كنت قد انخرطت في ترجمة محمد اركون منذ 1978 – 1979، أي منذ أكثر من خمسة عشر عاما. وقد ترجمت له حتى الان مالا يقل عن سبعة كتب, هذا بالاضافة إلى المقالات والمشروحات والمقابلات العديدة التي اجريتها معه من أجل توضيح فكره وتسهيل توصيله إلى القارىء العربي, ولكن على الرغم من كل ذك كنت اشعر دائما بأن المهمة ما تزال ناقصة، وأن فكره ما يزال صعبا حتى على القارىء المثقف, وقد تلقيت بالفعل أكثر من شكوى، من هنا وهناك, تطالبني بتوضيحه أكثر، وبتسهيلة أكثر. ولم تكن هذه الشكوى تخص الترجمات الأولى التي تميزت بالحرفية وضعف التجربة فقط, وانما انصبت أيضا على الترجمات الأخيرة التي تميزت بنضج أكثر وسيطرة أكبر على هذا الفكر ومحاوره, ذلك أنه مع تقدم الأيام والسنوات فإن الباحث – المترجم يصبح أكثر ثقافة وأوسع إطلاعا، بل ويصبح محنكا قادرا على نقل الفكر من لغة إلى أخرى بطواعية أكبر من السابق.
على الرغم من كل هذه الجهود إذن بقي فكر من اركون صعبا، بل ومستغلقا في محاوره وأسسه الكبرى على القارىء العربي, ولهذا السبب فكرت في طريقة أخرى لتقديمه. هي أن اكتب عنه مباشرة بدلا من ان أترجمه أو أشرحه وأهمش عليه, أو قل ينبغي أن ازاوج بين كلتا الطريقتين في الكتابة لكي استطيع تقديمه على الشكل المرجو، فبما إني رافقت هذا الفكر طيلة خمسة عشر عاما، وبما انني منغمس في نفس الجو الفكري الذي انتجه وترعرع من خلاله, فاني قد احسست في نفسي بعض المقدرة على التنطح لهذه المهمة التي ما كنت اجرؤ على التنطح لها حتى أمد قريب قلت بما أني تقدمت في الترجمة إلى مثل هذا الحد، وبما اني عاشرت هذا الفكر طيلة كل تلك السنوات, فلماذا لا أعود على اعقابي خطوة خطوة، وأحاول تلمسه في محاوره الأساسية، ومصطلحاته المركزية، ومنهجياته العلمية؟ ألم يئن الأوان لكي استريح قليلا وألقي نظرة إلى الوراء فأتأمل في حجم العمل المنجز والمسار المقطوع ؟ ثم أن الكتابة المباشرة تختلف عن الترجمة فهي تحملني مسؤولية أكبر وتعطيني حرية أكثر في شرح هذا الفكر وربطه بحيثياته ومحيطه العلمي وبقية التيارات الفكرية الأخرى الموجودة في الساحة. وهكذا تتضح مفاصل فكر محمد اركون, ويعرف القارىء مصادره وتأثيراته, ومن أين استقى منابعه. وعندئذ لا يتحول محمد اركون إلى "أسطورة" وينقد تاريخيته وهو الذي طالما عرى الأساطير وكشف عن جذور تاريخية الفكر الإسلامي يضاف إلى ذلك ان هذه العملية تمكنني من الاجابة على الكثير من التساؤلات التي يطرحها القارىء العربي على نفسه فيما يخص تراثه الديني, او تراث الغرب, أو المسيحية، أو الإسلام, أو الظاهرة الدينية بشكل عام وكيفية دراستها في البيئات العلمية الأكثر طليعية. وهذا يقودني بطبيعة الحال إلى دراسة المصطلحات التي يستخدمها محمد اركون ويطبقها على دراسة الفكر الاسلامي ومن المعلوم أن هذه المصطلحات بالذات هي السبب الاساسي لصعوبة فكر اركون وعدم تمكن القارىء من النفاذ اليه كما يجب. ولا يكفي تعريبها إلى اللغة العربية بكلمة واحدة أو حتى بجملة، وإنما ينبغي أن تشرح شرحا وافيا ببين سبب نشأتها في الفكر الاوروبي, وعلى يد من, وضمن اية ظروف من المناقشة العلمية، وما هي الحاجة التى سدتها او الرغبة التي لبتها، إلخ… كما ويلزم علينا أن نكشف عن سبب اختيار محمد اركون لها دون غيرها، ولماذا طبقها على دراسة الفكر الإسلامي, وكيف طبقها، وما مدى نجاحه في ذلك, الخ…
هذه المصطلحات تعود كما هو معلوم إلى ما يدعى الآن بعلوم الإنسان والمجتمع Les Sciences de I bomme et de، Ia Socieete نلاحظ أن بعضهم يتحدث فقط عن "العلوم الإنسانية", ولكن التسمية الأكمل هي علوم الإنسان والمجتمع لأن المقصود ليس فقط دراسة الفرد أو الإنسان مستقلا بحد ذاته, وانما دراسة الفرد في المجتمع أيضا أي دراسة بنية المجتمع وآلياته ووظائفه. وهذه الدراسة أصبحت شهيرة في الثلاثين سنة الاخيرة، بل واصبحت تشكل المنهجية السائدة في بيئات البحث العلمي. فمنهجيات علم الاجتماع, وعلم النفس,والتحليل النفسي, وعلم الانثربولوجيا، وسلم التاريخ, وعلم اللغات (الالسنيات)، وعلم الاديان المقارنة، الخ… تتضافر كلها من أجل فهم الإنسان وفهم المجتمع. وقد قطع الغربيون شوطا بعيدا قي دواسة مجتمعاتهم على ضوء هذه العلوم ومصطلحاتها ومنهجياتها. وحصل ذلك إلى درجة أنه لم تبق هناك من قرية أو مدينة أو فترة تاريخية قريبة أو بعيدة لم تدرس أو تحلل بشكل دقيق واحصائي وبنيوي داخلي. ولذلك فعندما يخطط الاوروبيون لمستقبل مجتمعاتهم فإنهم يعرفون على أي أساس يخططون. أنهم يمتلكون كافة المعطيات والمعلومات التي تمكنهم من السير على هدى من أمرهم. أما نحن فلا نكاد نعرف عن مجتمعاتنا أو تاريخنا شيئا يذكر. أقصد بالطبع المعرفة العلمية الموثوقة، لا الآراء العمومية الشائعة أو الأحكام المسبقة. فهذه موجودة في كل مكان, وهي التي توهمنا بأننا نعرف مجتمعاتنا لأننا تلقيناها بشكل عفوي عن بيئاتنا وطفولتنا وأدياننا ومذاهبنا. هذا مع العلم ان المعرفة العلمية تقتضي منا أولا وقبل كل شيء تحييد هذه المعارف الخاطئة او الكليشيهات السوسيولوجية الضخمة والكثيفة. فعلى انقاضها سوف تنهض المعرفة الصحيحة، وإلا فلن تنهض أبدأ.
