الهواري غزالي ،
إنَّ قراءتي الأكاديميَّة لمجلة () ستكون عبارة عن معاينة للمؤشِّرات التي رسمها الشَّاعر ورئيس تحريرها سيف الرحبي في طليعة أعدادها الأولى ومدى مطابقتها تنبُّؤا أو مصادفةً الواقعَ الثقافي والاجتماعي الذي آل إليه العالم العربي بعد قرابة خمس وعشرين سنة. تقضي هذه القراءة بالاعتماد على مقدِّمة الأعداد العشرين الأولى باعتبارها بيانات لدخول قرنٍ جديد وألفية جديدة، وهي بيانات تلخِّص في الواقع نظرة المجلَّة إلى العالم الثَّقافي والكوني بمفهومه الأوسع. ولعلَّ دخول () هذه الألفية بأعدادها العشرين إنَّما لا يمثِّل في الواقع الدخول نفسه للمثقف العماني والعربي والعالمي فحسب وإنَّما أيضًا خروج هؤلاء وخروجها من ألفية أخرى اجتاحها الكثير من الألم والقسوة والتَّساؤلات، فتكون المجلَّة بذلك جسرا بين الأزمنة والأمكنة في أكثر تحوُّلاتها حساسيَّةً، بين التَّساؤل والبحث عن الأجوبة في أصفى تجليَّاتها باليقين، وكذلك بين الوجود والانتفاء. على هذا النَّحو، يأتي العدد التاسع عشر الصادر سنة 1999 ليلخِّص هذا الانتقال المخيف بقول الشاعر سيف الرحبي في مقدِّمة بعنوان شظايا عام جديد: «… بعد عام فقط ستودع البشرية الألفية الثانية، القرن العشرين بعيون فاغرة ومفتوحة إلى آخرها: كم كانت عنيفة وشاسعة تلك المجزرة. تودِّع القرن العشرين بأياد صفر وأقدام تجرجر أثقالها في الصحراء. عام آخر وصرير الساعة يرمي بها إلى مجهول آخر لا يتبدى من شعاعه الأول إلا نذر كارثة أخرى (…) مضى القرن مثقلا بصدوق روحه الكبيرة كأنما لم يخض مغامراته العقلية الكبرى إلا على جثة الضحية الأكبر: الروح التي مُسِخَت أيَّما مُسُوخٍ وسط دخان المذابح والنهب والاقتلاعات التي تحار آلهة الأولمب في إحصائها وجدولتها».
بهذا الشَّكل، تمضي مجلَّة () في مقدِّمة هذه الألفية الجديدة في توثيق مرثيةٍ للتَّحولات وفي البحث عن إنجاز عربيٍّ ممكنٍ داخلها. وبهذا الشَّكل أيضا، سنقوم – في هذا المقال- بإلقاء الضَّوء على ثلاث نقاط من بين نقاط كثيرة تناولتها مجلَّة ()، تكون مثالا بيِّنًا على توثيق سبيل المشروع الحضاري وكيفيَّة الإنجاز، وتتمثَّل هذه النِّقاط فيما يلي: المؤشِّرات الصحيحة للمجلَّة، تناول مفهوم الصِّراع، وطرح مسألة النُّكوص الحضاري بما فيه من مغالبة للعولمة ومن مشروع للَّتنوير.
1 – ، المؤشِّر الصحيح:
إذا كان الجذر اللغوي لمجلَّة ()، فضلا عن كونه أيضا ما تشكَّلَ عليه قديمًا اسم مدينة عمانيَّة، يفيد في معناه الوثبان على الشَّيء وفي لغة أخرى الوثبان إلى الأعلى، فإنَّه بهذا الاصطلاح القديم قد يكون لمن اختار لها هذا الاسم كلَّ الحق، فلقد وثبت مجلة () على العالم الأدبي في السَّاحة الثقافية العربيَّة برمَّته واحتلَّت واجهة الاعلام الأدبي بشكلٍ واسع، أمَّا إذا كان في جذرها ما يفيد معنى الولع فإنَّ لهذا المعنى أيضا رسومه المنقوشة عليه وملامحه المطبوعة فيه.
