ليندا نصار
يطالعنا الشاعر شوقي بزيع بدراسة تحت عنوان «مسارات الحداثة» صادرة عن دار الرافدين (مسكيلياني) 2021 يتناول فيها مجموعة من الشعراء المؤسسين للحداثة من لبنان والدول العربية. وهو يأخذنا إلى عالم من التجارب التي عاشها هؤلاء محتفيًا بكل شاعر كما يليق به من تقدير وإضاءة على أهمّ النواحي التي ساهمت في مرحلة الحداثة.
يجول بنا الناقد في مكان آخر اختاره من هذا العالم، وكأنّه يقدّم لهؤلاء الشعراء نوعًا من العرفان لعطاءاتهم، ولما قدّموه إلى المكتبة العربية ولإغنائهم الوسط الثقافي بمعرفة لا تنضب وثقافة لا تمّحى. لم يخفِ بزيع المخاوف التي اعترضته خلال عملية البحث والكتابة، فقد كان على يقين بأنّ مهمته صعبة كشاعر دخل في هذه المجازفة غير الآمنة بالنسبة إليه، وذلك نظرًا للتباين الكبير بين لغة الشعر التي تنطلق من القلب ولغة النقد التي تنطلق من العقل مشيرًا إلى ثنائيّة الناقد والشاعر التي تواجه كلّ من يدخل في هذا النوع من البحث والدراسة.
بالنسبة إليه، يرى بزيع أنّه ليس على الشاعر أن يتعرّف إلى المناهج النقدية ومدارس النقد كافة كي يتمكّن من ممارسة النقد، فبرأيه أن الشاعر له حساسيته وتجربته التي تخوّله فهم آليات النص والكشف عن مزاياه وهو القادر على استخلاص النتائج المناسبة بمعنى أن يكون ناقدًا حقيقيًا.
ينطلق شوقي بزيع من عنوان دراسته الموسومة «مسارات الحداثة» في اتجاهات تنقل الإنسان إلى حالات مغايرة متطوّرة وفاعلة، ولا مراء في قوله إنّ هذه الهزّة الحداثية شكّلت تيارات مناهضة خصوصًا وأنها كانت حركة معاكسة لكلّ ما هو شعبي، كما أنّها انطلقت مع الصناعات الحديثة والتطوّر بدءًا من الغرب وأثّرت في أنموذج الإنسان الحياتيّ ثمّ انسحبت على حياته الأدبية والفنون التي كانت معه.
يعتمد شوقي بزيع في كتابه طريقة البحث العلمي، إذ ينقسم كتابه إلى جزأين: نظري وتطبيقي. تعدّ المقدمة المطولة من خمس وسبعين صفحة جزءًا نظريًّا في هذه الدراسة، وهذا ما ينمّ عن ثقافة وخبرة في حقل النقد حيث قدّم المعلومات الموثّقة، محدّدًا أهدافه من الدراسة، مذلّلًا العقبات التي واجهته خلال العملية النقدية، فإذا بنا أمام منهج تحليلي وتاريخي، وقد عرض للحداثة في لمحة سريعة ذاكرًا أهم النقاد والأدباء الذين كانت لهم آراء وازنة في هذا الموضوع. ويرتقي هذا البحث إلى أسلوب البحث العلمي، إذ يعني القارئ ويمنحه المعلومات اللازمة، ويحاول التوصل إلى النتائج من خلال الكشف والتدقيق بعد معالجة الحداثة الأدبية، كما يحاول إيجاد الإجابات المناسبة للإشكاليات المطروحة من خلال التحليل والقراءة والاستنباط والتأويل.
يعرض الناقد للحداثة بمفهومها والتباساتها وتعريفها كون مفهومها قابلا للتأويل فيعود إلى نماذج الحداثة العربية خصوصًا في عصر التنوير بين القرنين السابع والتاسع عشر التي بلغت ذروتها بين القرنين التاسع عشر والعشرين فيعرّف بمصطلح الحديث modernity، وهو النقاش الذي كان سائدًا بين أنصار الموروث وبين المصطلح القديم modernism، بين أنصار التجديد مع شارل بودلير.
