من القراءة السريعة لديوان «أرض الباسيفلورا الحزينة» ، للشاعر مروان مخول، لفت انتباهي أمران، أولهما الصور الشعرية المتقنة، وثانيهما، الرموز التي لا تحتاج إلى عقل رياضي للوصول إلى المعنى. قد يظن البعض أن القراءة السريعة تعني التصفح السطحي. وهذا ظن خائب. العمل الجيد يقرأ بسرعة ، ولا يحتمل التوقف ، لأنه يحث القارئ تلقائيا، بنوع من الإثارة تشبه الغزل ، ولكن مع أنثى من نوع مختلف، مركبة من قصائد وصور ذهنية ورموز بالغة الشفافية، تدفع للتأويل المثير للتفكير الملذ والجاد. تمهلت في كتابة انطباعي عن الديوان، مترددا بأن لا أكون قد تأثرت بما يمنع عني الرؤية الموضوعية، وأنا لست من المحبذين لكيل المدائح، وأرى ضرره واضحا في ثقافتنا. وأقول من البداية أن بعض القصائد لم أشعر بدافع لأنهيها، وقرأتها بلا أي انطباع خاص، بينما أكثرية النصوص أعدت قراءتها مرة أخرى مثيرة لدي تأملات جميلة، ورونقا شدني، تمتعا بالخيال التصويري الخصب للشاعر. هناك تكرار ما ، أو إعادة استهلاك لفكرة ما ، يبدو أن المشكلة بان صاحب الكلمة لا يتنازل عما أنتج ، حتى لو كرر نفسه، وهذه الحالة لا تخص مروان تحديدا ، إنما ظاهرة سائدة عند الكثيرين من المبدعين. ولن أخوض إلا في ملاحظات انطباعية عامة، من منطلق أني لست ناقدا بالمفهوم السائد، ولن أكون ، ولا أملك أدوات النقد المتعارف عليها ، ولا أحب التعامل مع ما لا أرغب، بل أنا أقرأ ما أتمتع به، أو أوقف القراءة بعد الصفحات الأولى ، والنص الذي يشعرني بالمتعة هو ما يدفعني للتعبير عن انطباعاتي وأفكاري الثقافية حول العمل الأدبي، وما يتجاوز النص نفسه ، نحو قضايا عامة أيضا.وإذا سميت نقدا فلا بأس، نكسب بذلك صفة لا تثقل الكاهل ولا تضر بالقصد. العنوان أوحى لي فورا الارتباط مع عنوان كتاب «أرض البرتقال الحزين» للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. وفورا اشتعل الضوء الأحمر لفهم هذا التحاور مع الصورة الكنفانية. نص أرض الباسيفلورا الحزينة ، في الديوان هو نص نثري، فيه شاعرية خاصة بالنثر الجيد، وهو ما يذكرني بنثر محمود درويش الذي كان يشدني ويسحرني ليس أقل من قصائده، وآمل أن يطور مروان أدواته النثرية أيضا، فهو يبدو ناثرا جيدا أيضا ، ويملك القدرة على خلق لغة نثرية متناسقة. وهنا يحتاج مروان إلى التعمق بالنثر الدرويشي لفهم أفضل لمركباته الجمالية والفنية ووضوح الرؤية والصورة والمنطق الذي كان يميز محمود درويش، القريب من الفهم الفلسفي للظواهر المختلفة. يقول مروان في نصه النثري الجميل : «هي الباسيفلورا التي تمد نفوذها على حديقة منزلي» إذن لا يتحدث عن شجرته ، بل شجرة دخيلة ، ربما شجرة جاره، التي تمد نفوذها… ويقول: «هي أبعد من كونها باسيفلورا سكرية المعنى تمد حبالها على المنزل فتدل على قصدي من هذا النثر الذي لا أنوي فضحه» ولكنك فضح وحددت للقارئ التأويل السياسي سلفا. وتشاطرك علينا كان مكشوفا. بالطبع كان أفضل لو أوردت النص نفسه كاملا، ولكن لا بأس، هذا لا يمنعنا من شبك الخيوط. أرض البرتقال الحزين جرى الاستعاضة عنها ، ليس بخياره بالطبع، بنبتة غريبة عن أرضنا، الباسيفلورا، التي تغزو حديقته، بيته ، وطنه ، عالمه. هل هي رمز للأخطبوط الاستيطاني؟ لا يوجد أقرب من هذا التأويل السياسي أو الثقافي حتى. لأن السياسة فقيرة العقل بدون الثقافة. والسياسي غير المثقف عالة على السياسة واهانة لها، وهذا للأسف السائد في عالم السياسة. إذن تجيء الثقافة لإنقاذ الفكر السياسي، وجعله حالة ثقافية أيضا. الباسيفلورا ليست استيطانا للأرض فقط ، بل استيطانا للثقافة، تحاول أن تنزع هويتنا البرتقالية إلى هوية لا تنتمي لأرضنا. من ثقافة البرتقال إلى ثقافة الباسيفلورا ، مسافة طويلة ونبتة غريبة غزت «حديقتنا». ولكن رغم الغزو والاستيطان، يقول مروان: «لا تزال حية هذه البرتقالة، بيد إنها مغمورة خلف الباسيفلورا حديثة الواقع، والتي تعربشتها في الحديقة، أو تعربشتني أنا، على غفلة من والدي!». مروان شدته هنا لعبة النص النثري، ولكنه كشاعر أراده نصا شاعريا، ولا بأس بذلك، النص أوصل الرسالة ، وأنا ادعي أن القراءة هي حالة وعي وليست استراحة تسلية، والمتعة في القراءة الواعية أضعاف القراءة للتسلية. ما يشدني في الإبداع، أي كان جنسه، هو ما يتركه في نفسي من انطباع. أنا أقرأ لأتمتع بجمالية المعاني والصور، وجماليتها ليس بنقلها الفوتوغرافي، إنما بنقلها الحسي. من صوره الجميلة والمؤلمة، صورة عن جرائم المحتل، كما جاء في قصيدته: «صورة آل غزة» : هذا الركام المر في غزة/ نبتت عليه ذراع/ طفل، لوحت لله من يومين/ لكن السماء تحجبت صورة مأساوية عن ذراع طفل نبتت بين الركام، وحتى السماء تحجبت ربما لأن الذراع لطفل فلسطيني؟ هل تحجبت السماء ألما من المنظر؟ لا يبدو، ربما غفرانا لا يمنح إلا لمن اختصته السماء بحبها حسب أساطير الخلق؟ ! بمثل هذه الصور ، تمتلئ صفحات الديوان، وهي تحثنا ليس على فهم الألم الفلسطيني، إنما على التفكير بكيفية مواجهة هذا الصلف المتنكر لحق الإنسان بالتحرر والحياة الحرة الكريمة حتى لو كان فلسطينيا!! أقول أني كنت أشعر في بعض القصائد بأني أقرأ قصصا بلغة الشعر، وقد لاحظت أن مروان أسير للكتابة العاطفية. أحيانا يسترسل أكثر من الضروري للفكرة الشعرية ، أو لمبنى القصيدة، مما أشعرني انه متأثر عاطفيا، ولا يستطيع أن يستعمل الكوابح للتوقف. بالطبع نحن نتحدث عن الديوان الأول والتجربة الأولى، وهذا معيار هام في النظرة العامة للديوان. شدني كما قلت في قدرته التصويرية، فسألت نفسي لماذا ذهب إلى الشعر وليس إلى النثر القصصي؟ يملك لغة تصلح للقصة، وأنا من المتعصبين للنثر القصصي، وأحزن على فقدان كل من يبشر بصياغاته انه يمكن أن يكون قاصا ولكنه قيد نفسه بسلاسل الشعر فقط ؟ هل هي نفس المشكلة التي أطلق محمود درويش بسببها نداءه عام 1969، حين كان محررا لمجلة «الجديد» : «أنقذونا من هذا الحب القاسي» في محاولته لوضع حركتنا الشعرية في مكانها الصحيح ، بعد انبهار العالم العربي بشعرنا، مما دفع من يعرف كتابة إنشاء بسيط إلى الكتابة الشعرية الفارغة من المعاني ومن الصور الشعرية وحتى من الإنشاء البسيط ، وفي العالم العربي استقبلوا وقتها كل نص بتأويل غريب عجيب لا يمت بصلة للمعنى، فنما الوهم أن كتابة الشعر هي الطريق للمجد ؟ مروان أثبت قدراته الشعرية والنثرية.. ولا اخفي أني حزين لاختياره الشعر وليس القصة، لعله اليوم شاعرا وغدا قاصا؟ بالطبع هذا خياره الواعي، ونحن أمام ديوان يستحق هذا الاسم. وأمام شاعر أثبت جدارته بأن يكون شاعرا. مثلا قصيدة «بولا» الموزعة على ثلاث نبضات، تصلح نموذجا للقصة الشعرية أو الشعر القصصي، ولا أعرف الفرق بينهما. مروان في ديوانه يرصد ولا يكتب فقط، فيرى الظواهر والأحداث، فيخوض في التأمل الحسي ، وهي حقا من مميزات الكتابة الشعرية، بينما في النثر التأمل يقتل الظاهرة، أو يضعف الحدث. في النثر الإدراك الواعي والمهنية الفنية والتكنيكية، تلعب دورا في صياغة النص القصصي، وليس صورا حسية كما هو الحال في الشعر. إن الإحساس الذي يلهم الشاعر يجعل تصوره أقل ارتباطا بالموضوع، الحدث، الخطاب التاريخي القصصي، لأنه يخوض أكثر بالأحاسيس. المشاعر الإنسانية تشكل رد الفعل على الحدث. وهنا لا يمكن التغاضي عن نجاح مروان بإدراك وظيفة الشعر، وأنا أقبل القول الذي يقول أن الموهبة تصنع الإدراك أيضا. في القطار إلى تل أبيب/ رأيتها/ روسية، تدل إلى النعناع كان بحوزتها موسكو كلها/ وطفل كما يبدو/ شرقي. هذا نموذج لما قصدته، أن الشاعر يرصد الظواهر وجعل منها حدثا شعريا. الصورة الشعرية تفسر نفسها. وتروي ما لم يجيء في القصيدة أيضا، ولو كتبها ناثر قصصي لصاغها على مسافة صفحة كاملة لنقل الصورة الحسية التي كثفها الشاعر بكلمات قليلة. نجح الشاعر بأن يدفعنا للتمتع بنصوصه بلا ملل، وتغذية ذهننا بصور شعرية، قصصية، لا تغادرنا، بل تداعب تفكيرنا. أيضا بعد إغلاق الصفحة الأخيرة من الديوان. مروان يثبت انه في الطريق الصحيح شعريا. ويبدو واضحا انه استفاد من التجربة الشعرية الثرية لمن سبقوه. وهذا هو أكثر ما ميز حسب رأيي هذه التجربة الشعرية المبشرة بالتنامي والصعود.
ـــــ ديوان:أرض الباسيلفورا الحزينة شعر: مروان مخول اصدار (طبعة أولى): منشورات الجمل- بغداد- بيروت طبعة ثانية: مكتبة كل شيء- حيفا (2011)