كلَّ الإشارات كانت تدلُّ على نجاح بدءًا من عددها الأول، وهذا ما عبَّرت عنه آنذاك المجلات والصُّحف نفسُها باعتبارها خبيرة بالواقع الإعلامي لقطاع الثقافة. فقد جاء في البيان الإماراتي أنَّها بمحتواها وموضوعاتها تجاوزت القطرية والحدود الجغرافية لعمان ومنطقة الخليج العربي، كما جاء في تشرين السُّوريَّة أنَّها جسر ثقافي يتصل ويتواصل لتحقيق وتوصيل الإبداع بشمولية ما تتطرق اليه، وجاء في القدس العربي أنَّها تطمح – بكونها أوَّل مجلة ثقافية من هذا الطراز في عُمان- بأن تلعب دورا نشطا في ساحة الثقافة العربية في منطقة الخليج وخارجها. كما جاء في الرَّاية القطريَّة عنها قولها: «الخليج ليس نفطا فقط، وإنما أصالة وتراث وتاريخ موغل في الفكر والحضارة الانسانية. فالمجلة أعطت منذ العدد الأول انطباعا حسنا للقارئ، فهي لكلِّ العرب من مشارق الأرض لمغاربها. فالمكتبة العربية كانت بحاجة ماسة إلى مجلة فصلية متميزة في قيمة ومستوى .
كما نتوسَّم هذا الطٌّموح أيضا في مجلَّة الشُّروق الإماراتيَّة التـي عبَّرت عــن ذلك بقولهـــا: «وتجـــيء «» حلقة وصل بين الثقافة العربية بالمعنى الأخصب للكلمة، والثقافة العُمانية التي تعرف ازدهارا ملحوظا منذ بدأ جيل جديد من الشعراء والقصاصين والنقاد يفرض نفسه على الساحة خليجيا وعربيا، مدفوعا بالسياسة الرسمية الحكيمة القائمة على مد الجسور بين السلطة وأهل الثقافة. والعدد الأول من «» يبدو طموحا على مستويات عدة، لعل أبرزها النوعية الفنية الراقية التي تفتقر اليها عادة مثل هذه المجلات (دور الإخراج)، والمكانة التي تحتلها الصورة واللوحة والجانب البصري بشكل عام. هناك أيضا تنوع المواضيع من ترجمة وكتابة نقدية وتحليل تاريخي ونصوص إبداعية»، أما دريدة الوسط اللندنيَّة فقد كتبت أنَّ العدد الأوَّل من مجلة الفصلية الثقافية يحمل في ذاته أكثر من هاجس فكري وثقافي وأدبي شديد الحضور على الساحة الثقافية وشديد الأهمية والإلحاح أيضا.
كثيرون أيضا هم النُّقاد والأدباء والشعراء ممن يمتلكون الحدس قد توسَّموا، من جهة أخرى، في مجلة النَّجاح، نقرأ من بينهم للشاعر العراقي سعدي يوسف الذي يقول: لقد أعجبت بالمجلة، مواد واخراجا، وأعتقد أن العدد الاول يشكل منطلقا جيدا لمستوى الأعداد المقبلة.
أمَّا رئيس التحرير سيف الرَّحبي فسيضع المجلَّة -في عددها الثَّاني- على سكَّة طريقها الصَّحيح بعد استقراء شامل لردود الأفعال المتباينة التي صدرت بخصوص مجلَّة ، وسيدفع سيف الرَّحبي بسفينتها وسط أمواج النَّقد الإعلامي العاتية لتشقَّ سبيلها بكلِّ ثقة وطموح لائقين بها. كان ذلك بعد أن ألحق مجلَّة – في بيان هذا العدد- بمصاف التَّحديَّات الرَّاهنة التي لا ينبغي أن تنزل حضيضا، أو ترضى بأفق مسطَّحٍ كما يرضى بمناكب الأرض من يمشي عليها، إنَّما في زمن انفجار المفاهيم، يجدر بمجلَّة أن تمضي قدُمًا في طرح فلسفة مختلفة وجريئة. يقول سيف الرَّحبي: «وليس من التَّهويل في شيء إذا قلنا أن إصدار مجلة ثقافية بطموح يتوسَّل الجديَّة والإبداع والتَّنوير هو دخول في مغامرة على نحو من الأنحاء، مغامرة البحث والسفر خارج المألوف والمنمَّط والمستهلك، وهو ما تعكسه ردود الأفعال المتباينة تجاه المجلة منذ عددها الأول؛ ردود أفعال من قِبَلِ كُتَّابٍ ومؤسسات وصحافة ومن فئات مختلفة تتراوح بين الاحتفاء وهو الغالب وبين النَّقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي اليه ونستفيد منه، وبين الهجوم الواعي لأهدافه، والهجوم الجاهل والعدائي، حيث أن هناك دائما رأيا مسبقا ونمذجة عمياء لا سبيل إلى نقضها، مع غضِّ النظر عن المجلة وأهميتها ومستواها. ومثل هذا الدور التنويري والتحديثي، في مناخ شتى، رغم كونه أصبح بداهة، تظل بداهةً متجدِّدة السِّجال والمراجع والمعطيات، ضمن شروط واقع خاص، ونظل بحاجة للرجوع اليها والنقاش حولها ربما في الوطن العربي قاطبة. ما أحوجنا للرُّجوع إلى الكثير من البديهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السِّياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها ويغيرها الى العطب والهلاك ما أحوجنا إلى ممارسة التَّنوير والإبداع ضمن شروط واقع موسوم دائما من قبل الآخرين وحتى من قبل أبناء جلدتنا وقيمنا وهمومنا، ظلما، بأنه واقع نفط وبذخ وليس واقع إبداع وابتكار».
