إن أي متابع للخطاب الثقافي، على مدى عامين ونيِّف، منذ اشتعال شرارة البوعزيزي، وحتى هذه اللحظة، تحديداً، حيث تهيمن لغة العنف على الموج الهادر للأخبار التي تتناقلها وكالات الانباء، ووسائل الإعلام: المرئي منها، والمقروء، والمسموع، على المستوى العام، فإنه ليجد أن رائحة البارود، والدمار، والدم، هي التي تتسيد هاتيك الأخبار، سواء تلك التي تعتمد على الصورة الإلكترونية، أوالتقليدية، إذ باتت تفرض نفسها-بكل ماتحمله من ألم وأسى- على ذاكرة كائن العمارة الكونية الواحدة، لتجعله مشدوداً إلى ما يدورفي حومة الفضاء المكاني، حيث حضور الموت والخوف والتوتر، في أعلى رقم قياسي يمكن تسجيله هنا، وطبيعي، أن المثقف، أياً كان، هو الأكثر تاثراً بهذا الواقع، والأكثر حساسية، باعتباره ضميراً جمعياً، في صورته النمطية، في أقل تقدير.
إن منظر مقتل طفل صغير، أو تهدم منزل فوق رؤوس أسرته، كاملة، أو غير ذلك من أمَّات الأحداث الكبرى التي تجري في أية نقطة من العالم العربي، بل والعالم، لم تعد تؤثر في محيطها الضيق، فحسب، وإنما تؤثر أبعد من هذا المحيط، وأعمق، إلى تلك الدرجة التي غدت القرية الكونية، أو العمارة الكونية، وغيرهما من المصطلحات التي باتت تطلق على الكرة الأرضية، التي باتت تتهاوى، وتتضاءل، وتتقزم، في ظل الانتشار العمودي والأفقي، لوسائل الإعلام، وثورة الاتصالات، إذ أن ما يجري أمام أعيننا، بل وبات يداهمنا في بيوتنا، ومكاتبنا، من مشاهد أحداث ساخنة، أليمة، في أي مكان في العالم، بكامل أدوات وعدد صدمتها، واستفزازها، من رائحة شواء آدمي، أوبيئي، يترك أثره الكبيرفي نفوسنا، إلى تلك الدرجة التي صرنا نشعرفي كل برهة، أن أية حرب تجري في العالم، إنماهي تجري في بلداننا، وبيوتنا، بل وأعماقنا…!.
ومن المعروف، أن تمكن الحدث من أن يكون عاماً، من شأنه أن يشكل وحدة همّ عامة، في أوسع دائرة ممكنة، لاسيما وأن هذا الحدث- أية كانت جغرافيته- لايمكن وضع أية سدود، أوجدران بينه ومتلقيه العالمي، فقد انهارت شوكة الرقابات المصونة، التي كانت تبتسرالمعلومة، وتقدِّمها على نحو محدَّد، إلى تلك الدرجة التي كان من الممكن تكوين عددلامتناه من القراءات للحدث الواحد، وهوما بات ينحسرتدريجياًً.
من تعدد القراءات
إلى القراءة الواحدة:
إن ثورة الاتصالات التي أشرنا إليها-أعلاه- استطاعت-بحق-أن تجري ثورة معرفية موازية في نطاقها الكوني، لاسيما وأنه مع توافر إمكان إيصال المعلومة الصحيحة، بكل صدق، إلى متلقيها المعولم-في الحدود الجغرافية في أقل تقدير- تم التخلص من تباينات وجهات النظر، حيث تقلص ذلك البون الشاسع بين وجهات النظر المختلفة، حول واقعة محددة، معروفة المعطيات الأولية، وهو تحول مهم في مسار الفكر الإنساني، وإن كنا هنا سنظل في مواجهة تحديين:
1-رؤية النخبة التي تتعامى عن قراءة الوقائع، انطلاقاً من دواع منفعية، ولذلك فهي تعمد إلى مواصلة وسائل التزوير المعرفي التي كان يتم اللجوء إليها، من قبل مراكز البحوث والمؤسسات والهيئات التي تخدمها، بيد أن تأثير مثل هذه الدوائر بات يتقوَّض على نحو واضح، لاسيما وأن المتلقي العادي، في أطراف المعمورة، غدا صانعاً للوعي، من خلال طريقة تلقيه له، وتفاعله معه، وهوما يمكن اختصاره، ووسمه بـ«تحدي السلطة» التي طالما تناولها النقاد والفلاسفة والمثقفون، في دراساتهم العميقة وكان له أثره الكبير في الخطِّ البياني للعلاقة بين الإنتلجنسيا والسلطة على مر العصور.
