شكّل رحيل الشاعر محمود درويش دافعا إضافيا لقراءة تجربته الشعرية التي اكتملت وإن ظلّت وتظلُ مفتوحة على «اكتشافات» جديدة تطلع من غنى الشاعرية. ومن انطوائها على تعددية باذخة فيها الجمالي مثلما فيها الفني. دون أن نغفل بالطبع كل تلك الفضاءات الوجودية والفلسفية والتراثية وحتى الحسّية. والتي امتزجت جميعا لتضع القصيدة الدرويشية في حالة اشتباك دائم ومتجدد مع وعي القارئ وذائقته الجمالية.
في الحديث عن تجربة شعرية كبرى كتجربة محمود درويش نجد من الضرورة الإشارة إلى مراحلها المتعدّدة. والتي حملت كل واحدة منها سمات فنية و»قضايا» شعرية ميّزتها. وكان الطابع الأهم في كل تلك المراحل التطور العاصف الذي أخذته التجربة صعودا. وبالذات منذ خروجه من فلسطين. ووقوفه على أرض الشتات بكل ما عناه ذلك الوقوف من ارتطام بواقع الحياة العربية. وبالأخص إشكالية الوجود الفلسطيني في غابة متشابكة من القوانين و»العادات» العربية. وهو ارتطام قفز بقصيدة الشاعر من فردية عزفها على ناي القضية الواحدة وشبه الوحيدة. أي مواجهة الإحتلال المباشر. إلى جدلية التناقضات الحادّة والبالغة العصف لحياة عربية كانت ولا تزال فلسطين تشكل لها عنوانا يتجاوز الإحتلال إلى عناوين أخرى كثيرة هي في المآل النهائي قضايا الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والتنمية. والتي تجعل من فلسطين أكبر من مساحتها الجغرافية. بل تجعلها وسيلة إيضاح للمأزق العربي برمته.
يمكن ملاحظة أن تطور تجربة درويش الشعرية قد تحقق من خلال مجموعته التي أطلّ بها على القراء العرب بعد هزيمة الخامس من حزيران. وهي المرة الأولى التي يمكن معها للقارىء العربي خارج أسوار فلسطين قراءة مجموعة شعرية كاملة للشاعر. إنها مجوعته «آخر الليل».
في تلك المجموعة يمكن الوقوف على رومانسية حادّة وجارحة. في تناولها حالة الفلسطيني في تلك الأيام. لكن المهم في تقديري هو ملاحظة التطور البالغ الذي حققه درويش على صعيد بنائية القصيدة وبدايات التحوّل نحو نوع من التركيبية. بعد تجربة طويلة نسبيا من كتابة القصيدة المفردة الصوت. والتي كانت أقرب إلى ناي يعزف وحيدا.
وفي «آخر الليل» إعتناء طافح بالروح الفردية وأيضا بكثافة الهم الوجودي وما يعتمل في الروح. وذلك كله يمكن أن نضيف إليه ولع قصائد المجموعة بالرغبة في التعبير عن موضوعات متعدّدة في سياق نسيج شعري لقصيدة واحدة.
يمكن رؤية ذلك بوضوح في قصائد مثل «ريتا والبندقية». والتي حملت كثافة في تصوير الحب الضائع في زمن الحرب والعداءات الكبرى والمصيرية.
بين ريتا وعيوني.. بندقيه
والذي يعرف ريتا ينحني
ويصلي
لإله في العيون العسلية
وأنا قبلت ريتا
عندما كانت صغيره
وأنا أذكر كيف التصقت بي
وغطت ساعدي أحلى ضفيره
وأنا أذكر ريتا
مثلما يذكر عصفور غديره
آه ريتا
بيننا مليون عصفور وصوره
ومواعيد كثيرة
أطلقت نارا عليها.. بندقيه
إسم ريتا كان عيدا في فمي
جسم ريتا كان عرسا في دمي
وأنا ضعت بريتا.. سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس
واحترقنا في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين
آه.. ريتا
أي شيء رد عن عينيك عيني
سوى إغفاءتين
وغيوم عسلية
قبل هذي البندقية
كان يا ما كان يا صمت العشيه
قمري هاجر في الصبح بعيدا في العيون العسلية
والمدينة كنست كل المغنين وريتا
بين ريتا وعيوني.. بندقيه
في هذه القصيدة يمكن ملاحظة روح استحضار الذاكرة الشخصية. وزجّها في الموضوع العام. بلغة بسيطة تتكئ بدرجة كبرى على الصورة لتؤسس بها ومعها سردية آسرة وفيها الكثير من الجاذبية.
