نجيب مبارك*
النيل
تسيغاي غابري-ميدهين (إثيوبيا)
أنا الأرض الأولى وأمُّ كلِّ خصوبة.
أنا المنبعُ، أنا النيل، أنا الإفريقيّ، أنا البداية !
آه يا جزيرة العرب، كيف نسيتِ بهذه السهولة،
بينما لا تزال أنفاسكِ على ضفافِ منابعي؟
آه يا مصر، الفتاةُ المُذهلة الّتي وُلِدت من حبّي الأول،
أنا ملكةُ مياهكِ العذبة اللّانهائية،
وضعتُ رأسي في حضن الفرعون مينا
عندما وحَّدْنا الأراضي العليا والسفلى لنخلقكِ !
أه أيّها السودان، وُلِدتَ من ثدي وجودي،
كيف اقتطعتَ لنفسك بسهولة
قطراتٍ أبديّة من هذا النيل المنعش
بمليارات بائسة من الأحواض الصغيرة؟
كانت بدايتك جيّدة قبل أن تسقط الأرضُ من مدار السماوات
يا أيّها النيل، الّذي تدفَّق من أنفاسِ حياتي
على وديانٍ لا حصر لها من حشودِ عطشَى الأرض،
آه أيّها العالم، كيف نسيتَ بسهولة
أنّني نافورتكَ الأولى، أنا، وحبَشَتُك الأبديّة
أنا حياتكَ الأولى الّتي ما تزال على قيد الحياة من أجلك؟
أنهضُ مثل شمسٍ من أعماقِ الأرض.
أنا فاتحُ أوبئةِ الجفاف.
أنا الحبَشة الّتي « تمدُّ يدها المتضرِّعة إلى الله».
أنا أمُّ المسافر الأعظم
الّذي خرج في أطول رحلةٍ على الأرض !
* * *
الرمال في جوف اليد
ويليام ج.-ف. صياد ( الصومال)
مثل ريحِ الخماسين
في الصحراء
عبرتِ أنتِ من حياتي
ولم تتركي أثراً
سوى أخاديد
واسعةٍ
وهذه الراحة
المؤجَّلَة.
*
آملُ أن تُصدّقينني
أنا لستُ شاعراً
ولا كاتباً
ومع ذلك تدفعني روحٌ
للإمساكِ بالقلم
وخربشةِ بعضِ الأفكار
الواضحة
الّتي أحاول
أن أتلمَّسها بأصبعي
بين هواجسي الحالمة
* * *
آملُ أن تُصدّقينني
أنا لست شاعراً
ولا كاتباً
ومع ذلك
أنت تتقلّبين بداخلي
مثل فكرةٍ
غريبة
تأتي لتعكِّر
اللَّحظةَ
الَّتي أعيش
آمل أن تصدّقينني
أنا لست شاعراً
ولا كاتباً
لكني فكرةٌ
منذورة للعدم الأبدي
حيث كلُّ شيء متذبذبٌ
مثل تروسٍ مؤقَّتة
حيث كلُّ شيء عدمٌ
وحيث أنا لستُ
سوى ذبذبةٍ
بين عددٍ لا يُحصى
من البشر.
* * *
قصائد الصحراء (مقطع)
جاسم واتا (جيبوتي)
ثمَّة رياحٌ قليلة
لتجمعَ
ذكرياتنا
في الطرف الآخر
من الخوف
لتنقِّط
صمتَ القدر
وبطنَ الأرض
إلى أين أذهبُ
في حريقِ عزلتي
الهائلِ
خطوتي
مؤلمةٌ
تحت شراعٍ
من ضباب
كلُّ صدى
مماثل
ينكر أيَّ شبه
مع
النشيد المكثّف
بينما تزيح مقدّمة المركب
رغوةَ المساء
الملفوفةَ في رمالٍ نائمة.
* * *
مدخل
عبد الرحمن أ. وابري (جيبوتي)
كان تمرُّدي بلا جدوى
قدَّم الصّمتُ ثديَه لي
وموسيقاه
البسيطةُ والصادقة
انسابت مثل ماءِ الوضوء
مبشِّرةً بآذان الصلاة
الكلماتُ المزهرةُ على شفاه المرشدِ
نقلت إلى العربات براميلَ كاملةً
من خمر المعرفة
وأنا ركضتُ وراء هذا الإكسير
في وقتٍ مبكّرٍ من الرأفة
والشمسُ احتسَت من معبدٍ إلى آخر
وكان على عينيَّ حجابٌ
وإشفاقاً عليَّ منحني القمرُ حصاةً يتيمة
من رُبع سهرتِه أمسِ
وتقدَّمَت شبكةُ نورٍ أمامي
وظَهري
بدورهِ
كان يعكسُ في وَهَنٍ
قيثارةَ الوجود الرّفيعة
الّتي تكرَّمَت بوضعِ
خطواتِها في خطواتي المتعثِّرة
كان تمرُّدي بلا جدوى
لستُ نادماً
الطريقُ طويل
سأرحل غداً
وعلى كَتفي الفجر.
