(1)
مبتدأ متأخر جداً في الذاكرة : سيحفرُ الطفل دموعه ليكتب للظلِّ مرثيةً؛ ولكي يُؤثث لأحلامه بعض ما تساقط من الحكايات. سيحرثُ مقابر القرية ليجدَ شاهدا لقبر امرأة أو لقبر طفل ضمّه الموت في ليل بعيد، ليسمع بكاء أو ليمسح دموع العابرين. ما يطفو على ماء الطفولة ستحرقه شمس الكتابة.
(2)
عندما نطلُّ على طفولتنا من بعيد، أو نطلُّ عليها (نحن أطفال الطين) من فوّهة الحنين نجدها موجعة حارقة وجميلة أحيانا. أطلُّ على طفولتي عارياً متعرّياً من الزمان والمكان والتمّجد. مُبتعدًا عن نفسي، مقتربا منها بالحنين والذكريات، وما تبقّّى في سقف الذاكرة المنهكة من رائحة اندثرت بالجفاف أو صوت امرأة اختطفها الموت في الجبال.
أطل ُّعلى طفلِ صغير يفتحُ عينيه على العالم في صناديق خشبية سُمّيتْ مجازاً وتشويهاً « مستشفى سمائل». يطلق الطفلُ الصرخة الأولى على العالم، وعلى نفسه. قادما من سجن الرحم إلى سجن العالم. محاولاً التحليق نحو أبعد من الحلم وأقرب من ماء الواقع. معلنا بدء الرحلة القصيرة المتشظية .
أطلُّ على نفسي الآن، وبعد هذا الزمن المُمتد والمُوجع، أطلُّ على طفولتي من مرآة الزمن والحنين المُوحش والمتوحش والوحشي. الزمن المُفترس لكل طفولاتنا، فأرى نفسي طفلا يفتحُ عينيه على جبال عالية، جبال تُحاصرنا بالحياة والموت، جبال تزرع القلق على حواف حياتنا. كُنّا نبني مدناً وأساطيرا وأحلاما خلف تلك الجبال، رسمنا الحكايات بحبر الخيال والعزلة خلف تلك الجبال. في صباح طفولي بعيد زرعنا الحجارة تحت سمرة البيت حالمين بأن تكبر الحجارة وتصبح جبالا، كبرنا ولم تكبر جبالنا الصغيرة.
مقابر كثيرة تحاصرني من كل الجهات. كلُّ نجمة في السماء لها قبر على هذه الأرض يناغيها. وكأنّ القبور أطفال النجوم البعيدة. خلفَ تلك الجبال كنتُ أبحثُ عن الله. أبحثُ عنه ليدلني إلى الطريق. فلم أجده في النهار، بحثتُ عنه في الليل بين النجوم. كان يرانا نتقلّب تحت موسيقى البعوض، ويتركنا هكذا نتلذذُ بالنجوم. كم كنا نحدّقُ في «بنات نعش» ونتساءل لماذا لم يدخلنَّ النارَ؟! وفي نجوم الطفولة رسمنا أحلاما صغيرة وبسيطة.
: أنا راح أشتري سيكل.
: أنا راح أشتري بيك أب، وأشغّل ميحد حمد. وما أركبكم في سيارتي.
: أنا راح أشتغل في الجيش، واشتري اندروفر.
في الليل كُنا نرى الطائرات، الطائرات القادمات من سماوات بعيدة. لم نكن نعرف الجهات ولا الدول. أي دهشةٍ تلك كانت عندما نرى الضوء الأحمر الصادر من الطائرة، الطائرة كأنها بطة تسبح في بحيرة من نجوم. كم من القصص سردنها عن تلك الطائرات.
: هذه رايحه الهند شاله عيش وطحين.
: هذه الطائرة جايه من أمريكا ورايحه اليمن.
: هذا طائرة رايحه العراق.
لعبة الجهات ممتعة جدا عندما تكون مفتوحة على سماء لا حدود لها. في تلك السموات رأى الطفل الملائكة تحرس عرش الله. ورأى الملائكة تطارد الجن والشياطين. وكلّما اشتعل شهاب في السماء تمتم الطفل : الله أكبر الله أكبر.
