يبدو الشعر الافريقي المعاصر كمرآة للقارّة الافريقيّة: يعكس ألوان الأرض والسماء، ويحمل موسيقى الريح وآلات الايقاع. يعبّر بشغف حاد عن الجراح والدمّ والآلام ولكنه يبقى في الآن نفسه أنشودة للحياة.
للأدب الافريقي المعاصر جذور عميقة في الأدب التقليدي الشفهي. بحيث يتهيأ لقارىء النص سماع صوت الحكواتي والشاعر الغنائي المتجوّل بين القرى والذي لا يزال يجول في معظم شوارع المدن الأفريقية. فالنصّ الشعري وليد الاناشيد الشعبيّة والحكايات والاساطير، والقصيدة الحديثة تعيد غالبا أحياء شخصيات أسطوريّة وحيوانات ونباتات ذات رمزية خاصّة في اللاوعي الجماعي.
ولكن القصيدة الحديثة لا تختبىء في ظلال التاريخ، فالشعراء الافارقة المعاصرون يرسمون خارطة النزاعات والهواجس الشخصية الحميمية والجماعية. تسأل قصيدتهم عن علاقة العالم الحديث بالتقاليد وعن دور الشعر في التعبير عن الآلام الشخصية والعامة وتطرح اشكاليّة الهويّة والانتماء للوطن ولافريقيا الأمّ وللعالم…
هكذا يبتعد الشعراء الافارقة المعاصرون شيئأ فشيئأ عن الوجه الساطع للشاعر السنغالي ليوبولد سنغور(1906-2001) «أبّ الزنوجة» كما يلقبه العديد منهم. وبالرغم من ذلك فإننا نجد بصماته غالبا في نصوصهم، فهم ورثوا عنه بالتأكيد القصيدة المليئة بالصور والمبنية على الايقاع والتي مازالت تتبنّى أحيانا النبرة الملحميّة. واذا كان التعبير عن حبّ الأرض يبتعد بعض الشيء عن الغنائيّة فموقعه لا يزال محوريا وعضويا، بحيث تبرز العلاقة الجسدية والحسيّة بين الشاعر وأرضه.
ثلاثة اتجاهات تبرز في مضمون النص الشعري في افريقيا: شعر ملتزم، بالمعنى الوطني والأفريقاني، يستمدّ الهامه من الزنوجة، وشعر حميميّ يعطي مساحة كبيرة للمشاعر والشغف، غالبا ما يذكّر بالرومانسية، وشعر ملتصق بالأرض حيث لا تكتفي الطبيعة بدور تزيينيّ بل ترسم على الصفحة الشعرية قسوتها وخصوبتها.
هنا مختارات لسبعة شعراء من خمسة بلدان في أفريقيا الوسطى والغربيّة.
تانيلا بوني (Tanella Boni) :
كاتبة من ساحل العاج، ولدت في أبيدجان ودرست في جامعات تولوز وباريس. أستاذة في مادة الفلسفة في جامعة «كوكودي» في أبيدجان، تكتب الشعر والروايات والقصص القصيرة والنصوص النقدية. ترأست اتحاد كتاب ساحل العاج بين عامي 1991 و1997 وهي من منظمي المهرجان العالمي للشعر في أبيدجان.
من مجموعتها الشعرية المعنونة: «المتاهة»
غطت الشمس تنّورة-قناع
تترك أصابع الأرض
هؤلاء اليتامى المرتجفين
في برد الليل
ضجيج خردة كالبؤس؟…
يركض كل اصبع نحو
زهرة موسيقية
حُباحب التنورة-القناع
التي تلمع للحظة
كالبرق
كان يوما قاسيا من الجوع والعرق
و الفولكلور المتجدد…
من مجموعتها الشعرية المعنونة: «جلدي نافذة على المستقبل»
غيوم النهار تمزّق
كلام القلب
السماء قماشة ملتهبة
نخيل وأضواء خافتة نوافذ ورشّاشات
غير متوقعة
غيوم النهار تستر الجفون
و شوارع العالم
كي يأخذ الحلم دوره
قرب الظلّ الذي لا ينتهي
الذي يكلّس جلدك (…)
جان- باتيست تاتي لوتار (Jean-Baptiste Tati Loutard ) :
كاتب وسياسي من الكونغو يعتبر من أهم أصوات أفريقيا الفرنكوفونية، نشر العديد من المجموعات الشعرية وحاز على عدة جوائز.
