فراس سليمان
شاعر سوري
لا أذكرهُ باسمه، كي لا أُتيح لباهِتِ النَكِرات التعدّي على تعريفه.
وما النفع من أن انتفعَ من اسمه، وهو في معناه داخل كلّ الأسماء وخارجها.
أيُّ رعبٍ إدراك الأشياء بأشكالها، وإدراك الأسماء بنقائضها!
إذا كان اشتياقكَ إليكَ/إليه عينيًّا فستحظى بلقاءات مصائرُها الكمّ.
مازال ميتًا وحيًّا في المترادفات الجزعة ومشروحها، من أنا لأُعيد إحياءه أو أؤكّد موته!
على حدّ الرؤيا… في الأقصى منها… المقابلُ مطفأ لمعانُه.
وفي شبكة الهباء يرسو ماءُ الكلام.
والنبذ وحشٌ موزّعٌ في أصواتٍ، وأضواءٌ تفترس هواءَ الأكوان.
وأيّ سهل هيّن وَشَتْهُ العقولُ ليبقى في صفته.. ليس له أن يفرّ إلى استحالته ومعكوسِه من فرطِ الاستعادة.
وكنتَ في الوعي سعيَ الفرعِ وظلَّ الأصلِ ومنزلَ الغبار.
وأخذتني الريبةُ، وظلّت تأخذني، فلم أعد إلى موئل ولم أصل إليّ.
وحلمَ عند الخروج أن يتزيّا بشرور الغموض.
في دار وهمهِ يجلسُ منتظرًا نبأ موتِ اللغة.
وما نارُ جهلي وعلمي سوى رمادٍ نَفَخَهُ الأوّلون.
فوق ركامِه ركامُ لغتِه، تحت ركامه عماءٌ له كثيرٌ من صفات وخواص الركام.
وكان مكينًا في ذاته إلى حدّ الزوال، كان عبقريَّ العبورِ والأساليب، ومتاحًا وعصيًّا في الصوغ وفي التأويل.
ظلّ معلّقًا تحت الحدوث كتوقيعِ أعمى في أسفل دائرةِ الأفق… وظلَّ نابرًا عابرًا في إقامتهم حتى ظننّا أنّنا رفعناه.
عامر في البراءة الصعبةِ إشعاعُ ندمهِ على حافة القول.
أوشكَ على الوصول من دون أن تدفعه ضرباتُ اليقين والشكّ. أرَاحَهُ وعيُه أنّه ليس بمكتشف مداخل ومخارج التيه، أنّه فيه.
وفي فسحة غيبته (غيبوبته) توقّفَ أطفالُ مداركهِ عن عدّ الأوراق الساقطة من شجر اندهاشه بالحياة والموت، لذا هو يبتسم للفوز والخسارة.
لأنّ لا ملأَ ليقف أمامهم، ممتلئٌ هو بالقادمين الآفلين، جالبين إجابات غير مُجدية.
والفتنة الملحوقة بالشجن، أن يغنّي مسجونُ الشوق، ولا يسمع سجّانُه.
وأراد أن يكتب عنه بعد أن أخصبَ الصمتُ جوفَه، وظلَّ في سلب الإرادة.
وتوقدّتِ المسامعُ فاطمأنَ لغيابه.
وكلُّ صفةٍ له مُؤنِسةٌ ومؤَنْسَنةٌ عدا جوهره.
مغلوب في الأدوار والصور، محلوم في اليقظة وظلالها.
ساوَرَه أن يكونَ، فغاب عن خلائقه.
جَمَّلَتِ الصفاتُ عتماتِها بسقوطها على اسمه.
ونظر فوقعَ في الصوغ، ورأى فتغوّل في العدم.
والذي أدام مكوثَه في الصمت، سوءُ رائحةِ الفراغِ في الكلام.
ورأى في الحرف مصيدةَ الحرف.
وسكن زاهدًا في ترحاله.