يعود الناقد إلى بدايات الصراع والاختلاف حول مفهوم الحداثة التي لم تصدر عن تاريخ واحد ولا مقاربة واحدة لفهمها، وهذه الحداثة حوّلها العالم إلى سلاح أيديولوجي، فتبدو المقارنة بين كيبلينغ الذي اعتبر أنّ الشرق والغرب لن يلتقيا، بينما كتابٌ آخرون من ذوي الاتجاه الرومانسي نادوا بمبدأ التكامل. هذا الاختلاف الكبير قد ظهر بشكل عنف دموي وانسحب على الفكر والثقافة. فيعتبر لوفيفر أن بودلير هو رائد الحداثة وبالنسبة إليه تقصّت الحداثة القمّة عام 1905 مع أبولينير وماكس جاكوب وبراك وبيكاسو وصولًا إلى أندريه بروتون والسورياليين. أمّا بالنسبة إلى فرجينيا وولف فالحداثة مرتبطة بتغيّر علاقات البشر وبتبدّل النظرة إلى الدين والأخلاق والسياسة والأدب، كذلك يربط ليونيل تريلنك الحداثة بالعدمية وقوى اللاعقل والاضطراب…
ويتابع بزيع أنّ هايدغر يرى أنّ الحداثة ديانة جديدة، معتمدًا على التجربتين الروسية والأميركيّة حيث ينتزع الإنسان من أصوله ويخلع العالم من شعريته. فالحداثة قائمة على العلم، ويجب النظر إلى الشعر من ناحية اللسانيات والشكلية أو الفلسفة الممسكة بالمفاهيم باعتبار أنه الفن الأقدر على تمثل ماهية الوجود وحقيقته. حداثة شوبنهاور ونيتشه وهايدغر هي احتجاج على التصحّر الروحي الذي ضرب الحضارة الغربية في معيار التوحّش الرأسمالي. وقد وجدت الحداثة صداها مع كتاب شبنغلر في كتابه «تدهور الحضارة الغربية» ويجد ذلك ارتداداته في الأعمال الإبداعية مع إليوت وكافكا وغيرهم…
ويخلص بزيع إلى إنّ الحداثة هي ابنة الدينامية والتنوّع وليست ربيبة الجمود والقوالب الجاهزة، وهذا ما جعلها تحوي مثالية هيجل، ومادية ماركس، وكشوفات فرويد، ويونغ النفسية والسوريالية والرمزية.
الحداثة التي صبّت بأفكارها ومفاهيمها في ذلك العصر، انعكست على الشعر واختلاف أساليبه ولغته ورؤيته للعالم، من هنا اختلفت مقاربات الشعر فالتقى بودلير مع البرناسيين حيث قال بأن لا غاية للشعر إلا الشعر ذاته، وهو الذي يلتحم بوحل الحياة القائم على التناقضات بين الحسي والمجرّد، بين القبح والجمال. ويشير بزيع في لمحة سريعة إلى قصيدة النثر في الغرب مع والت وايتمان في «أزهار العشب» ورامبو وسان جون بيرس وغيرهم… فيرى أنّ هذه القوة التي دفعت بقصيدة النثر إلى الأمام خصوصًا مع سوزان برنار في كتابها «قصيدة النثر» لم تلغ الإيقاع والنظم، كذلك ظلّ الكثيرون مهتمين بموسيقى الشعر منهم أبولينير وإيف بونوا وأراغون وبريفير…
ويستدل الناقد ممّا تقدم على أنّ الحداثة ليست تمردًا على الأشكال أو استبطان نصّ بدلًا من النص الموارب، بل هي دعوة لتحرير الشعر من الوظائف التي أنيطت به بشكل تعسفيّ، لينفتح على فضاءات الحرية. فالحداثة صوّبت نحو الذات الشاعرة الفردية بعلاقتها بالعالم حيث صارت محورًا، إذ تغيّر مفهوم الزمن وصار لولبيًّا متقطّعًا. يتحدث الناقد هنا عن الزمن الكرونولوجي بحسب توهّج وانبثاق النص وصولًا إلى القرن العشرين، ليقول مع أندريه مالرو بأنّ متحفا واسعا من الابتكارات الأسلوبية وشعراء الحداثة استفادوا من الأساطير.
