* عتبة: «يهتم التأويل بمستويات المعنى المتعددة».
ر.كيرني.
* عتبة: «إننا «لا نفهم أي شيء» ما دمنا لم نمسك بمعناه أو لم ندرك أهمته بعد.»
* عتبة: «أحيانا يطيب لي أن أقول إن قراءة كتاب ما هي النظر إلى مؤلِّفِهِ كأنه قد مات، وكأن الكتاب عمل بعديٌّ. وبالفعل، تصبح العلاقة مع الكتاب تامة وثابتة بشكل ما، عندما يموت الكاتب، آنئذ لا يمكن لهذا الأخير أبدا أن يجيب، وما يبقى هو قراءة عمله فقط.».
بول ريكور.
تعرف «التأويلية» على أنها «فن وعلم التأويل»(1)، فن لأنها تقوم على التفسير الذاتي والجمالي للنصوص، وعلم لأنها طريقة ومنهجية ونظرية نقدية في تحليل النصوص وتحديد معانيها. وتعرف بأنها قديمة قدم الأديان والأساطير والفلسفة. يدل هذا، أيضا على أن «التأويلية» وليدة شروط اجتماعية وثقافية تحولت فيها الجماعات من مجموعات بسيطة إلى مجتمعات معقدة، يصعب فيها «التواصل» و«التخاطب» بيسر، ويصعب فيها «التفاهم» بسلاسة، ويصعب على أفرادها «التعامل» فيما بينهم بدون «وسيط» أو «وسائط».
إن الحاجة إلى التأويل، إذن مرتبطة بالحاجة إلى فهم المعاني المقصودة من الخطاب(ونعني به كل قول مكتوب أو شفهي أو صُوري)، وإلى تواصل أفراد المجموعة بلغة موحدة بسيطة واضحة لا تحتمل غير الحقيقة والمجازات القريبة(ذات الإحالة الواقعية التي تحاكي الحقيقة العيانية)، وإلى تصديق(croire) الحوادث والظواهر والخوارق والأفعال المروية في حينها أو المنقولة عبر فترات بعيدة أو إلى إدراك جوهر الأشياء، لا ظلالها؛ أي إدراك الشيء في ذاته لا من خلال بعضه أو ظاهره مثلا. يحق لنا أن نتساءل: ما هو الشيء الذي صير البسيط معقَّدا؟ هل هو الانتقال من المجموعات إلى المجتمع؟ هل هو انقسام اللسان في بابل كما يقول عبدالفتاح كليطو(2)؟ ما الذي قسم المعنى وعدده؟ وما معنى «حقيقة» و»جوهر» الشيء؟ وهل النصوص السردية أو التاريخية وحتى المقدسة تحتمل بعدا دلاليا واحدا أوحد؟ من المسؤول عن انحراف المعاني أو تعدد مستوياتها؟ ما الدور الذي تلعبه ثقافة المؤوِّل ووضعيته الاجتماعية وقصديته(ميوله ورغباته وغاياته وأهدافه الفكرية/ الإيديولوجية) في بناء المعنى وتدميره في آن؟ وهل يمكن أن تلعب اللغة(المكتوبة أو الشفهية) دورا/أدوارا في انحراف المعنى وسوء الفهم وانحسار التواصل، والدعوة إلى استدعاء وسائط أخرى للتفاهم والتقارب؟ وهل يمكن لاختلاف لغة التواصل أن يكون عائقا حقيقيا أمام «التواصل» و«التفاهم» والتخفيف من حدة «الصراع» و»العنف اللفظي»؟
يبدو الجواب كامنا في كل تلك التساؤلات، لأن الهوة بين المرجع(الحقيقة والواقع العيني الملموس) والمفهوم(المتخيل والصورة اللفظية والذهنية) اتسعت بين المؤلف والنص والمتلقي واللغة، وأن التخاطب والتفاهم لم يعودا قادرين على تحقيق التواصل، وأن الوسيط(الإشارات والرموز والصور والألفاظ والنصوص المختلفة الأنواع والأجناس) في حاجة إلى وسيط آخر حتى يتحقق الفهم. إن مدار الخلاف مرتبط ليس فقط بصيغة التخاطب بل أيضا بالمعنى المقصود والمرغوب توصيله عبر كل أشكال الخطاب والتي يهمنا منها في هذه الدراسة خطاب السرد والوصف المكتوب. إن البحث في المعنى المضمر يحتاج إلى تفسير، أي إلى إنتاج قول على قول، والقول المؤَّول سيصبح في حاجة بدوره إلى تأويلِ ظاهره اللفظي(أو الرمزي أو صوري) صياغة وتركيبا، ثم إلى تأويل مضاعف لمعنى المعنى. مما يجعل المرجعية الأولى تتوارى خلف التأويلات المضاعفة. وهي تأويلات جزئية أو تامة، وتأويلات ضدية أو مناقضة. ويعرف بول ريكور التأويل عند أرسطو بالقول الآتي: «قول شيء(ما) عن شيء(ما)، بالمعنى التام والقوي للكلمة، هو التأويل»(3) ص(32). إن مفهوم التأويل هنا مرتبط بالبعد اللفظي، باللسان، أي باللغة منطوقة ومكتوبة. وهو ما يخالف قول سقراط:» الكلمات توحي بالأشياء»(4) أي أن اللفظ لا يتضمن المعنى بل يدل على حقيقته وعلى مقصدية المتلفظ، أو كما ورد نص الاستشهاد في كتاب «الحقيقة النقدية» بالصيغة الآتية:» والكلمات، كما يقول سقراط، لها القدرة على الكشف مثلما لهاالقدرة على الإخفاء، ويمكن للكلام التعبير عن الأشياء جميعا، كما يمكن أن يحول الأشياء من طريق لآخر.»(5) ص(10.9). ويبين ريتشارد كيرني كيف تبنى بول ريكور هذا القول وطوره ليبرز قوة الخيال في الإبداع في قوله عميق الآتي:»بقدر ما يهتم التأويل بمستويات المعنى المتعددة بقدر ما يؤكد ذلك على أنه لم يعد من الملائم فهم الصور بلغة ظهورها المباشر أمام الوعي. فاستبدال نموذج الصورة البصري بالنموذج الكلامي يجعل ريكور يؤكد على دور الخيال الأكثر شعرية؛ إنها القدرة على قول شيء ما بلغة أخرى أو أن تقول أشياء متعددة في الوقت نفسه؛ وبذلك تبدع شيئا جديدا.»(6) ص(62). لكن المميز في هذا القول هو استعمال بول ريكور للفظ «القدرة» وهو ما لم يرد بوضوح في قول أرسطو. والقدرة فعل إرادي وواع يتطلب «الكفاية» من المتكلم، كإتقان لغة الكلام أو الكتابة وامتلاك ناصيتها، والقدرة على التخيل والابتكار وخلق الجديد الذي يخصب اللغة وتطورها، والأهم امتلاك الموقف الشخصي والنقدي من الأشياء والظواهر ومن الذات والعالم كما يقال عادة.
ويذهب بول ريكور في كتابه «التأويل، بحوث حول فرويد» في تفسيره لمفهوم «التأويل» عند أرسطو إلى المستوى الثاني المتصل بالنصوص المقدسة بدل الألفاظ المعزولة المنفصلة لتصبح عبارة «قول شيء عن شيء» عبارة أخرى مختلفة، هي:»التصديق لأجل الفهم، والفهم لأجل التصديق» ويضيف:» هذا هو القول المأثور، وهو «دائرة الهيرمينوطيقا(7)»…»(8). ص(38).
إن الفارق واضح من خلال العبارتين، فالأولى «قول شيء عن شيء» مرتبطة في تفسير بول ريكور بالتأويل اللفظي(المعجمي) أو الفيلولوجي(فقه اللغة)، بينما العبارة الثانية تهتم بالنص، وهو بنية مركبة ومعقدة، وهو نسيج من المعاني المركبة والمعقدة كذلك، التي تحتاج إلى «التفسير» وإلى «التحليل». والتفسير مستوى تأويلي يقوم «بدراسة علاقات [النص] الداخلية وتحديد بنياته الخاصة»(9) ص(19)، بل جعل بول ريكور التفسير مرتبطا بالعلوم الطبيعية في قوله: «يجد التفسير ميدان تطبيقه التبادلي في العلوم الطبيعية.»(10) ص(118)، ويضيف: «والمعادل المناسب للتفسير هو الطبيعة مفهومة على أنها الأفق المشترك للوقائع، والقوانين والنظريات، والفرضيات وعمليات التحقق والاستنتاجات.»(11) ص(119)، وأبعد من ذلك جعل بول ريكور التفسير وَسَطًا بين «الفهم» و»الاستيعاب» ليصل في تحليل الخطاب إلى مفهومي «التخمين» و»التملك»، كل ذلك يبين أن بول ريكور يقرن «التفسير» بحقيقة العلمية والنهجية بينما «الفهم» فيجد «ميدان تطبيقه الأصيل في العلوم الإنسانية(أو علوم الروح، كما يدعوها الألمان) حيث للعلم علاقة بتجارب ذوات أخرى أو عقول أخرى مشابهة لعقولنا وذواتنا.»(12) ص(119)؛ أي أن التفسير علمي والفهم ذاتي. أما التحليل فيبحث عن المرجعيات الخارجية وعن الأسباب والمقاصد التي يستند عليها جنس النص ويقيس عليها المؤوِّلُ وثوقية نع النص ومعانيه المقصود تبليغها. لكن تفسير المعاني الغامضة والملتبسة والمتعددة الإحالات في النصوص المقدسة سيصبح غير كاف لتأويل محتوى النصوص السردية المعاصرة، أي أن القراءة الفيلولوجية والمرجعية ذات الأبعاد الرمزية والأبعاد الثقافية المقدسة، والنص النموذج والمقياس الثابت والوحيد والأصل لن ينفعوا في معرفة المعاني المركبة والمعاني المضاعفة التي تولدها «مخيلة» الكاتب المعاصر، فالنص السردي الحديث يستند إلى مرجعيات ثقافية متنوعة ومختلفة، ويستمد موارده(رموزه وإشاراته وإحالاته) من حقول معرفية كثيرة(شفهية ومكتوبة ومصورة، واقعية وافتراضية) محلية وأجنبية، بالإضافة إلى تنوع واختلاف المقاصد والوظائف الاجتماعية التي يؤديها النص السردي. أي تأثره وتأثيره في محيطه السياسي والاجتماعي والثقافي، كما أن النص السردي الحديث، في الغالب، يميل إلى تدمير النموذج الأصل، وإلى اختراق القواعد والنظم المتحكمة في الجنس الأدبي وأنواعه النصية، بل يذهب المؤلفون الجدد إلى إنكار ليس النص الأصل وحده بل إلى إنكار وجود أي نموذج خالص يقاس عليه بحكم تقدم الزمن، والتباعد، واختلاف الشروط الموضوعية والذاتية المنتجة للنصوص السردية الحديثة. من ثمة يمكن التأكيد هنا على انقسام «التأويلية» العربية إلى قسمين كبيرين: قسم يبحث دون كلل للنص السردي العربي عن جذور في النص الأصل العربي(القرآن الكريم، الطرائف والحكايات في كتب التفسير، وفي كتب الأخبار…) وقسم يثبت تبعية النص السردي العربي للنص الغربي الأصل الذي يتشبه به ويحاكيه، وقد تناسى أصحاب هذا المذهب أن الشروط التاريخية والثقافية المحلية والدولية والشروط الذاتية لها دور في تطوير الجنس الأدبي، ولها دور في تغيير بنية النص السردي مما سيؤثر بالضرورة على تأويل النص السردي حسب مقصدية الكاتب وحسب ذائقة المتلقي.