(3)
في الصباح يوقظنا صوتُ مؤذّن بعيد، الصوت لن يتكرر. ما أجمل صوت الله، وهو قادم من خلف الجبال والنخيل. صوت لم تلوّثه المكرفونات ولا الإيدولوجيا. يُوقظنا صوت ديك من فوق سُمرة بجوار البيت. تبدأ صباحاتنا عادة برائحة القهوة. القهوة سيدة طفولتنا. يقود الطفلُ جده الأعمى من يده نحو حقول النخيل والضواحي الخضراء، يتلمّسُ الجدُّ الظّلَّ والحجارة ليحدّد موعد الماء والعطش. يعلّم الجدُّ الطفلَ كيف يحدد للماء والظلِّ وقت؟
لا تكتمل الطفولة العمانية بدون جد أو جدة. الجدُّ ساردُ جيد للحكايات، الحكايات المليئة بالدم والمسافة والموت والسَحرة و«المغايبة». أطلُّ عليك الآن يا جدي وأنتَ تسندُ ظهرك المتقوس كالزمن على جدار الطين، وتمسكُ بيدك عصا (عِتِم)* من أشجار جبال الحجر. وتسردُ كل صباح ومساء حكايات سلالاتك وأسلافك. الظلُّ صديق نبيل للحكايات. وكذلك الليل موسم لحصاد الحكايات الطفولية.
القنديل المعلّق على وتد المكان. الضوء يغازل الحكايات والدم ورائحة البارود والرصاص. أطلُّ على الطفل الخائف من كل هذه الحكايات. الجد الأعمى يسرد حكاياته بتلذذ بدون توقّف. يتقنُ هذا الجد الأعمى وقفات حكاتاته؛ غير مبالٍ بالطفل وأحلامه. يسافر الطفل في دم القبائل وحروبها وهجراتها وجوعها وخياناتها. ينصتُ الطفلُ جيدا لصوت الجِمال في الحكايات وهي متجه إلى «مسكد» أو إلى البحر «الحدري». يشّتمُّ الطفلُ رائحة الرماد في موقد القهوة في رحلات جده، يرتعب من صوت الرصاص في الحكاية. في الظلام يرى المغاصيب والسَحرة يتطايرون في فضاء الغرفة المظلمة. يدسُّ رأسه تحت الغطاء الأسود. فيشمُّ رائحة دم القبائل ورصاص حرب الجبل ودموع أمهات الشهداء، و يسمع صوت طائرات (الكفّار ) وهي رايحه «تخزق» فوق الجبل الأخضر، وصوت خطوات، وصوت امرأة تبكي في المقبرة. وبكاء نساء في جنازات عابرة.
(4)
تطيرُ الطفولةُ، وتهبط على تضاريس المكان. أطلُّ على بيوت الطين، أطلُّ على رائحة القهوة، وهي تفوح من البيوت الطينية ومن أغاني الفلاحين في القرى والضواحي ومن أغاني الرعاة، يمتزج الطين بالقهوة وبرائحة الصباح. أطلُّ على قرية يسكنها الماء والنخيل والجبال والمقابر وشقاواتنا وأوجاعنا وأوهام الكلام. أطلُّ على رائحة الجدات وهنَّ ذاهبات إلى الموت برائحة حنين السلالات. أطلُّ على صوت راعية في الجبال توقظني بصوتها المحمّل بالفقدِ والحنين. صوت المرأة التي تسكن وحيدة في خيمتها على طرف القرية يوقظُ الدمع من أقاصي القلب؛ المرأة التي انتظرتْ زوجها لربع قرن، رحلتْ ورحلَ كلُّ شيءٍ معها، ما عدا «تعويباتها الليلية» التي سكنتْ في ذاكرة الطفل. أطلُّ على وجه امرأة ماتت في الجبال البعيدة بقرب بركة ماء. نسى الطفل المرأة وموتها الليلي وظلَّ صفاء عينيها يطارده.
يا أيها الطفل البعيد كم كنتَ يتيما وحالما بكل شيء؛ بالظلِّ والماء والذكريات.
(5)
أطلُّ من فوهة العطش على طفل يبحثُ عن جرعة ماء باردة. أطلُّ من فوهة الصهدِ على طفل يبحثُ عن ظلِّ يحميه من جحيم الظهيرة وحرائق صيف مالك بن فهم. أطلُّ من رائحة الجوع على طفل يبحث عن كسرة خبز في الطرقات. أطلُّ من بعيد على طفل يهرب في/ وعن ضواحي النخيل يصرخ ويصرخ ويغني في النهاية لكل شيء. يُغني للمطر ورائحة البِلّ**.يغني للغيوم العابرة في سماء الجفاف :
« يا الله يا الله بالسيل يهبط وادينا قبل الليل».
أغمض عيني الآن فأرى النخيل والدروب الضيقة بين جدران الطين، وأشمُّ رائحة الليمون والسمر والسرح والسدر ورائحة البيوت الطينية المُغتسلة بالمطر وبالجفاف. أشمُّ رائحة الماء في الفلج بطحالبه، ورائحة أشجار المانجو، أشمُّ رائحة جذع نخلة يحترق في الصباح، أرى الطفلَ يطارد (الصّدَّ) في الفلج، ويطارد الحمام و(الجراد والفنازيز) في السيوح. أفتحُ عيني الآن فأرى بلادا احترقت بالجفاف والموت. كل نخيل الطفولة احترقتْ بالجفاف. فلم تثمر الطفولة سوى الفقد. هرمتْ الطفولة مبكرا ولم يكبر الطفل.