من مجموعته الشعرية المعنونة: «حج الى مرسى لوانغو»
حتى الآن تبعتُ فوحان دمهم
دمي،
نسيتُ حروقا اخرى أصابتني من الريح القاسية
من الايام العابرة؛ أتوقّف:
تؤلمني الحياة؛ لن أذهب أبعد من ذلك.
الدرب -هي أيضا- تضيع أمام هذا العمود-الذكرى
على رصيف الميناء.
كما منذ ثلاثة قرون عند هذا المرسى
لايزال البحر يحكي اللانهاية
مهدهدا رقّاص ساعته؛
و روح الله لاتزال تحوم فوق المياه،
فوق هذا الصمت الكبير الراكد
الذي تنقره نوارس عرض البحر البعيد.
لن أكمل الحج
على الطريق التحتمائي المبلّط بالعظام
حتى انبعاث النبع البعيد في «جيمستاون"
بين مخيّمات الموت المزهّرة بالقطن.
لتقيم أفريقيا النبيلة قبورا تذكارية
لراحة نفس كل أمواتها ذات القلوب الثقيلة
التي تأتي لتصبّ ضغينتها عل زبد
الأمواج.
كاما سيوور كامندا ( Kama Sywor Kamanda) :
شاعر وروائي وكاتب مسرحي من الكونغو. درس في جامعات أوروبا وافريقيا الصحافة والعلوم السياسية والحقوق. يحاضر في العديد من الجامعات حول العالم ويكتب نصوصا نقدية ثقافية وسياسية.
من مجموعته الشعرية المعنونة: «التنازلات»
«الوعد المنتزع»
أيتها الأرض الفتوحة على الحب،
الوعد المنتزع من الموت
جمّعي الانتفاضات الحيوية التي لا تفنى
في القصوف الكونية في جذور الروح.
الوقت الذي يتنكّر لوطن الحلم
يواسينا من المرارة.
الشعر يقودنا نحو المطلق،
يهدئ قلب ليالينا المنتشي
و يحمل في يديه
فانوس الضمير القديم.
أبطالنا انعكاس
لنجوم بعيدة.
بينما نعيش في
زوبعة الأوهام،
نقدّم هباتنا
في مدّ وجزر الحياة،
نغلّف كلماتنا،
أفكارنا وأعمالنا
بجسد الفينيق.
"رغبة في الهوية"
كما في قرون الملوك الكبار
سوف نسترجع من اعوجاج الهاوية
الشرف الذي ضاع في إهانة الاستلاب.
سنستعيد ضوء آمون
على دروب الرمل المشعة هذه على ضفاف النيل
في دهشة ما قبل- فجر العالم.
تلمع الشمس فوق زمرّد الغابة الاستوائية
لا مبالية بجمالها وغير مكترثة بغناها.
هناك تحفحف الأوراق التي يهزّها عصف منتظم؛
الآن الكائنات في الحقيقة الثابتة.
أناشيد البشر الضالين في المصيبة،
دويّ، ألحان غريبة،
كنعيب صارّ
يثقب الصمت الى حيث تبدأ بالنسبة لنا
طرقات الهويّات العاصية.
في البعيد، طيور النحام الزهريّ تتوقف عن الطيران،
متجمدة في لا واقعية الوقت الذي ينسى أن يمضي
حيث الذي وُعدنا به لم يأت أبدا.
الأرض الألفية حيث وُلدت الآلهة والبشر،
يا افريقيا، يا معبدا بأبواب مشتعلة،
عصية ابدا حتى على نفسها
منذ الليلة التي بعثت أول شعاع للحياة!
نحضر قربان الشرعية
في وهج الحرّية من غير أن نشبع أبناءنا
بقلق ملاحمنا التراجيدية.