لن أتوقف هنا عند مسألة علمية العلوم الدقيقة أو الصحيحة/وعلمية العلوم الإنسانية والاجتماعية فهذه مسألة ابستمولوجية ضخمة تحتاج إلى معالجة مستقلة. سوف اكتفى بالقول بان العلوم الإنسانية استفادت (ولو عن طريق المقارنة عن بعد) من منهجيات العلوم الطبيعية من اجل دراسة الإنسان والمجتمع دراسة علمية تجريبية. وكل ذلك بغرض التوصل إلي تفسير علمي لسلوك الانسان في المجتمع وآليات المجتمع ووظائفه وطرائق اشتغاله. لقد ارادت التوصل إلى قوانين بنفس حتمية قوانين العلوم الدقيقة. ولذا فان مصطلحاتها ومناهجها جديرة بأن تعرف في الساحة العربية، بل وأن تطبق على دراسة مجتمعاتنا وتاريخنا لكي نفهمهما جيدا. وبما أن محمد اركون هو أول باحث مسلم كبير اعرفه يعشق هذه الروح العلمية الجديدة اعتناقا كاملا ويطبق منهجيتها على دراسة الإسلام عبر تاريخه الطويل, فان اهتمامي قد انصب عليه لسنوات طويلة. وبعد ان تراكمت الترجمات لدي رحت أفكر في كيفية جمع المصطلحات وترتيبها وإعلانها على الملأ. في الواقع أني كنت دائما ارجيء انجاز هذه المهمة إلى وقت لاحق. كنت اقول بيني وبين نفسي ينبغي أن انتظر إلى أطول وقت ممكن حتى تتكاثر الترجمات إلى الحد الاقصى وبعدئذ ابتديء بعملية الفرز والجرد والتنسيق. ولكن بما ان اركون لا يزال مستمرا في عملية البحث العلمي ولايزال ينتج الفكر ويتابع اهم ما تنتجه المكتبة الغربية من مصطلحات في مختلف العلوم, فان هذا يعني اني سوف انتظر إلى ما لا نهاية. ولذلك قررت ان اضع حدا لهذا التردد وأن ابتديء بتبويب المصطلحات العلمية الوافدة إلى لغتنا من ساحة اللغات الأوروبية (وبخاصة الفرنسية فيما يتعلق بأعمالي وترجماتي). وهكذا أضع بين يدي القارىء العربي دليلا يساعده على فهم محتوى النصوص المترجمة، فلا يعود يشكو من صعوبة التراكيب أو غموض المصطلحات الاجنبية التي "يغص " نجها فكر اركون حسب زعم البعض.
قبل أن انخرط في عملية فرز المصطلحات وتعريبها وشرحها، سوف أحاول أن أقدم الملامح الاساسية للمنظور الابستمولوجي العام الذي يشتغل محمد اركون من خلاله. أصبح من المتفق عليه أن كل فكر مسؤول – أي دقيق وجاد – يرتكز على بعض المصطلحات والأدوات المعرفية والمنهجيات.وفكر بدون مصطلحات أو منهجيات واضحة يعتبر كبيت بدون دعائم أو جدران أو ككلام مبثوث في الهواء. والشيء الذي يميز الفكر الجاد – أي المسؤول عما يقول – عما يمكن أن ندعوه بالثرثرة العمومية الفارغة، هو أن الأول يكشف عن هويته منذ البداية ويحدد مصطلحاته ومنهجياته ومرتكزاته. ثم يطلب من القارىء ان يحاسبه عليها – لا على غيرها – في نهاية المطاف. بمعنى: هل طبقها بشكل صحيح أم لا؟ هل تقيد يها على طول الطريق أم لا؟ هل وفى بحثه العلمي بوعوده أم لا؟…
عندما ننظر إلى المسار الفكري لمحمد اركون نلاحظ أنه قد ابتدأ ينتج البحوث العلمية حول الإسلام – وحول الإسلام وحده – منذ أوائل الستينات وحتى اليوم. ونلاحظ انه منذ البداية راح يموضع عمله ضمن منظور التفريق الواضح بين رؤيتين أو منهجيتين اثنتين لدراسة حقائق الإسلام. الأولى هي منهجية الاستشراق التقليدي أو ما يدعوه بالاسلاميات الكلاسيكية، والثانية منهجية الإسلاميات التطبيقية التي يتبعها هو شخصيا ويبلور أسسها ومرتكزاتها نظريا وعلميا.
لن نفهم شيئا يذكر على فكر محمد اركون أن لم ننتبه إلى هذا التمييز الاساسي الذي أقامه منذ البداية، والذي اتبعه طيلة مساره العلمي كله (بدرجات متفاوتة من الحدة بالطبع). وهذا التمييز يمثل طفرة نوعية أو ابستمولوجية كما سنرى، وليس مجرد تصنيف سطحي أو ظاهري للاختلافات المنهجية. أنه يرافق تلك الطفرة الابستمولوجية والمنهجية الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية منذ أوائل الستينات.
الإسلاميات الكلاسيكية نلاحظ أن اركون يستخدم مصطلح الاسلاميات الكلاسيكية بدلا من الاستشراق في معظم الاحيان لان كلمة "استشراق " أصبحت ملوثة أكثر من اللزوم بسبب الجدال الايديولوجي الحامي الذي دار حولها منذ الستينات على الأقل. وهناك نصان أساسيان لاركون (أي نصين منهجيين ونظريين) يتحدث فيهما عن هذا المصطلح. الأول هو مقدمته للطبعة الثالثة من كتاب (مقالات في الفكر الإسلامي) (عام 1984)،والثاني هو الفصل الأول من كتابه الشهير (نحو نقد العقل الإسلامي) (طبعة أولى 1984),يضاف اليهما نص ثالث مهم يتناول مباشرة موضوع الاستشراق هو:
"خطابات إسلامية، خطابات استشراقية، وفكر علمي ".
وهناك بالطبع اشارات تطول أو تقصر إلى هذه المناقشة المنهجية الكبرى التي شغلت اركون دائما كما قلنا. وهي منبثة على مدار أعماله المختلفة. وسوف نتعرض لها كلما دعت الحاجة. وسوف تكون نقطة انطلاقنا الأولى عندئذ كتابه الكبير الأول: الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري.
يقول في النص الأول معرفا هذا المصطلح "إن الإسلاميات الكلاسيكية هي مجمل المعرفة الغربية المتجمعة عن الاسلام منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى الخمسينات من هذا القرن.
