارئ فهو لا يصدقهم ولا يقرّ لهم بهذه الشجاعة المفتعلة والمصطنعة، وبخاصة حينما يجعلون ميدان كتاباتهم الإباحة الجنسية، فتأتي كتاباتهم ابتذالاً بابتذال.
لا يعني ذلك أن السيرة الذاتية لا تأتي على هتك ما يُظَنّ أنه محرّمٌ أو “تابوهات” جنسية، وإنما يعني أن هذا الهتك عليه أن يكون صادقاً إذا كان جارياً عفوَ الخاطر في سياق السرد، لأنه يدخل في صلب طبيعة الحياة البشرية لِما في حياة الإنسان من متسع كبير لهواجس وتصورات وفانتاسمات جنسية لا حدّ لها، يصبح ذكرها في سياق سرد السيرة الذاتية عملاً طبيعياً وغير مفتعل، ويدخل في سليقة القارئ فلا يمجّه ولا ينفر منه لأنه يحاكي هواجس هي من طبيعة كل إنسان وليست غريبة عنه. غير أن المعيار الأساس هنا لتصديقها أو للنفور منها هو الصدق في ذكر المحرّم و”الخطايا” الجنسية، وليس افتعال ذكرها.
هذه العفوية الصادقة في سرد السيرة الذاتية يقابلها نقيضان: فكما تناقضها المغالاة في ذكر الوقائع الجنسية، كذلك يناقضها الامتناع التام عن ذكرها. فكتّاب السيرة غالباً ما يمتنعون عن ذكر ما قد يحسبونه مشيناً لهم معيباً لصورتهم لدى القارئ، فيحرمون أنفسهم بذلك من رونق الصورة الإنسانية التي لا تكتمل إلا من خلال تمامها الإنساني الذي يضم طيف عواطف الإنسان كلها وهواجسه وأحلامه، ويبعث فيها الحياة، ويبعدها عن صفاء الصنمية و”جمال” التمثال المنحوت، لكن غير الحيّ، بل الميت الخالي من نبض الحياة. فهذا النبض هو الذي يعمل، وعلى نحو عفوي لدى القارئ، كمعيار يميز به صدق الكاتب من زيفه. “فمعظم كتّابنا يعمدون عند استعادة سيرهم الى تقديم الحياة لا كما هي في الواقع، بل كما يتصورونها مثالية خالية من كل عيب. فهُم لا ينجرفون وراء رذيلة أو يضعفون أمام شهوة. لذلك فإن ما يقدمونه لنا عبر سيرهم أو مذكراتهم لا يمت بصلة الى الوجه بل الى القناع ولا الى الروح العزلاء والعارية بل الى الجسد المستور والمموه بأكثر من طلاء”(14). لهذا السبب يكاد يخلو أدبنا العربي من هذا النوع من السيرة الذاتية.
وما ذكره سهيل ادريس في كتابه “ذكريات الأدب والحب” هو من قبيل الصدق والعفوية: “والحقيقة انني لم أكن أحب أبي، إذ كنت أشعر بأنه يعيش جواً من النفاق. وجاء وقت بدأت أحس أن أبي يحيا حياتين: حياة مع زوجته وعائلته، وحياة ثانية مع آخرين. واكتشفت ذات يوم اصطحابه لشاب جميل الطلعة، أشقر الشعر، كنت أراه أحياناً في المتجر الملاصق لمتجره على المرفأ. وقد دخل مع هذا الشاب الى غرفة الاستقبال، في بيتنا، التي كان لها باب خارجي، وسمعت بعد قليل انغلاق الباب الداخلي لهذه الغرفة وصوت المفتاح يدور في قفل الباب”(15).