كرمُهُ في الاحتجاب، صائرٌ متحولٌ، ومضروبةٌ حججُه في الوضوح وفي مكائد اللغة.
وما أثبتَهُ أطفأهُ. تلك مداوماتُ التخفّي وراء التأويل حينًا، وفي تيه الكلمة أحيانًا.
وحاكَ للبصيرة مصيرًا قصيرًا، وكلُّ حياكةٍ هنا نقصانٌ، وكلّ مكتمل منها تثبيتُ اهتراء.
وقد غلبه أنّه كائن في النقيض، محسوسٌ في المعدوم.
وسقط إذ تجلّى. فكلّ هيئة له وحشٌ يفترسه.
لا كبرياء في مجاهرته، حسبه الفرار من عنف الواضح.
ولأنّه رأى ثملَ.
وما كان في الحجّة ولا في العلّة، كان في ظلّهما.
ورأى في نفسه خلوةً فدخلها، فتعلّقَ بما علقَ به.
ولما تشابكت وتداخلت الموازين والمقاييس أيقنَ خفّةَ وقصرَ الكلمات، خفّةَ وثقلَ الشيء في الكلمات، كونه غير محمول على حاملة من جنسه، ثمّ من غير برهان أدرك ولم يدرك، فقد أعمته الرؤيا.
أُجمِلُ ولا أُكمل، في الفقد قفلتي موصولة.
ولما اختبرَ خروجه حقيقةً، صدّقَ اعتكافه.
في الوقت ضاع، وفي المكان أضاع، من الهيئة فرّ وفي مصائد الاسم وقع.
واصطفته السريرةُ ليخرج من نفسه، ليقول نفسه عديدًا كثيرًا، فعذّبته اللغة، فردّ لها الصاع صاعين، وأهانه الصمت فأذعن.
وكان هلاكه في مرابع قومه، وكانت قيامته في جبّته.
وكلُّ المحبّة مجاهدةٌ لا تعي ولها أن تتوهّم وصولًا، بعض المحبّة نقصانٌ أعرجُ يسعى. وفي حالٍ ما قدْ يعي، وكلّ (قد) بعدَ مضارعٍ تقليلُ (وصول).
وكانت حكمته في اللطف في الحكم على أحكامهم وكانت خطاياه في خطاه… في مساري ومفازات المقال، وفي ظلّ إغفال القائل.
لم يأخذه الورعُ، أخذه الروعُ، فطلع وبقي في الطلوع ولم يصل.
وظاهرُهُ بَوَاطنُ شتّى، وباطنه فيوضٌ مجهولة.
إن همَّ عمّ، غير أن لا ألواح لتحفظه.
تخلّصتُ من أنّي أنّهُ، فثقل هو في فضائه، وأعانتني الخفّةُ في الطيران صوبه.
ورغب خلقًا وأراد إغلاقًا، فرسم أبوابًا وشتّتهم بالمفاتيح ملقيةً متاحةً، وجلّهم كان ماهرًا في الولوج في الرسم.
يقايضهم في الصريح القليل من المبهم كي يصعّد عواطفهم.
كلّ طريقةٍ امرأةٌ حامل، وكلّ امرأة حامل إمكانُ توليدٍ وإجهاضُ جهات.
أحبَّني في عصياني، فثمّنتُ له سعته، وكرهتُ إدراكه لي، وأكثر… أحببت وكرهتُ وهمي في إدراكه.
وتجلّى بعضه أمامَ الحدث وخلفَ المحادثة، ولم يصر.
وكرّر إساءةَ فهمه من ذهبَ عميقًا ليفهمه. وترك لهم أطيافه في كلّ شيء وبعضَهُ في اللغة، ليفرحوا بفتات اللُقى والملقى وبأنفسهم.
قوّته ليست في فتوّة ضعفِ من أراد تقليدَ قوته.
كلّما ذهبتُ إليه، اعترضني اسمه.