وقد لعبت هذه المعرفة (أي الاستشراق في الواقع) دورا ايجابيا لايستهان به في اندلاع ما يدعوه العرب "بالنهضة". وأهم المكتسبات التي حققتها وأقلها عرضة للرفض والجدال هي:الطباعة النقدية لمجموعة من كبريات النصوص العربية – الإسلامية الكلاسيكية، هذه النصوص التي كانت مطموسة ومنسية لعدة قرون حتى من قبل المسلمين والتراث الإسلامي نفسه. إن عملية نبش النصوص من مرقدها وتحقيقها على الطريقة الفللوجية الدقيقة (أي الفقهلغوية) لا تزال ابعد ما تكون عن الانتهاء. ذلك ان هناك مخطوطات عديدة جدا مدفونة في طوايا المكتبات العالمية، ولم تحقق بعد ولم تر النور. ومن المعلوم أن المنهجية الفللوجية الصارمة تشكل احدى الميزات الاساسية والملازمة للاسلاميات الكلاسيكية. ومن المؤسف له ان تحقيق النصوص الاسلامية القديمة في العالم العربي لا يراعي ابسط قواعد هذه المنهجية الفللوجية التي مورست في الغرب بدءا من القرن السادس عشر لبعث التراث الاغريقي – اللاتيني ".
هذا فيما يتعلق بايجابيات المنهجية الفللوجية، فماذا يمكن ان نقول عن سلبياتها؟ يضيف اركون قائلا:
("على العكس من ذلك فان الاسلاميات الكلاسيكية تبدو ضعيفة وهشة عندما نكتشف مسلماتها الضمنية او الصريحة،وكذلك عندما نتفحص عن كثب منهجياتها وبالتالي تأويلاتها(للاسلام بالطبع).ونحن اذ نقول هذا لا نريد ان ننخرط في تلك المحاكمة الاتهامية والايديولوجية ضد الاستشراق كما يفعل كثير من المثقفين العرب والمسلمين اليوم. فهم يكتفون بان يحلوا التبجيل الدفاعي أو الايديولوجيا العدوانية محل الاستشراق أو في مواجهته. هذا في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في الكشف عن المسلمات الضمنية والخفية للاستشراق. أي ارتباطه بما يمكن أن ندعوه بالتشكيلة الثقافية للعصر الكلاسيكي في الغرب ".
هكذا نجد أن اركون يموضع نقده للاستشراق على الصعيد الابستمولوجي لا الايديولوجي على عكس ما يفعله معظم المثقفين العرب أو المسلمين أن لم نقل كلهم.
ثم ينهي اركون كلامه قائلا:
"لقد آن الأوان لكي نتجاوز النزعة الاخلاقوية أو الوعظية السائدة في الجهة العربية – الإسلامية. وكذلك ينبغي تجاوز الخطابات الايديولوجية الطنانة والسهلة التي لا تكلف اصحابها شيئا يذكر. ينبغي تجاوز كل ذلك لكي ننخرط في نقد ابستمولوجي عميق لكل من النظامين الفكريين التاليين: النظام العربي – الاسلامي الكلاسيكي من جهة، والنظام الغربي من جهة أخرى".
ويمكن القول بأن اركون كرس حياته كلها لانجاز هذا المشروع النقدي الكبير.
أما النص الثاني ؟ الذي يتحدث فيه عن الإسلاميات الكلاسيكية (أي الاستشراق التقليدي) فهو. "نحو إسلاميات تطبيقية". وفيه يقول ما يلي:
"إن الإسلاميات الكلاسيكية هي عبارة عن خطاب العربي حول الإسلام, أي خطاب يهدف إلى العقلنة في فهم الإسلام. ولكن كلمة إسلاميات (Islamologie) ومصطلحاهما اختراع غربي بحت. ذلك ان المسلمين يكتفون بالتحدث عن الإسلام مثلما يفعل المسيحيون عندها يتحدثون عن المسيحية".
إذن بعد أن اخترعت الكلمة في اللغات الاجنبية تم ايجاد مقابل لها في اللغة العربية عن طريق الترجمة. والواقع ان هذا ما يحصل للكثير من المصطلحات والمفاهيم عندنا. فبما ان الغربيين (من مستشرقين أو غير مستشرقين) هم ألذين ينتجون العلم في العصر الحاضر، وبما اننا نحن الذين نتلقاه جاهزا فاننا مضطرون إلى ترجمة المفاهيم والمصطلحات مثلما نترجم المعاني والأفكار. ولا ينبغي أن نستهين بالجهد المبذول من أجل عملية النقل والترجمة. فهو ليس بسيطا أو سهلا إلى الحد الذي يتصوره البعض. فإذا كنا لا نستطيع حتى الآن أن نبدع في مجال العلم, فلنحسن الترجمة والنقل على الأقل..
مهما يكن من أمر فان اركون يرى ان هذا العلم لم يحظ حتى الآن بدراسة نظرية تكشف عن نوعية منهجيته وطبيعة فرضياته ومسلماته الضمنية كما العلنية. وهو هنا يريد ان يفعل ذلك. فما هي المآخذ الاضافية التي يأخذها على علم الاسلاميات الكلاسيكية؟ يلاحظ منذ البداية "بأن الإسلاميات الكلاسيكية تحصر مهمتها في دراسة الاسلام من خلال كتابات كبار الفقهاء والمفكرين الاسلاميين الكلاسيكيين الراسخين أو المكرسين. وللوهلة الأولى تبدو هذه المنهجية وكأنها حريصة على الدقة والموضوعية. فبما ان عالم الإسلاميات يعرف انه خارجي على موضوع دراسته, وبما أنه يريد ان يتحاشى اطلاق أي حكم اعتباطي أو تعسفي فانه يكتفي بنقل مضمون كبريات النصوص الإسلامية الكلاسيكية أو الحديثة إلى اللغات الاجنبية (من فرنسية، وانكليزية، وألمانية, وايطالية، الخ…).
وهكذا يتصرف عالم الاسلاميات وكأنه دليل بارد في متحف. إنه يدلك على اللوحات دون أن يتدخل في شيء, أي دون ان يفسرها او يقيمها أو يساعدك على فهمها. والبرهان على ذلك هو إن العلاقة الفعلية المعاشة التي يتعاطاها المسلمون المعاصرون مع هذه النصوص, أو انقطاعهم الفعلي عنها لاتهم عالم الاسلاميات ولا تدخل ضمن دائرة اختصاصه بحسب زعمه (فهذه مسائل داخلية تخص المسلمين فقط ولا علاقة لنا بها كما يردد المستمشرقون دائما).
