عبدالرحمن المسكري
يتنزّل كتاب “مرآة الأفكار” للروائي والكاتب الفرنسي ميشيل تورنييه -الصادر بترجمة محمد آيت حنّا، عن دار معنى 2021- في سياق البناءات الفلسفية الرّاميةِ إلى وضع ما يمكن أن نعتبره “براديغم فلسفيّ” يتغيّا مقاربة أسئلة الوجود، واستكناه الحياةِ والأفكار عبر مجموعة من المقولات الدالّة.
تنهض “مرآة أفكار” تورنييه على بناء فلسفيٍّ قوامُه أساسان: الأول هو أنّ الفكر الإنساني ينتظم بواسطة مفاتيح محدودة ومعدودة؛ هذه المفاتيح هي ما نُطلق عليها لفظ “المقولات” أو “الكليات” بلغة الفلاسفة، وهي المفاهيم التي يتوسّل بها الفكرُ لمقاربة الحياة والوجود وتجلياتهما عبر مختلف الأفكار والأسئلة. والأساس الثاني هو أنّ مقولاته/ مفاهيمه تتحرّك في شكلٍ من الثنائيات المتضادّة، إذ يبني مفاهيمه بناءً ديالكتيكيًا؛ بحيث تأتي على شكل أزواجٍ من المتضادّات ( مثلا: الفعل والانفعال، السطح والعمق، الروح والجسد ….)، فيعمد إلى إقامة حوار بين حدودها المتباينة والمتماثلة.
وإذا كان الفلاسفة الأوائل قد وضعوا مفاتيح/ مقولاتٍ كليّةً، جاءت غايةً في الاختزال والتجريد والشمول؛ فنجد أن أرسطو على سبيل المثال قد وضع مقولاته العشر المعروفة (الجوهر، والكيف، والكم، والإضافة ….) ، واختزلها كانط في مقولاته الأربع؛ فإن ميشيل تورنييه عبر هذا الكتاب أراد توسيع دائرة مفاهيم هذا العمل لتشمل 114 مفهومًا، لم يقتصر فيها على التنظير الفكريّ الصِّرف، بل سعى إلى طرح قدرٍ وافٍ من الأمثلة الدالّة، والتطبيقات الملموسة.
تتشكل خارطة الكتاب من طيف واسع من المفاتيح/المفاهيم التي تنتمي إلى حقول دلاليّة متباينة، وعلى الرغم مما يبدو عليه بعضها من ألفاظ تحيل إلى أشياء مجسّدة ومعيّنة (مثلا: الشجرة والطريق، القط والكلب، الصفصاف والنغت….)؛ إلا أنّ تورنييه يرتفع بها من خلال التحليل وضرب الأمثلة إلى مستوى عالٍ من التجريد والترميز، فالمقصود هنا هو الفكرة لا الأشياء المجسّدة.
إن النظر إلى البناء الفلسفي لمرآة ميشيل تورنييه، يذهب بنا إلى القول بأنّه ليس عملا يتقصّد وضع لائحة محدّدة العدد تنحصر فيها المفاهيم على غرار صنيع أسلافه الفلاسفة؛ وإنما هو عملٌ يقترحُ من خلاله إطارًا تفكيريًّا/ براديغما لمقاربة الأفكار ولاستغوار الظواهر والمفاهيم المتباينة، عبر إخضاعها لمنطق “الثنائيات المتضادة”. وليست المقولات الـ 114 الواردة في هذا العمل الفلسفي -حينئذ- إلا نماذجَ وتطبيقاتٍ، أراد تورنييه من خلالها أن يدلّل على نجاعة هذا الإطار الفكري؛ أن يختبر “أكبرِ قدرٍ ممكن من الغِنى الملموس” الذي قد ينتجه إخصابُ المفاهيم/ المفاتيح عبر مقابلتها على شكل “أزواج ضدية”.
تمَايُز الأضداد
لقد قامت كثيرٌ من البناءات الفلسفيّة في تاريخ الفكر البشريّ على منطق المُقابلة بين الأضداد، أو ما يمكن تسميته بالثنائيّات الضديّة، وهو ما جعل الفكر يتقدّم في شكلٍ يتَّخذ صيغةً جدليَّة؛ فبضدها تتمايز الأشياء والأفكار، وتتبيّن ماهياتها وتتضح أبعادها.
لجأ ميشيل تورنييه -على شاكلة صنيعِ أسلافه الفلاسفة والحكماء- إلى وضع مفاهيمه/ مفاتيحه في صيغة أزاوج ثنائيَّة مُتعارضة (الرجل والمرأة، الدموع والضحك، القبو والعليّة، الروح والجسد، الصحة والمرض….). إن المفهوم لا يمكن استغوار أعماقه دون مقابلته مع ضده كما يقول؛ ذلك أن “مفهوما معزولًا لا يمنح التفكيرَ إلا سطحًا أملسَ لا يستطيع مباشرته؛ أمّا حين يقابل بضده فإنه ينفجر ويصيرُ شفافا كاشفا عن بنيته”ص11. هذا المسعى الفلسفيّ أبدى خصوبة مُذهلة في “مرآة” تورنييه؛ فعبر المقابلة الثنائية بين 114 مفهوما جاءت في شكل 57 زوجًا من المفاهيم المتقابلة، اكتسبت غنى من المعاني والدلالات، وتوالدت منها متوالياتٌ لا نهائيّة من التأويل.
