مقدمة :
يبدو ان مستقبل الفلسفة في عُمان محُاط بالكثير من الغموض والتراجع ، وبشكل ٍ خاص في إطار الخط التعليمي الرسمي والخاص الى حد ٍ بعيد ، حيث قام الخط الرسمي بإلغاء تعليم قسم الفلسفة في جامعة السلطان قابوس مع مطلع تسعينيات القرن الماضي ، غير ان المبادرات المدنية ، خارج النطاق الحكومي ، قد اتخذت جانب المقاومة والإصرار على القيام ببعض الأنشطة والفعاليات في هذا المجال ، مستخدمة بذلك الكثير من الوسائل والطرق المختلفة ، بالرغم من تواضعها وبساطتها.
تتطرق هذه الورقة لهذا الجانب ، محاولة في ذلك إضاءة هذه المنطقة المهمشة ، والمقصية ، عن الجانب الرسمي ، وهي في ذلك تهدف الى غرس هذا الفن المعرفي الهام جدا ً ، في الاهتمام العمومي والمجتمعي على حد ٍ سواء ، أي خارج الإطار الاكاديمي.
محنة الفلسفة :
منذ فترة طويلة ، قبل قيام الدول الخليجية بالمعنى المفهومي والسياسي الحديث ، والفلسفة تعيش في محنة مجتمعية (1) ، فهي تواجه الكثير من التشويه في ظل معارضتها الوهمية المستمرة مع الدين ، الأمر الذي أنتج مخيالا ً شعبيا ً ، ومقولات اخترقت حدود الزمان والمكان ، أدت لتهميشها بالمعنى الشعبي ، والذي إنعكس بدوره على المستوى الرسمي أيضا ً، وذلك نتيجة الهيمنة التاريخية للفقهاء في العصور السابقة ، واستمرار هذه الهيمنة في العصور الحديثة.
غير ان هذه الهيمنة الفقهية قد أضيفت لها هيمنة أخرى ، جعلت المنافسين للفلسفة في ازدياد ٍ مستمر ، فالتقنية والحس الاستهلاكي اللذين يزدادا يوما ً بعد يوم ، قد جعلا أهمية الفلسفة في وضع حرج ٍ للغاية ، فهي بالإضافة لتردي المناهج في الجامعات الخليجية بشكل ٍ عام ، وربطها بسوق العمل من الجهة الأخرى (2) ، قد تم التضييق عليها تدريجيا ً في هذه الجامعات ، ليس بسبب الطابع النفعي المباشر لهذا الفن المعرفي العظيم ، بل بسبب الكثير من الخوف الذي يرافق مجرد ذكر اسم الفلسفة كتخصص دراسي ، وكنمط فكري ومعيشي أيضا ً.
هذا التضييق الكبير على الفلسفة في الكثير من المستويات والأصعدة ، جعل العديد من الدارسين والباحثين ، يلجأون للبحث ليس عن الجذور الدينية والنفعية والمجتمعية لهذا التضييق ، بل عن كيفية استمرار هذه الفن القولي والتفكري في الكثير من الدول الأوروبية وأمريكا وغيرها من المناخات الخصبة التي ترعرعت وازدهرت فيها ، بل وكانت المحرك الاساسي وربما الوحيد للكثير من الاطروحات والتحولات الفكرية في تلك المجتمعات ، ذلك ان هذا الازدهار قد إستمر بالرغم من الحضور الطاغي والمنتشر للتقنية ومغرياتها ، وبالرغم أيضا ً من حضور المنافسين لها في أثواب ٍ جديدة ، غير معهودة سابقا ً.
هذه التحولات جعلت الفلسفة امام عصر جديد ، فالكثير من الاطروحات تذهب الى إننا في العصر التأويلي او عصر الهرمينوطيقيا Age of Interpretation (3) ، وهي في ذلك تستمد حيويتها من ذلك التاريخ المقولاتي الذي دشنه الفيلسوف الالماني نيشته (1844م – 1900م) ، عندما رمى في وجهنا تلك القنبلة الرمزية التي هزت الكثير من القناعات وخلخلت العديد من المسلمات من حيث انه « لا توجد حقائق ، بل تأويلات واستعارات» (4)، مستمرة للحياة ، مشددا ً في ذلك ومكررا ً علينا بشكل ٍ مستمر على أهمية التأويل غير النُسكي ، أي على ضرورة التشبث بالفهم المغاير للحياة ، ذلك ان هذا « الامتناع عن التأويل إنما يعبر عن نُسكية الفضيلة»(5) ، او ذلك التقشف والزهد الذي لا يتناسب مع قوة الاقتدار البشرية التي ينبغي ان يصل لها الإنسان ، مخالفا ً بذلك الخط الذي ينتهجه النساك والمتقشفين.