ولكننا نعلم ان مسألة الاستمرارية/ والقطيعة هامة جدا بالنسبة لمؤرخى الفكر ولا يمكنهم تحاشيها إذا ما ارادوا أن يقوموا بعملهم بشكل جيد. يضاف إلى ذلك أنها لا تدرس بشكل نظري أو تجريدي فقط, وانما بشكل واقعي محسوس ومن خلال التحريات الميدانية. فهي وحدها التي تكشف لنا عن مدى علاقة المسلمين المعاصرين او لا علاقتهم بنصوصهم القديمة. فلا يكفي ان يقول المسلم بانه مسلم لكي نعتقد بأنه يعرف نصوص تراثه (وبخاصة الكتابات الكبرى في العصر التأسيسي: أي نصوص كبار الفقهاء ومؤسسي المذاهب كالشافعي وابن حنبل ومالك وأبى حنيفة وجعفر الصادق وعبدالله بن اباض, إلخ… ثم نصوص كبار المتكلمين والفلاسفة والمعتزلة…". هذا بالاضافة إلى النص التأسيسي الأكبر أي القرآن الكريم ذاته. فليس مؤكدا أن كل المسلمين يعرفونه عن كثب…) وكذلك نصوص الحديث والتفاسير القرآنية العديدة. وكتب الاخبار والتاريخ…
يضاف إلى هذا المأخذ الانتقادي على الإسلاميات الكلاسيكية مأخذ آخر مرتبط به تماما هو. ان الاسلام الوحيد الذي يهم ""المستشرق " أو عالم الاسلاميات الكلاسيكي " هو في الواقع الاسلامي الرسمي المرتبط بالدولة والسلطة واللغة الفصحى والثقافة العالمية (أي ثقافة الخاصة أو النخبة). بل وان الباحتين العرب أو المسلمين الذين يتاح لهم ان يصبحوا اساتذة في جامعات أوروبا وأمريكا ويمارسون علم الاسلاميات يتبعون المستشرقين من هذه الناحية. فهم ايضا لا يهتمون الا بالاسلام الرسميالمذكور آنفا. هذا يعني أنهم يستبعدون من ساحة الدراسة كل القطاعات والجوانب التالية:
1 – كل التعبير الشفهي للاسلام.، وبخاصة ذلك المتعلق بالشعوب التي لا تعرف الكتابة. كالبربر والأفارقة والجماهير الشعبية والأمية بشكل عام.
2 – المعاش غير المكتوب وغير المقال, أي الذي لا يجرؤ احد على قوله أو كتابته بسبب الرقابة الايديولوجية الصارمة وسيطرة الحزب الواحد على وسائل الاعلام. (ان تقول ما لاتفكر فيه, وإن تفكر شيئا في اعماق نفسك ولكن دون ان تجرؤ على قوله. من هنا هيمنة النفاق والازدواجية على الساحة العربية – الاسلامة).
3 – المعاش غير المكتوب ولكن المقال والمحكي في الندواتوالجوامع والمدارس والجامعات. فالمستشرق يظل محصورا "بالنصوص التمثيلية" أو "الشرعية" للاسلام الكلاسيكي, أو بكتابات الاصلاحيين السلفيين في القرن التاسع عشر. ولكنه يهمل محاضرات حية لشخص كمحمد سعيد رمضان البوطي على الرغم من انه يجمع حوله الآلاف المؤلفة في أحد جوامع دمشق. ويمكن ان نذكر ايضا اسم متولي الشعراوي في مصر، أو اسماء بقية خطباء المساجد والوعاظ الكبار. فهؤلاء يؤثرون على الشعب اكثر بكثير مما تؤثر النصوص الكلاسيكية. (في الواقع ان المستشرقين الجدد أصبحوا يهتمون بكتابات هؤلاء السلفيين الجدد، وكذلك بكتابات قادة الحركات الاصولية كراشد الغنوشي أو حسن الترابي أو غيرهما. وأصبحوا ينقلون نصوصهم إلى اللغات الاجنبية ولكن ضمن منظور المنفعة السياسية المباشرة والسريعة، أكثر مما هو ضمن منظور التحليل الابستمولوجي العميق. سوف نتعرض إلى هذه النقطة فيما بعد)0 انهم يريدون خدمة مجتمعاتهم الغربية بالدرجة الأولى لا خدمة المجتمعات الاسلامية المدروسة.
4 – إهمال النصوص المعتبر بأنها غير تمثيلية للاسلام. اي اهمال الاسلام. الشيعي والاباضي (أو "الخارجي ")، وتركيز الانتباه فقط على الاسلام السني المعتبر انه يمثل كل الاسلام أو يمثل الارثوذكسية (أي الاسلام "الصحيح والمستقيم "، واما ما عداه فبدع وهرطقات). والواقع ان الاسلام السني ليس الا عبارة عن تنظير عقائدي دوغمائي جاء فيما بعد أو كتب فيما بعد من أجل تبرير ما حصل وخلع المشروعية على الأمر الواقع. (أي خلع التبرير والمشروعية على سلسلة من الاعمال التاريخية والسياسية التي كانت قد حسمت عن طريق القوة منذ الأمويين. الامويون هم أول من صادر الدين عندما ربطوه بالسلطة السياسية واستخدموه لخلع المشروعية على سلطتهم التي اقتنصوها عن طريق القوة المحضة).
فالاسلام السني مرتبط جدا بالسلطات السياسية التي كانت قد تعاقبت منذ الامويين ( 661 م) وحتي يومنا هذا وبالتالي فينبغي الاعتراف بمشروعية الاسلام الاباضي والاسلام الشيعي لكي يحصل الحوار مع الاسلام السني ويتم توحيد المذاهب الاسلامية بعد طول الفرقة والشقاق.
5 – اهمال كل الانظمة السيميائية – الدلالية غير اللغوية (أي التي تدل عن طريق الايحاء والرمز والاشاراة، أو "اللغة" غير اللغوية). نذكر من بينها. الاساطير الموروثة أبا عن جد (حكايا الجدات في ليالي الشتاء)، والشعائر، والطقوس,والموسيقى، وكيفية تنظيم الزمان والمكان, والعمران, وكيفية تنظيم الشوارع والمدن, والديكور الداخلي (حتى الديكور له لغة)، وفن العمارة، والفن التشكيلي, والأزياء، والمطبخ, وبنى القرابة، والبنى الاجتماعية.. وعموما كل العلامات والرموز التي يضج بها المجتمع, أتي مجتمع ("امبراطورية العلامات", بحسب تعبير الناقد الفرنسي رولان بارت).