يعقب الناقد والشاعر شوقي بزيع على ما كتبه إدريس، بقوله: ” ذلك ما يكتبه سهيل ادريس حرفياً في مطلع كتابه من دون ان يترك لنفسه وللقارئ أي لبس يذكر حول شذوذ أبيه الجنسي. وذلك على وجه التحديد ما لم يتجرأ عليه أي كاتب عربي آخر، ربّما باستثناء محمد شكري، فقيمة هذا النص بالطبع لا تتأتى من براعته الفنية أو تجاوزه التخييلي بل من تجاوز المحظور وانتهاك المقدس وفتح الباب واسعاً لكي تخترق الكتابة حدود المحرم وسياج “الأخلاق” المتوارثة والمتفق، زوراً، على تعريفها الملفق”(16).
ونذكر أيضاً في هذا السياق سيرة المؤرخ نقولا زيادة، وهي بعنوان “أيامي”، الذي رحل في يوليو (تموز) 2006، حيث يُبرِز الكاتب والناقد صقر أبو فخر الجرأة التي تنطوي عليها هذه السيرة، في دراسته للجرأة التي تنطوي عليها، فيصِفها بأنها “تتحرش بيوميات أندريه جيد، وتقترب إلى حد كبير من اعترافات جان جاك روسو، واعترافات تولستوي والقديس أوغسطينوس، هذه الاعترافات التي شجعت الميل إلى تعرية النفس الملتبسة بالآثام”. ويذكر أبو فخر ما يقوله زيادة عن علاقته بزوجته مرغريت، وما كتبه زيادة عن “تفتّح غرائزه، والإغواء الذي تعرض له من بعض الفتية النابلسيين، وكيف لاقى الأمرّين في جنين في دار المعلمين عندما حاول كثيرون الإيقاع به، لكنه رفض هذه الأفعال المنافية للذائقة العامة”، وعن “تحرش صديقة أمه به جنسياً، وكيف تملص منها”. ويُضيف أبوفخر: إن “أهمية سيرة زيادة، الذي عمّر ما يناهز القرن، تكمن في كونها تشتبك وقائعها بالتاريخ، وبأخبار الأمكنة والرجال الذين كان لهم حضورهم في تاريخنا العربي المعاصر، وفي كونها لا تتحدث عن السياسة والسياسيين، وإنما عن الفكر والأدب والثقافة والتربية والأماكن والرجال والنساء والعادات، وعن الريف والمدينة والرحلات، وذلك كله بعين المؤرخ الذي يلتقط أدق التفصيلات، من دون أن ينسى الاتجاهات العامة وخطوط الأحداث الرئيسية”(17).
** ** ** **
يبقى أن نقول إنّ كتابة السيرة الذاتية هي من أصعب مجالات الكتابة الأدبية، لأنها تمثل جانباً مهماً من حياة الكاتب وشخصيته ، حيث يستعرض مواقفه الإيجابية والسلبية ليتمكن القارئ من معرفتها، ومعرفة شخصية الكاتب الحقيقية. وعلى الرغم من أهمية السيرة الذاتية فإن المشهد النقدي العربي يبدو خالياً من أية مبادرة أكاديمية جادة تستحق الاهتمام في مجال نقد نقد السيرة الذاتية. فبرغم التراكم الكمي والنوعي الهام الذي تحقق على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين في مجال الدراسات التي تعنى بالسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر، سواء على مستوى النقد الأكاديمي (رسائل وأطاريح) أم على مستوى النقد الصحفي (مقالات نظرية ودراسات تطبيقية)، فإن هذا الرصيد الهام من الكتابات النقدية لم يحظ لحد الآن بالتفاتة أكاديمية معمقة تؤرخ لتمفصلاته الكبرى, وترصد أسئلته وإشكالاته النظرية المهمة (المفهوم/ التجنيس/ النمذجة/ الخ. . ) وتسائل خياراته المنهجية المعتمدة(18).
