لقد دخلت حقا إلى عالم بشع لم أر حدودا لبشاعته، حين بدأت بقراءة رواية «سرير الأستاذ»، ففي الوقت الذي كان الناس يعيشون كالأموات في العراق في زمن الحصار الذي امتد منذ 1990-2003 بعد احتلال دولة الكويت، وتحريرها فيما بعد، ومحاصرة العراق اقتصاديا لأكثر من عقد، فقد كانت هناك محرقة أخرى إضافية يديرها «الأستاذ» في بيوته السرية وقصوره المرعبة في بغداد!.. هذا الأستاذ لم يكن أستاذا في علوم التكنولوجيا الحديثة، ولم يكن مدرسا في مدرسة ثانوية أو أستاذا في مدرسة ابتدائية!! كان الأستاذ أستاذا سلطويا من طراز فريد! أطلق عليه هذا اللقب،لأنه من أهل السلطة، وأبوه كان مسؤولا كبيرا في الدولة العراقية، قبل احتلال العراق في 9 نيسان (ابريل) عام 2003.. وقد أدخلنا كاتب رواية «سرير الأستاذ» إلى هذا العالم،المملوء بالأسرار، والحكايات المسكوت عنها في أي سلطة غاشمة، لا تريد لأحد أن يعرف ما يحدث في أقبية قصور مسؤوليها السرية، أو تأكيد الشائعات عما يدور فيها بين الناس الذين يحكمونهم بالحديد والنار والسجون السرية، ونظام الوشاية والتقارير الملفقة، لئلا تضيع هيبتها وتصير هدفا لتصيد أعدائها من قوى معارضة لها تهدف لإسقاطها من عيون الناس، واخذ السلطة منها فيما بعد.
استدراج الجميلات
رواية «سرير الأستاذ» من تلك الروايات القليلة،التي تذكرنا بسجلات أطباء علم النفس، وهم يتابعون شخصيات ممسوسة وموسوسة! فقدت عقولها وسيطرت عليها دواخل سادية مرعبة لا مثيل لها، بقسوتها على الناس والمحيطين بها، فصلتهم قسوتهم وتلذذهم بالأم من حولهم، عن جنسهم البشري وحولتهم، إلى مخلوقات لها أجساد البشر، ولكنها في صميمها حيوانات مفترسة، من فصيلة غير معروفة: ضباط أمن من طراز شخصيات الرواية: «بطران وناجي عبد الله وسامر وناجي عباس» وضباط من الجيش المقاتل كغسان زوج فاتن السابق! وضحايا مثل رغد وفاتن وفائزة وكريم الفنان..
يقول عن ذلك الفنان كريم، الذي هرب من أداء الخدمة العسكرية في مقطع دال من الرواية: «يافطات الموتى تزداد كلما ظهر» الضرورة «على شاشة التلفاز يتوعد الخاسئين، ولا يستطيع كريم إيجاد رابطٍ بين ظهوره الممل في التلفاز، وبين قوافل الموتى القادمة من جبهات القتال، لذلك غالبا ما كان يطل على الكوة الصغيرة ليداعب فضوله خطف جسد امرأة لا يظهر وجهها إلا أذا أقبلت، خلال ثوان معدودات ليعيش حلما دافئا ببضاضة الجسد الغامض المكتظ بالتكويرات» (ص9) أو والكاتب يحدثنا عن مقرات «اتحاد النساء» التابعة للدولة في الرواية حيث يتم استدراج وإغواء الفتيات الجميلات، للعمل في دور المسؤولين كمدبرات منازل، وفي حقيقة الأمر يتم توظيفهن لأغراض أخرى، تحكي لنا الرواية عنها: «قالت فائزة ببطء وهي تضغط على مخارج الحروف» يا رفيقة، لدي دبلوم فنون تطبيقية، ولا تسمح شهادتي بالعمل مدبرة منزل أو.. خادمة، كرامتي لا تسمح بذلك». شعرت فاتن بالغضب، فجلست بجانبها، لصقت بفخذها الدافئ، «أية كرامة ستبقى أذا ما فقدت راتباً سيجعلك ملكة، وبعد سنة أو سنتين ستملكين السيارة والذهب وربما تتمكنين من شراء شقة في شارع حيفا؟» توقفت قليلاً، ثم استرسلت، «هل تتوقعين سيكتفون بالراتب؟ كلا طبعا، أنهم سيغدقون عليك بالهدايا فيما إذا وجدوا فيك حرصاً وأمانة، هيا دعيني استطلع ما يدور في عقلك لأحل لك العقد المستعصية» ص15
العين السحرية للكاتب
لقد أدخلنا كاتب الرواية إلى قصور الطغاة الذين كانوا يحكمون العراق بالحديد، والنار بدعوى الوطنية، والشرف والدفاع عن العزة الوطنية، وهم في الحقيقة كانوا في قصورهم يمارسون أبشع أنواع التجاوزات للوطنية والإنسانية والحق والشرف..