فالواقع ان عالم الاسلاميات (أي المستشرق) قد حصر كل همه بدراسة الفكر المركزي اللغوي أو المركزي النطقي (LOGOCENTRISTE) (كعلم اللاهوت, والفقه, والفلسفة). بمعنى آخر لقد حصر اهتمامه بدراسة النصوص النظرية القديمة وأهمل ما عداها. وحتى هذه الدراسة بقيت تجريدية تمارس داخل المنظور المثالي لتاريخ الافكار التقليدي.وأهملت الاسلاميات الكلاسيكية بالتالي ما يلي:
تك المشكلة الضخمة والمعقدة لعلاقة المشروطية المتبادلة بين الاسلام بصفته ظاهرة دينية/ وبين كل المستويات الاخرى للوجود البشري (اي العامل الاجتماعي, والعامل الاقتصادي, والعامل النفسي, والحامل التاريخي, والعامل اللغوي, والعامل الجنسي, الخ…) فالاسلام مدروس بشكل عام من خلال منظور "تجريدى وكأنه يقف فوق الزمان وفوق المكان, فوق المجتمع وفوق التاريخ. فهو يؤثر عليهما دون أن يتأثر بهما. انه يخترق التاريخ والعصور دون أي تطور أو تغير. (وهذه هي نظرة اللاهوت الكلاسيكي كله ليس فقط في الأسلام, وانما في المسيحية واليهودية ايضا). فهي تعتقد انه لا علاقة للدين بالملابسات الاجتماعية والاقتصادية والمادية فهو يعلو عليها ولا يمكن ان يتأثر بها. انها نظرة مثالية – عذبة، ولكنها لا تصمد امام الامتحان. وهذا ما اثبتته العلوم الانسانية والاجتماعية الحديثة كعلم الاجتماع الديني وعلم تاريخ الاديان وعلم الاديان المقارن.
الطابع الهامشي للاستشراق
داخل
ساحة العلم الغربي ذاته
بما ان اسماء كبار المستشرقين لامعة ومشهورة عندنا في العالم العربي فاننا نتوهم انها تحظى بنفس الشهرة في بلدانها الاصلية. في الواقع ان الوضع عكس ذلك تماما كما يرى اركون فتأثير المستشرقين لا يكاد يتجاوز جدران اقسام الدراسات الشرقية في الجامعات الغربية، من أوروبية وامريكية. وبالتالي فليس لهم اي تأثير على مجريات العلم الغربي أو الفكر الغربي ذاته كما ان تأثيرهم على الرأي العام الغربي ضعيف جدا ان لم يكن معدوما.
هل تمكن مقارنة تأثيرهم على الساحة الفرنسية (او الباريسية) بتأثير باحث مثل كلود ليفي ستروس مثلا؟ (مختص في دراسة أساطير المجتمعات "البدائية" في أمريكا اللاتينية "،. وهل تمكن مقارنة تأثيرهم بتأثير فيلسوف مثل ميشيل فوكو المختص بدراسة الفكر الأوروبي ؟ أو بتأثير فيرنان بروديل, أحد رواد علم التاريخ الحديث في فرنسا؟ حتى أسماء من نوع لويس ماسينيون أو غوستاف فون غرونباوم أو جاك بيرك لا تستطيع أن تصمد أمام هذه الاسماء المذكورة. ولكنها عندنا شائعة جدا ومشهورة.
والسبب هو ان المستشرقين بقوا محكومين في معظم الأحيان بالمنهجية الكلاسيكية للغرب, أي بالوضعية التاريخوية والعرقية المركزية.
ولم ينفتحوا إلا قليلا جدا على التجديد المنهجي الذي حصل مؤخرا، أي على منهجيات علوم الانسان والمجتمع التي أخذت تقلب الخارطة المعرفية للغرب بدءا من أوائل الستينات. ونحن نعلم أن هذا الانفتاح المنهجي مرتبط بموقف فكري ونفسي. بمعنى: هل يمكن اعتبار الشعوب الاخرى غير الأوروبية بانها تستحق ان تحظى بنفس المكانة الانسانية التي تحظى بها الشعوب الأوروبية؟ وهل يمكن القول بأن لغاتها وثقافاتها تستحق نفس الدراسة وتنطبق عليها نفس القوانين التي تنطبق على اللغات والثقافات الأوروبية؟ أم أن هناك تمييزا عنصريا حتى على مستوى المنهج والدراسة والمصطلح ؟ على ضوء الاجابة عن هذه الاسئلة يحسم موقف كل باحث بمعنى: هلينتمي الى الحداثة الفكرية ابستمولوجيا أم لا ينتمي ؟ هل ينتمي الى الاستشراق الكلاسيكي أم إلى الاستشراق الحديث ؟
الاسلاميات التطبيقية
إذن يريد محمد اركون احلال الإسلاميات التطبيقية محل الإسلاميات الكلاسيكية (أو الاستشراق) كما ذكرنا آنفا. لكن ماذا يقصد بهذا المصطلح ؟ إذا ما فهمنا ذلك ادركنا خطورة المشروع الكبير الذي يشقه اركون لدراسة الفكر الاسلامي منذ البداية وحتى اليوم. فمشروعه طموح الى ابعد الحدود، وان كان يتخفى غالبا خلف الصياغات التعبيرية المتواضعة والحذرة للباحث العلمي الاكاديمى وهو يقودك الى النتيجة التى يريدها دون ان تشعر بأنك اجتزت الحواجز والاسوار، او انتهكت المحرمات, او قفزت قفزات واسعة على المستوى المعرفى والسبب هو مقدرته التربوية "البيداغوجية" الفائقة التى تمكنه من تغليف اكثر الطروحات الفكرية ثورية بصياغات مخملية، ناعمة وهادئة.
لكأن اركون يريد ان ينتقل بالوعى الاسلامى من مرحلة القرون الوسطى الى مرحلة الحداثة دون ان يشعره بالصدمة أو دون ان يصدمه حقا.
ولكن هل هذا ممكن بشكل كلى؟ ألن يتمزق هذا الوعى فى لحظة ما من اللحظات كما حصل للوعى المسيحى فى اوروبا اثناء اصطدامه بالحداثة العلمية والفكرية الصاعدة بدءا من القرن الثامن عشر؟ بمعنى أخر:
ألن يدفع الثمن لكي يتحرر من نفسه ويتخلص من قيوده واغلاله ؟
وهل هناك من طريقة اخرى للتحرر؟ هذه اسئلة، مجرد اسئلة، نطرحها على هامش فكر اركون, وربما التقينا بهذه الاسئلة من حين لأخر على مدار هذا الحديث الطويل, كفانا هنا ان نسجل هذه الملاحظة وان نضيف اليها قائلين بأن اركون كالطبيب الجراح يريد ان يجرى العملية للمريض دون ان يشعره بالألم, او قل بأقل ما يمكن من الالم, ولهذا السبب يتخذ الكثير من الاحتياطات والتدابير لكيلا يصدم المريض او لكيلا يقتله تحت العملية الجراحية انه يعرف ان الوعى الاسلامى المعاصر مريض بل ومريض جدا، وهو يرد انقاذه لا يريد قتله.