بالإضافة لذلك فان العصر التأويلي قد استمد وجاهته من خط الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ( 1889م- 1976م) ، وذلك من خلال وعينا بأن المعرفة تأويلات وليست شيئا ً آخر ، كما جاء في القسم الأول من الكينونة والزمان ، كما أن التأويل هو الحقائق التي نعرفها فقط ، وتلك التي نجدها متجسدة في هذا العالم من حولنا ، الأمر الذي منح الفلسفة المعُاصرة دفعة قوية ، وخطاً جديدا ً لم يكن مطروقا ً مثل العصور السابقة. لقد دخل التأويل بعد مارتن هيدجر في منعطف جديد مثلما نجد لدينا منعطفا ً لغوياً «ذلك الذي نشـأ فيما يتعلق بالصراع القائم بين الفلسفة الاوروبية القارية والفلسفة الانجلوساكسونية»(6) الأمر الذي جعلنا أمام أطروحة تقول بأننا أمام انتقال معاصر من «براديغم اللغة الى براديغم الوعي»(7) ، جعل من الفلسفة تهتم كثيرا ً باللغة حتى وصل القول بأن «ارضية التفلسف هي اللغة ، وأن معارك التفكير هي في جوهرها معارك لغوية» (نفسه ، ص109).
مهما يكن الأمر ، فإن هذا العرض المختصر جدا ً ، يوضح لنا بأن الفلسفة لا تفقد أهميتها وراهنيتها ولا تصبح ثانوية ، مهما تكاثر المتنافسون عليها وتزايدوا ، بل بالعكس من ذلك ، فهي تستمد حيويتها من هذه الشبكات المعرفية والاختراعات والاكتشافات والأحداث التي تغير وجه العالم ومساراته وطرقه ، الأمر الذي يعني بأن على الحكومات العربية والخليجية بشكل ٍ خاص ، ان تراجع سياساتها التعليمية وذلك باتخاذ خطوات جريئة ، تساهم في تغيير خارطة الاهتمامات والمناطق الفكرية للأجيال اللاحقة ، وبأن تُدرج الفلسفة على سبيل المثال في مناهجها التعليمية الأساسية والعليا على حد ٍ سواء وذلك بالاعتماد على المشروعية التاريخية الإسلامية من جهة ، والمشروعية الكونية العقلية التي تتجاوز ما عداها.
الفلسفة والمجتمع المدني العُماني :
في عام 2008 م تقريبا ً ، تم افتتاح منتدى الفلسفة الصغرى ضمن منتديات فرق الالكتروني العماني ، وهو منتدى إلكتروني تفاعلي ، يهدف إلى طرح المواضيع والقضايا الفلسفية المختلفة ، وكما هو معروف فان المنتديات او المواقع الالكترونية لا تخضع للجغرافيا او تحديدات المكان التقليدية ، فهو يتجاوز كل ذلك ، ويرتفع عنه ، غير ان الكثير من المواضيع المطروحة تمنح هذه المنتدى مساره وطابعه دون بقية المنتديات.
هذا المنتدى وما تبعه في تلك الفترة من مناشط وفعاليات ، من الممكن اعتبارها بمثابة إنشاء او خلق بدائل ، نتيجة لهذا التغييب الرسمي المستمر لهذا الفن القولي والفكري ، غير ان الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، فهذا المنتدى ونتيجة للتفاعل الكبير ، وغير المتوقع ، مع المواضيع المطروحة فيه ، وبتعاون مع الجمعية العُمانية للكتاب وبعض عشاق الفلسفة ، آثروا جميعا ً مشاركة العالم في الاحتفالات باليوم العالمي للفلسفة ، وهي فعالية عالمية استحدثتها اليونسكو تنفيذا ً لذلك المقترح المغربي ، تهدف للاحتفاء بالفلسفة وتشجيع المعرفة التي تتخذ عنوانا ً معينا ً كل عام ، يتم من خلاله التركيز عليه ، ونشر قيمه الكونية.
لاحقا ً ، لم تقتصر هذه الفعاليات على العاصمة مسقط ، بل امتد هذا التفاعل والشغف لخارجها ، وهذا الامتداد قد تبنته شبكة المصنعة الثقافية ، تلك المؤسسة المدنية التي آثرت استمرار هذا التفاعل مع كل ما هو ثقافي وعدم الاقتصار على الجانب الفلسفي ، مثل تلك الندوة التي أجريت عن مجلة نزوى الثقافية العمانية تقديرا ً لدورها الكبير والريادي في دعم وإنتاج وتنوير الكثير من القراء في داخل الحدود الجغرافية العمانية وخارجها وغيرها الكثير من الندوات والفعاليات المهمة.