ويتطرّق صاحب «فراشات لابتسامة بوذا» إلى دخول حداثة الغرب في زمن ما بعد الحداثة إذ صارت تسويغًا عقلانيًا للتصحر الروحي وإلغاء للإنسان. وفي مراقبته يشير إلى أنّ المجتمعات العربية لم تدخل في فترة الحداثة بل قلّدت التقنيات الحديثة الغربية، واستخدمتها بطريقة تقليديّة. هنا يطرح بزيع إشكالية إنتاج الأدب الحديث في عالم لا يملك حداثة اجتماعيّة وعقليّة وعلميّة واجتماعيّة، في عالم ما زال خاضعًا للماضي. حيث أنّ الحداثة ليست مفهومًا موحّدًا جاهزًا ينطبق على الجميع. فالعرب واجهوا الحداثة بالاستبداد والعقل بالتجهيل تحت شعار الدين والتاريخ والطاعة فانقسمت عندهم الدلالات المعجمية للحداثة العربية. ويتابع: إنّ أصحاب النقص والفقهاء يقولون إنّ الحداثة نقيض الدين وتقاليد العرب، وقد ظهرت المعارك الفكرية والفقهية في الفرق والمذاهب وتشعّبت الآراء في العصرين الأموي والعباسي. ثمّ تجاوز العرب هذا النقيض بين الشعر والدين ليصبح الشعر شريكًا في ممانعة الأشكال ومغامرة المخيّلات. أمّا المجدّدون منهم فلم يستطيعوا تخطّي النسق التحليلي، وعن أدونيس يقول إنّه لا يرى في وجود الوزن أو انعدامه المعيار الذي تتحدّد بوساطته القيمة كجوهر للنصوص. أمّا أبو نواس فهو من أهمّ المجددين العرب في شعره الخمري وخروجه عن المألوف.
وينتقل شوقي بزيع إلى أدباء المهجر وشعرائه طارحًا موضوع النص المفتوح والحساسية الجديدة، فيرى أنّ الريحاني من خلال كتابه «هتاف الأودية»، بدا متأثّرًا بوالت وايتمان في عمليّة التوأمة بين الشعر والنثر. فهنا اختلاف وانتقال إلى النثر الأدبي المسجّع في تلك المرحلة أمثال جبران خليل جبران الذي تمرّد في أعماله النثرية ونقل العربية إلى ضفة أخرى.
وفي تلك المرحلة، نشأت السجالات بين عدّة مدارس أدبية منها مدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومجلّة الرسالة… حيث نشطت الحركة الفكرية والثقافيّة. وقد كان النصف الأول من القرن العشرين تمهيدًا لانفجار الحداثة من خلال الإبداع والازدهار والمدارس الأدبية والصحافة والترجمات… كما كانت العاصمة بيروت حاضنة للانفجار الحداثيّ بما مثّله من انفتاح وحرية وإبداع، فصار لبنان منصّة ثقافية تجمع الشرق بالغرب خصوصًا مع مجلّة الآداب ليوسف إدريس ومجلّة شعر مع يوسف الخال والشعراء المؤسسين.
في حديثه عن سعيد عقل، يشير صاحب «ملكوت العزلة» إلى الحضور الآسر الذي امتلكه سعيد عقل بشخصيته وهو الذي يتمتّع بموهبة شعرية عالية ومواقف سياسية معروفة ومختلفة عن باقي الشعراء، خصوصًا في رؤيته للحياة كفرصة ثمينة يجب أن نستفيد منها بعيدًا عن الشهوات. وقد حاول هذا الأخير رفع الذات وتضخيم أناه كطريقة للوصول الى السلطة والتعبير عن الحضور الجمعي.. عالم سعيد عقل مبنيّ على المثل العليا وتصوراته المسبقة لا علاقة لها بالواقع. فالشعر عنده يحلّق فوق الحياة، ولكنه يصطاد من الحياة اليومية، إنّه صاحب البراعة في التأليف، وهي التي تذهل السامع -على حدّ تعبير شوقي بزيع-، صنع سعيد عقل لغة متعالية متقنة مبتعدًا عن الحداثة في احتفائها بنثرية التفاصيل لكنه التقى معها في الخروج من النمطي والبحث عن أفق جديد للكتابة إلى حد الإدهاش. لكن ثمّة موقف يسجّل على سعيد عقل وهو الدعوة إلى ترك الفصحى والكتابة باللغة المحكية بأحرف لاتينية.