إن النص السردي الحديث يعتمد على «الذاتية» بالمعنى الواسع للكلمة، ضدا على الموضوعية العلمية التي تمتاز بها العلوم الحقة، كما قال روبرت سي هولب عن جادامير:» إن التأويل من وجهة نظر جادامير مرتبط عموما بمواجهة المعيار العلمي المهيمن للفكر.»(13) ص(79)، أي(أنا) الكاتب ومعرفته الثقافية وخبرته وتجربته ومواقفه من الكتابة والسرد والذات والعالم، في تفاعلها الإيجابي أو السلبي مع محيطها. وهو ما يؤكده شلايرماخر في المجتزأ الآتي: «أن العملية الإبداعية، في تفردها وفي ذاتيتها الجوهريتين، ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة الداخلية والخارجية للمبدع، ومن ثم فإن النص، باعتباره نتاجا إبداعيا، لن يكون إلا تجليا لهذه الحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المهم في الممارسة الهرمينوطيقية ليس تفسير المقاطع النصية فحسب، بل وإدراك النص في أصله أو منبعه، وفي بزوغه من الحياة الفردية للمؤلف.»(14) ص(26).
ويمكننا في هذا المقام إدراج إضافة مشيل فوكو في حقل «التأويلية» والمتمثلة في «هيرمينوطيقا الذات»(Herméneutique du sujet)(15) من أجل معرفة الذات أو قلق الذات(* e souci de soi). إنه القلق المعرفي والانفعال النفسي اللذين يصاحبان الكتابة، ويطلق عليه الكتَّابُ «قلق الكتابة»، ويعبر عنه بالكتاب القادم، أي الكتاب الذي لن يكتبه صاحبه وسيظل يسعى وراءه حتى حدود اللحد. إن الكاتب الموهوب يحفزه قلق الذات وقلق أن يوجد في مرحلة زمنية وتاريخية ما، وفي مكان بعينه. فالزمان والمكان هما شرطا الوجود الإنساني، ولهما تأثير كبير على تشكيل هوية الكائن، ولهما دور في اختلاف التجارب الذاتية، وفي تحديد الاختيارات والمواقف، وبالتالي تحديد شكل ونمط الكتابة بين كاتب وآخر.
ولغادامر رأي آخر في العمل الأدبي عموما يتجاوز حدود التجربة النفسية والحياتية للمؤلف إلى المعرفة النصية، يقول فيه عبد الكريم شرفي: «إن العمل الأدبي، وأي عمل فني على وجه العموم، لا يهدف، في نظر غادامر، إلى تحقيق المتعة الجمالية فحسب، بل يظهر، وبدرجة أساسية، باعتباره «حاملا للمعرفة» بالمعنى العميق لهذه العبارة. وينجم عن هذا التصور أن عملية الفهم لن تكون مجرد متعة جمالية خالصة، بل ستقوم على نوع من المشاركة في المعرفة التي يحملها النص. ومن جهة أخرى فإن النص الأدبي، باعتباره «معرفة»، ورغم كونه ناجما عن تجربة المبدع الذاتية سوف يستقل عن مبدعه ويمتلك موضوعيته ويصبح وسيطا له ثباته الدائم وديناميته وقوانينه الخاصة، وهذا الوسيط الموضوعي والمحايد إلى حد كبير «هو الذي يجعل عملية الفهم ممكنة، ومتكررة ومفتوحة للأجيال القادمة.»(16) ص(37).
انطلاقا مما سلف، أرى أنه للوصول إلى المعنى المقصود من كل نص سردي معاصر ينبغي إدراك كنه وفهم طبائع ثلاث وسائط كبرى؛
وسيط اللغة الإبداعية: وهي لغة غير بسيطة ولا «تحيل على الأشياء الموجودة» ولا «تقول شيئا عن شيء» فحسب بل تقول الشيء بطرائق مختلفة تتنوع بين محاكاة الشيء في حقيقته العينية، والمحاكاة الساخرة للشيء، ونقيض الشيء أو ضده أو الاقتصار على بعضه أو ما يدل عليه من قرائن لغوية ومصاحبات. كما أن لغة الإبداع قد تكون مختلفة أي غير اللغة الأم وتحتاج هنا إلى مترجمين ينقلون لغة إلى أخرى بدرجات متفاوتة وستكون الصعوبة مضاعفة، أو قد تكون اللغة قديمة فتحتاج بدورها إلى وسيط خارجي يقوم بتدليلها و«تحيينها» حتى تناسب الفترة المنقولة إليها.
وسيط التخيل الأدبي: وقد عرَّفَه علي آيت أوشان وفصل فيه قائلا: «هو قوة نستعيد بها نوعا أو عدة أنواع من الصور والتي قد تكون بصرية أو سمعية أو ذوقية أو شمسية أو لمسية، وتختلف قوة التخيل بين الأشخاص، ووظيفة التخيل الرئيسية والطبيعية هي استعادة الصورة التي يحتاجها العقل في التفكير إلا أن وظيفته لا تقتصر على الاستعادة فقط بل تتعداه إلى الابتكار حيث يقوم التخييل في هذا المستوى بالتفريق بين الصور والمعاني ثم التأليف بينهما على هيئة جديدة لم يدركها الحس من قبل…»(17) ص(87). إن مفهوم التخيل يستدعي مفهوم التخيل الأدبي الذي لا يقوم بدون متخيل أدبي يكون فضاء إبداعيا وحقلا خصبا للتأويل، ولابد لهما من مخيلة خصبة، وهم جميعا من صميم الخيال.
وسيط مرجعيات المؤلف والمتلقي: لأن النص السردي عنصر من عناصر عملية التأويل، وهو الرسالة والخطاب الذي أنتجه المؤلف في شروط ثقافية وسياسية وفكرية واجتماعية معينة، وسيتلقاه القارئ في شروط ثقافية وسياسية وفكرية واجتماعية محايثة لشروط النص والمؤلف أو متأخرة عنها. واختلاف المرجعيات لدى المؤلف والمتلقي يدعو إلى «التأويل» النصي. وفكرة «النص الصامت» ليست حقيقية، وأن النص متفاعل مع محيطه، متجدد مع الزمن، ليس في بنائه ولغته ولكن في معانيه التي «يسقطها» عليه المتلقي لحظة القراءة. ولهذه النتيجة حقيقة هامة متعلقة بتعدد معاني النص، وتعدد القراءات واختلافها.
مراحل تطور «التأويلية»:
أقترح هاهنا بعض المراحل، كما تصورتها، في تطور النظرية «التأويلية»، معتمدا على المكونات الأربعة الأساس في التواصل وطرائقه:
الجدول الأول التوضيحي:
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المكونات/الوظائف الخصائص المميزة
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتكلم/ المؤلِّف؛ منتج القول: كلي المعرفة ومنبعها، منزه عن الخطأ، قصدي القول، ومنتج المعنى والعالم بمستوياته.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الرسالة/ النص؛ حامل القول : حامل محايد للقول، لا تأثير له في القول، ولا دور له في تحديد أو تحريف المعنى، وهو مجرد قناة صماء تنقل المعنى حرفيا.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتلقي/ القارئ؛ مستقبل القول: ناقص المعرفة، وطالبها، غير منزه عن التحريف والالتباس وتعدد مستويات القول وتضارب معانيه.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المؤوِّل/ الوسيط؛ مفسر القول: تام المعرفة بما يتوفر عليه من ثقافة وخبرة ونزاهة وصدق، يدلل المعنى ولا يفسره أو يؤوله.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
يبين الجدول التوضيحي الأول كيف كان المؤوِّلُ يبحث عن «المعنى الإلهي» في النصوص المقدسة، وكيف كان «المؤوِّلُ» يبحث عن المعنى الثابت والجوهري وعن «المعنى الأصلي» الذي لا تشوبه شائبة، لأنه صادر عن ذات كلية المعرفة ومنزهة عن الخطأ، ولأن الذات الكلية منبع الكلام وتعرف «فصل الخطاب» ودرجات المعنى فيه والمقصود من القول، والمقصود بالقول، وإن كان بعض القول الأصلي يتعمد التعقيد والترميز والإشارة، أي إخفاء المعنى عن العامة، وبالتالي فإنه يستدعي وبإلحاح شديد «التأويل». والمعنى الأصلي لا يتأثر بالحوادث وهو قابل لتحول حسب كل زمان ومكان، كما أنه معنى مفهوم لدى مختلف الأمم(خاصتهم من العلماء). إنه معنى أبدي صادر عن ذات مطلقة وأبدية، من ثم يمكن فهم ما جاء عند سعد غراب في قوله:» والتأويل في الأصل هو إرجاع المعنى إلى أوله»(18) ص(7)، أي المعنى الإلهي. وأن النص الذي حمل ذلك المعنى الأصلي نصٌ محايد، بل مطابق للمعنى له، فهو مجرد قناة توصيل تنقل المعنى الجوهري وتحميه وتحفظه من الضياع، ويعرف الجرجاني النص الأصلي(الكلام المقدس) بقوله:» والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحدا. وقيل ما لا يحتمل التأويل.»(19) ص(446). إن النص في نظر «التأويلية» الأولى؛ تأويلية النصوص المقدسة، منزه ولا دور له في تغيير أو تحريف المعنى الجوهري. من ثمة يجب على شخص المؤوِّلِ أن يكون مخالفا تماما لشخص المتلقي ناقص المعرفة، العاجز عن فهم المعنى الأصلي، ولا يدرك كنه القول ولا يفقه شيئا في/من «نظام الخطاب»(20)، وعليه التفقه وامتلاك ثقافة واسعة، وعلم دقيق وخبرة ومعرفة، وأن يتصف بالصدق و(التصديق) والنزاهة حتى يسلس له المعنى وينقله بأمانة إلى أولئك الذين لا يعرفون القول إلا أماني.