مؤخرا ً ، وتحديدا ً في مطلع ديسمبر من العام 2014م ، تم تدشين #لجنة_الفلسفة ، وهي لجنة منبثقة عن الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء ، تهدف هذه اللجنة للتفكير في المواضيع والشؤون اللامفكر فيها في المجتمع ، ولتحسين السمعة السيئة والمخيال المجتمعي المنتشر عن مثل هذه المفاهيم الضرورية كالحرية والديمقراطية والفلسفة من حيث ارتباط هذه الأخيرة بالعديد من المحرمات التاريخية ، ولتحقيق ذلك اتخذت العديد من الخطط والخطوات المختلفة ، التي من شأنها الوصول لأكبر شريحة ممكنة من المتلقين والقُرّاء ، بمختلف أطيافهم المعرفية ، وتوجهاتهم الأيديولوجية ، من بين هذه الخطوات إقامة صالون فلسفي شهري يناقش من خلاله الكتب والإصدارات الفلسفية المختلفة ، على أن يمتد هذا الصالون لجميع الجغرافيا العمانية المترامية الأطراف ، كما سيتم إصدار ملحق فصلي يكون بمثابة تفاعل مكتوب ومستمر مع القارئ تحاول اللجنة من خلاله تقديم وجبات دسمة وخفيفة في نفس الوقت ، وهي في ذلك تهدف لترسيخ ثقافة الحوار وتبادل المعرفة التي من شأنها إنتاج مجتمع أكثر اطمئنانا ً لهذا الفرع المعرفي الضارب في تاريخ الأمم والحضارات المختلفة.
انعكس هذا المنع الرسمي على الفلسفة بشكل ٍ خاص والعلوم الإنسانية بشكل ٍ عام ، في مستوى ونوعية واتجاهات تلك الأوراق التي تم تقديمها في الاحتفائيات المختلفة التي تقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة ، حيث ان هذه الأوراق لا تنخرط في الاهتمامات الفلسفية العالمية المعاصرة ، بل هي تُغرد خارج هذا المسار ، وهذا لا يعني بأي حال ٍ من الأحوال ضرورة مطابقتها لهذه الاهتمامات الفلسفية العالمية ، لكنه يعني بأنها تقع خارج تاريخ هذه الاهتمامات مما يعني بأن البحث الفلسفي لدينا متأخر أيضا ً بسنين ضوئية كبيرة ، غير ان هذا القصور غير المقصود بطبيعة الحال لا ينبغي وضعه كحتمية لازمة ، او كقدر لا مفر منه ، بل هي وضعية تاريخية من الضروري تجاوزها ، والعمل على ذلك بطرق مؤسسية كثيرة.
مستقبل الفلسفة في أزمنة الحيرة :
تبدو الفلسفة في هذا السياق بأنها تعيش مع كل مهتم بها في أزمنة الحيرة والتيه ، بين الاستجابة لهذا الشغف والاهتمام بها ، وبين هذا النفي المضاعف لها ، وتلك الغربة المفاهيمية التي تعيشها سواء لدى المؤسسة الرسمية او لدى الجانب الشعبي كذلك ، غير ان هذه الجوانب القاتمة تحمل بين جنباتها الكثير من نقاط الأمل ، والعديد من مساحات الحركة والحياة ، فهي مثل الأزهار التي تنمو بين الأشواك ، أو مثل عين القط التي تضيء في الغرفة المظلمة ، لا تلبث الا ان تأتي معها نسائم الحياة ، فبالرغم من قتامة هذا المشهد الا ان نشاط حركة الترجمة في السياقات العربية وحركتها المتصاعدة ، تبقى عاملا ً من عوامل بعث الأمل في نفوس المهتمين بها ، أضف الى ذلك فإن هذه الأنشطة المدنية المتزايدة التي تهتم بالجانب الفلسفي سواء على الصعيدين المحلي أو الإقليمي ، كفيل بتغيير أذهان الكثير من القراء والمتلقين من مثل هذه المفاهيم وتشجيع الإقبال عليها ، بل وجعل المجتمع المدني المحلي بالرغم من هشاشته الكبيرة ، ينشئ العديد من المبادرات لتشجيع هذا الفن القولي ، ذلك انها (الفلسفة) تصبح أكثر أهمية يوما ً بعد يوم ، بل وتتضاعف هذه الأهمية إذا عرفنا بأن الكثير من الشخصيات المؤثرة على المستوى العالمي تستند على خلفية فلسفية ، ربما ليس بالضرورة ان تكون عميقة ، بحيث ان المشتركات الكونية هي السائدة والمنتشرة لحظة القيام بالتفكير العمومي ، مما يجعل الفلسفة تحظى بقبول متزايد أكثر من أي وقت مضى.