وعلى الرغم من اتساع نطاق الدراسات الأنثربولوجية لتشمل المجتمعات البشرية المختلفة، سواء في تكوينها أو في درجة تطوّرها، فإن عوائق شتّى ما زالت تَحولُ دون اعتمادها في المجتمعات العربية كعلم يبحث في مشكلاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وإيجاد الحلول المناسبة لها. فمن المهم دراسة المجتمعات العربية انتروبولوجياً وفهمها بمفاتيح هذا العلم ومنهجياته. على أن التراث العربي حافل بكتابات انتروبولوجية كنصوص الجاحظ وابن مسكويه وابن بطوطة وغيرهم كثيرون. وعلى الرغم من العوائق التي ما زالت تعترض الأخذ بفوائد تلك المنهجيات العلمية (وفي مقدّم تلك العوائق، عدم تقبّل فكرة التطوّر الحيوي عند الإنسان، بالنظر لتعارضها مع الفكر الديني المتزمّت وتفسيراته التي تؤكّد أنّ الإنسان مخلوق من عمل الله، وليس نتاج حلقة تطوّرية ذات أصل حيواني(19)) وعلى الرغم من معارضة التشدد الديني لفكرة كروية الأرض مثلاً، فإن علم الجغرافيا حقق تطوراً كبيراً من خلال الاكتشافات العلمية الجديدة المتعلّقة بتحديد طبيعة الكرة الأرضية، وتخوم اليابسة منها وأقاليمها وبيئاتها والجغرافية، وتوزيع البحار والمحيطات. كذلك، فإن الأخذ بمنهجيات وأساليب الدراسات الانتروبولوجية واهتماماتها (البيولوجية والثقافية والاجتماعية) لفهم المجتمعات العربية وتفحص مشكلاتها والإسهام في اقتراح حلول لها سائرٌ في النمو باضطراد في الجامعات العربية، ونذكر منها، على سبيل المثال، جامعة منوبة في تونس بفضل جهود الدكتور محمد الجويلي. وثمّة باحثون أكاديميون عرب يشيرون إلى أنّ المنهجيات الأنثروبولوجية، دخلت إلى العالم العربي، في ثلاثينيات القرن الماضي على أيدي عدد كبير من علماء الأنثروبولوجيا أمثال بواس وإيفانز بريتشارد ورادكليف براون. . . ممّن تولّوا التدريس في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن). وهي تتطور في العالم العربي بفضل مشاريع استكمال معارفها حول الإنسان، وبيئاته الاجتماعية والثقافية، وهي مشاريع بدأت في الغرب، ثم انتشرت خارج أوروبا وإن ارتبط انتشارها بالاستعمار الذي جعل الباحثين العرب يتخوّفون من الآخذ بها بسبب غاياتها السياسية الهادقة إلى خدمة الدول الاستعمارية. كما أن بعض المفكّرين العرب دعا إلى التوفيق بين الفكرتين، والأخذ منهما ما يفيد العلم. فعبد الله نصيف، مثلاً، يرى أن “ليس هناك تعارض قَط بين الإيمان ومعرفة الإنسان عن الكون، واستخدام هذه المعرفة للخير”20. كذلك يرى زكي نجيب محمود أنه ليس من المهم تخريج المعاني التي تجعلنا نتصوّر أنّ ما جاء به الدين، هو نفسه ما يجيء به العلم في عصرنا. وإنّما المهم كلّ الأهمية، هو أن تريني الطريق الذي أعرف منه كيف آخذ من الدين حافزاً، يحرّك الإرادة لصنع علم جديد أقدّمه لنفسي وللإنسانية جمعاء21 .
1 معجب الزهراني، “رقص”، دار «طوى» للثقافة والنشر، 2010 . والرواية تتضمن رقصات ثلاث: عرضة رجالية وزفة نسائية ورقصة صوفية.