الجدول التوضيحي الثاني:
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المكونات/الوظائف / الخصائص المميزة
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتكلم/ المؤلِّف؛ منتج القول:
مبدع المعرفة ومصدرها، غير منزه عن الخطأ، ذاتي في قصد القول، ومنتج المعنى والعالم بمستوياته.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الرسالة/ النص؛ حامل القول:
حامل غير محايد للقول، له تأثير على القول، وله دور في تحديد المعنى، وهو ليس مجرد قناة صماء تنقل المعنى حرفيا.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتلقي/ القارئ؛ مستقبل القول:
خاص المعرفة، ويطلبها لغايات متعددة، غير منزه عن التحريف والالتباس وتعدد مستويات القول وتضارب معانيه.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المؤوِّل/ الوسيط؛ مفسر القول:
تام المعرفة، يتوفر على ثقافة وخبرة وتجربة في الحياة وبلا نزاهة أو صدق، يقترح فهمه الخاص لمستويات المعنى.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
هناك نقلة هائلة وقعت لينتقل الكلام من القدسيِّ إلى الدنيويِّ ليصبح المتكلم المنتج للنص وللمعنى تام المعرفة فاقدا للنزاهة(غير منزه)، أي أنه يعرف الكثير ويغيب عنه الكثير وهو واحد من(البشر) محدودي المعرفة، لأنها مكتسبةٌ من الوسط الاجتماعي ومأخوذةٌ من المخزون الثقافي الموروث. أي أنها معرفة ذات مرجعية محددة يقاس عليها، وكأننا مرة أخرى أمام القول المأثورة:» لماذا أقلد(أحاكي) الطبيعة وفيرجيل طبيعة أخرى»(21) أي محاكاة المحاكاة(تقليد التقليد)، بدل محاكاة الطبيعة(تقليد الأصل)، بما يعني لماذا أقيس على النص الأصل(الصامت) وهناك نصوص أخرى تحاكيه وتتشبه به في صناعة المعنى، وفي قول الذات. إن المتكلم الذي ينتج المعنى وينسج النصوص غير كلي المعرفة، وأن النصوص التي ينسجها تصدر من مخيلته وتحمل رغباته الذاتية، وتتضمن تصوراته الشخصية ومواقفه الخاصة من الذات نفسها ومن العالم ومن المعنى كذلك، ثم إن النص لم يعد محايدا بل مشاركا وفاعلا في تحديد المعنى سواء من خلال تحديده الأجناسي(رواية، قصة قصيرة، مسرحية…) أو من خلال تحديد نوعيته(شعر، سرد، حوار، حجاج…). وأن «النص» لم يعد «محايدا» ولا «حاملا» بل «محايثا»، أي أنه متضمن لمعانيه ولا يستوحيها من الخارج، بل لأن نفهم التأويل كما يرى بول ريكور» على أنه عملية ذاتية أو فعل ممارس على النص، لأننا مطالبون بتملك قصدية النص ذاته، وهذه القصدية لا تتطابق مع القصدية المفترضة لدى المؤلف، ولا مع حياته الفعلية(الداخلية والخارجية) التي يجب علينا استنباطها ومعايشتها، ولا مع القصدية الذاتية لدى القارئ، بل «تتطابق مع ما يريده النص»، وما يريده النص «هو أن يلقي بنا داخل معناه، وأن يجعلنا نأخذ الاتجاه نفسه الذي يضيئه النص ويفتح نحوه. وبعبارة مباشرة وصريحة أكثر، فإن التأويل في نظر ريكور هو «فعل النص قبل أن يكون فعلا لمفسر النص». إنه «علاقة داخلية أو محايثة للنص.»(22) ص(53). أما المؤوِّلُ فلا يزيد عن المتلقي إلا في حرفيته وخبراته في مجال تأويل النصوص، وفي فهمه لحقيقة النص: مكوناته، بنياته، محتوياته، مقاصده، رموزه وإشاراته، ويختلف المؤوِّل الثاني عن الأول في ذاتيته والاعتراف بدورها في تأويل المعاني، وبدورها في بناء المعنى، مما يميز «التأويل» عن «التحليل»، ويميز الوضعية العلمية والموضوعية عن التخيل والإبداع الذي ينتمي إليه النص السردي.
الجدول التوضيحي الثالث:
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المكونات/ الوظائف / الخصائص المميزة
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتكلم/ المؤلِّف؛ ميت(ضمني):
«غياب القصدية». غير قصدي. غائب عن النص(الخطاب).
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الرسالة/ النص؛ خطاب(كتابة)
حامل معرفي قابل للفهم ولتعدد المعاني، وهو ليس مجرد قناة صماء تنقل المعنى حرفيا. ويقابل مفهوم(الكلام).
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتلقي/ القارئ؛ مؤَوِّل الخطاب:
لم يعدْ في حاجة إلى «مؤوِّل» لأنه يمتلك «القدرة» التامة على الوصول إلى أحد المعاني الممكنة للنص.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
يبين الجدول التوضيحي الثالث أمورا هامة، أولها؛ «موت المؤلِّف»(23) وله تأثير على «الوظائف» الجمالية والمنهجية في عملية «التأويل»، منها: نفي القصدية عن النص، القول، الخطاب. وهو ما يسميه دوكرو وشيفير في معجمهما الموسوعي(24) «ضد-القصدية/ anti-intentionne* * e»، ولموت المؤلف قدرة على تحويل عملية الفهم إلى الاستقلال الذاتي عن المصدر الذي أنتجها، ولم يعد له وجود أو لن يكون له وجود في المستقبل البعيد، ولا يبقى غير «النص» الذي يمكن للقارئ في أي زمان أو مكان «تأويل» معانيه «الكامنة» فيه وقد حمتها «البنية النصية» و«العلاقات» و«العلامات» و«الحبكة» من التلاشي والضياع، وضمنت لها البقاء والاستمرارية، وربما الخلود. ومنها «غياب المؤوِّل» الوسيط، لأن القارئ جزء من حركة التاريخ، وأنه لم يعد في حاجة إلى «المرجع» الخارجي، ولا إلى «المعنى الأصلي» الثابت غير المتحول، وغير القابل للتأويل، بل تكفيه «خبرته وتجربته الحياتية» أو «تجربته الشخصية» التي عبرها يعطي النص «آفاقا» ممكنة بحسب «قراءته». ونتيجة لغياب المؤلف والمؤول معا يصبح الجدول مكونا فقط من:» الخطاب» و»المتلقي». ويذهب بول ريكور إلى أبعد من ذلك عندما يعلن عن «غياب القارئ» أيضا، فماذا يتبقى من مكونات الجداول التوضيحية التي اقترحناها؟ لم يبقَ غير «النص». وأخشى أن أقول بأن «التأويل» سيعود إلى «المحايثة»، أي أن المعنى محايث وكامن في النص، في بنيته غير المغلقة، بل المنفتحة على تعدد المعاني وتعدد العلاقات بين مكونات النص المكتوب. والنص حسبتعريف بول ريكور المبدئي ما يثبت بالكتابة، يقول:» لنسمِّ نصا كل خطاب تثبته الكتابة. تبعا لهذا التعريف، يكون التثبيت بالكتابة مؤسسا للنص نفسه.»(25) ص(95).
والنتيجة؛
الجدول التوضيحي الرابع:
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المكونان/ الوظائف/ الخصائص المميزة
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الرسالة /النص؛ خطاب(كتابة) :
حامل معرفي قابل للفهم ولتعدد المعاني، وهو ليس مجرد قناة صماء تنقل المعنى حرفيا. ويقابل مفهوم(الكلام).
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المتلقي/ القارئ؛ مؤَوِّل الخطاب:
لم يعدْ في حاجة إلى «مؤوِّل» لأنه يمتلك «القدرة» التامة على الوصول إلى أحد المعاني الممكنة للنص.
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الجدول التوضيحي الخامس:
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
المكون/ الوظائف/ الخصائص المميزة
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
الرسالة/ النص؛ خطاب(كتابة) :
حامل معرفي قابل للفهم ولتعدد المعاني، وهو ليس مجرد قناة صماء تنقل المعنى حرفيا. ويقابل مفهوم(الكلام).
ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
النص هنا مكتف بذاته، مبتلع معانيه في بطنه، وهي(المعاني) قابلة للتجلي في كل زمان ومكان، وقادرة على التكيف مع المستجدات، والمعنى هنا «مطلق أبدي»، وهو أيضا «متعدد مستويات المعنى». ويصدق ذلك على النصوص القديمة التي كتبت في شروط اجتماعية وتاريخية وثقافية وسياسية ونفسية لم تعد قائمة بذاتها، والتي كتبها مؤلفوها بمقاصد مختلفة ومتنوعة اختفت باختفائهم وموتهم، لكن النصوص بفضل «الكتابة» و«التدوين» و«التقييد» و«التسجيل» ستظل قابلة «لتوليد» لا نهاية من الدلالة.
انطلاقا من تعدد دلالة النص ولا نهائية التأويل التي ستقود حتما إلى الانفتاح على «أفق» تعدد «القراءة» تبين لي أن النص السردي عند الكاتب الراحل محمد زفزاف أقرب إلى معنى «المتخيل المختلف» – كما سأشتغل عليه هنا- وأبعد عن «الصورة النمطية» والمسطحة التي ألصقها القراء بكتاباته، وكان يتبرم هو منها.