لقد أدخل الكاتب عينا سحرية لهذه القصور الممهورة بالخوف والغموض والموت! لتروي لنا بالصوت والصورة حقيقة الألم العراقي،وما آلت إليه الأمور فيما بعد..: «شم عطرها، كاد يلحس جيدها من فرط دنوها منه فسألها: ماذا لديك؟» نظرت في عينيه، نظرة نافذة، فاتن قالت ببرود « لدي ّ الحل» فانفرجت أساريره وابتسم مترقباً «هيا.. قولي بسرعة أرجوك «ابتعدت عنه باتجاه النافذة» ولكن بشرط (كان حدسه لم يخطئ بأنها ستضع شروطاً، فهو يعلم أنها لا تضيّع فتاة جميلة بهذه السهولة، فقال متلهفاً): «اشرطي، شبيك لبيك عبدك بين يديك..» التفتت إليه وهي عازمة جداً على تنفيذ الفكرة التي نضجت الآن «هل تذكر شريط الفيديو؟» وقف متغابياً أمامها كأنه لا يعرف شيئاً عنه، وهو الذي أباح لها،ذات سكرة شديدة في بيتها، كيف يتم تشغيل جهاز فيديو في غرفة سرية تنقل إليه من كاميرا مخفية وضعت مقابل سرير الأستاذ كل الأفعال الجنسية التي تقام على مسرح السرير، فأومأ لها بإشارات يفهم منها عدم معرفته بما تقصد، فقالت بغضب» هل نسيت، أم كنت سكراناً عندما قلت صورناك على السرير والأستاذ كان يراقب «……..».. شعر بقلبه يقع بين يديه وتذكر انه غالباً ما يأتي إليها يبث نجواه عندما يكون ثملاً، ولابد انه كان تعيساً للغاية في ذلك اليوم الذي أفضى بهذا السر دون أن يدري! فتغابى أكثر «أي شريط ؟ لا افهم قصدك»(ص24).
وشايات تؤدي للموت
تحدثنا الرواية عن الاعتقالات التي كانت تتم والإعدامات الفورية وبلا محاكمات: «جلس مقرفصاً في زاوية أخرى الغرفة ملتصقاً بجدارين، مجبراً نفسه إلا يفكر، متوقعاً حدوث أي شيء، بما فيها إعدامه، وبعد وقت طويل جاء ذو النظارة «عليان» وبيده مصباح سلط ضوءه على عينيه «اسمك كريم «قال بخوف وتردد» «نعم»، اسمع، أنت متهم بارتباطك بحزب…..العميل، ولدينا تقارير أمنية تؤكد ذلك، اعترف قبل أن ننزع عنك جلدك، وإذا ذكرت لنا أسماء جماعتك سنعفو عنك ونلحقك بوحدتك العسكرية فوراً» لم يدر ماذا عليه أن يقول الآن، توقفت قدرته عن التفكير، اختفت الكلمات من ذهنه، ما أن ذكر له اسم هذا الحزب المخيف، المرعب، الذي زُج الناس بسببهِ إلى قعر السجون ومورست بهم كل أنواع التعذيب والإعدامات دون أن يكون ذلك اتهاما حقيقياً بل هو مجرد وشاية، وهو يعرف الآن، أن مجرد الاتهام بالانتماء لحزب……، مجرد الوشاية بذلك، دون دليل أو تصديق، تؤدي بصاحبها إلى الإعدام فوراً، بدون حتى محاكمات، لذلك حاول كريم أن يسيطر في الأقل الآن على ما في مثانته.»ص66
وبالرغم من أن فائزة وكريم بطلي الرواية حققا نصرا مؤقتا على الطاغوت بثورة أدت إلى قتل الأستاذ،وقواده عليان وغيره، في نهاية الرواية، إلا أن أحداث الرواية تستمر في ذهن القارئ حتى بعد انتهاء كلماتها المخطوطة،سائرة لما آلت إليه أمور العراق فيما بعد من نتائج منطقية أهمها: الاحتلال الأجنبي والخراب والانتقام من الذات بقتل الناس بعضهم البعض الآخر، واختطاف البعض لأبناء البعض الآخر والتطرف الديني والسياسي!لمختلف الأسباب ومن دون أسباب أيضا!!.