2 يرى مؤرّخ الأدب الإنجليزي توماس وارتون أن الأديب الانثروبولوجي يضع النص الأدبي موضع النتاج الذي يسعى بواسطته إلى معرفة العالم والآخرين، علاوةً على معرفة ذاته أيضاً. فثمة علاقة وطبدة بين النصوص الأدبية وسياقاتها التاريخية والظروف السياسية والأوضاع الاجتماعية. لذا، فإن الأدب مجال أساسي لمعرفة الجانب الاجتماعي، فهو يسجّل ملامح العصر بأمانة وإخلاص، ويعبّر بصدق عن المعاملات السائدة بين الناس، وهو أشبه بمتحف يعرض عادات الناس وأزياءهم، وهو مصدر مهم من مصادر تاريخ الحضارة، بل هو “مرآة الحياة”، بحسب تعبير وارتون نفسه.
3 الانتروبولوجيا anthropologie هي علم الـ”انتروبوس” (Anthropos أي الإنسان) وتشمل فروعاً معرفية شتّى، لأن الإنسان هو موضوع علوم طبيعية وإنسانية كثيرة، ما جعل من أمر ترجمتها إلى العربية إشكالية. وعلى الرغم من استخدام بعض الباحثين في هذا الميدان كلمة إناسة مقابلاً للانتروبولوجيا (راجع ترجمة كتاب كلود ليفي ستروس L’anthropologie structurale إلى العربية: د. حسن قبيسي، الإناسة البنيوية، حيث نجد إناسة مقابلاً لـ anthropologie بدلاً لأنتروبولوجيا، وأنّاس مقابلاً لـ anthropologue بدلاً من أنتروبولوجي) فقد دأب الباحثون العرب في هذا الميدان على تعريب الانتروبولوجيا، لا إلى ترجمتها، والإبقاء على تسميتها بلغتها الأصلية، كما فعلوا حين فضّلوا سوسيولوجيا على “علم الاجتماع” مقابلاً لـ sociologie وفضّلوا سوسيولوجي على عالم الاجتماع بدلاً من sociologue.
4 يرى الناقد والكاتب صقر أبو فخر أن السيرة الذاتية هي “رصد إبداعي لتحولات الحياة وصيروراتها، ولمصائر الناس وخيباتهم وآمالهم المجهضة، ومغامرة فنية تتضمن الغوص في النفس البشرية، وعدم الوقوف عند الملامح الخارجية للأفراد والجماعات، ثم استخلاص رحيق العناصر الروائية كلها كالحياة والحب والكراهية والألم والموت والجنس وتقلبات الأيام وعبء الوجود على الكائن البشري” (صقر ابو فخر، جريدة السفير، 19/6/2015).
5 Gilbert DURAND, Introduction à la mythodologie, Tunis, CERES, 1996.
6 في ما يخص الآداب الكلاسيكية الغربية يمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى كل من سير جيمس فريزر ومارسيل موس ورينان. . .
7 سواء نُطِقَ بكسر الجيم (معجِب) أو بفتحها (مُعجَب) فكلا المعنيَـيْن يلقيان، في نظر الكاتب، استحساناً لديه. ولكنه يُفضَل نطقه “مُعجِب” كما يفعل الفرنسيون.
8 جهاد فاضل، “السيرة الذاتية العربية من طه حسين إلى محمد شكري”، أسواق المربد، مجلة الأديب العربي، 3/5/2008، على الرابط التالي: http://merbad. net/vb/printthread. php?t=2795&pp=40&page=4
9 سوسن الأبطح، “أدب السيرة الذاتية عربيٌّ أباً عن جدّ”، الشرق الأوسط، 9/1/2008. ).
10 سهيل إدريس، ذكريات الحب والأدب، دار الآداب، بيروت، 2002.