تأويل النص السردي:
يقول أوكتاف منّوني(Octave Mannoni): «تأويل نص ما لا يمكنه إلا أن يكون محاولة اقتراح نص آخر، معادل لكنه أكثر دلالة لهذه أو تلك الحجة.»(26) ص(203.202). وهو ما يمنح معنى النص السردي مستويات متعددة، تختلف باختلاف مرجعيات المتلقي، وباختلاق قصدية المؤوِّل، وبالتالي يحرر التأويل معنى النص السردي من البعد الواحد. من ثمة يصبح معنى فرضية ريتشارد كيرني مفهوما وواضحا: «يهتم التأويل بمستويات المعنى المتعددة.»(27) ص(62)، ويمكن الحديث عن طبقات المعنى لأن التأويلات المتعاقبة لا يكمِّل بعضها بعضا على صورة متواليات متسلسلة بل تُكَمِّل بعضها كبنيات مستقلة. لذلك ما سأقترحه من تأويل لبعض روايات محمد زفزاف سيختلف عن التصور الثابت الذي تكوَّن منذ فترة طويلة حول الكاتب(محمد زفزاف) وكتاباته السردية(الرواية والقصة القصيرة) إلى درجة أنه أصبح عائقا أمام القراءة المتفاعلة والمبدعة والخلاقة لأعماله، ولا شك أن هذا التصور الذهني(النقدي) الثابت في أذهان المتلقين(النقاد والباحثين والمستمتعين)، وأن التصور الثابت انتقل إلى متلقي النص المتأخرين زمنيا، غير المجايلين للكاتب. ولكي لا يظل النص محنطا وذا بعد واحد أرى أن كتابات محمد زفزاف الروائية ينبغي أن تكون محايثة تستمد دلالتها من مكونات النص(الخطاب) منفصلة وشاملة.
وأقدم للدراسة بهذه(الأحكام) كمنطلقات؛
– تتحكم قصدية محمد زفزاف بوضوح وجلاء في إنتاج متخيله الروائي.
– هيمنة صوت الكاتب على صوت السارد، أي حضور الكاتب في أساليب كثيرة.
– يبدو النص السردي من خلال روايات محمد زفزاف سلسلة من سوء الظن أو سوء الفهم، ومحاولات إزالة اللبس.
– تندرج روايات محمد زفزاف ضمن ما سأطلق عليه «المتخيل المختلف» مقابل ما يعرف في النقد الأمريكي بالواقعية الرثة/القذرة(Dirty rea* ism)، وليس الواقعية الاجتماعية كما هو شائع عنه.
– تضافر مكونات الخطاب الروائي عند محمد زفزاف لبناء «متخيل وضيع».
يقوم النص السردي لدى الكاتبمحمد زفزاف على رؤية ضمنية خاصة تتحكم في بناء المتخيل الروائي، ويمكن الوقوف عندها سواء من خلال «تكرار» المواقف والعبارة، وهو ما يدل على أن موقف الكاتب ليس مجرد فكرة ولَّدَها السياق النصي بقدر ما هو «أصل» المعنى في النص. يتمثل موقف محمد زفزاف في «قدرية» قاهرة تتملك شخص الكاتب/السارد، ونسوق مجتزأً يُبَيِّنُ هذا الموقف مما يلي: «لكن الهراوي لم يحقق أي شيء لنفسه وما تزال والدته تحمل له المؤونة والسجائر إلى السجن كلما وقع في حملة تطهير، مثلما تفعل باقي الأمهات والأخوات والصديقات لهؤلاء الذين يقامرون الآن، تحت البلوطة، وكما سيفعلن بكل تأكيد مع أولئك الأطفال الذين يلعبون الآن الكرة هناك والذين سوف يشيخون قبل الأوان إما في زنزانة أو في زاوية أحد الشوارع منهكين متعبين مثل جياد جرباء عرجاء مشوهة تساق إلى المجزرة في صباح باكر أغبش.»(28) ص(264).
تتحكم في سارد روايات محمد زفزاف رؤية مأساوية مفادها أن الإنسان يدور في حلقة مغلقة خانقة، وكأنه يخضع لمصير قاهر ولا قدرة له على اختيار الحياة التي يريدها لنفسه، وفقدان القدرة على الاختيار معناه فقدان الحرية، أي الحق في الحرية. وهو ما يعبر عنه المعلم المطرود من عمله(شخصية روائية) بجلاء في القول التالي: «إنني صامتٌ فعلا، ليس لأنني لا أعرف ما أقول، ولكني لا أستطيع أن أٌقول ما أريد أن أقوله، فأي اختيار حر يسبب الطرد من أية جماعة كيفما كانت. إن اليوتوبيا في هذا العالم هي مجرد فكرة فقط، وكم كنت مغفلا عندما كنت يوتوبيا، لقد أردت أن أختار فطردت من العمل، وللأسف ما أزال أصر على الاختيار لأني مغفل والمشكلة الأساسية هي أنني أعي ذلك ولم أستطع تجاوزه. إنني أصمت وأعاني…»(29) ص(294).
هناك دعوة ضمنية في النصوص السردية لمحمد زفزاف تحتوي على موقف جريء وهو الحق في الحرية عامة والحرية الشخصية خاصة، لذلك اختار بناء متخيله في الأمكنة المهملة اجتماعيا، وشخصياته من الفئات المنبوذة في المجتمع كما في روايته «الحي الخلفي»، أو من الجماعات رافضة الانتماء لأي نظام يتحكم فيها كمجموعة(الهيبيين) في روايته «الثعلب الذي يظهر ويختفي».
أما المتوالية السردية التالية فإنها تؤكد على موقف الكاتب من العالم والتي ينقلها السارد بأمانة، يقول: «… لكن الأمريكان عاديا ومألوفا وقد تزوج البعض منهم واختفوا باتجاه الجنوب أو الشمال، ولا شك أنهم أنجبوا أطفالا سوف يكبرون وسوف يعودون إلى الأماكن التي كان فيها آباؤهم، وسوف يجنون العنب ويشربون النبيذ المحلي الجيد، ويشوون الخنانيص ويرقصون ويتعارفون ويتزوجون وينجبون أطفالا آخرين ليفعلوا مثلهم فيما بعد.»(30) ص(294.293).
لقد أثرت فكرة «الحلقة المغلقة» و«العود الأبدي» على سارد حكايات محمد زفزاف، وتسرب تأثيرها إلى سلوك الشخصيات الروائية، وإلى الأمكنة، وأثرت على بناء الجملة السردية عنده، فتميزت بالقصر، وكثرة الحذف، والتكرار، وما أسميته – سابقا- تعضين السرد أو تجاعيده، لأن السارد في نصوص محمد زفزاف «يحكي» أقرب منه إلى «يكتب». وهذه الفكرة أيضا تقف وراء قصر روايات الكاتب، بحيث يشعر المتلقي أن الكاتب سيوقف السرد لأنه مل من الحكي، وبدأ يتسرب إليه الشعور بالسأم واللاجدوى: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وما الفائدة التي سأضيفها وما ترك السابق للاحق شيئا سوى الإعادة والتكرار الأزليين. وهو ما ينتبق على الطريق التي ختم بها روايته القصيرة «الحي الخلفي»، حين شكك في قدرة القارئ على «فهم» فحوى الرواية ورسالاتها الضمنية، يقول:» … وأن أحدا لن يفهم ما ورد في هذا الكتاب، وأن كذا وكذا وانتهى.»(31) ص(313).
في روايته «الثعلب الذي يظهر ويختفي» يقربنا محمد زفزاف من فكرة «الحلقة القدرية المغلقة» والتي تتجلى كمحفز قوي لبناء «المتخيل المختلف»، فالكتابة عن موضوعات محرمة – في وقته، السبعينيات وأوائل الثمانينيات في المغرب – كالجنس والدعارة، والمعتقد الديني أو الجماعات العقدية المتمردة(طوائف دينية أو مجموعات فكرية/ sectes)، والمخدرات، يعتبر ملمحا مهما من ملامح «تكسير الحلقة المغلقة»، وهي أيضا تبرز غضب السارد(= بطل الرواية) من سلبية(الناس) الذين يسميهم: «الدود» و«النعاج» و«القطيع» و«الحيوانات»(32)، وهذه النعوت تكشف عن موقف السارد/الكاتب وتكشف عن معاني مختلفة عن المعاني الأولى والصورة الثابتة التي تكوَّنت في أذهان قراء(باحثين ونقادا ومتقلين عاديين) محمد زفزاف. إن المستوى الجديد من مقاصد ومعاني الكتابة عند محمد زفزاف تتحدد في انتقاد «الوجود السالب» للإنسان المعاصر أو يمكن تسميته أيضا «الوجود الصعب» و«الوجود البليد»و«الكينونة المختلفة» للإنسان المستضعف في الأرض، وهو ما يسبب «قلقا وجوديا» لدى الكاتب محمد زفزاف.
في المجتزأ الآتي يعود زفزاف إلى «الحلقة المغلقة» والقاهرة، يقول: «في ذلك المساء. تصورت أن العالم مقبرة متحركة. كان الناس في الشارع الضيق يدبون كالدود فوق جثة كبيرة عفنة هي الأرض. يتحدثون يعبسون ويضحكون. وطبعا كان هناك منهم من يكيد للآخر. في مكان آخر من هذه الأرض، وفي شارع آخر، هناك بالتأكيد رجال يقتلون بعضهم، وآخرون يبتزون ضعافا بالقوة أو بالحيلة. اللعبة التي تتكرر عبر العصور، والتي تأخذ طابع الجدية. وما أصعب أن يكتب المرء بضمير المتكلم، لأن في ذلك رعبا للذات ورعبا للقارئ الذي يظل يبحث عن شيء في العديد من الكتب دون أن يعثر عليه طيلة حياته حتى يزور المقابر، بعد أن ألهاه التكاثر. عودا على بدء.»(33) ص(183)
تحدد هذه العبارة التي تصف البشر(شخصيات متخيلة في الحكاية وقد تنعكس على المرجع الخارجي/ الواقع/ المجتمع): «كالدود فوق جثة كبيرة عفنة هي الأرض» مدى ما يحمل(السارد) من حقد وكراهية للإنسان العاجز المستسلم للقدرية القاهرة، وتتضمن أيضا موقف الكاتب الذي يكسر الصورة الذهنية التي ثَبَّتَهَا النقاد في أذهان القراء وحول أعمال محمد زفزاف.
