أصدر عبدالله البلوشي انتاجه الأول( برزخ العزلة)في شهر يوليو من هذا العام عن مطبعة عمان ومكتبتها المحدودة، محتويا إحدى وثمانين صفحة من الحجم الصغير (مقاس 25X12) توزعت على اثني عشر نصا نثريا، كشفت عناوينها منذ البداية أنها غير مهمومة بقضايا اجتماعية محددة ولا متفاعلة مع أحداث واقعية متنوعة بأي وجه من أوجه التفاعل .
وانما هي عملية راجعة الى مستقر الذات تستبطن أحوالها، وتعبر عن أحزانها من خلال مسالك الهجعة والحلم ، وتتوسل لغة الرومانسية الحانية التي تجد في مفردات الطبيعة الحية خير معبر عن رحلة الذات في التفاعل مع أسرار النفس والكون .
ولكن الرومانسية تفقد جذوتها في مثل هذه النصوص المنطوية والحزينة التي تتدثر بمفردات الكآبة والمكابدة، دون أن تتصل بنسق فكري أو معرفي عميق ، تحاول معانقته أو الاقتراب منه ، أو التبشير ببعض ملامحه .
ولذلك اتخذت هذه النصوص طابع التكرار والمعاودة، إذ تظل النفس تجتر همومها الداخلية دون استشراف لتجارب الحياة أو استفادة وانفتاح على قضاياها الخالدة .
إن هذا الانغلاق الذاتي جعل مسيرة النصوص ذات طعم واحد لم يتغير إلا في لمحات شاردة سرعان ما يصيبها لفح الانطفاء، فتخبو وتعود لنغمات مطارق الإحباط والغربة .
وليس عجيبا بعد ذلك أن يكون العنوان الجامع لهذه النصوص كلها: (برزخ العزلة ) .
ويجب أن نلاحظ في هشا المقام ان معظم انتاج الشباب العماني في القصة والشعر – على حد سواء – يتخذ من مفردات العزلة
والكآبة صدى هائلا ورنينا أخاذا يظل يتكرر باطراد في أبنية انتاجه ، وتخيم أجواؤه على روح النصوص لتتحول في مداراتها الى مراثي للنفس أولا ثم للمدن والأصحاب وأنبل العلائق .
وهذا التقابل المتقاطع والصارخ يوحي في الباطن بتجليات تعرض ردود الأفعال وانعكاسات روح الاحباط واليأس لدى الجيل الراهن المسكون – فيما يبدو – بالخوف من آفاق المستقبل ، وبأوضاع الحالة العربية عامة.
وهذه نغمة فاجعة لا محالة، لأنها لا تدفع إلى ميادين الفعل المبدع ، ولا تصر على الإيمان بالتغيير، بل تظل معلقة بنوازع البكاء والحنين دون تطلع خلأق .
ولكن التدقيق النقدي في هذه الظاهرة يكشف أنها مسقطة في النصوص ومنتحلة في بعض الأحيان ، وبمعنى م خر فانها متلبسة بظواهر الألفاظ وليست تأسيسية، لأن القراءة الداخلية لهذه النصوص لا تجلي هذه الاهتمامات والهموم ، دائما تجدها على السطح أو معدومة تماما.
****
لم يلتزم "عبدالله البلوشي " في كتابته بالقواعد الشعرية المعلومة كالوزن والقافية، تمشيآ منه مع تيار قصيدة النثر.
ولكن هذا التيار وخاصة في رموزه المعروفة استعاض عن تلك القواعد
بمقتربات شعرية أخرى مثل الجرس الموسيقي وجمالية العبارة وتتاسق
الصور وفتانة التعبير.
ورغم أن الشعراء يتفاوتون باقدار كبيرة في حسن الاستفادة والتمثل من تلك المقاربات إلا انه كان من الأهدى للكاتب أن يعرض نصوصه متسلسلة متوحدة حتى تبدو كقطع نثرية فنية متكاملة، إلا انه فضل أن يوزع كلماته وألفاظه ويترك بينها مسافات طويلة توحي بانها تهتدي بمسلك قصيدة التفعيلة الواحدة، فجاءت مبتورة وفاقدة لروح التسلسل الشعري الرائق .