محطة تطوّره الكبرى كانت في قصيدة اعتبرها مفصلية في شعره كله. هي قصيدته الشهيرة «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا». والتي شكّلت حقا إنتقالا هائلا. ولكنه منطقي ومتوقع. خصوصا وأن درويش انتقل قبلها بقليل من فلسطين المحتلة إلى الشتات.
لقد أصبح في قلب الحياة العربية : علينا أن نلاحظ أن هذا لم يكن مجرد انتقال في الجغرافيا تبدّل خلاله المكان وحسب. ولكنه كان انتقالا إلى عصف قضية فلسطين وأعني هنا بالذات التشابكات الكبرى لهذه القضية مع الواقع العربي بكل تعقيداته. هنا لم يعد الشاعر يعيش حالة المواجهة المباشرة مع الاحتلال. وبمعنى آخر وأوضح لم تعد فلسطين تتجسّد أمامه من خلال تلك الثنائية البسيطة بطرفيها الشعب الفلسطيني والاحتلال. بل هي تتجسّد في كل ميراث السواد الذي تعيشه المنطقة العربية. والذي جعل احتلال فلسطين أمرا ممكن الوقوع.
ثمة تغيّر هائل إذن في رؤية الشاعر لا بد أن يقع. فالمسألة لم تعد بين مواطني «كفر قاسم» الذين اغتالتهم يد الجريمة في جليل فلسطين وحسب. ولكنها أيضا – وهذا بالغ الأهمية – مشكلة الشتات في معناه الواقعي والرّمزي. ذلك الغول الذي يجعل الفلسطيني أشبه بأوليس في أربعة أركان الأرض.
ينتبه درويش إلى تلك الحالة الجديدة في قصيدة سرحان. والذي يراه الشاعر «من نسل باخرة لم تلامس مياهك». فيما يرى الوطن وقد أصبح بعيدا في الجغرافيا بقدر ما هو قريب في الروح كما في العادات اليومية «ورائحة البن جغرافيا» كما يقول محمود درويش. هنا يقف جدّيا أمام سؤال الفنية. فيزج قصيدته في لغة بالغة التكثيف» حيث مقولات كبرى تنحدر من القاموس السياسي اليومي تتحوّل إلى صورة حادّة ومفعمة بالتعبيرية. كما هي إشارته في القصيدة للاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين « هنا الأرض سجادة والحقائب غربة». أو كما تبدّت صورة الحياة السياسية العربية في هشاشتها ومراهناتها الفاشلة « والظهور التي استندت للخناجر مضطرّة للسقوط».
في السطور الافتتاحية لقصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» يستفيد درويش من فن المونتاج السينمائي فيقدم مجموعة من «اللّقطات» المكثفة. السريعة والمتلاحقة. والتي يترك القارئ أن يلمّ معانيها وأن يجمع نتف أجزائها كي يمكن له بعد ذلك ولوج المشهد الشعري. الذي جاء محمولا على عناصر دراميّة كبرى لم يسبق لدرويش أن غاص فيها بهذه الشمولية. وإن يكن قد مهّد لذلك من قبل في قصيدته الهامة والجميلة «كتابة على ضوء بندقية»:
«يجيئون، أبوابنا البحر، فاجأنا مطر.
لا إله سوى الله. فاجأنا
مطر ورصاص. هنا الأرض سجادة، والحقائب غربة!
يجيئون، فلتترجّل كواكب تأتي بلا موعد. والظهور التي استندت للخناجر مضطرة للسقوط
وماذا حدث؟
أنت لا تعرف اليوم. لا لون. لا صوت.
لا طعم ,لا شكل.. يولد سرحان، يكبر سرحان، يشرب خمرا ويسكر. يرسم قاتله، ويمزق صورته. ثم يقتله حين يأخذ شكلا أخيرا
ويرتاح سرحان
سرحان! هل أنت قاتل؟
ويكتب سرحان شيئا على كم معطفه، ثمّ تهرب
ذاكرة من ملف الجريمة.. تهرب.. تأخذ
منقار طائر.