اجترح نزار قباني حداثته الخاصة وهو لم يأخذ عن الآخرين وكان أحد الرواد الذين وسعوا طريق الحداثة وأخرجوا الشاعر من عزلته. إنه شعر نزار قباني الذي كان تعبيرًا صادقًا عن التحولات العميقة في المجتمع العربي خصوصًا في فترة ما بين الحربين، وكان خطابه ردًّا على العنف والحروب المدمرة بشقيها القومي والعالمي. ويضيف بزيع بأنّ شعر نزار قباني يقع في الخانة المضادة لسعيد عقل على مستوى الأسلوب واللغة والدلالة الاجتماعية والرؤية للعالم والتحرّر والانفتاح وتجاوز الخطوط الحمراء بين الجنسين، إنه شعر مدينيّ بامتياز. ويقارن شوقي بزيع بين سعيد عقل ونزار قباني على مختلف المستويات، فيبدو شعر نزار قباني نتيجة احتكاك اللغة بالواقع وبالحياة في قصيدته «الحواس الخمس» صورة نابضة بالحياة. انفتح نزار قباني على مختلف أنواع الكتابة وأساليبها وقد واجه سوء التقدير، إذ اعتُبر بأنه يلامس المكبوت الاجتماعي ويبتعد عن عمق الأسئلة الوجودية. ويشير شوقي بزيع إلى بعض النقاط السلبية عند نزار قباني، منها المبالغة مع ذوق الحشود الذين يريدون مفهوم الشعر على طريقتهم، والشعر عنده استخدام للصور النمطية، وشعره السياسي في معظمه كأنه استمرار لفن الهجاء عند العرب، إذ كتب عن السياسة بوساطة المفردات نفسها التي تحدث فيها عن المرأة.
يعدّ بدر شاكر السياب شاعر المنعطفات الكبرى والحساسية الجديدة، فقد جسّد روح الشعر، وشعريته هي شعرية العصب اللامع الجامح والتوالد التلقائي للأعماق. ويبحث شوقي بزيع في الأسبقية الزمنية بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، ويحسمها لصالح السياب. فبالنسبة إليه، لدى السياب لغة ومخيلة وكتابة جمالية عالية تجسد رؤيته للعالم. موهبة السياب متوقّدة وهو على معرفة حقيقية بأسرار القصيدة، وهذا ما جعل تجربته تستحق التقدير، لديه علاقة مميزة بالأماكن منذ طفولته وهو جاهز دائمًا لالتقاط ما يحرّك قلبه ومشاعره وكأنّ الشعر عنده ملازم للذات في تكوينها الأصليّ. وكان لنازك الملائكة دور مهمّ في حداثة الشعر على الرغم من أنّها ظلّت أسيرة الموروث في وقت لاحق كما يتبدّى لنا.
أمّا بلند الحيدري فقد كان متواضعًا يعيش في الظل بعيدًا عن الإعلام، وهذا ما جعله شبه غائب في مراحل كثيرة من حياته. ثمّ ينتقل بزيع للحديث عن علاقته بأدونيس خلال فترة دراسته بالجامعة اللبنانية ويعتبره ذا دور فاعل في الانتقال بالشعر من زمن إلى آخر، خصوصًا بعد أن تعرّف إلى رامبو وبودلير ونيتشه، ثمّ تأسيسه مؤسّسًا «مواقف». وهو الذي شرّع الشعر على الحرية الثقافية والفكرية مسائلًا الوجود ساعيًا إلى تغيير العالم والخروج عن المألوف نحو الحداثة الحقيقية. وكان عبد الوهاب البياتي غارقًا في السياسة والشعر الملتزم موظّفًا تجربته للأحزاب الشيوعية، وهذا ما جعله مميّزًا بالنسبة إليهم فرفعوه، إلّا أنّ هذا النوع من القصائد انتهت صلاحيته بانتهاء المناسبة. أمّا عن ديوانيه اللذين كتبهما قبل رحيله، فيرى الناقد بزيع أنهما ابتعدا عن غاية السياسة وتطرّقا إلى مواضيع تمسّ الذات وتدعو إلى التأويل.
خليل حاوي الذي تحوّل الأمل معه إلى ألم وخيبة، هو صاحب القيم التي آمن بها وجعلت من نصوصه ترجمة لها. ولم ينسَ الناقد شوقي بزيع المرور على تجارب كلّ من صلاح عبد الصبور وسعدي يوسف والماغوط ويوسف الخال ومؤسسي مجلة شعر وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وتوفيق الصايغ وعصام محفوظ ومحمد عفيفي مطر ومحمود درويش وأمل دنقل وحسب الشيخ جعفر ومظفّر النواب وسركون بولص. من هؤلاء جميعًا قدّم إلينا الشاعر والناقد شوقي بزيع صورة تستحق الإضاءة لأنّها تختصر زمنًا كان الشعر فيه تميّزًا وثراءً للإنسان والمجتمع في لبنان والدول العربية بل في العالم أجمع.