انه يريد انتشاله من الوهدة الانحطاطية المميتة التى سقط فيها. وفى اكثر الاحيان يتحدث عن عملية اسعاف وان ما يقوم به ليس إلا اسعافا لمريض فى حالة الخطر، وبعد ان يتحسن وضعه قليلا تجرى له العملية الجراحية التى لابد منها فقد تأخرت زمنا طويلا بمعنى انه لايقدم له الحقائق دفعة واحدة وانما على جرعات متتالية، لانه لو قدمها له دفعة واحدة لقتله فورا مهما يكن من امر فأن اداة هذه العملية الجراحية هى الاسلاميات التطبيقية، وقد ان الآوان لكى نوضح خصائص هذه المنهجية بكل ادواتها ومصطلحاتها الوظائفية، الشغالة، والفعالة، لنتخذ نصه بالذات منطلقا للتحديد كما هى العادة، يقول فى نصه الاول من كتاب "مقالات فى الفكرة الاسلامى".
"كان روجيه باستيد قد نكثر كتابا بعنوان "الانثربولوجيا التطبيقية" ونحن على غراره نستخدم مصطلح "الاسلاميات التطبيقية" فنحن ننطلق فى دراستنا من الفكرة الاساسية التالية. ان الاسلام – ككل الاديان الكبرى – قد الهم قليلا او كثيرا مجمل "القيم " التى تشكل الاسمنت المسلح للبنية الكلية للمجتمعات التى انتشر فيها، كما وخلع المشروعية على هذه القيم.
ولكن هذه المجتمعات الاسلامية اخذت تتعرض منذ القرن التاسع عشر لهزات ورضات "او لطفرات تطورية" تشبه تلك التى تعرضت لها المجتمعات الغربية المسيحية منذ القرن السادس عشر، وبالتالي فينتج عن مثل هذه الحالة بعض المهام العملية او التطبيقية التى لايمكن للباحثين العلميين اهمالها او التغاضى عنها، وهذه المهام هى التى تشكل برنامج الاسلاميات التطبيقية وقد استعرضناها على مدار اعمالنا كلها، وهى تنحصر اساسا فى المهمة التالية، اعادة قراءة نقدية للتراث الاسلامى الكلي ".
فماذا يقصد اركون بالمصطلحين التاليين ""نقدى" و"كلي "؟ يقصد بالموقف النقدى اولا ا"تبنى كل وسائل التفحص والدراسة العلمية التى طبقها الغرب على ذاته ومايزال يطبقها من اجل تجاوز ازماته الخاصة، ولكن مع تبنيها ينبغى تعديلها بعض الشىء لكيلا تبدومقحمة بشكل تعسفى على التراث الاسلامى ولكى تتلاءم مع حالة الاسلام وتصبح قابلة للانطباق عليه, وهذا يفرض على الفكر الاسلامى الحالي – وبالتالي العربي – الالتزام بالضرورة التالية التمييز بين اكراهات النضال الايديولوجى – السياسى من جهة، وبين ضرورة تمثل وهضم المكتسبات العلمية للغرب من جهة اخرى، ولكن نلاحط فى الحالة الراهنة للاشياء وضمن موازين القوى السائدة ان تمييزا كهذا يبدو صعب المنال, هذا اذا لم يكن مستحيلا، فالضرورة الايديولوجية تتغلب هنا على الضرورة الابستمولوجية (أو المعرفية) لهذا السبب اقول. ربما كانت المراجعة النقدية المطلوبة للتراث الاسلامى سوف تظل – ولفترة طويلة – حكرا على بعض الباحثين والافراد المعزولين من مسلمين او غير مسلمين, اقصد بهؤلاء الافراد اولئك الباحثين الذين يقبلون بأن يعتنقوا بشكل كلى مبادىء المنهجية العلمية وفكرة البحث المتضامن عن المعنى واستخلاصها من خلال كل التجارب الثقافية للانسان, وليس من خلال تجربة واحدة فقط " بمعنى انه ينبغى ان نقارن بين تجربة الاسلام وتجربة الاديان الاخرى من مسيحية ويهودية وبوذية… الخ لكى نوسع عقولنا قليلا.
هذا ما قاله محمد اركون عن مفهوم الاسلاميات التطبيقية فى نصه الاول فما الذى قاله عنه فى نصه الثانى الذى يتخذ عنوان "نحو اسلاميات تطبيقية" نلاحظ هنا، ومن خلال تعداد البنود التالية، ان اركون يرسم الخطوط العريضة لمشروعه الفكرى كله.
وهو فيما يحدد اركان المنهجية الجديدة يكشف, بشكل مباشر او غير مباشر عن نواقص المنهجية الكلاسيكية يقول بما معناه.
1 – ان الاسلاميات التطبيقية تتميز بطابعها العملي او التطبيقى، وليس النظرى او التجريدى فى دراسة موضوعها:
اى الاسلام هذا يعني ان عالم الاسلاميات ينطلق هنا من المسائل الحارقة التى يطرحها المسلمون على انفسهم او التى يعانون منها فى حياتهم اليومية، بالطبع فإن فهم الحاضر يتطلب منا اولا فهم الماضى، اى فهم المضمون الموضوعى للنصوص الاسلامية الكبرى واولها القرآن, ولم تعد المنهجية الحيادية "اى الباردة الخارجية، الوصفية" التى يتبعها المستشرق الكلاسيكى بقادرة على الاحاطة بالوضع, ينبغى عليه الانخراط اكثر فى عملية المعرفة اذا ما اراد ان يقوم ببحثه العلمى بشكل كامل بمعنى ان الدراسة الوصفية لاتكفى وانما ينبغى رفدها بالدراسة التفكيكية – النقدية من اجل استخلاص الاحكام العامة.
2 – ان العلوم الانسانية الحديثة قد قلبت جذريا شروط ممارسة الفكر العلمى فى الغرب ذاته, هذا فى حين ان الفكر الاسلامى – اى العربى، او التركى او الفارسى او الباكستانى وعموم الفكر المكتوب باللغات الاسلامية الاخرى – يعانى من – تأخر كبير يتجاوز القرون الثلاثة (مسافة التفاوت التاريخى بين الفكر الاسلامى والفكر الاوروبي تصل الى الثلاثمائة سنة فقد ابتدأ هذا الفكر بالكاد يحس بآثار الهزات والحضارات والاختلاجات الهائجة التى كانت قد ابتدأت فى الغرب بدءا من القرن السادس عشر واخذت تولد ما يمكن ان ندعوه بالفكر الحديث, اما الفكر الاسلامى (بكل نسخه العربية او الفارسية او التركية… الخ)، فلا يزال واقعا تحت هيمنة نظام الفكر القروسطى,"او الابستمي القروسطى بحسب تعبير ميشيل فوكو pisteme نقصد بالابستمى القروسطى ما يلي:.