رقبة الكاتب النحيلة
رواية «سرير الأستاذ» هي في حقيقة الأمر ثقب السلطة السياسية الأسود البشع، ابتلع كل ما عاشه العراقيون في وطنهم من ذكريات حلوة، وما بقي في نفوس بعضهم من أمل بعودة عراق معافى، فهي رواية تحكي عن العمق الاجتماعي وما ناله من تخريب عبر عقود من السنوات، وما حدث تحت السطح،ذلك الذي كان يبدو ساكنا ولا تغييرات كبيرة عليه، وقد قال الروائي في روايته، ما قالته أعمال عالمية إبداعية مهمة عن أسوأ ما فعلته النازية والفاشية، والحكومات الدكتاتورية في العالم الثالث، أثناء حكمها لشعوبها والشعوب الأخرى وقد تميزت «سرير الأستاذ» كونها تحكي ما جرى في مناخات عراقية حالية خطيرة، وربما يكون ثمن كتابة سطر صادق عنها، لا يرضي من حكموا سابقا، أو حتى هؤلاء الذين يحكمون اليوم،لأنها تهتك أسرارا لا تزال تمارس هنا وهناك بصيغ أخرى، وأساليب أكثر عدوانية وقسوة، فيكون ثمن ذلك رقبة الكاتب النحيلة! فالكاتب الصادق اليوم في العراق عدو للجميع، ويحل دمه للجميع للأسف! والكتابة الروائية العراقية الجديدة الباحثة عن ذات وكينونة جديدتين،هي التي أطلقت المارد المحبوس من قمقمه، وسط كل هذا الخراب الذي يبدو للناظرين. ونقرأ عما كان يجرى، وكما جاء في الرواية: «ينتظر كريم المفاجأة التي وعُد بها في الغرفة نفسها التي يراقب الأستاذ من خلالها التلفاز الخاص حين تكون إحداهن في غرفة التصوير الأخرى،أذن هناك فتاة ستصور بالكاميرا الثابتة بعد أن أرجأت فكرة الكاميرا المتحركة،فكر كريم،لاشيء مثير في الأمر، ستتم هنا كالعادة عملية اغتصاب وتصور شأنها شأن كل الحالات التي مرت!.. فما المفاجأة في ذلك ؟»ص200 وكذلك ما تنقله لنا الرواية من مشاهد تثير في الجميع الغضب لما آلت إليه أحوال أهل السلطة: «أصدر الأستاذ أوامره إلى عليان:
– يجب أن تظهر الفتاة يا عليان، ماذا جرى بِشأنها، هل نامت؟ هل تمضي كل هذا الوقت وهي تخلع ثوبا واحداً عن جسدها. ركض عليان إلى تلك الغرفة، ثم ظهر واقفا بوسطها، وكان يبدو أنه يخاطبها حيث لا تستطيع الكاميرا اصطيادها. اختفى عليان من الصورة، ويبدو، فكر الأستاذ وكريم، انه اقترب منها، كان يجرجرها للوقوف في منتصف الغرفة كي يتمتع الأستاذ بمشاهدتها عارية.»ص220
الخيانة الوطنية
بعد قراءة ضاجة بالتحسب والشكوك بقدرة الروائي على إكمال ونشر رواية ذات موضوع معقد وصعب وخطير كموضوع «سرير الأستاذ» لم يخض احد قبله من الكتاب العراقيين فيه بهذا الشكل الصريح، وكان لمحمد مزيد الكاتب والصحفي العراقي المعروف،المحاولة والنجاح أيضا في إدانة النظام السياسي السابق، الذي أثمر للعراقيين الأستاذ وأمثاله! وكانت من أولى الملاحظات التي يضعها القارئ حول الرواية أنه يعرف كثيرا عما قرأه في الرواية، قبل قراءتها بل ويعرف حتى بطلها: «الأستاذ»، وأن كثيرا من قصص غرامياته الدامية! وسط نموره وأسوده، كانت تنقل همسا بالرغم من أن عقوبة من ينقل قصصا من هذا النوع للغير عن المسؤولين في الدولة تؤدي بالقائل والسامع للسجن بدعوى «الخيانة الوطنية ببث الإشاعات لزعزعة الروح المعنوية للمواطنين!» ولأن الكاتب لم يضع اسما محددا للأستاذ في الرواية، فسيبدو لكل واحد من القراء أن الأستاذ الذي يقصده الكاتب أستاذا آخر،مارس ذات ما مارسه الأستاذ الأصلي مع المواطنين العراقيين العزل!من خلال سلطة الدولة الغاشمة، وستمتلئ الساحة بالأساتذة المتهمين وأسرتهم الدامية، ولياليهم الحمراء وجرائمهم التي لا ينساها أحد!!
j «سرير الأستاذ» / دار فضاءات للنشر والتوزيع/عمّان- الأردن ط1 2009..250 صفحة قطع متوسط.
فيصــل عبــدالحسن
كاتب وصحفي عراقي يقيم في المغرب