11 السيرة الذاتية سردية ذكريات وأحداث جرت في حياة كاتبها. والسيرة الذاتية فن (أو جنس أو نوع) أدبي يقوم على صدقية يشهد عليها عنوان السيرة والتوطئة التي تقدّم لها واسم الكاتب. . . حيث يُثبت الكاتب في سيرته الذاتية أصالته فهو يريد من كتابة هذه السيرة أن يصف شخصيته ومشاعره على حقيقتها، أي ألّا يُخفي منها الأحداث أو الجوانب التي قد لا تلقى استحساناً أو لا تُثير إعجاباً لدى هذا القارئ أو ذاك. ولإظهار هذه الحقيقة لا بد أن يتمتع الكاتب بصفات أدبية معينة. والسيرة الذاتية التي يكتبها صاحبها بضمير المتكلم (أنا)، هي غير السيرة التي يكتبها عنه غيره بضمير الغائب (هو)، فهذا النوع الأدبي، وكذلك السيرة التي يكتبها صاحبها ولكن على شكل رواية أو مذكرات، يحتمل الكثير من التغيير والتمويه وإبدال أسماء الأماكن والأشخاص بأسماء أخرى، وربما جرى فيها تمويه بعض الأحداث وما إلى ذلك. والرواية، في الأساس، قبل أن تستقل وتستوي فناً أدبياً قائماً بذاته، كانت عبارة عن سيرة شخص ما تسرد أحداثاً عاشها. أما السيرة الذاتية فعليها، لتستحق اسمها، أن تستوفي قبل كل شيء شرط التمامية من دون زيادة أو نقصان، فلا يُنزَع منها شيء ولا يُضاف إليها شيء ممّا ليس منها، ومن دون أي تمويه أو تغيير. وبين هذه وتلك ما فعله هشام نشابة بسيرة حياة المؤرّخ قسطنطين زريق (1909 2000) الذي داهمته المنية قبل أن يمضي شوطاً بعيداً في كتابة سيرته الذاتية، فأكملها من بعده صديقه الأكاديمي، نشابة، وكان مقرّباً منه كثيراً، وقد عمِلا معاً في “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في فترة السبعينيات. وقد أمضى نشابة وقتاً طويلاً في التنقيب والتدقيق في كتابات زريق، ولم تصدر هذه السيرة التي يختصر عنوانها ذلك كله: “قسطنطين زريق: سيرة لم يسعفها الوقت”، إلا في العام 2017 عن “مركز دراسات الوحدة العربية”.
12 اموري الرماحي، حوار مع سهيل إدريس، جريدة الدستور الأردنية، 2/4/2003,
13 سوسن الأبطح، سهيل إدريس رحل تاركا «الآداب» في عنق الورثة، جريدة الشرق الأوسط، 20/2/2008,
14 شوقي بزيع، “ذكريات الأدب والحب. . . صورة الحياة لا قناعها”، جريدة الحياة، 2/12/2001.
15 سهيل ادريس، ذكريات الحب والأدب، دار الآداب، 2002.
16 شوقي بزيع، المرجع نفسه.
17 «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام، قراءة في السير والسير الذاتية»، كتاب جماعي شارك فيه 14 مؤلفا، وتناول عشرات السير الذاتية وصدر في العام 2007 عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». ويأتي هذا الكتاب ضمن السياق الذي يرى في السير والمذكرات رافداً ذا شأن لدراسة تاريخ بلاد الشام. وتحديداً تاريخ فلسطين غير المدوّن.
18 راجع الدراسة المهمة التي للباحث عبد الله توفيقي لنيل شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. وقد صدرت في العام 2012 عن “عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع” في المغرب، بعنوان: “السيرة الذاتية في النقد العربي الحديث والمعاصر – مقاربة في نقد النقد”.
19 وفي المطارحات بين المعتزلة والأشاعرة الكثير من الحجج والبراهين التي تثبت ذلك، والتي لا تزال المجادلات الجارية في عصرنا هذا مقصّرةً عن بلوغ النضج الذي بلغته تلك المطارحات، والتي لا بد من استعادتها في هذا المجال.
20 عبد الله ع. نصيف، “العلوم الاجتماعية والطبيعيّة”، أعمال مؤتمر التعليم الإسلامي الأول (1981):
Abdallah O. Nassef, Social and Natural Sciences. Sevenoaks UK: Hodder and Jeddah, King Abdulaziz University, 1981.
21 زكي نجيب محمود، “هذا العصر وثقافته”، دار الشروق، 1998.
—————
————————————————————
—————
————————————————————