وتأكل حبة قمح بمرج بن عام»
منذ تلك المغامرة الكبرى يمكن عقد مقارنة بين محمود درويش وتراث الملاحم الإغريقية الكبرى وبالذات «إلياذة» هومير. على أن إشارة كهذه سوف تكون تبسيطية بالتأكيد إذا لم نسارع إلى تبيان أن درويش – وإن كتب في سياقات غنائية ملحمته الفلسطينية – عمد في الوقت ذاته إلى استحضار الفردي من قلب الوشائج التاريخية. هو بمعنى ما شاعر الحالة الفلسطينية في صورتيها المتقابلتين وغير المتناقضتين أبدا. فهو إذ يسجل «تراجيديا فلسطين» يصدر عن روح بالغة الفردية وتظل أمينة إلى قراءتها المفعمة بالحس الوجودي العالي والمغمّس بفرادة الحلم الشخصي والإنتباهات الخاصّة.
هي واحدة من موضوعات الخلاف النقدية الكبرى مع معظم الذين تناولوا تجربته الشعرية بالنقد. والأهم أنها واحدة من الدعاوى غير الصحيحة لبعض من زملائه الشعراء الذين عمدوا في مراحل مختلفة إلى اتهام شعره ب«التاريخي» في إحالة خبيثة إلى «شعر المناسبة» دون أن ينتبهوا إلى أهم ما في التجربة الدرويشية وهو المزج الخلاّق بين ما هو تاريخي وما هو راهن. ثم تحويل ذلك كله إلى تجربة فردية عالية الجمالية ومشحونة بتوترات الهم الوجودي.
جدل كثير ثار ولا يزال حول موضوعة «الشاعر الكوني» الذي لم يكنه درويش بحسب هؤلاء استنادا إلى «موضوعه» البالغ الارتباط بفلسطين. وهي مقولة تتجاهل أن «الكونية» ليست تلك التهويمات الميتافيزيقية التي تجعل القصيدة تجربة مخبرية في أنابيب اللغة ومعامل الفلسفة. بل هي حضور وهّاج لتراجيديا إنسانية كبرى نجحت في تقديم ذاتها كصورة لتراجيديا تخص البشر أجمعين ولا تقف عند حدود الجغرافيا الفلسطينية أو العربية أو الزمان الرّاهن. وهنا يمكن دحض تلك الإدعاءات «النقدية» بالإشارة إلى حجم حضور شعر محمود درويش في اللّغات العالمية وفي ذائقات المتحدثين بها. وهو حضور لم تبلغه أية تجربة شعرية عربية من قبل.
هل كانت «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» البداية الثانية؟
أعتقد أن ما كتبه بعد ذلك يشير إلى ما نقول. فبالعودة إلى تجربته يمكن الإشارة إلى تصاعد تجريبيته كما في قصائد «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق».»النزول عن الكرمل». «الخروج من ساحل المتوسط». «طريق دمشق» وصولا إلى «قصيدة بيروت» والتي أعتقد أن الشاعر الرّاحل قد حمّلها مشهديات كبرى كانت في العادة تنوء تحتها قصائد الشعر العربي فتغرق في المباشرة والخطابية. درويش في «قصيدة بيروت» يبلغ دور الرّائي» ولكن ليس في صورته «التبشيرية» المنسوجة من «الوعد» و»البشارات» بل الرّائي الذي يحدق في المشهد المأساوي فيلمح بعين الشعر والفن ورؤيتهما ما وراء تلك المأساة.
يمكن عند الحديث عن تجربة درويش الشعرية التوقف أمام «مرحلة بيروت». والتي انتهت بقصيدته الكبرى «مديح الظلّ العالي». في هذه القصيدة كان على الشاعر أن يقدم لقارئه تجربة الحرب والحصار. ومعها هواجسه اليومية وانشغالات روحه بمزيج من التفصيل والعمومية على حد سواء. وقد اقتضى ذلك فنيا أن تقوم بنائيتها على تنويع يواكب تعبيريته عن المشهد الذي يتناوله الشاعر. والذي يتراوح بين الوصفية الدقيقة مرّة. والإصغاء «الهامس» لتردّدات صدى الحرب في روح الشاعر. ثم «السّردية» حينا. وأخيرا ذلك الجزء «الاحتفالي» الذي كرّسه درويش لوداع بيروت. والذي تعمّد أن يكون «صاخبا» وعالي الإيقاع.