2- استمرار بعض الأوساط العامة، التي خضع أفرادها-فكرياً-ولمدد طويلة، لتأثيرات الإعلام المضلل، بيد أن مايحدث، هوأن هذه الأوساط صارت دائرتها تتقوَّض- يوماً بعد آخر- بل إنها تتفكك، لاسيما وأن سلطة الصورة الإلكترونية- غيرالمفبركة، تمتلك طاقة سحرية فاعلة، مؤثرة، وهي تستند إلى عمق استراتيجي، لايمكن الاستهانة به، البتة، لأنه يمثل-أولاً وأخيراً- المصلحة البشرية العامة.
اهتزاز صورة الخطاب «المفبرك»:
وإذا كان من شأن ثورة الاتصالات، عندما تتاح لها الإمكانات والمناخات الصحيحة، أن تعيد بناء الإنسان، في فضائه الكوني، مسهمة في تقارب المفاهيم، والالتفاف حول المعلومة الدقيقة، الصائبة، ونبذ منافستها التي لاتمتلك مصداقيتها، وهوما يكون له أقوى التأثيرفي الأسرة الكونية الجديدة، حتى وإن كان جهاز التلقي، عند هذا المواطن العالمي، سيكون في مواجهة صنفين من المعلومات: أولهما سهل التفاعل معه، وثانيهما تحول بعض تراكمات الرؤى السابقة-على اختلاف بواعثها- دون التفاعل الإيجابي السريع معها، وهوما يمكن لعامل الزمان أن يزيل الكثيرمن العوالق غيرالمتماشية مع الوعي والذائقة البشريين العامين. لقدمرَّت دورة المعرفة، بمفصل جدّ مهم، وهومفصل مقدرة الخبر الإعلامي، على تشكيل منظومة خاصة به، تستحوذ على درجة عليا من التأثيرعلى الخطاب الثقافي العام، إذ أن هناك تجسيراً بين المعلومة ذات الطابع العلمي المعرفي، وتلك المعلومة الإخبارية اليومية، أواللحظية، إلى تلك الحال التي بتنا نجد فيها استبيانات وأرقاماً وإحصاءات تعتمد على هذه المعلومة، بأشكالها المتعددة، بل إن هناك تخوفاً من ابتلاع ماهو إعلامي لماسواه من مصادرالمعرفة الكبرى، بعد أن غدت العلاقة بينهما جد متوازنة، وكيفية تبادل الاستفادة بينهماخلاقاً، رغم وجود تجييش لاستخدام الخبر، ضمن إطار معرفي مزور، وهوما دأبت ماكينة الشر على ألا تتورع عن الحفر في مضاميره، لتحقيق أهدافها المعروفة، على اختلاف أشكالها وأبعادها.
قلق الخطاب خطاب القلق:
ولايخفي على متابع الشأن الثقافي والإبداعي، أن هناك انكفاء واضحاً في تفاعل عدد من الأنواع الإبداعية مع طبيعة الحدث، رغم توتره العالي، وسخونته، بل الصدع الفظيع الذي يتركه وراءه، في ظلِّ انتشارآلة العنف التي تحصد-الأخضرواليابس-في آن. حيث أن النقلة الجديدة في تاريخ ثورة الاتصالات، استطاعت أن تنعكس على كل بقعة في خريطة العالم، فلا تنجو أسرة ما، من التأثربظلال هذا الحدث، بهذا المستوى أوذاك، ما خلف وراءه أعظم صدمة في تاريخ الإنسان، لاسيما وأن عيني هذا الكائن البشري باتتا مفتوحتين على أوسع فضاء أرضي، وأن أذنيه مرهونتان لتلقي أدقَّ الذبذبات الصوتية، وهي تواصل نقل الحدث، وهلم جرا بالنسبة لبقية حواسه، ما يجعل كثيرين غير قادرين على استيعاب ما يجري، تحت وطأة الصدمة الكبرى، بل إننا لما نزل من يهرول لمتابعة القضايا الهامشية، النافلة، ليكون ذلك على حساب معالجة القضايا الكبرى الحسَّاسة، وإذا كان الحديث هنا عن مستوى من يتفاعل مع الحدث في الحدود الدنيا، فإن خطابه لا يعدو أن يكون انعكاساً لاستجابته للصدمة ذاتها، وإن الحديث عن تلك الشرائح والتكوينات التي تنصرف لانبهارها أمام ما يتم، ليستدعي-حقاً- وقفات مطولة، ضمن مختبر التحليل والدراسة الخاصين.