* * *
أنت هو آدم
ريسوم هايلي (أريتيريا)
آدم،
يا ابنَ اليوم السادس
من الخَلق،
ألستَ أكثر
من عَبد؟
ولستَ أسداً
ولا نمراً
ولا نسراً؟
أنتَ مُطيع
مثل حمارٍ،
بغلٍ
أو بَقرة –
لستَ سوى عَبد.
لماذا لا تكون حرّاً؟
ماذا؟
أسلافُك يقولون
إنّني أنا العبد
حين ألومكَ
على مُساعدتي؟
* * *
أمام الجدار
حماة توما (إثيوبيا)
أمام الجدار دمٌ أحمر وباهت،
نحيلٌ مثل وجهِ ضحيّةٍ
أصابها الجدري،
كان واقفاً ويداه مقيّدتان
في مواجهة رجالِ الموت الأشرار.
أمام الجدار انبثقَ حلمٌ ذَهبيٌّ
في وجه الوحوشِ والكوابيس.
أمام الجدار هزَأت ابتسامةُ المنتصر
من حشرةٍ لا يعرفون سوى أنّها تصلح
للقتل.
أمام الجدار بلدُنا التعيس
يتعرَّض للضّرب من طرف أبنائه.
أمام الجدار كلُّ الموازين،
كلُّ الشَفقات،
بينما العجلة تدور
والقتَلة هم أيضاً ملتصقُون
بجدارٍ حفروهُ بِطَلقاتهم.
أمام الجدار كلُّ الكرامات،
كلُّ الحكايات
لكي تُساق إلى الإعدامِ
عند الفجر.
* * *
بيت
ورسان شِري (الصومال)
لا أحد يتركُ بيته
اللّهم إذا تحوّل إلى فمِ سمكةِ قرشٍ
لا تُهرعين إلى الحدود
إلَّا عندما تهرع المدينة كلُّها أيضاً
مع جيرانك الّذين يركضون أسرعَ منكِ
والصبيُّ الّذي كان يرافقكِ إلى المدرسة
ذلك الذي قبَّلكِ، مبهوراً، ذاتَ مرَّة خلف المصنع القديم
صار الآن يحملُ سلاحاً أكبر من جسدِه
وأنتِ تغادرين بيتك
لأنّه لم يعد يسمح لك بالبقاء.
أنتِ لا تهجرين بيتك إذا لم يكن
يقذف النار تحت قدميك
والدَّمَ الحارّ في بطنك
لأنّه شيء لم تفكِّري في فعله على الإطلاق
حتَّى لو وضعوا النَصل
على رقبتك
ورغم ذلك كان صوتكِ لا يزال يحمل
النشيد الوطني
بينما كنتِ تمزِّقين جواز سفرك في مراحيضِ المطار
وتنتحبين مع كلِّ قطعة ورقٍ صغيرة
حتى تُقنعي نفسك أن لا تتراجع أبداً إلى الوراء
يجب عليك أن تفهمي
أنَّ لا أحد يدفع أطفاله على متن سفينة
إلَّا إذا كان البحرُ أكثر أمناً من الأرضِ القاسية
لا أحدَ يحرق أطراف أصابعه
تحت القطارات
وبين المقصورات
لا أحد يقضي أيّاماً وليال
في بطنِ شاحنة
وهو يتغذَّى على أوراق الجرائد
إلَّا إذا كانت الأميال المقطوعة
أكثرَ من مجرّد سفر
لا أحد يزحف تحت سياجٍ
لا أحد يريد الموت
أو الشّفقة
لا أحد يختار مخيَّمَ اللّاجئين
أو السجن
] …[
إلّا إذا طلب بيتك من ساقيك
أن تركضا بسرعة
تتركين ملابسك خلفك
وتزحفين عبر الصحراء
تعبرين المحيطات
تغرقين
فينقذوك
تجوعين
فتتسوّلين
تَنسينَ كبريائك
لأنَّ بقاءك حيّةً هو الأهمّ.