لم يهدّدني ببلاء وعقابٍ، وَهَبني نعمةَ جهلي به، معارفَ أنقذتني من ضجري منّي ومنه ومن الوجود.
لم يخرج منّي ولم أخرج منه، كلانا مبجّلان في الغياب، غير أنّ حضوري غيابٌ قصير، وغيابه حضور أزليّ.
لم يَنْهَنِي عن فعل شيء، ولم يأمرني بشيء، ولكن أهابني منه أن أهيب فنائي.
ومكّنَهُ في الحضور أنّهم. ومكّنهُ في الغياب أنّي. وأشار إليّ بالعكس.
وما فهموا البالَ ولا الخاطر، عبدةُ المضاف إليه.
وبقيت ردحًا في النشيج إليه، ثم أُلهمتُ بالرقص إليه، فدارَ ودُرتُ حتى انتهينا دمعتـين مخطوفتين مختلطتين في عين الدوران.
وبقيت ردحًا في المنام معقوصًا بالقرِّ والحرِّ، وقال: أوقظك، شرطَ أن تحتمل وخز وطعن الوقت.
وكان تجلّي سخطه عليّ في سكونه، وكان سخطي فيه ومنه وبه وعليه بسببٍ من صخب سكونه، وكنّا كلانا نذهب في طيف كثيف من الرضا، حين يموت أحدنا في اﻵخر.
والمأدبة أنّي قائم عليها وقائم منها.
وظلّ يعصف فيَّ حتّى أفرغني منّي وأترعني بوقته ثمّ أهملني، ففررت إلى المطارح، ومن حينها يذلّني كبريائي أنّى مضيت.
يخونني جسدي خيانةَ محبّةِ نفسي فيه.
ورغبتُ أن تُغيِّرَ نظرتي المنظورَ، غيرَ أنّي مستغرق، والمنظور غارق.
ولن ترفعني قراءتهم، ويكفيني أن أكتُبُني، وأنت في شواش معنى كتابتي.
وصوّرتُ، غير أنّ صوري ليست في الاكتشاف وإنّما في الخلق، أعني لأنّي لم أقلّد سواك، أنت الواجد شبيهُ عصارة الموجود في الموجودات.
وتقدّمتُ فتكلّمتُ وتألّمتُ وتعلّمتُ، فكدتُ أن أكون فما كنتُ، وكان عدم كَوني مصيرًا قصيرًا في الجسد، ومن بعدها بدأت الصيرورة بإرسال شراراتها ليُصَيِّرها الأتباعُ نورًا ثابتًا، فنوّرتَ عليَّ بأن أكون نقطة خفاء مظلمة في جسم النور، أطفأْتَني بينهم وأضأْتَني أمامي وأمامك، حين النور لا يَثبُت إلّا في قلب من في قلبه نور. وعنيتُ إذا عنيت أنّ السعادة حمّلتني أحمالها فحملتُ، وسعدتُ كأنّي أنا المحمول، سعادةَ أنّك داخلي وخارجي كما أنا هو أنا. أو بي رغبة بأن أكون، فأخرجْتَني إلى حينٍ من سأم وجودك ومن سأم وجودي.
وفي الخطوة كلُّ الرحلة إذا انتبهتَ ففهمتَ.
ودوّرني فاستقمتُ وفرحت بالضياع طريقًا، بل قل فرحت كما لم يفرح أحد.
وأفرحني أنّي باتّجاهه، فأخذني الرقص فدرتُ واستدرتُ وعَلَوتُ، وكنتُ كأنّي وصلتُ لأنّي حدستُ الطريق، لأنّي تيقّنت أن لا طريق، لأنّي في الكلمة غبار معناها، وغير آبهٍ بقارئها.
الآن ساقَني عدمي إلى عدمٍ من لحم ودم، اﻵن يمكنني أن أحبّ من دون شرط، ومن دون تعيين محبوب.