وقد أصبح الموقف الحاقد على المنهزمين وعلى المستكينين إلى رؤية «مأساويةٍ» تكشَّفَتْ عن خوف من الموت، من النهاية، يقول السارد: «كان الوقت وقت الغروب وأنا لا أحبه. إنه يذكرني بنهاية الكون. كل شيء يرقد لتُسْتَأْنَفَ المهزلة. المهزلة الكبرى العظيمة. السيرك الكبير حيث تجتمع الطبائع التي تكرر نفسها عبر التاريخ، الحب، الحق، العدل، الظلم، النفاق، السرقة، المعاملة الحسنة المغلفة بنوايا خلفية قد تكون صادقة أو لا.»(34) ص(196)، ويضيف: «ورأفة بهؤلاء النعاج، التي لم تأخذ درسا من نهاية وانقراض القطعان السابقة، عبر سنوات خلت، فإن تلك القوة القادرة العليا والخفية، خلقت شيئا اسمه الموت. إنه الحكمة الصادقة. الدرس الأزلي، الذي ما زال يلقن لكل النعاج لكن دون جدوى. وها هي الآن تسير من حولي بعد أن قضمت عشب غيرها اليومي، دون أن تشعر بذرة واحدة من الندم.»(35) ص(196).
لم يكن محمد زفزاف يثق في النقد ويعتبره عاجزا عن فهم نصوصه في جوهرها، ومعه بعض الحق فكثير من الكتابات النقدية سقط أصحابها في شباك الأحكام المسبقة، وبالتالي صنفوا الكاتب وكتاباته في خانة «الواقعية الاجتماعية» بينما هو كان يرى نفسه قد ساهم في طرح أسئلة وجودية كبرى تتعلق بكينونة الإنسان ومصيره الحتمي، وبذلك فهو يساهم من خلال تلك الأسئلة في تنبيه القارئ المعاصر إلى حقيقته ككائن تاريخي عليه أن يفك عنه قَيْدَ تلك القدرية الذي يشده إلى قانون التماثل والزوال، كما يُشَدُّ الثور إلى الساقية، يدور في حلقة مغلقة قاهرة وفي اعتقاده أنه يسير بإرادته نحو اختياراته. فالفقر يورث الفقر، والجهل يلد الجهل، والغنى يورث الغنى، وهكذا دواليك.
إن رؤية الكاتب المأساوية والضجرة -المدركة من التكرار والتقمص- متحكمة في إنتاج المتخيل(36) الروائي «المختلف»، ومسؤولة عن الوجهة التي سيختارها السرد، بل رؤية الكاتب هي التي تُمْلِي على السارد مواقفه وتضع الشخصيات الروائية في وضعيات خاصة ومواقف خاصة. ومما يدل على حضور الكاتب في النص السردي(الكتابة/الأسلوب) القائمة على الحذف، خاصة حذف أجزاء من الكلمات النابية، وأيضا «تفصيح» – من الفَصَاحَةِ – اللسان المحلي الدارج، من أجل خلق مسافة بين السارد والشخصيات الروائية والكاتب الموضوعي الخارجي، وتوظيف السخرية كتقنية بلاغية للتعبير عن «تحقير» بعض السلوك والعادات.
رغم أن فهم معنى/ معاني الخطاب الروائي عند محمد زفزاف أو غيره يدرك عامة(Perception) في شموليته، فإن بعض المتواليات السردية المنفصلة(المجتزأة من سياق العام)، وبعض المشاهد(scènes)، وحتى بعض العبارات المستقلة يمكنها أن تفصِّل في بعض الظواهر الهيرمينوطيقية التي شغلت الهيرمينوطيقيين الأوائل(مؤولي النصوص المقدسة)، ونقدم هنا مثالين قصيرين قبل الاشتغال على الخطاب الروائي كوحدة منسجمة ومتكاملة لتوليد الدلالة(المعنى):
1/ «لقد ربحت قليلا من المال، عندما ننتهي سوف نذهب لنأكل دجاجة مشوية. هل باتت عندكَ شنيولة أمس؟»(37) ص(266)
يتضمن السؤال كلمة أدت إلى الإبهام، لسببين ظاهرين؛ الأول متعلق بمعنى الكلمة الضيق والمرتبط باللهجة المحلية وتعني في المستوى الأول الحرفي للكلمة «البعوضة» وهي في لسان العرب :»ضرب من الذباب معروف، وقال الجوهري: هو البقُّ»، وفي القاموس المحيط:» البعوضة: البقَّةُ»، أما في معجم العين: «فالبعوض: جمع البعوضة، وهي المؤذية العاضَّةُ في الصيف»(38). والمستوى الثاني ناتج عن عدم الانسجام والترابط (cohérence /cohésion)، فالسؤال في حد ذاته «فجائي» ومستقل عن السياق السابق عليه. درجة الإبهام لم يحدث على مستوى الشخصيات الروائية(المتحاورة) لأنها تشترك في شبكة تواصلية واحدة. وإذا كانت كلمة «شنيولة» قد تحولت في ذهن المتلقي إلى علامة(signe) فإنها غير ذلك في ذهن الشخصية الروائية. والمقصود بالكلمة في التداول المغربي:» المرأة النحيفة الكثيرة الانفعال واللاذع واللادغ». إن السؤال متعلق بالحديث عن امرأة يعرفها «الطاهر» و«المعلم».
وفي الخطاب الروائي لمحمد زفزاف كثير من هذه الألفاظ المزدوجة المعنى، وأيضا الألفاظ العربية مبنى والدارجة معنى، والألفاظ الدارجة المقحمة في سياقات عربية «مفصَّحة»، وكلها تؤدي إلى اللبس وسوء الفهم وتستدعي «التأويل» و»التفسير» من أجل «إدراك» سليم وشامل لمجموع الخطاب.
والنموذج الذي سأنقله تمثيلا على متوالية سردية من مقطعين، فهو الآتي:» في الخلف كان كهل في حوالي الأربعين يلعب بسلسلة في عنق فتاة في حوالي الخامس عشرة. محفظتها المدرسية موضوعة على الكرسي عن يمينها كانت تضحك وهي تلتهم برتقالة مجمدة. أتت عليها كلها ثم استرخت على الكرسي إلى الوراء، قال الكهل:
– une autre orange givrée ?
– D’acc.
– Garçon !
ينظر إليهما وكأنه لا يرهما، وتظهر أسنان الصبية بيضاء الآن وهي تضحك. تتلمظ بين الفينة والأخرى…»(39) ص(70).
«كانت الفتاة الصغيرة تغرس الملعقة في البرتقالة المجمدة، وتأكل ببطء هذه المرة، والآخر يتأمل يدها النحيلة وهي تنقل الملعقة إلى ما بين شفتيها الملطختين بأحمر خفيف، كأنما تتشبه بأمها إذا كانت لها أم حقا. انتهت البنت من الأكل، وقفت قبل الرجل الكهل. اقتربت منهما وهي تنتظره وتضحك. كان الرجل يتحدث إلى الجرسون…»(40) ص(72).
هذه المتوالية السردية تبين درجة تدخل الكاتب الموضوعي في توجيه دفة السرد، ودرجة تأثيره على السارد، ودرجة تدخله في بناء مواقف الشخصيات الروائية لتصبح ظلالا لمواقفه الخاصة، بل يقوم الكاتب الموضوعي بتوجه «ميول» و»نزوع» المتلقين واستدراجهم نحو «تصديق» متخيله الإبداعي/ الروائي.
يَبْرُزُ تدخُّلُ الكاتب الموضوعي(الخارجي)، في:
– حكم القيمة التالي «إذا كانت لها أم حقا». ففي هذا التعبير توجيه فهم القارئ نحو الحكم السالب على الفتاة التي تجالس رجلا كهلا يفوقها بربع قرن في مقهى.
– بناء الالتباس من خلال الوضع غير المنسجم؛ مجالسة رجل كهل لفتاة صغيرة ومراهقة أمام الملأ.
– التركيز على وصف الأفعال: استرخت إلى الوراء، تضحك، تتلمظ، وهي تنقل الملعقة إلى ما بين شفتيها الملطختين بالأحمر…
إن محمد زفزاف يعرف طبيعة قرائه وميولهم، بل يعرف حتى التصورات الثابتة التي تتحكم في نقاده ودارسي أدبه، ولذلك فهو يقدم لهم ما يحتاجونه، ويؤثث لهم داخل مخيلتهم فضاء يرغبون فيه، يرغبون قراءته، وتوقعه. لكن عندما يطمئن القارئ ويصدق ما يقرأ، ويستسلم لسلطة المحكي يقوم الكاتب بلعبته المفضلة «كسر توقعاتهم» وكبت ميولهم ونزوعهم، بصرخة من الفتاة الصغيرة المراهقة:» – بابا، لا تؤخرني، عندي درس الآن في الرابعة.»(41) ص(72).
إن محمد زفزاف كاتب ذكي وصنع مكانته الأدبية لأنه يعرف ما يحتاجه القراء في زمنه، ويعرف أيضا ما يحتاجه النقاد والدارسون فمنحهم ما يتوقعونه، ويتجلى ذلك في زرع نصوصه السردية(رواياته) بمرجعية اجتماعية سادت فترة «الالتزام الأدبي» وارتباط الأدب بالواقع وبالتوجيهات السياسية(الحزبية)، فنجده يتحدث عن كارل ماركس(42)، ويبث في المتن الروائي إحالات إلى الاتحاد السوفياتي(43) سابقا. هكذا كان محمد زفزاف يكتب خطابه الخاص تحت ظل خطاب عام، أي أنه كان يقول معناه وقصده دون أن يخيب «ثقة» و»صدقية» قرائه، فيهبهم المعاني التي يريدونها.