وفي الواقع، يُصادف هذا المشروع مرحلةً كان فيها القرن العشرون يتوارى سريعا، ويحلُّ محلَّه قرنٌ جديد؛ مرحلةً تجلَّت بخروج بلادٍ عربيَّة من الحرب، ودخول أخرى إليه؛ من نهاية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1988، إلى نهاية غزو الكويت وإلى نهاية حرب الخليج في التسعينات؛ كان المثقَّف اللبناني حينها يستعيد عافيته بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، بينما كان المثقَّف الجزائري يعيش بدايات العشرية السَّوداء التي اغتيل فيها المثقَّفون بالدرجة الأولى في التِّسعينات أيضا.
في هذا العالم المنهار والمتلاشي، انبعثت مجلة لإنقاذ المخطوطات الحديثة للمثقف العربي في شكله اللٌّغوي المختلف والإثني المتعدِّد، مثلما تنقذ الحضارات السَّعيدة بنفسها مخطوطاتها القديمة. استفادَتُها من العوالم الالكترونيَّة قلَّص المسافة بينها وبين الكاتب، اتِّساع نظرتها للكتابة بشكل أرحب لم يقتصر على الأسماء بقدر ما كان محتفيا بمن لا اسم لها، كأنَّ المجلَّة كانت ترعى في ذلك تحدِّيًا حضاريًّا يحاول إنقاذ ما كان قاب قوسين أو أدنى من القهقرى، فالأسماء إنَّما تكون بقدر ما تنجزه المؤسَّسات الفاعلة من رعاية لها واعتناء بها. وليس ذلك حتمًا إلا من باب المساهمة في بناء أجيال متفاعلة يكون بيدها مستقبلاً شوكة الصَّنيع وإمرةُ الإنجاز، لاسيما والعالم كان حينها على أهبة الدخول إلى قرن جديد. يتبدَّى هذا الأمر جليًّا في السؤال الذي طُرِح في بيان مقدمة العدد الخامس الصادر سنة 1996، وهو كالتالي: «يتساءل العربي الآن، بعد أن أوشك قرن انكساره الحديث على الانفراط: بأي إنجاز حضاري معاصر سيدخل القرن الحادي والعشرين الذي نقف على عتبته وجها لوجه ؟».
إنَّ هذا السؤال في حدِّ ذاته يؤدِّي بي كمتابع للمجلَّة نحو يقين لا مجال في أن يخالطه شكٌ، وهو يقين الذَّات في وجود مشبوه بالإلغاء، فكما يقول رئيس التَّحرير: يستمر السجال (الجدل الثقافي العربي) ويتخذ أشكالا متفاوتة من علوِّ النَّبرة وخفرتها ويدفع أحيانا إلى نوع من أنواع حدَّة الخطاب وعنفه، وهو في كل الأحوال دليل حياة الثقافة، أي ثقافة، شرط ألا يسقط في فخاخ المؤامرات ورغبة تحطيم الآخر وإلغائه… وهي مظاهر نشاهدها بكثرة في أوساط الثقافة العربية الواهنة، وكأنما الذات المثقفة والمهزومة أمام تاريخ بالغ القسوة لا تجد متنفسا وتعويضا إلا في تدمير نفسها وشبيهها..»