السلف المقدّس، يحضر ضوءه
لأرواح السهول، كي تحتفل بجلالته
بحدّة ورعنا.
ينبض قلب افريقيا في غاباتها العذراء،
المتواطئة مع الأحلام أكثر منها مع الوحدة.
أليون بادارا كوليبالي (Alioune Badara Coulibaly):
شاعر من السنغال، عرّف به شاعر الزنوجة سنغور. مدير لمدرسة ثم منتج للعديد من البرامج الثقافية لراديو «دنيا» في سان لوي. يرأس حلقة الكتاب والشعراء في سان لوي وهو عضو في اتحاد الشعراء الفرنكوفونيين وقد عينته منظمة «لقاءات أوروبية- أوروبوييزي» مندوبا لها في السنغال. حاز على جائزة «اوروبوييزي» والفرنكوفونية عام 2008.
من مجموعته الشعرية المعنونة: «شعاع شمس"
«سان لوي»
حلّقت ُفوق سان لوي
في النهار،
حلّقت فوق سان لوي
في الليل
لم ألتق في أي مكان
الجن التي تصنع
أسطورتها
لم أحسّ في أي مكان
بوجود الجن التي تحميها.
هل تركت، لعدم اكتراث سكّانها
بيوتها الخفية
و اختبأت في الغابات المقدّسة؟
حلّقتُ فوق سان لوي في النهار،
حلّقتُ فوق سان لوي في الليل،
لم ألتق في أي مكان الجن
التي تصنع أسطورتها.
لم أحسّ في أي
مكان بوجود
الجن التي تحميها.
«صـلاة»
عشتُ الأفراح
الأكثر رقّة، يا الهي.
عشتُ الأحزان
الأكثر مرارة، يا الهي.
نجوتُ من قطار
"غينغينيو"
نجوتُ من أفعى
"غادياك» السّامة
وأنا في نزهة ذات مساء.
هل يمكنني أن أنام هذا المساء
يا الهي، أن أنام
نوما عميقا،
نوما لا ينتهي،
في سريري السماوي؟
"الرقصة"
لا تجعلني أرقص
الرقصة التي لا تُرقص.
لا أستطيع أن أرقص
هذه الرقصة: خطوة
الى الأمام،
يموت أبي.
خطوة من الوراء،
تموت أمّي،
حين أرقص في مكاني
أموت.
لا أستطيع أن أرقص
هذه الرقصة،
لا تجعلني أرقص
الرقصة التي لا تُرقص.
"نقطة آخر السطر"
الهي أعطني القوة
كي أكتب الكلمة الأخيرة
من آخر سطر.
الهي أعطني القوة
كي أكتب الصفحة الأخيرة
من آخر مخطوطة.
الهي! لتنزل علي
نعمتك،
كي أضع نقطة آخر السطر
لكل ما سبق.
"عاطفي"
أظلم البحر
من مرور الغيم
كزوجة ترتدي
الحداد على حياتها.
تقلّبت الأمواج غاضبة
كرجل حُرم الحب
في منحدر العمر.
"هناك بشر"
هناك بشر كلامهم بلسم
لقلوبنا المتالّمة حين يصفعنا
القدرليطلق ألسنتنا.
هناك بشر تعيد ابتسامتهم الابتسامة
للمرضى، للفقراء، للمحتاجين.
هناك بشر تعيد لنا أخويتهم
قوّة سنوات الشباب.
هناك بشر جريئون أمام الصعاب،
هادئون في الانتصار،
يثبّتون الذهن ويقوّون الروح.
هناك بشر نظرتهم عطاء،
أمل، ايمان وحب، مشاركة وتضامن.
هناك بشر لا يقدرون على الفرح
عندما يتألّم آخرون.
أيها البشر الذين تستبدلون الشقاء
بالأمل البرّاق،
لن أبوح باسمكم وتواضعكم
لن يُدنّس.
هناك بشر كلامهم بلسم
لقلوبنا المتالّمة
حين يصفعنا
القدر ليطلق ألسنتنا.