مخاض المصطلح الجديد:
إذا كانت ولادة المصطلح الجديد، تتعلق بدورة الزمان والحضارة، على الصعد كافة، الثقافية، والفكرية، والسياسية، والفنية، والإبداعية، والعلمية، كأحد معطيات الحراك الإنساني، وتجلياته، تبع ذلك، فإنه يمكن اعتبار نشأة المصطلح، منذ بداية إرهاصات التفكير لدى الكائن الآدمي، أحد مقاييس تطور الوعي لديه، حيث أن أي إنجاز معرفي، بأبعاده، واتجاهاته، وأشكاله، المتعددة، المذكورة، ليترجم مصطلحياً، من خلال إضافة ومضة ضوء، أو مفردة، في معجم المصطلحات، كي يمكن استقراء تاريخ هذا الوعي، من خلال سيرورة المصطلح وصيرورته، وليكون المصطلح حاضناً لحركة المعرفة، منذ تشكيلاتها، وتمظهراتها البدائية، وحتى اللحظة الحالية التي تشهد فيها تشعباتها، وميادينها الهائلة، والمختلفة، إلى درجة التناقض، والتلاغي.
وبدهيٌّ، وفق هذه التقدمة، أن معجمات المصطلحات المتعددة، هي عبارة عن مؤشورات تدلُّ على تلك الفتوحات الفكرية الإبداعية -على اختلاف مجالاتها- والتي حققتها تجربة الآدمي، وهي علامات حفره في هاتيك الميادين، أية كانت وجهة هذه الأحافير، ماضياً-كما هو الحال في تناول التراث والفلكلور-أو واقعاً كما هو حال الإنجاز العلمي والإبداعي والفكري-أو مستقبلاً، وهو الحامل لكل هذه الضروب، مجتمعة، داخلاً في إطارها كلُّ احتمال يتساوق مع العوالم التي تشكل المصطلح، كإشارة سيميائية، لم تتشكل اعتباطاً البتة.
وإذا كان فضاء المصطلح مفتوحاً على انعكاسات دورة الزمان، في اتجاهاتها الثلاثة، أو أبعادها الثلاثة، وهي اتجاهات وأبعاد لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بعضاً، وذلك لأن لتفاعلاتها الداخلية تأثيرها العميق ليس على المصطلح كمنتج، تم تشكيله ضمن لحظة وعي فردية، جماعية، مؤسسية، مجتمعية، أكاديمية، قطرية، كونية، وإنما على منظومة الوعي العام، داخل الجغرافيا المؤطرة، وخارجها، بل وداخل الخط الزماني المحدَّد، وخارجه، على حد سواء، لأن لحالة الوعي فعل السحر، سواء أتمكنا من تتبع منابعه ومصابه ومظانه أولا، فالأمر سيان، لأن استجاباتنا لها، لا تتأثر بدرجة وعينا واكتشافنا لها، وإنما تغدو خارج كل ذلك، سواء أصدرت عنا، أو كنا مجرد منفعلين مع تأثيراتها العامة.
إن الحديث عن عالم المصطلح، ليستحق دراسات طويلة، من خلال هذا المنظور-تحديداً- وإن كنا في الغالب، نتوقف أثناء استقراءاتنا له، عند حدود معجميته، واستخداماته الوظيفية، مدرسياً، أو أكاديمياً، بيد أنه من الممكن-كذلك- معاينة المصطلح في لحظة إرهاصاته و تمخضاته- خلال لحظات التحول الكبرى التي يمرُّ بها، ولعلَّ اللحظة المعيشة، منذ تبلور مفهوم الغلاسنوست، وترجمته، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وسقوط أحد القطبين العالميين، وهيمنة أحدهما إلى وقت طويل، وسقوط جدار برلين-بغض النظر عن تقويماتنا لهذا الفعل التاريخي الكبير أو ذاك-فإننا أمام تحولات هائلة، جذرية، في مستوى وعينا بالأشياء، لاسيما وأن التاريخ بات يتعدى إطاراته مسبقة الصنع، وكالةً، بل بات يسجل مقارباته التدريجية، من روح المعني الأول بصناعته، وهذا ماسيسهم في تغييرات جذرية، تدعونا-في قادمات الأيام-أمام وقائع، وحالات جديدة، تترجم أسئلة الكائن المسلوب، ولحظته الحلمية التي تشكلت-جيلاً بعد جيل-في مختبر وعيه، ومعاناته، وحاجاته العليا التي حجرعليها، طويلاً، كأحد أشكال القهر الباهظة التي بات يرفض دفعها، وإن كان سيقدم لقاء ذلك ضريبته الكبرى، مادام أنه ليس لدى المرء أغلى من حياته البتة…!.
ومن هنا، فإن في تناولنا لموضوعة مخاضات المصطلح الجديد، تأكيداً على أمر جدّ مهم، وهو أن الآفاق ليست مسدودة قط، كما يتوهم بعض المتشائمين، وإن الحياة المفتوحة على كل جديد، وإننا على موعد دائم-مع ما هو جديد مع المنجز الإنساني، وإن شريط الزمان الذي شهد ولادة بداية حالة الوعي، فهو مستمر، في توفير سبل استمرارية الوعي، على اعتبار الوعي توأم الوجود والحياة والتجربة، وإننا على موعد مع مواليد مصطلحية جديدة، ستتم تسمياتهم وفق درجات إنجازاتها المتعددة، في زمن التحولات الأعظم…….!.