2 – الصراعات وإدارتها ثقافيًّا:
ولعلَّ قراءة رئيس التَّحرير لهذا الصِّراع ليس قراءة إعلاميٍّ فحسب، وإنَّما هي قراءة كاتب مفعمٍ ببصيرة الشُّعراء؛ قراءة من يبحث عن أماكن للضَّوء تستضيء بها الأجيال عبر مرِّ التَّاريخ وتبتعد بها قدر ما تستطيع عن العتمة واستبداداتها.
لقد أتيح لي -وأنا لا أزال في طور الماجستير أكابد محنة الاطروحات الجامعية بالجزائر نهاية الألفية وبداية قرينتها- أن أنشر نصوصي الشعرية الأولى. كانت الأصوليَّة وأنفاسها تتأرجح تنهُّدًا وخمودًا بينما كنَّا كعصبة من الفتيان نبحث عن متنفَّسٍ آخر لنصوصنا خارج المكان، كانت الأصوليَّة تربض بثقلها الاعمى على صدور المثقفِّين الذين -لحسن حظِّهم- لم تنفلت من عقال الوجود حياتُهم، بينما كمبتدئين، كنَّا نتابع ظلَّ الطَّرائد فينا باحثين عن مأمن لارتدادها المشتعل. كانت () ملجأ نصوص بعضنا ومنفاها بما يمثِّل لنا فيها معنى الأقاصي مكانًا والمدَى والمنتأى الأبعد. إنَّ قراءة البيانات الأولى للشاعر سيف الرحبي يحيل تاريخيًّا إلى هذه الظَّاهرة بالتَّحديد، ظاهرة توفير الفضاء للوجود الأدبي الرَّحب خارج أتون الصراعات الثقافيَّة التي أنتجتها الحروب، بحيث كانت المجلة تأخذ موقعا استراتيجيًّا يجعلها تنأى بنفسها عن الجدليات المصابة بالوهم والزِّيف. فكان لذلك أن انتأى إليها منَّا كريم اللُّغة وتعزَّل فيها من خافَ قِلَى المَآسي العربيَّة.
يحلُّ من بين محاور هذا الصِّراع الذي تميَّز به تاريخ البشرية، «…صراع الذاكرة بين من يريدون محوها وتدميرها لصالح معرفة، أو بالأحرى، لصالح وهم معرفي لا نسب له ولا جذور ولا تراب… وعلى هذا الأساس -يقول سيف الرَّحبي- تمَّت إبادة شعوب وقيم ومجتمعات حيث قذف بها خارج ذاكرتها وتاريخها وخارج زمانها. فالحفاظ على الذاكرة وأرومتها ونسبها المتناسل عبر الأجيال، هو حفاظ على قوام الفرد والمجتمع وحفاظ على السيرورة الطبيعية لتاريخ الإنسان. وما التراث والتحديث سوى مظهرين ينضويان بالضرورة في هذا السياق وخارج أيِّ جدل عقيم، لصالح الحفاظ والاحتماء بالذاكرة في صراعها الأبدي..
يأخذ الصِّراع أبعادا أخرى داخل الثقافة نفسها، فهناك صراع الحقيقة والوهم، صراع الفرد والجماعة، صراع الحداثة والتَّقليد الذي يصفه سيف الرحبي بالوهم التحديثي والتَّقليدي معا. فضمنَ العدد الثَّامن مثلا، يشير الشَّاعر إلى ظاهرة الانحياز لوهم التحديث عازفين أصحابُها ومتبرمين من كل ما يمت الى الجذور والماضي بحجة التخلف عن ركب العصر ومظاهره. من هنا نشاهد ذلك الجهل الفاضح بتراث الأجداد وانجازاتهم الحقيقية وأنماط معيشهم، حتى عند كتاب ومثقفين بتوقيع الادعاء والاشاعة. .»