تآلف الأضداد
يخبرنا تورنييه أن المعنى يتخلّقُ من تآلف الأضداد، وأن الصورة لا تكتمل إلا بالجمع بين المتباينات؛ حينما يذهب إلى رصد العلائق والدلالات المترابطة التي تبدو بين المتناقضات. في مقابلته بين ثنائية (الدموع والضحك)، يقول بأن :”للضحك والدموع دلالاتٍ متناقضة” لكنهما يشتركان في كونهما شاهدين على وضعية ما وليسا فاعلين فيها، إنهما يقفان إزاء وضع ما موضع المتفرّج؛ يلجأ إليهما المرء لمواجهة نوع من التصلب أو التخشّب المحيط. يأتي الضحك في مواجهة مجتمع يتهدده خطر التحول إلى نوع من الحركة الروبوتية في سعيه المحموم وحركته الدائبة، لذا كان من الضروري أن يخترق الضحك هذه الحالة ليحفظ للحياة عفويتها وتوازنها، في حين أن الدموع تمثل أقصى سلوك فرد يواجه وضعية يشعر بنفسه عاجزا عن التحكم فيها.. “إن من لم يعد يملك قولا أو فعلا يواجه به العدوان الخارجي ما يزال يملك حلا أخيرا: يسكب الدموع”!
الثنائيات الواردة في هذا الكتاب ليست متضادة بالضرورة؛ بل أحيانا تأتي على شكل ثنائيات متجاورة، كالحديث مثلا عن (القنص والصيد، الموهبة والعبقرية، ….) إلا أنها حال عبورها في مرآة أفكار تورنييه تكتسب دلالات متباينة ومتقابلة. فمثلا عند حديثه عن (القنص، والصيد) وبالرغم من أنهما يشتركان في الفعل نفسه؛ فعل الصيد؛ إلا أنه يندر “أن يكون المرء في آن صيادا وقناصا”، فضلا عن أن كلا منهما يوافق “مزاجا نفسيا مختلفا”. مع الإشارة إلى أن القنص هنا يعني صيد الكائنات البرية، في حين أن “الصّيد” يدل على صيد الكائنات المائية.
ينطوي القنص على عدوانيّة مرتبطة بطقوس يزدهر فيها نوع من أنواع المباهاة لا سيما إذا كان قنصا بالمطاردة، مع ما يكتنف هذا الفعل من جلبة وضجيج، في حين أن الصيد يكتنفه الصمت والأسرار، إذ لا أحد يعلم ما تخبئه صفحة الماء. وفي الوقت الذي يحيل فيه القنص إلى دلالات تشير إلى امتيازات طبقيّة، أرستقراطية، بل وحتى ملكية، فجميع الملوك مع علية القوم هم قناصون بشكل أو بآخر، في حين أن الصيد لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال. إن القناص “بدائي نشط يفيض بفحولة غازية”، بينما “عالم الصياد قوامه العمق والعتمة، إنها هواية تأملية، والصياد متأنٍ متأمل”.
سهل ممتنع
إذا كان يمكن وصف هذا العمل الفلسفي، فهو أقرب ما يكون إلى عمل تجريديّ يبلغ الغاية في التكثيف والإحكام. فعبر لغة مثقلة بالدلائل الرمزية المعتبرة يختزل ميشيل تورنييه أكبر قدر من المعاني الممكنة، والدلائل المحتملة في كل زوج من الثنائيات التي تنتظم هذا العمل.
إن المتأمّل في ترتيب المفاهيم المشكلة لجسد هذه الرسالة الفلسفية، يلاحظ أنها لم تتخذ مسارًا عشوائيًّا؛ بل اتخذت مسارًا سُلَّميًّا ينتقل بالقارئ من المفاهيم الأكثر تفرّدًا وخصوصيّةً حتى يصل به إلى المفاهيم الأكثر كونيّة وعموميّة؛ بحيث تأتي الأزواج المفاهيمية (الرجل والمرأة، الحب والصداقة….) في أول السلّم؛ صعودا حتى نصل في نهاية المطاف عند مفاهيم: (… الإله والشيطان، الوجود والعدم)، وهكذا. إن هذا الترتيب الذي عرضت به يمثل بدوره خيارا دالّا ومقصودًا؛ هو أقرب إلى أن يكون وسيلة لاقتياد القارئ حتى يتمثّل إطارها الفكري.