وما همّني أنّهم لم ولن يفهموني، ها أنا أسيئ ولا أسيئ فهم آلاف الأموات والأحياء داخلي حين أُظهِّرُهم.
أجادلهم فيحجزني الإحباط، وأجادله فيضيق عليّ الكون. بيني وبينهم يتأجّل موتي. ثمّ أفرح في أنّ حالَ حدوثِ موتي صفةُ قيامتي، من غير إغفال ثقلِ غفلتهم ولا وزن محبّته. ممّا يدفعني لأتجاهلني وأحبّني كأنّي أنا وكأنّي هُم.
وأدركت أنّي في وادٍ، وأنّ معارفي في واد. وأن لا جدوى من عصياني إنْ لم أَلِجُ المفازة، إن لم أحاول تخطيطها، وكلّ خطوطي تثبيت هباء.
جاء متوهّموه ليخربوا اغتباطي به… الحافظون، وظنّوا أنّهم حاكوا كائنَ الجهل فيّ، ونجحت أنّي انتبهتُ وكان انتباهي نقيضَ الحفظ وكنت حرًّا من المحاكاة.
وظللت أنعي نفسي في رسمي، حتى ذاب جسمي واسمي، فقمت في فنائي من غير علمي.
والملفتُ المفارق في تعبي من وجودي على حدّ اسمك وأمام جبروت أطيافك، هو وجودُكَ غير المكترث فيّ.
واقتربتُ فما قربتُ، وهربتُ فقيل لي: وصلتَ، وما صدّقتُ.
وأمرني بالكلام، وشرطُهُ بألّا أستعير أو أقلّد الصمت، بل أن أكون في الكلام ذكيَّ الصمت.
لم يكن ليكون في الوصول أو في الأفول، ولا في الدوران حول الطلول، ولا في الانحلال أو الحلول. حسبه رائحة روح عابرة في رياح هادرة.
وقام في الحزن عمودَ نارٍ، وجلس في ظلّ نوره يعدّ ذرّات رماده.
بابُ معرفةٍ لم يُفتح منذ دهور، أضحى مقطعًا من جدار يفصل الهباء عن الهباء.
لم يكن عالمي في خاتمي، ولسوء طالعي، أو لحسن طالعي، كانت أصابعي مباضعي، كما جسمي لنفسي، وأنا لست معي.
لم يفهموا بُعدي، كما لم أفهم عطايا زُهدي، إلّا في شحّ الوعدِ.
وعلّتي في ابتلائي بداء الوجود، وما كان بي حاجة لا للظهور ولا للتخفّي.
نبذُهم لي نبذي لنفسي، فلي دومًا أسبقية الكشف، ما خفّ منه وما ثقل، أمّا انعزالي عنهم فهربٌ من قديمِ وقادمِ نفسي. فلا ارتيابي أرسلني إلى يقين، ولا خوفي قادني إلى إيمان، ولا هم أهل بصيرة ليروا علامة حقّ ممحوّة.
ففي تحاشيهم لدعوتي خوفٌ من مساميري تَدقّ وتُثبِّت صورَهم التي لا يريدون تعليقها، أو من مطرقتي هدّامةَ صورِهم المعلّقة. إنّها فرصتي إذن، مُنجزي ومُنجزهم بتوكيد عزلتي، في تحطيم وإعادة تركيب صوري عنّي.
ولأدَعْ مجيئهم زيارةً أتعلّم منها، فالعارف يتعلّم من الجهلاء بينما من بعضهم يتعلّمون.
ولما اشتدّ عودي في العصيان، وأدركت تيهي وتوهاني فيَّ وفيه، كدتُ أرضى.
وكلّ صياغةٍ هي بترُ عضوٍ من جسم البلاغة (رسمٌ لظلِّ فكرة)، وكلّ بلاغةٍ هي شكل المعنى غاضبًا ومغضوبًا عليه.
*نص مجتزأ من نص طويل