وتستطرد بيانات أخرى في قراءة تاريخيَّة لمشكل الصِّراع الثَّقافي الذي لا يكمن في الثقافة ذاتها، وإنَّما في مؤسسات تصنعها عن قصد أو عن غير قصد، نقرأ مثلا في بيان العدد السابع عشر الذي صدر في يناير عام 1999 قوله: فالخصام يختاره ويخطط له أناس لا تنطبق عليهم صفة “الثقافة” بأي معنى أو مقاربة لهذه الكلمة التي سامها كل سائم مثل بقية القيم النبيلة التي يجترحها الكائن في كل الأزمان بعد مكابدات وارتطامات لا حدود لها. والخصام في هذه الحالة أيضا يأتي كتعويض عن تحقق كياني وإبداعي مفتقد بالضرورة، ويمكن لآلية الصحافة بقنواتها المختلفة، التي أصبحت من الانتشار والضخامة أن تماهي بين كتابات مستنقعية وبين الكتابة الحقيقية التي تشكل قدر الكائن ومأساويته وتميزه أو على الأقل توهم بهذا الالتباس اللا إبداعي.
3 – النُّكوص الحضاري، مغالبة العولمة ومشروع التنوير:
إن أهم أسباب ما وصل إليه العالم العربي من كوارث وحروب هو النكوص الحضاري الذي وصل به إلى بؤرة الانسداد، ولا ينبغي -بالضرورة وفي هذا الإطار- أن نهمل دور العولمة في تعقيد هذا الانسداد، ومن بين أسباب هذا التعقيد الواقع الثقافي الذي وصلت إليه الشعوب العربيَّة والذي صار يتمثَّل بالبذخ المتباهى به، والاستهلاك السلبي، حتى في غياب القدرة الشرائيَّة لدى الأغلبية، كما يقول الشاعر سيف الرَّحبي في بيان عدد المجلة السادس، والذي يأخذ الوجود لديها بعده المسخي لينحدر إلى درجة في الوهم الاستعراضي الكاذب.
سيكون للمجلَّة دورها الأساسي أيضا في المساهمة في بعث الثقافة العربيَّة على أصولها الانسانية الأولى. ففي العدد ما قبل الأخير من الألفية المنقضية، في عدد يوليو 1999، نستشفُّ دورا رياديًّا تحاول من خلاله مجلة «» أن تكون منبرا ثقافيا ومعرفيا متعددا يجمع الاختلاف والاتفاق من منطلق فضائها العماني أوَّلا وهو الضَّارب في جغرافيات روحية ومكانية مختلفة، والعربي ثانيًا. إنَّ مركز ثقل () ومنطلقها الأساسي هو ذلك التاريخ العريق الذي تملكه سلطنة عمان والذي يضمُّ حركية تتَّسمُ بطبيعتها الحوارية والجدلية مع الخصم والصديق وصاحب الرأي. فالثقافة العمانية تنبني على خلفية مرنة تفضي نحو أفق اجتهاد وحوار وتجديد على حدٍّ تعبير سيف الرَّحبي؛ مرونة الماضي في وفرة النصوص التراثية التي لا تعطي غيرها الحق بامتلاكها المطلق ولا لأي تأويل كان من باب الوصاية واحتكار الحقيقة.
ولا تمثِّل مجلَّة ، في الواقع، فضاء لمقاومة المثقَّف العماني للمكان والزَّمان فحسب، وإنَّما أيضا سندا للمثقف العربي في مواجهة الصَّنمية والعبثية في العالم. إنَّها تكريسٌ للفكر التَّعددي الذي يثابر من أجل مداومة الماضي المعرفي الثَّري في ثوبٍ ناضجٍ ورؤيا متأمِّلة. هي أيضا استمرار في فرض نوع من أنواع المقاومة الثَّقافية للهيمنة الامريكيَّة التِّي بسطت نفوذها على جميع الثقافات، والتي تعمل على استئصال مكوِّناتها الأساسية. فـ»الحضارة الغربية-الامريكية، ربما هي أول حضارة في تاريخ البشر، استطاعت توحيد العالم وفق نمط تعبير وسلوك ومزاج، وبسبب اندلاع قوة العقل العاتية في كل المجالات، فليس ثمة في الكرة الأرضية من سلم من مسِّ هذه الحضارة (…). حضارة ربطت إرادة القوة والهيمنة بإرادة المعرفة وتجسدها بشكل لا نظير له، فتحقق لها بأشكال متفاوتة ذلك الاستئصال لذاكرات وشعوب وقوى كانت بالأمس ندًّا قويًّا وباطشا».