المتخيل المختلف:
في دراستنا(44) لرواية «الطاطران» للكاتب العراقي عبد الستار ناصر بدأنا تتشكل ملامح «المتخيل المختلف» لكن روايات أخرى مثل روايات الكاتب المغربي محمد زفزاف ستكون مساهمتها ملموسة وضرورية لتوسيع معنى «المتخيل المختلف» ولإبراز جوانب أخرى من الرؤية الفنية والقصد والغاية من كتابة متخيل مضاد للمتخيل السابق عليه، أو بالأحرى تشكيل متخيل مناسب لفئة اجتماعية منبوذة من المجتمع، مهملة ومتروكة لأمرها صنعت حدودا خاصة بها على مستوى المكان الهامشي أو «الحي الخلفي»(45) كما أطلق محمد زفزاف على إحدى رواياته، وعلى مستوى القيم التي سنحاول هنا إبرازها والتأكيد على طبيعتها، وعلى مستوى العلاقة بين الشخصيات الروائية المتخيلة، سواء تلك التي تنتسب إلى المجتمع المنبوذ والمتروك أو تلك التي نبذته وهمَّشَته كمجموعة «* es parias»(46) في الهند، أو المنبوذين «* es intouchab* es»(47).
اخترت تعبيرَ «المتخيلِ المختلف» بديلاً عن بعض التعبيرات السائدة مثل «واقعية القاع» أو «الأدب الهامشي» أو «أدب الهامش» أو «الواقعية الرثة» أو «الواقعية المسطحة» أو «الواقعية القذرة» لأنها مرتبطة بالبعد الاجتماعي للأدب(الرواية)، وتدرس بدل الخصائص المميزة للأدب(الخطاب الروائي هنا) الواقع والأسباب الاجتماعية التي دعت الكتابة عن فئة اجتماعية مهمشة ومنبوذة تعد ورما في جسم المجتمع، مقصاة من كل حماية أو رعاية.
وتعرف المعاجم الانجليزية «الواقعية الرثة/ Dirty rea* ism» على أنها:»أسلوب في الكتابة نشا بالولايات المتحدة الأمريكية خلال عقد الثمانينيات(1980م)، يصور الحياة اليومية»(48).
والواقعية الرثة/ القذرة عبارة صاغها الناشر بيل بوفورد العام(1983م) ليصف عمل مجموعة أمريكية(ليست جماعة أدبية أو حركة سياسية، بل مجموعة توحدها صفات وخصائص مشتركة ومتقاربة) وهم: فريدريك بارثلمي، وريموند كافر، وبوبي أن ماسون، وجين آن فليبس، وريتشارد فورد، وإليزابيت تالينت، وتوبياس وولف، وأغلبهم يكتب القصة القصيرة. لقد ميز بيل بوفورد أعمال المجموعة بميسم الواقعية السطحية، واللغة «المفاجئة» -الصادمة- والميل إلى كتابة وقائع الحياة العامة العادية(49).
يصعبُ إغفال التأثير القوي والمتبادل بين الفرد وحياته الاجتماعية، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم طبيعة الإنتاج الأدبي(الروائي) دون دراسة مكوناته الداخلية، كالشخصيات الروائية وأبعاد المكان والزمان(الفضاء)، وطبيعة الأحداث والعلاقات الداخلية، أي لابد من دراسة «المتخيل» لأنه يتضمن الصور الثابتة في ذهنية الشخصية الروائية. يقول حسين خمري في كتابه «فضاء المتخيل»:» في البداية نعرف المتخيل بأنه بناء ذهني، أي أنه إنتاج فكري بالدرجة الأولى، أي ليس إنتاجا ماديا.»(50) ص(43). أما يوسف الإدريسي في كتاب «الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديثين» فيعرف المتخيل كالآتي:» استعيرت كلمة imaginaire(متخيل) من الكلمة اللاتينية Imaginarius سنة 1480م، ودلت على المعطيات الذهنية التي لا تتطابق مع معطيات الواقع المادي. واستعملها باسكال في سنة 1659م لوصف الأشياء التي لا وجود لها إلا في مخيلة الإنسان، بينما دلت سنة 1820م مع دوبيرانM.DEBIRANعلى مجموع نتاجات الخيال.
وبهذا المعنى، تتقاطع مع أحد أهم مرادفاتها إلا وهوFictif(ive)أي تخييلي، وهي صفة استعيرت من كلمة Fictusاللاتينية في القرن الخامس عشر، ودلت على معنى الخداع والغش، وتطورت دلالاتها بعد ذلك فأشارت سنة 1762 إلى ما يخلقه الذهن بواسطة الخيال وإلى ما ليس واقعيا، واستعملت عام 1896م بمعنى الادعاءات الباطلة والمظاهر الوهمية.»(51) ص(28.27).
والمتخيل من الخيال الذي عرَّفَهُ وقسمه كولردج في قوله: «إنني أعتبر الخيال إذن إما أوليا أو ثانويا. فالخيال الأولي هو في رأيي القوة الحيوية أو الأولية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا، وهو تكرار في العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في الأنا المطلق، أما الخيال الثانوي فهو في عرفي صدى للخيال الأولي، غير أنه يوجد مع الإرادة الواعية…»(52) ص(260.259).
نستمد من هذا التعريف الجزء الخاص بالقدرة الحيوية المدركة لأنها مركز «المتخيل» وإذا أضفنا إليه صفة «المختلف» من الوضاعة فلابد أن القوة المدركة للذات وعلاقاتها ومحيطها وسلوكها تتصرف وفقه، وبالتالي على أدب «المتخيل المختلف» أن يدل على طبيعة تلك الصور الذهنية الثابتة والمدركة. وهي صور وقوى إدراكية مختلفة عن المتخيل الأرستقراطي، والمتخيل الرومانسي مثلا.
وستثير صفة «المختلف» كثيرا من ردود الفعل إذا تم النظر إليها من زاوية التحقير لمتخيل الكاتب لا متخيل العمل الأدبي. من ثمة وجب علينا الإشارة إلى هذا الفرق، فالمتخيل المتحدث عنه في هذا المقام(الكتاب) لا علاقة له بمتخيل الكاتب الموضوعي الخارجي، وليس بالضرورة أن يكون الكاتب وضيعا حتى يكتب متخيلا وضيعا، وليس بالضرورة أيضا أن يكون الكاتب الموضوعي «بطلا» في رواياته لأنه لا يكتب ذاته كما في «السيرة الذاتية» أو حتى في «التخييل الذاتي» و«اليوميات» و«المذكرات» وكل الآداب القائمة على «كتابة الذات» وحضورها في العمل الأدبي بشتى الصور. لكن الوضاعة هنا تدل على متخيل فئة منبوذة أو نبذت نفسها عن المجتمع وقيمه التي لم تعد تناسب تطلعاتها، ولم تعد تساير التصور الثقافي ونمط العلاقات التي أفرزتها صراعات فكرية وسياسية وتغييرات اجتماعية وتأثيرات خارجية معاصرة ومجاورة أو تأثيرات مستمدة من الموروث الثقافي والفكري والاجتماعي كما هو الحال لدى مجموعات وجماعات عقدية.
لقد جاء في لسان العرب حول لفظة وضيع، الآتي:»ورجل وَضِيع، وَضُعَ يَوْضُعُ وَضاعةً وضَعةً وضِعة: صار وَضِيعا، فهو وَضِيع، وهو ضِدُّ الشريف، واتَّضَع، وَوَضَعَه وَوَضَّعَه، وقصر ابن الأَعرابـي الضِّعةَ، بالكسر، علـى الـحسَب، والضَّعةَ، بالفتـح، علـى الشجر والنباتِ الذي ذكره فـي مكانه. ووَضَع الرجلُ نفسه يَضَعُها وَضْعاً ووُضوعاً وضَعةً وضِعة قبـيحةً؛ عن اللـحيانـي، ووَضَع منه فلان أَي حَطَّ من دَرجته. والمختلف : الدَّنِـيءُ من الناس.»(53). أي المختلف الذي يأتي أفعالا ترفضها الجماعة، ويمكن تسميتهم «أغربة العصر الحديث» قياسا على «الصعاليك» في العصر الجاهلي الذين لقبوا أيضا «أغربة العرب». وقد عرفت المجتمعات الغربية الكثير من هذه الجماعات المنبوذة، وهي مجرد جماعات ومجموعات لا تشكل فئة أو طبقة اجتماعية، وهذا فارق مميز وهام، يقول أحمد شراك:» ليس هناك انتماء طبقي محدد ومعلب، أو تعبير عن طبقة معينة كالطبقة العاملة مثلا كما هو الشأن في الخطاب السياسي الماركسي، إنهم ينتمون إلى كل الفئات الاجتماعية وكل الطبقات الاجتماعية، ما يجمعهم هو الرفض لكل المؤسسات بما في ذلك العائلة: «لا بورجوازيون لا برولتاريون، يعني هم في موضع آخر(ai* * eurs)، «خارج»، «النظام»، في الهامش «موازيون، (Para* * è* es)، ضد المجتمع وضد الثقافة»(54). ص(55.54).
فضاء المتخيل:
يفيد مفهوم الفضاء الروائي بُعْدَيِ المكان والزمان في الخطاب الروائي، وهما معا مكونان أساسيان يقوم عليهما العمل الروائي، فالأحداث والشخصيات رغم أهميتهما وضرورتهما في كثير من الأحيان تحتاجان إلى فضاء، أي إلى مكان تجري فيه الوقائع والأحداث، وتتشكل وتتكون فيه أبعاد الشخصية الروائية، وإلى زمان يحدد طبيعة الشخصية وسلوكها قولا وفعلا.
لقد ميز الدارسون بين عدد من أنواع الفضاء: الفضاء الورقي(حدود الصفحة، الصورة الإيقونية، نوعية الخط، البياض بين المقاطع أو المتواليات السردية)، الفضاء المكاني(الطوبوغرافي والجغرافي) ذي الإحالة الخارج نصية الحقيقية كأسماء المدن والأحياء والبلدان، فضاء الحكاية، (فضاء النص الروائي) وهو فضاء متخيل تنشئه مخيلة الكاتب وقد لا يكون فضاء حقيقيا يستدل على وجوده كما في روايات الخيال العلمي أو في الحكاية العجيبة…
هذا التعدد له أكثر من وظيفة جمالية، كما أنه تعدد يفيد في الفصل بين أنماط التخييل الإبداعي، كما يمكن لكل هذه الأنواع من الفضاء التواجد في رواية واحدة. تتميز روايات محمد زفزاف بحضور المكان الحقيقي مدينة الدار البيضاء بأحيائها الخلفية وشوارعها ومقاهيها وحاناتها، وأيضا القرى المحيطة بها وأهلها، لكن لا تخفى اللمسة الشخصية للكاتبة التي تعطي للمكان الحقيقي داخل الفضاء الروائي أبعادا جديدة مثيرة، كما بين في رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» الأبعاد المتخيلة لمدينة الصويرة وجزيرتها التي اختارها مسرحا(فضاء تخييليا) للحديث عن مجموعة الهيبيز. وكما نجد في رواية «أفواه واسعة» التي يقوم فيها بدور السارد «بطل» متخيل، لكن له حياته الخاصة(المتخيلة) وله آراؤه الخاصة(المتخيلة) إلا أن كل تلك الحياة الافتراضية للشخصية المختلقة تستند على أمكنة حقيقية. يقول النص مثلا من رواية «أفواه واسعة»:» يريد أحدهم اليوم أن يفعل بي ما يشاء. سوف أترك له الفرصة، غير أنه سوف يجد نفسه أمام بطل لن يشابه ما كان يفكر فيه.»(55) ص(317).