إن مواضيع أساسية وضرورية مثل الحرية والديمقراطية وغيرها ، ما كان لها ان تحظى بهذا الانتشار الكبير من النقاش والمطالبات العمومية في مختلف الأصعدة والمجالات وباختلاف الجنسيات والثقافات ، دونما ذلك التنظير الفلسفي الواسع والكبير التي حظيت به هذه المواضيع لدى الأمم والحضارات المختلفة ، القائمة على أسس فلسفية وكونية تتجاوز كل الاختلافات وتشجع العوامل المشتركة ، نقول ذلك اذا أدركنا جيدا ً أن معالم العصر الحالي والمستقبلي تقوم على إبراز العوامل البشرية المشتركة وتنميتها ، في حين ان الاعتماد على الجوانب الفئوية ينبغي ان ينخفض بشكل ٍ مستمر ، الأمر الذي يعني بأن العقل وهو المشترك الأكبر بين بني البشر ، بعيدا ً عن التقسيمات الدينية والثقافية والعرقية وغيرها ، يصبح هو العامل الذي تدور حوله النقاشات المختلفة ، وترتكز عليه كل المشاريع البشرية ، بالرغم من سطوة الكثير من المصالح الشخصية وحضورها القوي ، ودوافعها المتزايدة يوما ً بعد يوم ، إلا إنها ستقع في فخ التبعيض ، الذي ينطبق على الجزء دون الكل ، فهو بهذا المعنى يُشرعن كل القوانين ويجعلها قابلة للتطبيق والتفنيد في سلسلة طويلة لا تنتهي.
خاتمة :
تشكل الفلسفة في المستقبل عاملا ً مُهما ً لفهم وتحليل الحاضر فهي لم تعد مجردة كما هي التهمة الجاهزة الملتصقة بها ، ذلك ان المتفلسف من الضروري أن ينخرط في تحليل الأحداث الراهنة التي تحيط به ، وبمجتمعه ، وبالأدوات المتوفرة لديه ، وبالمناهج التي يتم تشييدها يوما ً بعد يوم ، وهو في ذلك يهدف لإضاءة الحاضر بناء على المعايير البشرية المشتركة بين البشر ، حيث نجد ذلك متجسدا ً بشكل واضح وجلي لدى الفيلسوف السلوفيني المعاصر سلافوي جيجك (1949م-؟؟؟) ، الذي قال عنه الناقد الانجليزي تيري إيجلتون (1943م-؟؟؟) ، بأنه لم «يعد ثمة موضوع على الارض لم يكن قمحا ً لمطحنته الثقافية « فجيجك قد تحدث في المواضيع الفلسفية الأصيلة والدخيلة عليها على حد ٍ سواء ، مواصلا ً رحلاته الفلسفية في المواضيع النفسية مرورا ً بالسينما والافلام وتحليل القهوة والانتخابات السياسية والحب في العصر الاستهلاكي كما هو عنوان الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو(1937م-؟؟؟) وغيرها من المواضيع التي نجد انه من الوهلة لا صلة لها بالفلسفة ، غير انه مع تقدم النقاش نكتشف بأنه لا توجد مواضيع في مأمن ٍ من التناول الفلسفي الذي يمنحها الكثير من العمق والمتعة والجمال المفتقد.
الهوامش
1) سعيد توفيق ، محنة الفلسفة : أزمة العلوم الانسانية في الجامعات الخليجية ، مجلة نزوى ، العدد الاربعون ، اكتوبر 2004م.ص16 – ص 27.
2) أنظر كتابنا : الاصولية والعقلانية : دراسة في الخطاب الديني العماني ، دار الفارابي ، 2012م ، ص203 وما بعدها.
3) GIANNI VATTIMO & RICHARD RORTY : THE FURURE OF RELIGON , COLOUMBIA UNIVERSITY PRESS , EDIITED BY : Santiago Zabala , page :43.
4) مستقبل الدين ، مرجع سابق ، وجينالوجيا الاخلاق لنيتشه ، تر: فتحي المسكيني ، المركز الوطني للترجمة ، دار سيناترا.
5) جينالوجيا الاخلاق : مرجع سابق ، ص32 وما بعدها.
6) د.الزواوي بغورة : الفلسفة واللغة : نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة ، دار الطليعة ، ط1 ، 2005م ، ص60.
7) فتحي المسكيني : التفكير بعد هيدغر : او كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل ؟ دار جداول ، ط1 ، 2011م ، ص108.
——————-
علي سليمان الرواحي