وبالنِّسبة لمجلَّة ، فإنَّ هذه المقاومة لا تكمن في تعميق الصلَّة بالتُّراث العربي والإسلامي، فهذا التُّراث صار أكثر جلاءً وعمقا من خلال ما قدَّمته الدِّراسات الغربيَّة التِّي توفِّر المناهج والسُّبل إلى ذلك، فكم من مخطوطٍ غربيٍّ اكتشفناهُ بفضل هذه الدِّراسات؟ إنَّما لا بدَّ أن يعود مآل الأمر في هذه المقاومة إلى وجوب اتِّساع رقعتها خارج مجال النُّخبة العربية المثقفة، وذلك بأن يُمُكَّن الفرد منها، وهذا ما يبدو في بيان العدد الثَّامن حيث تشير المجلة إلى دور المجلَّة الواعية في ذلك: «شهدت محاولات التنوير والتحديث جهودا مضنية وصلت الى مستوى الاستشهاد الفكري والجسدي. لكن المفصل القاتل في هذه المرحلة، أن تلك الجهود والمحاولات لترشيد الحاضر المتخلف وتنويره، لم تؤت أي تغييرات جذرية في بنيات الواقع والتفكير. وبقيت (الجهود) في إطار النخب العربية المثقفة ومجالاتها وأحلامها، ولم تذهب أبعد من سطور هذه النخب، مما أدى – وربما من نتائجه الأساسية – الى هذه الهوة الحضارية التي نعيش ونشاهد. هذه الهوة التي تفغر فاها، أكثر، يوما بعد يوم، بين قيم التحديث والابتكار والعصرنة بكل أوجهها، وبين الأرضية الاجتماعية المفعمة بقيم التخلف والاتكالية، المفعمة بهيمنة الماضي وروح الأصوات والخرافات في مجتمعات شبه ريعية، غير منتجة في مجملها، خلقت إشكاليات اجتماعية ونفسية في سلوك الأفراد والجماعات، وفي العلاقات بين البشر، وبينهم وبين ما يستهلكون ويستخدمون في طرق حياتهم، وخلقت أمراضا تستعصى على تشخيص أعتى علماء النفس والأعصاب. خاصة في المجتمعات التي شهدت تحولات صاعقة في نمط حياتها ومعيشها وتفكيرها من غير تهيئة واستعداد، تحولات مؤلمة في فصامها بين الوقائع والقيم، بين الثوابت والمتغيرات. لم يعرف التاريخ البشري مثل هذه التحولات المفاجئة، كالتي اقتحمت الحياة والتفكير دفعة واحدة، واحتلت، حتى عند الموغلين في العداء لها، المساحة كاملة بلمعان حداثتها وتقنياتها الخلابة، وسط بشر، لم يبذلوا أي جهد في هذا الاتجاه، بل خضعوا طواعية لصياغة هذا المصير الحتمي من غير فعالية إبداعية، تؤرخ للمشاركة في صياغته وفحواه».
في خاتمة هذا المقال، بودِّي الإشارة إلى أنَّ وصول العالم العربي لهذه الانهيارات الشَّاملة كان قدراً محتوماً، وذلك نظرا لغياب استراتيجيَّة واضحة في صنع مشاريع ثقافيَّة كالتي صنعت مجلَّة ، وهي المجلَّة نفسها التي ما فتئت تدقُّ جرس الإنذار وتحذِّر من مغبَّة الوقوع في الحروب الطَّائفيَّة والمدنيَّة التي يؤدِّي فيها الصِّراع الثقافي مَهامَّه كلُّها. ولقد كنَّا أشرنا في بداية هذا المقال إلى تلك المؤشِّرات التي رسمها الشَّاعر سيف الرحبي من خلال الأعداد الأولى، وتبيَّن بعد معاينتنا جزءًا منها -في هذا المقال- أنَّ الظروف التي يؤول بسببها أيُّ بلدٍ في العالم إلى الحروب قد توفَّرت بالقدر اللازم في العالم العربي. فبعد قرابة خمس وعشرين سنة من صدور العدد الأوَّل من المجلَّة، لا زلنا نشهد غياب تأسيسٍ حقيقيٍّ لحوار جامعٍ بين المثقَّفين العرب الذي يعتبَرُ أقدَرَ الحوارات بناءً يكون بوسعه تجنيبَ العالم العربي والإسلامي ما يعيشُه من كوارث وأزمات، وهو الحوار الذي نادت به مجلَّة ودعت إليه.