إذن، إنها تنويعات اصطلاحية تفيد في فهم طريقة بناء الخطاب الروائي وبالتالي كيفية بناء المتخيل المختلف.
أبعاد المكان:
يحتل المكان مكانة هامة في تحديد معنى «المتخيل المختلف» لأنه المقوم «المادي/ الملموس» الذي يمكن تحديد أبعاده: الطول والعرض، الارتفاع والعمق، ويمكن كذلك تحديد مقامه القيمي اجتماعيا: مكان راق، ومكان منحط، ، ، وهكذا. ومن التعابير الموازية للواقعية الرثة/ القدرة نجد تعبير «الأحياء الخلفية» وهي تلك التي تقع بعيدا عن الأعين، وعن الفضول، ولا يقربها الناس خوفا على أنفسهم من الجريمة، أي أنها أحياء مسيجة بقيمة «الوضاعة» وقيمة «الانحطاط».
اختار محمد زفزاف الدار البيضاء مكانا تجري فيه أحداث الكثير من رواياته مثل «بيضة الديك» ورواية «محاولة عيش»، ورواية «الحي الخلفي» ورواية «أفواه واسعة»، واختار بعض المدن العتيقة في روايات أخرى مثل مدينة الصويرة في رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي»… وقد اختار من مدينة الدار البيضاء الأحياء الهامشية والشعبية، حتى تناسب الموضوعات والشخصيات الروائية والأحداث المكان، مثل حي «مبروكة» و«درب ميلا» في رواية «بيضة الديك»، وحي «السالمية» – وهو حي غير صفيحي- الحديث بالقياس إلى أحياء أخرى ترد في سياقات مختلفة من روايات محمد زفزاف في رواية «الحي الخلفي»، أو كأحياء الصفيح التي تسيج المدينة الاقتصادية وأكبر مدن المغرب الحديثة. تتجلى الغاية من ذكر الأحياء الهامشية والجديدة في إبراز طبيعة الفئة التي تأويها وهي في الغالب مجموعات ذات أصول قروية وحديثة النعمة، وهذا ما يمكن استنتاجه من المجتزأ الآتي:» فالمقدم مجرد منفذ، وكان السكان الغرباء يفهمون ذلك جيدا، ويعرفون أنهم مطرودون في هذه اللحظة أو تلك، بل قد يتعرضون للسجن، لذلك، وبعيدا من هذه البنايات تكومت مجموعة من أكواخ الصفيح الواطئة المتربة، هي في الغالب ملك لهؤلاء الغرباء مغتصبي أملاك غيرهم، أو هي ملك لأقاربهم، فعندما تشم أدنى رائحة، أو يسمع أدنى طنين، فإن الغريب يجر أبناءه ويهرب إلى تلك الأكواخ وإذا لم يكن له جحر هناك، فإنه يتربص على قارعة الطريق وينتظر أول أو آخر شاحنة تنقله إلى اقرب نقطة من القرية التي هاجر منها، وحتى هذه تكون فرصة لكي يتقد دجاجته أو شاته أو حماره، آملا أن يعود بعد أيام أو شهور إلى المدينة وحالما بدجاجات وشياه وحمير، حالما بثروة طويلة عريضة يستطيع على إثرها مغادرة البادية نهائيا والاستقرار في المدينة بصفة نهائية. كثيرون هم الذين جاءوا إلى الدار البيضاء متشعبطين في عربة أو شاحنة أو مشيا على الأقدام، ناموا في الشوارع الخلفية والأزقة والحدائق العمومية والإسطبلات، ولكن بعد مرور الوقت أصبحوا أثريا، بنوا الدور والعمارات والفيلات وأسسوا شركات وأصبحوا أعضاء في البرلمان والجماعات المنتخبة وهم لا يفرقون بين الألف والهراوة…»(56) ص(256).
يحتوي المجتزأ على عدد مهم من مؤشرات المكان ونوعياته مما يدل على مكانة هذا المكون في الخطاب الروائي عند محمد زفزاف. أما على مستوى نوعية المكان الخاص فمحمد زفزاف اختار الأمكنة المناسبة للمتخيل المختلف، والتي تدل على الأمكنة المغلقة للإقامة كالسطوح حيث تسكن شخصية «رحال» في رواية «بيضة الديك» أو بيوت(أكواخ) الصفيح كما في رواية «محاولة عيش»، أو البيوت المهجورة وغير المكتملة البناء كما في رواية «الحي الخلفي»، مثال:» عين المقدم تمر بكل تأكيد في كل زقاق وتتسرب إلى أية بناية مسكونة أو مهجورة وهو يعرف أسماء أصحابها الأصليين واحدا واحدا، كذلك فإن الساكن الغريب الطارئ لابد وأن يدفع دون أن يبلغ جاره وحتى لا يبلغ الجار جاره، وحتى لا يسمع مسؤول كبير بذلك.»(57) ص(256.255).
واختار الكاتب محمد زفزاف المقاهي والحانات للقاء ولخلق فضاء جماعي تتداخل فيه الأصوات، وتنطلق فيه النفوس من عقالها، وتتكشف العلائق الاجتماعية، والأهم في هذه الأمكنة أنها تكشف عن قيم مناقضة تماما للسائد في حالات الوعي، أو في الخارج حيث تظهر الشخصيات الروائية متعاطفة ومتضامنة فيما بينها. إن تضافر الأمكنة مع القيم مهم جدا في إبراز طبيعة المتخيل المختلف، يقول النص:» وقال الهراوي:
– أنا أعطي مائة درهم وأنت مائة درهم. ما رأيك؟
قال العطاوي:
– معي سبعون درهما فقط. أعطيك خمسين والباقي سوف أدفعه لك فيما بعد. عندما يخرجون فإن الطاهر سوف يرد لنا الدين.
-لا يهم هات الخمسين، سوف أدفع الباقي إنني لن أنسى خيره. كم مرة جاءني بالقفة إلى السجن ولم يطلب مني أي شيء. إنه رجل طيب وشجاع وكان يتمنى أن يكون شخصا مهما إلا أن الظروف لم تساعده، ولذلك فهو يحب المعلم، والمعلم يفهم قوالب هؤلاء الذين يحكمون، ولذلك طردوه من العمل.»(58) ص(286.285).
يجمع هذا المجتزأ بين المكان والقيم السائدة ونقيضها، فمثل هذا الفضاء يعطي الانطباع بأنه موطن التناحر والتطاحن وأنه مشتل العنف والجريمة وكل القيم المنحطة المنبوذة، لكن النص الحوار، في بيت الضاوية، وهو عبارة عن غرفة:» ضيقة تمثل زنزانة، مربعة فيها فراشان ضيقان متقابلان، في حين اتكأ صندوق كبير على الجدار الثالث، تضع فيه الضاوية ثيابها وأدوات زينتها، في وسط الغرفة مائدة صغيرة قديمة مستديرة اشترتها من بائع خردوات متجول بثمن سهرة ليلة مع رجل عجوز من بني ملال.»(59) ص(281)، ، ، لكن نص الحوار يتضمن قيما مضادة تمثل التكافل والتضامن والتعاون في الضراء.
أنماط الأحداث:
وجد الفضاء الروائي(الزمان والمكان) كي تجري على أرضيته أحداث تقع للشخصيات الروائية أو تحدثها الشخصيات الروائية لغيرها حسب ما يقتضيه التخييل الروائي. وأحداث «المتخيل المختلف» ينبغي أن تكون جزءا من واقعها(عالمها التخييلي) لأنه مكون أساس من مقومات وجوده(بنائه)، والفضاء الروائي بأبعاده الزمنية والمكانية يقوم برسم الحدود القصوى للمتخيل الإبداعي(الروائي)؛ أي أن الوقائع داخل الحانة أو في غرفة على سطح بيت، أو في غرفة السجن، أو في كوخ صفيحي لا بمكنها إلا أن تكون مطابقة لشروط وجود الكائنات المنبوذة التي تعيش معزولة خلف الحياء الراقية، والبناء المنظم والمعترف به رسميا.
أبعاد الشخصية الروائية:
تحتل الشخصية الروائية مكانة مهمة في تشكيل فضاء روايات محمد زفزاف، لكنها تقوم أيضا بدور أساس لتحديد «المتخيل المختلف» سواء باختبار الأسماء ونوعيتها وإحالاتها الفئوية والطبقية والجهوية مثل أسماء شخصيات رواية «الحي الخلفي»: فنطوس، والهراوي، والعطاوي، والطاهر، والجيلالي، وولد الروايس، ومن أسماء النساء؛ خديجة، وحليمة والضاوية…أو في رواية «بيضة الديك» مثل: رحال، وغنو الملقبة بجيجي، ودحو، والمخنتر… وكذلك من خلال الألقاب والصفات التي تتنادى بها الشخصيات الروائية في فضاء متخيل محمد زفزاف مثال:»هل باتت عندك شنيولة أمس؟» من رواية «الحي الخلفي»، ومن رواية «بيضة الديك» هذا الحوار الذي يضع حدود العلاقات والصراع بين الشخصيات الروائية المتناحرة فيما بينها:» وقال الكومسير:
– يا ابنة الكلبة، حتى أنت أصبحت ثرية، إنكم تثرون على ظهورنا. كل ما نجمعه نحن بعرق جبيننا تخطفونه أنتم منا بالحيلة.