هناك بشر
تعيد
ابتسامتهم الابتسامة
للذين يتألّمون
في الضوضاء كما
في الصمت.
أمادو لامين سال ( Amadou Lamine Sall) :
شاعر من السنغال، أسس البيت الافريقي العالمي للشعر، ترأس المهرجان العالمي للشعر الذي يقام كل سنتين في داكار. حاز على الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية وكتب عدّة أنطولوجيات ترجمت الى لغات عدّة. قال عنه سنغور أنه الشاعر الأكثر موهبة في جيله.
"عشيقات الفجر"
بحثتُ عنكِ في كل مكان وفي اللامكان
بين الزهرة والساق
بين النهار والليل
بين ضحكات النوم
بين ملامسات الغياب
أين أنت يا ابنة الليل
ها هي القصيدة قد لهثت والكلمات انسحبت
ترقص الريشة «آرابيسك» سكرت من نبيذها الأسود
أحرف العلة ساهية
والأحرف الصوامت جامحة تطوف تائهة
في فراغ الصفحة التي تتثاءب
ستكونين الليلة الوحيدة التي تفهم لماذا
أكتب قصيدة الجنس والزيتون الدم والحب هذه
أودّ أن أكلمك في بطن الليل
عندما يرقص فتات النجوم على فمك
العسلي والمحموم
أين أنت يا ابنة الليل
أعلم أنك آتية
لأني وحش عرينك
السحلية التي تعرّجك وتعيدك الى ضوء
النهار
ها أنا أعض كفيك
و أغني في طراوة شعرك
و لم تعد لي أذن صاغية الا لانجيل نشيدك
عندما يجلد جسدينا
حَرور* الرغبة
بعد قليل عندما القاك
ستقولين لي كم الساعة
و بعدها ستقولين لي كم الساعة من جديد
سنذهب لنشتري صحف اليمين واليسار
يسار-يمين يمين-يسار
سأقرأها من الشرق الى الغرب
ستعلّقين عليها من الشمال الى الجنوب
ثم سنبعثرها في كل اتجاهات الريح
في أركان الأمية والجوع الأربعة(…)
* حَرور: ريح حادة تهب في أفريقيا الغربية.
جيريمي لوران ديفو (Jérémie Laurent Deffo ) :
شاعر من الكامرون من مؤسسي حلقة شعراء الكامرون وهو مخرج وموسيقار وقد تمّ مسرحة وغناء العديد من قصائده.
"أس. أو. أس»
أنا! المثقف الصيني
أبحث عن أنا أخرى
لا تكون أنا
-أنا لا تكون فما
ذا ضحكة ساخرة
-انا لا تكون دوّارة هواء مخادعة
-أنا لا تنطق بلغة فاحشة
بل أنا لبقة
صديقة وتابعة للملك
فنانة تحب عزف المزمار
فارس محتال مثلي
يحترم الحق والقانون
لا يهم وزنه، لغته
رتبته في آخر مباراة
و مجده
أريد اذا أنا متحمّسة
طموحة ومستبصرة
-أنا تعي ذاتها
-أنا لديها ميولي
-أنا تهتزّ على موجاتي نفسها
-انا تنظر الى الاتجاه الذي أنظر اليه
-انا تعطي الاولوية للنضال الفكري الذي أخوضه
كي نتسلق معا
أدراج هضبات «كونفوشيوس"
لنقطف حصادنا
أسكوفاري عبدولاي (Ascofaré Abdoulaye ) :
شاعر ومخرج سنمائي من مالي.
"خذ قصيدتي»
أيها الشاعر، بنفس الطريقة
خذ قصيدتي
كما تأخذ
أحلامي
ولكني أقسمت أن أقود
هذا الشعب
حيث
لا سماء A159;لاّ زرقاء
حيث
لا يكسو العشب
سوى الندى الناعم
حيث قلبي الحاضن
سيحترق حتى الرماد
سيحرق شعلة
بلون الأمل.
ترجمة وتقديم: رؤى عبّود مترجمة من لبنان