ومنذ النص الأول بدا هذا التوزيع غير فعال في صنع مقتربات جمالية سلسة في اختيار الألفا!ظ وصياغتها، فتراءت مربكة وثقيلة مثل هذا المقطع :
أن أندلق من جسدك الميت ذلك العائد عل كتف الملاك "(ص 7).
ومن الواضح ان استعمال اسم الاشارة البعيد قطع التسلسل مع البداية
وذهب بالشعرية المنشودة، وهو مسلك يتكرر كثيرا في النصوص فيفقدها الصياغة الشعرية كل مرة:
* أتذكر قبلتي الصامتة على جذعها المخيف تلك أزمنة نذرتها لليل
لذلك غرستها طفولتى في جذور الشمس ان استعمال أسماء الإشارة اختيار غير موفق ، لأنها تحولت بمستوى البناء الى الخطاب السردي المنطقي (فألفاظ من قبيل : لكي ، وأيضا، ولذلك ، وربما، لا تصلح أبدا في لغة الشعر لى انما يجري استعمالها في الاستدلال وتقرير الأحكام .
وقد حولت هذه العكازات المنطقية :
( لكن – إذن – في حين – ربما) مستوى النثر نفسه إلى حشو سردي ثقيل .
وهذه نماذج توضح حجم هذا الإرباك :
– " انتقل كظل كظل – ربما لا يعود لعل الجذور لم تطبع قبلة على شفتي
لكن وددت لو أنها تمنحني الغفران إذن لاكتفيت بفراشة في
صحراء (ص 12).
– " لكنني سانبش الصحراء لأبحث ربما عن تل أو ربما
عن متاهة طفل يحاصره البكاء(ص 27 ).
– " ان الصخرة التي حطمت رأسي بالأمس لابد من نفسها
اليوم "(ص 59).
***
لا يخفى ان جمالية الشعر انما تستمد رونقها من الاختيار الموفق للألفاظ السلسة العذبة التي تغذيها المعاني رالصور الرقراقة، كرذاذ مطر الصيف
الحار، أو تنمي دفقها المتوهج خيالات المشاهد والتجارب الحافلة بالحياة
والبهجة، أو تزكيها الاستعارات البليغة والرموز البديعة، وهذه المسالك جميعها كفيلة بمقدار معتبر لكي تنهض بمبدأ التعويضى عن نقائص الوزن والقافية .
ولكن نصوص عبدالله البلوشي لم تكابد هذا التطلع والنزوع ، واقتصرت على نرع واحد من التعبير ظل خاضعا لأساليب النداء والإشارة والجمل الاسمية الباردة .
وفي النص السادس (محبة) تمثيل دقيق لهذا المستوى الأحادي من التعبير الذي يقتصر على النداء والتكرار والذي أحال الفكرة الحية الى أفق جاف وشاحب .
يقول النص :
" أناشد كم أيها (العابرين ) أن تسقطوا
ماء على النار
اناشدكم أن تعشقوا الأرض
أناشدكم أن تكسروا السهم
وبعد أن تسقط أجسادكم أرواحا
عذرية اللون
ستخلع السماء معطفا
فوق أضرحة الموتى
وتهديكم الأرض حلة
من زنبق الوديان (ص 35).
وضعت كلمة العابرين بين قوسين لبيان أنه لا مسوغ لنصبها أو جرها فهي مرفوعة بالواو عل النداء، كما ان استعمال صيغة الاسقاط للماء والأجساد غير دقيقة فضلا عن تكرار عبارات المناشدة التي جمدت النص وأضفت عليه ظلالآ ثقيلة من البيانية والخطابية .
****
حاولت النصوص مقاربة المنحى الصوفي الذي أصبحت مفرداته موضة
شائعة جدا فى الخطاب الشعري الحديث ، وقد تكفلت هذه المفردات بالإيحاء بأنها متساوقة مع أغراض النصوص كلها، وأضفت ممليها ظاهريا مسحة من السكينة والنزوع الى التأمل ، إلا ان التكرار أفقدها
كثير) من عناصر الجمال المنشودة .
إن لفظ السماء تكرر عشرين مرة ولفظ الجسد تسع عشرة مرة ولفظ الشمس عشر مرات!! وبهذا التراكم صار التمييز بين المقاطع
المتماثلة أمرا لا طائل من ورائه ، وظل النص يعيد نفسه مرة بعد أخرى بدون تغيير يذكر.