بعد بيروت سيلتقط الشاعر الرّاحل المشهد الفلسطيني في تحوّلاته الكبرى والمتسارعة.
هي هجرة أخرى
فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما
سقط السقوطُ. وأنت تعلو
فكرة ً
ويدا ً
و … شاما !
لا بر ّ إلا ســــــــــــــــــاعداك
لا بحر إلا الغامض الكحلي ّ فيك
فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطوتك الحراما
واسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي ّ
حتى لا يعلقها وساما
واكسر ظلالك كلها كيلا يمدوها بساطا ً أو ظلاما
كسروكَ. كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبـّأوك وأنشأوا ليديك جيشا
حطـّوك في حجر ٍ.. وقالوا : لا تســلـّم
ورموك في بئــر ٍ.. وقالوا : لا تســلـّم
وأطلت حربك َ. يا ابن أمي
ألــف عام ٍ ألــف عام ٍ ألــــف عام ٍ في النهار
فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة ِ والفرار ِ
هم يســـــــرقون الآن جلدك
فاحـذر ملامحهم ….. وغمدك
كم كنت وحدك ِ. يا ابن أمي
يا ابن أكثر من أبٍ
كم كنت وحــدك !
والآن، والأشياء سيدة ٌ، وهذا الصمت عال ٍ كالذبابه».
ثمة جنوح واضح نحو «القصائد الكبرى» بما هي قراءات شعرية مشهديّة مستفيضة في التفاصيل كما في السيرورة العامة.
هنا يمكن الحديث عن «أحد عشر كوكبا» بالذات باعتبارها الأكثر تعبيرا عن رغبة داخلية عارمة في كتابة «شهادة» حيّة ترتقي بالنص الشعري إلى ذروة ملحمية؟
وهنا أيضا يستحضر درويش العديد من عدّة الشعر المشهدي. وبالذات «الشخصيات». ويزجها في حمأة «وقائع» تاريخية وأخرى متخيلة. إنه يفعل ذلك بكثير من الفنية التي تجعل القراءة الشعرية مفتوحة على درامية عاصفة تتكئ على الصورة والإيقاع في تصعيد يأخذ الشعر نحو القضايا الكبرى في حالاتها التراجيدية القصوى. وفي لحظة مأزومة تنفتح على الحلم من جهة. وعلى الرؤية شبه المسرحية من جهة أخرى. خصوصا في اللغة الاحتفالية وما يعبق بها ومنها من دلالات جديدة للمفردات. دلالات يعرف درويش كيف يخلقها من سياقات تنتقي اللافت والأكثر جدارة. وهي دلالات يمكن الوقوف عليها في كل قصائد المجموعة وبالذات «شتاء ريتا الطويل» و»خطبة الهندي الأحمر قبل الأخيرة أمام الرّجل الأبيض». فدرويش الذي برع كثيرا وطويلا في إبداع قصيدة التراجيديا الفلسطينية «المفردة» نراه هنا يحقّق نصوصا تصعد إلى ذروة تلك التراجيديا وترسم من هناك ملامحها كما لم يفعل شاعر آخر. خصوصا وأنه يتنكّب عن «سردية» هومير. ويعمد بدلا منها إلى انتقائية فكرية وجمالية تتيح للقارىء رؤية العناصر الأكثر حدّة في الشعر والمأساة على حد سواء :
« ذات يوم سأجلس فوق الرصيف.. رصيف الغريبة
لم أكن نرجسا. بيد أني أدافع عن صورتي
في المرايا. أما كنت يوما. هنا يا غريب؟
خمسمائة عام مضى وانقضى. والقطيعة لم تكتمل
بيننا. ههنا. والرّسائل لم تنقطع بيننا. والحروب
لم تغيّر حدائق غرناطتي. ذات يوم أمرُ بأقمارها
وأحك بليمونة رغبتي.. عانقيني لأولد ثانية
من روائح شمس ونهر على كتفيك. ومن قدمين
تخمشان المساء فيبكي حليبا لليل القصيدة..