نحوخطاب ثقافي
في مستوى الأسئلة الراهنة:
من يمعن النظر، في مجمل التحولات الكبرى التي تتمُّ-على نحو كونيِّ- فإنه لواجد، بلا شك، أن الكثير من المقدّمات التي طالما كان يعتمد عليها، من قبل،في صياغات رؤاه، واستنتاجاته، وسلوكه، قد طرأت عليها تغيرات وتبدلات كثيرة، وذلك من خلال طبيعة جملة الوشائج المستجدة التي تربط بالآخر، في ظل الانفتاح الجغرافي الجديد، ضمن ما نصطلح عليه، بـ«سكان العمارة الواحدة» حيث أن التواصل مع الآخر، أيَّاً كان، بات يتم عبر الحواس الكاملة للإنسان، بل إن الفاصل الزَّماني الذي كانت تتمُّ من خلاله عملية التواصل الاجتماعي، قد وصلت إلى «درجة الصفر، فما عاد العامل الزماني يسهم في تراخي التواصل، أوفرض القطيعة، وبدهي أن مثل هذه التغيرات الجذرية لتنعكس على طريقة تفكير الكائن الآدمي، أينما كان.
إن اشتراك حاسة النظر، في تلقي الصورة الإلكترونية، على نحو واسع، من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة، من العلاقات بين المجتمعات الإنسانية التي امَّحت الحدود، والحواجر بينها، وباتت تعيش على امتداد الأربع والعشرين ساعة في اليوم، هاجس الروح الجماعية، حيث أن مشاركة الآخر، أياً كان، في ألمه، وأمله، في فرحه، وحزنه، في هزائمه، وانتصاراته، في انكساراته وأحلامه، بات أمراً واقعاً لا مفر منه، وهو أمر جد مهم في تغيير طريقة الرؤية، في ظل هذا الواقع الجديد الذي يلقي بظلاله في كل مكان.
لابدّ من الاعتراف، أن الإنسان-في ما قبل- كان مضطراً أن يعيش بعيداً عن سواه، سواء أكان في قريته، أو الشارع الذي يسكنه، أوفي حيه، أوفي مدينته، أوفي بلده القطري، حيث الحدود القائمة، مابين المشترك العام، والخصوصية ضمن الأسرة الواحدة، وهو ما كان يرتب غربة حقيقية بين أبناء هذه المجتمعات، حيث كان كل منها يعيش في عزلته، وإن كنا لنجد أن التعويض عن هذه العزلة، يتم من خلال التركيز على الإطار النظري الجامع الذي لم تصمد هشاشته، في أمثلة كونية كثيرة، وذلك لأن العامل النظري، لم تتوافر له ظروف التطبيق الفعلي، بل كان يتماهى في إهاب الشعار، الذي يتم فرضه، عمودياً، وأفقياً، من دون أن يكون ناجماً عن قناعات ضمنية، تعد هي الأسّ الرئيس، والعمود الفقري، في ما لو تم تقبلها على نحو روحي، ضمني، عبر الإيمان الحقيقي بها، بعيداً عن أية سطوة أو سلطة.
ولقد أتاحت الميديولوجيا الجديدة، في نقلتها العظمى، وهي الثورة الأسبق، والأكبر، طرَّاً، في التأثير-عميقاً- في العالم الروحي للكائن العالمي، من دون أن يدرك، وإن كنا-هنا-أمام إيجابيات ما، بيد أن هناك-في المقابل-مخاطر كثيرة، لابد من أن يتم الانتباه إليها، وذلك من خلال استقراء كونيّ عام، لتأثيرات إمبراطورية الإعلام الكونية، يكون لكل أصحاب الخصوصيات حضورهم، وشراكتهم، كي يحصنوا أنفسهم أمام واقع المحو المحدق على نحو جدي.
وتأسيساً، على كل ما سبق، فإن العالم قد بات-بحق- في ربع القرن الأخير-وبشكل أوضح- أمام تأثيرات كثيرة، يخضع لها روحياً، وفكرياً، و سايكولوجياً، وهو ما بات يترك أثره العميق في عالم الإنسان، بل إنه مع اندياح دائرة التأثير إلى الحدِّ الأعظمي، فإن الباب بات مفتوحاً أمام صياغة»خطاب جديد»، متفاعل، وناجم، عن كل مثل هذه المعطيات والمقدمات التي يشهدها، بل يعيشها العالم، أجمع، وهوأرومة «النظرية» الكونية، أو»النظرية» نفسها…!