الخلط بين ما هو اسطوري – وما هو تاريخى وعدم القدرة على التمييز بينهما، ثم التصنيف الدوغمانى للقيم الاخلاقية والدينية، ثم التأكيد اللاهوتى على القول بأفضلية المؤمن – على غير المؤمن,والمسلم – على غير المسلم, ثم تقديس اللغة والقول بأنها وقف من الله وليست اصطلاحا بشريا، ثم ثبوت المعنى المؤصل من الله الى البشر عن طريق الرسول واحاديثه, ثم الأعتقاد المطلق بأن هذا المعنى مفسر وموضح ومحفوظ ومنقول بشكل كامل من قبل الفقهاء الى الاجيال التالية من المؤمنين دون اى نقص او حذف او ضياع على الطريق ثم الايمان بوجود عقل خالد، او ابدى وازلى لايتغير ولايتبدل والاعتقاد بأنه عقل فوق تاريخى او يتجاوز التاريخ لانه يستمد معينه من كلام الله.
وبالتالي فأنهم يفترضون بأن هذا العقل يتمتع باساس انطولوجى يتجاوز كل تاريخية ويعلو عليها "اى يحميه من التغيير بتغير الازمان والعصور" هذه هى المسلمات الاساسية التى تسيطر على ذهنية الناس فى العصور الوسطى غنى عن القول بأن الخصائص الكبرى لهذا الابستمى القروسطى ما تزال موجودة وناشطة حتى فى الفكر المسيحى المعاصر فى الغرب ذاته فالكثير من المفكرين المسيحيين الغربيين, ما يزالون يرفضون – كما المسلمين – تاريخية العقل, وبالتالي فهم يعتقدون بأن نصوصهم معصومة ولا علاقة لها بالتاريخ.
3 – على عكس الاسلاميات الكلاسيكية فان الاسلاميات التطبيقية تدرس الاسلام ضمن منظور انثربولوجى واسع فهى تعتبر ان الاسلام ليس إلا احدى تجليات الظاهرة الدينية التى تتجاوزه وتتجاوز كل دين خاص مأخوذا على حدة، فالظاهرة الدينية او "ظاهرة التقديس " ظاهرة أنثربولوجية بمعنى انه لايخلو منها اى مجتمع بشرى، بدائيا كان ام متحضرا عتيقا كان ام حديثا ان وجهة النظر هذه تعتبر حديثةجدا حتى بالنسبة للفكر الغربى المتقدم.
وضمن هذا المنظور فان الاسلاميات التطبيقية تختلف جذريا عن الاسلاميات الكلاسيكية، فنحن نعلم ان هدف الاسلاميات الكلاسيكية "اى الاستشراق " هو: تقديم معلومات دقيقة ووصفية " اى خارجية وباردة" عن الاسلام الى الجمهور الغربى الذى لا يعرف عنه شيئا، وهى لا تنخرط فى دراسة نقدية مقارنة تضع الاسلام على قدم المساواة مع المسيحية واليهودية.
اما هدف الاسلاميات التطبيقية,"اى منهجية اركون " فهو مختلف تماما فاركون يريد ان يدرس الاسلام من خلال منظورين متكاملين يراعيان النقطتين التاليتين.
أ – يريد علم الاسلاميات التطبيقية الدخول فى مواجهة صراعية مع تراث طويل من التقليد التبجيلي والجدالي الذى ميز موقف الاسلام من الاديان الاخرى بمعنى انه يريد ان يتمايز عن الموقف الاسلامى الشائع من بقية الاديان ويريد ان يحل محل هذا الموقف الهجومى الموروث عن العصور الوسطى موقفا أخر هو الموقف المقارن. ويرى اركون ان هذا يتطلب منا الانخراط فى اكبر عملية تحرير داخلية للفكر الاسلامى وذلك انطلاقا من المبدأ الابستمولوجى الذى نص عليه جاستون باشلار عندما قال: لايمكن للفكر العلمى ان يتقدم فى مجال ما إلا بعد تدمير المعارف الخاطئة المسيطرة فى هذا المجال فنحن لاننا تربينا داخل مجال دين معين فاننا نعتقد ان كل ما تلقيناه صحيح, وان كل ما عداه خطأ وضلال وبالتالي فينبغى ان نبتدىء بالتحرر من انفسنا.
ب – ان علم الاسلاميات التطبيقية يعتبر نفسه فعالية علمية متضامنة مع كل الفكر المعاصر ولذا فهو يدرس مثال الاسلام كما يدرس غيره مثال اليهودية او المسيحية او البوذية او الهندوسية…. الخ, اى ضمن منظور الاسهام فى اغناء الانثربولوجيا الدينية رأى دراسة الاديان من خلال المقارنة بينهما واكتشاف نقاط التشابه الكائنة بينها)، وهذا هو المنظور الواسع الذى يتجاوز حالة الاسلام الخاصة كما قلنا لكى يصل الى حالة التدين بصفته بعدا انثربولوجيا من ابعاد الانسان فى كل زمان ومكان, "اى دراسة الظاهرة الدينية او ظاهرة التقديس من خلال كل الاديان وليس من خلال دين واحد فقط فالتقديس ظاهرة انثربولوجية لايخلو منها اى مجتمع بشري " ضمن هذا المنظور قام محمد اركون باعادة قراءة للقرآن الكريم وبعض النصوص الاسلامية الكلاسيكية الكبرى لماذا؟ لانه يريد ان يثير داخل الفكر الاسلامى تساؤلات جديدة كانت قد اصبحت مألوفة بالنسبة للفكر المسيحى منذ زمن طويل "المقصود: الفكر المسيحى فى الغرب طبعا وليس فى الشرق " لان الفكر المسيحى فى الشرق لا يزال متأخرا من هذه الناحية مثله فى ذلك مثل الفكر الاسلامى سواء بسواء" انظر وضع المسيحيين العرب فهم يعيشون نفس الحساسية القروسطية للتدين وذلك على عكس المسيحيين الاوروبيين, مما يدل على ان الدين مرتبط بحالة المجتمع ودرجة تطوره او عدم تطوره.
انه يريد للفكر الاسلامى ألا يظل متخلفا عن الفكر المسيحى الغربي وهكذا يضع اركون القرآن الكريم على محك النقد التاريخى والمقارن, ثم على محك التحليل الالسنى التفكيكى والتأمل الفلسفى الذى يركز دراسته على كيفية انتاج المعنى ولشروط انتشاره وتحولاته وانهداماته, فالمعنى ليس ابديا ولا ازليا وانما هو ينفك وينحل مثلما يتركب ويتشكل انه يتفكك بعد ان تكون الجماعة قد عاشت عليه فترة معينة من الزمن وعن طريق هذه الاضاءة الجديدة للقرآن الكريم يريد اركون ان يتوصل الى تجديد الفكر الدينى بالمعنى الاوسع للكلمة وليس فقط الفكر الدينى فى الاسلام, انه يريد تجديد فهمنا للظاهرة الدينية عن طريق تطبيق المنهجيات الحديثة على دراسة الاسلاهم مثلما طبقها المفكرون الاوروبيون على دراسة المسيحية واليهودية.