أطلُّ على طفولتي
فأرى طفلا ينام في المقبرة
أطلُّ على نفسي
فأرى طفلا مربوطا على جذع نخلة.
النار كانت خطيئتي الأولى
أطلُّ على طفولتي
فأرى طفلا يلعب في المقبرة
أطلُّ على (سَرحة) ينامُ تحتها طفل لم يغتسل بالطفولة.
أطلُّ على نفسي فأرى طفلا ينام في المقبرة .
أطلُّ على الظهيرة فأرى الطفلَ يركضُ بين النخيل باحثا عن ظلِّ. أطلُّ على طفل في الظهيرة يحمل الماء في عبوات معدنية ليسقي قبور الموتى وجراد المقابر و«السرحة» التي يرقد أخوه تحتها.
عندما رأى الطفل أول مرة البحر في مطرح سأل الله لماذا لا توجد في بلادنا مياه كثيرة!. في مطرح لأول مرة يتلذذ بالماء البارد. يتذكر جيدا الآن العشب الأخضر ودلة القهوة والبيك أب (المازدا ) وصوت البحر الهادر، مندهشُ هو من الأزرق الكبير.
عندما رجع إلى القرية قال لهم
: مسقط كبيييييييرة كما الهند.
فيها ناس واجد وشوارع وبيوت كبيرة وحريم غير وماء بارد .
(6)
طفولتنا تشبه امرأة تركناها في الجبال لتحرس عزلة الرعاة، عاد الرعاة ليلا، ولم ترجع طفولتنا. ظلّتْ أغنية تحفظ الجبال والنخيل والمقابر صوت صداها. كلما ابتعدنا عن طفولتنا يجذبنا إليها الحنين والنداء والصرخة الأولى. انها النبع الأول والجحيم الأول والجنة الأولى. كانت وظلّتْ ظلالاً لحياة عابرة .
تتساقط سنوات الطفولة من شجرة العمر، فيلتقطها الحنين أو النسيان أودمعة يتيمة.
(7)
ما تساقط من ذاكرة الطفل.
1986م.
في الطريق الموصل من القرية إلى المستشفى العسكري في العاصمة. يرقد هناك والد الطفل في فراشه الأبيض. لم يتذكّر الطفل من تلك الرحلة سوى دهشته من الشمس التي تتبعه من خلف الجبال. يطلُّ برأسه من نافذة السيارة، يراقب الشمس وهي تتلصص عليه. كان يسأل نفسه هل نفس الشمس التي تشرق وتغرب في القرية؟ أم للعاصمة شمس أخرى؟
عندما أعطاه والده ورقة نقدية، وقال له خُذْ آيس كريم. طول الطريق العودة يفكر الطفل في المصطلح الجديد. هو يعرف جيدا الكِريم ؛ ولكنه لم يستوعب في تلك اللحظات معنى (آيس كريم).
1989.
من الصندوق البني الذي يصدر صورا وأصواتا وعالما مختلفا. كان الطفل ينجذب للأفلام الهندية. تدهشه أغاني الهند ورقصات صباياه، وسهولها، والبطل الذي لا يموت. تدمع عيناه عندما تحترق الجثة. يندهش من قدرة البطل الذي يحوّل التراب إلى متفجرات في وجه الأعداء واللصوص. يحاول هو وأخوه تقليد البطل الهندي، يأخذان حفنة تراب، ويبصقان عليها ولا تنفجر.فيفشلان.يُعلّل لأخيه : «تراه تراب الهند غير عن تراب بلادنا».
في بعض بيوت القرية يتجمع نساء الحارة في بيت واحد لمشاهدة الفليم الهندي، أحيانا يقام عزاء على موت البطلة. وتنهمر دموع نساء القرية تضامنا مع بطلة الفيلم، بعض النساء يحاولن مساعدة المخرج بالصراخ على البطل كي يهرب _ البطل الذي يبعد آلاف الكيلومترات مسافة وزمنا ـ : الله يقرعك طير تو بيضربوك.
1991.
من المذياع (السوني) البني اللون، تصل أخبار عن حرب الخليج ، وعن اسم رجل ( صدام حسين). وعن آبار نفط تحترق. كان الجد الأعمى يُحذّز من وصول سحب دخان إلى عُمان. كان كثير من رجال القرية يمتدحون صدام، بالرغم من خوفهم من سحب الدخان النفطية المحتمل وصولها لعمان. لم يدرك الطفل في تلك السنوات لا الدخان ولا الحرب .