– ولكن يا سيدي، إنك تشرب مجانا في أغب الأحيان.
– الزبناء هم الذين يدفعون، أما أنت أيتها الكلبة…»(60) ص(25).
هذا النوع من الخطاب يحدد السقف الذي ترتفع إليه القيم والتعاملات والعلاقات بين شخصيات «المتخيل المختلف» في روايات الكاتب المغربي محمد زفزاف. فالأوصاف والأسماء لا توضع جزافا، إنها علامة دالة على وعي مسبق وأكيد يكمن وراء تشكيل خطاب روائي مختلف بل مضاد للخطاب الروائي السائد الذي يمجد أبطالا أسطوريين، أو أبطالا بدون شوائب. إنه خطاب منافي للقيم السائدة التي نبذت مجموعات من متخيلها وحرمتها من التعبير عن وجودها الافتراضي، واعتبرتها مجمعات بلا قيم، وشخصياتها منحطة، والأمكنة التي تعيش فيها وضيعة وعلاقاتها بلا حدود أخلاقية كأنها تعيش المشاع، وتسعى في الطبيعة البكر قبل سيادة النظم والمعرفة والأخلاق. لقد طردتها من متخيلها الإبداعي كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة، لأن وجودهم بالجمهورية سيفسد أخلاق الرعايا.
هذا النوع من الشخصيات الروائية المتخيلة هو محور «المتخيل المختلف»، لكن هل هي شخصيات بلا قيم وبلا نظام خاص تعيش به ومن خلاله؟ روايات محمد زفزاف تقول العكس، سواء تعلق الأمر بمجموعات «الهيبيين» كما في رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» أو الفئات الاجتماعية المقهورة التي تقطن أحياء الصفيح والأحياء الخلفية للمدينة الكبيرة «الدار البيضاء» كما في روايته «محاولة عيش»، أو المجموعات القروية الهاربة من الجفاف وقلة الشغل والبحث عن فرص الاغتناء ببيع كل شيء حتى الجسد، والمتاجر في الممنوعات كما في رواية «الحي الخلفي» ورواية «بيضة الديك»…
الموضوعات:
الجنس:
العنف:
الاعتقال:
الحيطة والحذر:
القيم في المتخيل المختلف:
يبدو فضاء «المتخيل المختلف» بدون قيم حميدة لأنه تنافي القيم السائدة، ولأنه نشأ في غفلة عن المجتمع، نشأ في الحواشي والهوامش والأطراف، نشأ في الأحياء الخلفية حيث الشخصية الروائية(الكائن الإنسان) تعيش من أجل الغريزة، وتطمح إلى العودة إلى الطبيعة البكر.
الهوامش والمصادر:–
1 شرفي، عبد الكريم : من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة. منشورات الدار العربية للعلوم-ناشرون ومنشورات الاختلاف. ط 1. 2007م
2 كليطو، عبد الفتاح : لسان آدم. منشورات دار توبقال. ط1.
3 Ricœur, Pau* : De * ’interprétation Essai sur Freud. Editions du Seui* , 1965
4 « * es mots révè* ent * es chose ».
5 كوزنز، ديفيد هوي: الحقيقة النقدية؛ الأدب والتاريخ والهرمنيوطيقا الفلسفية. ترجمة؛ خالدة حامد. منشورات الجمل. ط 1. 2007م
6 كيرني، ريتشارد: دوائر الهيرمينوطيقا، عن بول ريكور. ترجمة؛ سمير مندي. منشورات دار أزمنة. ط 1. 2009م
7 «ومفادها: كي نفهم أجزاء أية وحدة لغوية لابد أن نتعامل مع هذه الأجزاء وعندما حس مسبق بالمعنى الكلي، لكننا لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة معاني مكونات أجزائه. هذه الدائرة في الإجراء التأويلي تنسحب على العلاقات بين معاني الكلمات المفردة ضمن أية جملة وبين معنى الجملة الكلي، كما تنطبق على العلاقات بين معاني الجمل المفردة في العمل الأدبي والعمل الأدبي ككل.» ص 89). ضمن كتاب «دليل الناقد الأدبي» لميجان الرويلي وسعد البازعي. منشورات المركز الثقافي العربي. ط 3. 2002م
8 Ricœur, Pau* : De * ’interprétation Essai sur Freud.
9 من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، سبق ذكره
10 ريكور، بول: نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى. ترجمة؛ سعيد الغانمي. منشورات المركز الثقافي العربي. ط 1. 2003م
11 نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، سبق ذكره
12 المصدر نفسه
13 روبرت سي هولب: نظرية الاستقبال. ترجمة؛ رعد عبد الجليل جواد، منشورات دار الحوار. ط 1. 2004م
14 من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، سبق ذكره
15 wikipedia
16 من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، سبق ذكره
17 آيت وشان، علي: التخييل الشعري في الفلسفة الإسلامية(الفارابي، ابن سينا، ابن رشد). منشورات اتحاد كتاب المغرب. ط 1. 2004م
18 من النص إلى سلطة التأويل، ضمن المؤلف الجماعي: صناعة المعنى وتأويل النص. منشورات كلية الآداب بمنوبة. ط 1. 1992م
19 صناعة المعنى وتأويل النص، سبق ذكره
20 فوكو، مشيل: نظام الخطاب. ترجمة؛ أحمد السطاتي
21 الرسم والفنون الجميلة
22 من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، سبق ذكره
23 ميشيل فوكو: موت المؤلف.
24 Osva* d Ducr
25ريكور، بول: من النص إلى الفعل، أبحاث التأويلز ترجمة؛ محمد برادة وحسان بورقية. نشر دار الأمان. الرباط. ط 1. 2004م.
26 Mannoni, Octave : C* efs pour * ’Imaginaire ou * ’Autre Scène. Editions du Seui* . 1969
27 دوائر الهيرمينوطيقا عن بول ريكور، سبق ذكره
28 زفزاف، محمد: الأعمال الكاملة، 2. الروايات. منشورات وزارة الشؤون الثقافية. 1999
29 المصدر نفسه
30 المصدر نفسه
31 المصدر نفسه
32جاء في الرواية:» ومن الجزيرة المهجورة يظهر ضوء خافت، قد يكون لسكارى أو لصيادين، دببة فضلت أن تنعزل عن القطيع.»، وأيضا:» وهذه الحيوانات فضلت أن تنعزل أيضا عن القطيع، مثلما فعلت دببة الجزيرة، اختارت لنفسها طريقة عيش مغايرة.» ص(197).
33المصدر نفسه، رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي».
34المصدر نفسه، رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي».
35المصدر نفسه، رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي».
36 «استعيرت كلمة imaginaire (متخيل) من الكلمة اللاتينية Imaginarius سنة 1480م، ودلت على المعطيات الذهنية التي لا تتطابق مع معطيات الواقع المادي. واستعملها باسكال في سنة 1659م لوصف الأشياء التي لا وجود لها إلا في مخيلة الإنسان، بينما دلت سنة 1820م مع دوبيرانM.DEBIRANعلى مجموع نتاجات الخيال.
وبهذا المعنى، تتقاطع مع أحد أهم مرادفاتها ألا وهوFictif(ive)أي تخييلي، وهي صفة استعيرت من كلمةFictusاللاتينية في القرن الخامس عشر، ودلت على معنى الخداع والغش، وتطورت دلالاتها بعد ذلك فأشارت سنة 1762م إلى ما يخلقه الذهن بواسطة الخيال وإلى ما ليس واقعيا، واستعملت عام 1896م بمعنى الادعاءات الباطلة والمظاهر الوهمية.» الإدريسي، يوسف: الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديثين. منشورات الملتقى. ط 1. 2005م
37 محمد زفزاف: الأعمال الكاملة، ج 2. الروايات، سبق ذكره
38 مكتبة المعاجم واللغة العربية: شركة العريس للكمبيوتر
39 محمد زفزاف: الأعمال الكاملة.
40 المصدر نفسه.
41المصدر نفسه.
42«… لكننا كنا نتفاهم. نتناقش. وكانت تقول لي يجب أن تكون ماركسيا. حياة الكلاب هذه التي تعيشها لا تليق بشاب مثلك.» ص(8)، عن رواية «بيضة الديك». 1984م، ضمن الأعمال الكاملة [قال لي محمد زفزاف يجب أن تسمى الأعمال غير الكاملة لأنها لا تضم أشعاره وترجماته…]. ومن الرواية ذاتها:» – يجب أن تتناقش مع الكاتب في هذه الأمور. أنا لا أعرف إلا تولستوي وماركس. هل تعرف ماركس؟ هذا أيضا يكتب عن مثلي ومثلك ويدافع عنا…» ص(64).
43يورد محمد زفزاف في روايته «الحي الخلفي» الحكاية الآتية:» هاك حكاية، إذا وفقت في روايتها، ذات مرة وقف خروتشوف أمام ممثلي الشعب السوفيتي لينتقد سياسة ستالين بشدة، إلا أن صوتا من ممثلي الشعب قال:
– لماذا لم تقل هذا الكلام وهو حي؟
توقف خروتشوف عن الكلام وتوجه إلى ممثلي الشعب في غضب:
– من الذي قال هذه الجملة؟
ظل الجميع صامتين أمام غضب السيد الرئيس، ولكي يستأنف خروتشوف نقده لستالين قال:
– إن الذي قال جملته هذه رجل جبان، وأنا أيضا كنت رجلا جبانا في عهد ستالين.»ص(296)
44 دراسة ضمن مشروع كتاب قادم.
45الأعمال الكاملة: محمد زفزاف، مصدر سبق ذكره.
46
47
48 http://dictionary.reference.com/browse/dirty+rea* ism
49http://www.encyc* opedia.com/
50خمري، حسين: فضاء المتخيل. منشورات الاختلاف.
51الإدريسي، يوسف: الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديثين. منشورات الملتقى. ط 1.
52العشماوي، زكي :
53ابن منظور: لسان العرب.
54شراك أحمد: ضمن مجلة آفاق/اتحاد كتاب المغرب.
55الأعمال الكاملة، مصدر سبق ذكره.
56المصدر نفسه.
57المصدر نفسه.
58المصدر نفسه.
59المصدر نفسه.
60المصدر نفسه.
—————