خلاف ابستمولوجي اخر بين الاسلاميات
التطبيقية والاسلاميات والكلاسيكية
يتمثل هذا الخلاف فيما يلي:
– ان الاسلاميات الكلاسيكية "او الاستشراق التقليدى" تدرس الاسلام بصفته نظاما من الافكار التجريدية المزودة بحياتها الخاصة وكأنها جواهر جامدة لاتتغير ولاتتبدل اى لاتتلوث بالتاريخ ولاتخضع للتاريخية، وهذا هو منظور تاريخ الافكار التقليدى كما قلنا فهو يعتقد ان الافكار توجد مستقلة عن الحيثيات الاجتماعية والمادية المحيطة، لكأنها تقف معلقة فى الفراغ فوق الواقع, وفوق الاشياء.
– اما الاسلاميات التطبيقية فتدرس الاسلام كظاهرة دينية معقدة من خلال علاقتها بالعوامل التالية: النفسية والتاريخية، والاجتماعية والاقتصادية… الخ, ولذلك فهى تستخدم منهجيات العلوم التالية:
1 – التحليل النفى
2 – علم النفس الفريد والجماعى
3 – علم التاريخ "اى دراسة تطور المجتمعات الاسلامية والمتغيرات التى طرأت عليها عبر التاريخ ".
4 – علم الاجتماع "اى دراسة الاسلام بصفته نظاما للعمل التاريخى او للممارسة التاريخية" كما يقول عالم الاجتماع الفرنسى آلان تورين, وهذا يعنى دراسة تأثير الاسلام على المجتمعات التى انتشر فيها، ثم تأثير هذه المجتمعات على الاسلام ايضا، فعلى عكس ما يظن المؤمنون التقليديون فان الاسلام يتأثر ايضا بالمجتمع الذى ينغرس فيه ويتخذ صبغته ولونه "وبهذا المعنى يمكن التحدث عن اسلام اندونيسى واسلام باكستانى واسلام عربى وربما اسلام مغربى واسلام مشرقي… الخ."
هكذا نجد ان الاسلام قد اصبح يدرس من خلالى الزوايا المتعددة لهذه العلوم الانسانية والاجتماعية، وليس فقط من خلال المنهجية الفللوجية كما كان يفعل الاستشراق الكلاسيكي ومايزال, وهذا المنحى الجديد فى الدراسة هو- الذى يدعو اليه اركون بكل قواه, انه يريد ان يخرج الاسلام من "خصوصية الازلية" التى سجنه فيها المستشرقون التقليديون لئلا تقام اى مقارنة بينه وبين المسيحية فهو فى رأيهم من جنس والاديان "الحضارية لا من جنس أخر، ومجرد المقارنة بينه وبين دين الغرب يعنى حطا من قيمة هذا الاخير هذه هى المسلمة الضمنية (نادرا ما تكون صريحة) والتي تتحكم بأعمال الكثير من المستشرقين المحافظين.
هناك مستشرقون غير محافظين كمكسيم رودنسون مثلا منفتح كل الانفتاح على المقارنة.
نستنتج من كل ما تقدم ان الاسلاميات التطبيقية اكثر طموحا من ناحية الانفتاح المعرفى او الابستمولوجى او المنهجى، من الاسلاميات الكلاسكية ونفهم ايضا ان نقد محمد اركون للاستشراق يختلف جذريا عن نقد الجمهرة الغالبة من المثقفين العرب والمسلمين صحيح انه يتفق معهم فى نقطة واحدة هى "ادانة العرقية المركزية الاوروبية" او ما راح. يدعوه مؤخرا بالعقل المهيمن ولكنه لم يموضع المشكلة على المستوى الابستمولوجي لا الايديولوجي كما يفعل المثقفون المذكرون, فالعرقية المركزية الاروربية مرتبطة بمرحلة كاملة من تاريخ الفكر الاوروبي هى مرحلة الحداثة الكلاسيكية.
وقد بلغت هذه المرحلة اوجها فى القرن التاسع عشر، قرن الوضعية والتاريخوية والمنهجية الفقهلغوية.
وقد كانت لهذه المنهجية مبرراتها فى ذلك الوقت, ولذا فلا معنى لان نثور عليها بعد فوات الاوان ونتهم جميع المفكرين الاوروبيين بالنزعة العرقية المركزية، او حتى العنصرية "بمن فيهم ماركس نفسه ".
فالواقع ان كل ثقافة تنتصر تميل للتمحور على ذاتها واعتبار نفسها مركز الكون, ولذا فينبغى ان نموضعها ضمن حيثياتها وظروفها، ونعرف انجازاتها وسلبياتها قبل ان ندينها بعدئذ يمكننا ان ندرس كيف تم تجاوزها على يد المنهجيات الحديثة لعلوم الانسان والمجتمع, أى انسان وأى مجتمع فهذه المنهجيات اوسع من المنهجية الكلاسيكية السابقة لانها منفتحة على كل الثقافات والمجتمعات البشرية دون استثناء، وينبغى ان نعلم ان اركون قد تتلمذ فى بداية حياته العلمية على المنهجية الكلاسيكية للاستشراق "اى المنهجية الفللوجية او الفقهلغوية" ولم يثر عليها لاحقا إلا بعد ان هضمها واستوعبها وعرف ايجابياتها وصرامتها العلمية، فهى ليست كلها سلبية كما يعتقد البعض وانما تشكل المرحلة الاولى والاساسية من الدراسة العلمية. لهذا السبب سوف نتوقف قليلا – او كثيرا – عند المنهجية الفللوجية التاريخية – كما سادت فى القرن التاسع عشر، وذلك قبل ان ننتقل الى دراسة المنهجية الحديثة التى يتبناها محمد اركون, وهكذا نستطيع ان نقيس حجم القطيعة "او حجم الهوة" التى تفصل بين كلتا المنهجيتين على المستوى الابستمولوجى، ومن خلال ذلك سوف نستعرض بعض المصطلحات الاساسية للفكر الحديث وكيف يمكن تعريبها.
المراجع الاساسية للبحث:
1 – محمد اركون "نحو نقد العقل الاسلامى" منشورات ميزون نيف اى لاروز باريس, 1984 فصل بعنوان "نحو اسلاميات تطبيقية" ص 43, 63.
2- محمد اركون: مقالات فى الفكر الاسلامى، منشورات ميزون نيف اى لاروز، الطبعة الثالثة، باريس, 1984.
3- محمد اركون: بحث بعنوان "خطابات اسلامية، خطابات استشراقية وفكر علمي ".