وهذان نموذجان يشيان بذلك التماثل العجيب :
يتول المقطع الأول ، :
"بالأمس"
كان يضمني صدر نائحة
تشبه قديسة كالشمس
تفصلني الجذور عن الليل
لأتحد بجسد أكثر موتا
من دماء أمي
هكذا بعد زمن آت
سيسقط جسدي عند منحدر ما (ص 25).
ويقول المقطع الثاني :
" من ربوة كنصال حادة
اقتلعت جسدي
فصرت أشبه برجل مجذوم
لكنها الأرض
تنبتني من جديد
تلك هي أمي
وأنا الزهر الذي يتجذر
في شواهد القديسين
وتباركه السماء (ص 63)
****
حفلت النصوص بالرموز والدلالات المسيحية وأقحمت في السياق عنتا لا لتخدم جماليته أو رمزيته ، وإنما كتقليد مستمد من أدبيات بعض الشعراء العرب المسيحيين ، وقد تحول هذا التوجه إلى غنائية احيائية وتبشيرية لا قيمة لها، ويكثر هذا النزوع المسيحي في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وقاسم حداد، ولكنه لم يتخذ في (برزخ العزلة) أية قيمة رمزية اشارية وإنما شكل فائضا حشويا لا مبرر له مثل (الخطيئة
والغفرا ن ، والقديسين ، والرهبان ، والصلب ، والأيقونة ، والملكوت
والتراتيل .
لقد أدى هذا التراكم اللفظي والحرص على إقحام الرموز المسيحية إلى إرباك النص بالجمل الاسمية المتراصة الزائغة عن سمت اللغة العربية في بناء الكلام .
وهذا مثال يكشف صورة هذا التكلف :
" أتذكر ذلك النشيد
حين يغسل الخطيئة كل مساء
البوابة المشرعة عل الريح
السماء. . اصطفاء القديسين
الشجرة الأم (ص14 ).
تجنبت النصوص الاغراق في الديباجة المرصعة التي تستهوي دائما الكتاب الشباب ، واستعاضت ببعض اللفتات الخاطفة والجمل المختصرة وهذا مسلك محمود، ولكنها وقعت في مأزق أسوأ: هو الاستعارة الملفقة من مصطلحات المتصوفة لى اقحامها في سياق غير منسجم ، كقول
الكاتب :
"تركت ذاكرتي تحت غطاء قديم تنهشها الجرذان في وضح النهار لاشيء في جسدي سوى الله وبقايا من الخوف "(ص62).
فما وجه العلاقة بين الذاكرة التي تنهشها الجرذان ، وبين إقحام لفظ الجلالة في هذا السياق ؟ ومن أين يجيىء الخوف بعد ذلك ؟
إن الحرص على إقحام قولة محرفة عن الحلاج أفسد النص وجعله متهافتآ ذوقيا ومنطقيا.
*****
هناك ظاهرتان متباينتان تستحقان المتابعة والتمحيص يتعلقان كلاهما بطبيعة الانتاج الأدبي العماني الحديث .
الظاهرة الأولى: ايجابية الحضور التي أبداها الكتاب الشباب العمانيون ؟ فرغم ندرة المنابر الثقافية وقنوات التواصل ، ورغم حداثة السن والتجربة إلا انهم سعوا بجهود موفقة نحو تأكيد هذه المساهمة التي تتجلى بالخصوص في توالي الاصدارات وتعدد الأصوات في القصة والشعر في السنوات الأخيرة.
الظاهرة الثانية : سلبية التمثل والنقل : فالحرص على الحضور لم يقابله
سعي حثيث نحو البناء الذاتي والاستقلال بالنظرة والتجربة بل صبغها بصبغة النقل ، فجاءت المحاولات الأدبية نسخا عن تجارب الآخرين شرقا وغربا.
وقد آن الأوان لكي تحل مرحلة انتقالية جديدة، يجد فيها الكتاب ذواتهم
وشخصيتهم .
ونأمل أن يكون صدور مجلة (نزوى) مبشرا بآفاق هذه المرحلة الجديدة ودافعا نحو ميادين الإبداع والتميز.
محمد حسن بدر الدين
الكتاب: برزخ العزل
تأليف: عبدالله البلوشي
الناشر: المؤلف
83 صفحة، 1994م