لم أكن عابرا في كلام المغنّين..كنت كلام المغنّين. صلح أثينا وفارس. شرقا يعانق غربا».
في «جدارية يقف الشاعر في مواجهة الموت. ليس بوصفه خطرا يمكن أن يضع حدا لحياته وحسب. ولكن باعتباره أساسا حالة إنسانية واقعية وفلسفية تدفع الشاعر والشعر معا إلى حوار جدلي. عاصف مع مقولة لعلّها الأهم التي أثقلت كاهل الشعر والفلسفة على مدار التاريخ. وظلّت نقطة انطلاق لكثير من إبداعات الأدب والفن. محمود درويش الذي «رأى» الموت. يقدم «شهادته» الفنية. ويستعيد معها لياقة الحياة. إلى الحد الذي يجعلنا نندفع للتأكيد أن «جدارية» ملحمة لتمجيد الحياة. للاحتفال حتى بأشيائها البسيطة والعابرة. والتي تعيد لها لحظة المواجهة مع الموت ألقها وحضورها البهي في الرّوح.
هكذا نقف أمام «جدارية» وفي البال مرثية مالك بن الرّيب لنفسه. تلك القصيدة العظيمة والتي أخذت مكانها اللائق وشديد الخصوصية في الشعر العربي. ولكننا مع ذلك نكتشف أن درويش يخرج من حالة المواجهة المباشرة والمكشوفة مع الموت. لا ليرثي نفسه. ولكن ليعيد الاعتبار للحياة ذاتها.
في هذه المرحلة الشعرية أعلن الشاعر الرّاحل اكتمال تمرّده على الماضي : ها هو شاعر «المقاومة» يخرج من مفرداته المألوفة. ويكتب من قلب الحياة ذاتها. تاركا النقد التقليدي يلهث خلف قصيدته بأدوات قديمة دفعت أصحابها إلى المطالبة بقصائده القديمة.
سيكون على النقد «الكسول» أن يتعب كثيرا أمام مجموعات محمود درويش الشعرية الأخيرة. وبالذات «لا تعتذر عما فعلت». «حالة حصار». «كزهر اللوز أو أبعد» وأن يجدّد رؤاه وأدواته النقدية كي يمكن له رؤية الحياة بحدقتي الشاعر في لحظة احتفال كبرى بالحياة.
في «:زهر اللّوز أو أبعد». كما في «لا تعتذر عما فعلت» يكتب الشاعر الرّاحل من ذروة التأويل. نعني هنا تأويل الأشياء كلها. ورؤيتها في حالاتها الأخرى. تلك التي يتبينها من حدقة المخيلة وليس كما هي في الواقع. وهي رؤية سوف تعيد تركيب الأشياء والمقولات والأقانيم وتعيد معها تقليب ما كانت تراه في زمن سابق حقائق لا تقبل الجدل.
أعتقد أن تجربة محمود درويش الشعرية كلها – ورغم ما فيها من إنجازات إبداعية كبرى – كانت أشبه بمقدمة ضرورية كي تأتي لنا تلك المجموعات الشعرية الأخيرة طافحة بذلك القدر الهائل من التكثيف والجمالية. ومن تصفية الشعر من كل زوائده وإعادته من جديد إلى ساحاته الأولى بوصفه تعبيرا فنيا آسرا عن محنة البشرية. وعن حلمها الأبدي في الخلاص.
يمكن هنا الإشارة إلى القصائد التي نشرها الشاعر مفردة قبل وقت قليل من رحيله. وهي قصائد يلفت انتباهنا أنها تجوّلت في «موضوعات» مختلفة ومتباينة. بل هي موضوعات حملت الكثير من الجدّة. وحملت ملامح روح فردية أكثر حضورا في عالمه الشّعري.
رحل محمود درويش في عز تألقه الفني. وكأن الحياة والموت قد تصالحا أخيرا على تلك اللّحظة.
راســـم المدهــــون
شاعر وكاتب فلسطيني يقيم في سورية