".. لقد كتب كل شيء عن كل شيء.. من الأفضل أن يغلق الانسان فمه وأن يأكل ويشرب وينام ويترك كل واحد وشأنه.. (ص91)
"… لأن كل ما يقال سبق قوله، المهم أن طريقة قوله تختلف.."(95)
يواصل " محمد زفزاف " منجزه الابداعي موازيا في الآن ذاته بين اصدار مجموعة قصصية ورواية.. وكان آخر نص روائي أصدره "الحي الخلفي" ( 1992 )، علما بأنه لم يسل من الحبر النقدي الكثير.. أما آخر مجموعة فكانت " بائعة الورد " (1996).. وتأتي "أفواه واسعة " ( 1998 )، لتعزز الآئار الابداعية للروائي، إذا ما ألمحنا بأن الغاية الأساس من التأليف تكمن في التركيز على موضوعة الكتابة كسؤال في الانجاز، وكدوس بالنسبة للذين يخوضون ممارستها.. فمدار حديث شخصيات الرواية ( الأفواه ) : الكتابة الروائية، وحول أية فكرة يمكن أن تتحقق..
فالرواية في ضوء هذا قصة كتابة الرواية ذاتها.. وأعتقد بأن في استعارية الأفواه من ناحية ثانية ما يوحي بالرد والسخرية على /ومن الذين يتعاطون الكتابة والتأليف وليس غريبا أن يكون ظهر غلاف الرواية كتب بـ" النرويجية " كتحد لقاريء العربية، وكإبراز لقوة الاسم العلم : "محمد زفزاف " والذي تتم قراءته عالميا وليس محليا..
فكره الرواية
إن فكرة الرواية _ وكما سلف _ ذهنية، بالرغم مما يتخللها من نقد للاجتماعي والسياسي.. ذلك أن الموضوع يرتبط بالكتابة انطلاقا من حوارية تجمع بين شخصية من هذه الأفواه لا تحمل اسما يميزها والكاتب مثلما هو الأمر بالنسبة لبقية شخصيات الرواية وهو ما يدعو الى التعميم، بحكم أن ما يمكن أن يسري على "أفواه واسعة " يمتد الى أي نصر روائي سواء أكتبه "محمد زفزاف " أو غيره.
فهذه الشخصية "وليدها" هي بطل الرواية، البطل الذي يعتقد بأنه سوف يتمرد على الكاتب، فيما الأخير ينزع عبر التخييل الى ترصد حركاته وتنقلاته وتقويله سرا دفينا لا يحق الجهر به.. فالبطل يرتبط بأمه التي تتوق الى تزويجه، فيما هو منصرف الى القراءة الدائمة والعزلة.. على أن هذا البطل يخلق على امتداد الرواية التباسات تتمثل في تماهيه بالروائي أو الكاتب المرتبط أيضا بامرأة تحلم بالزواج منه، وحتى يتأتى له /ولها، كتابة قصة حبهما.
من خلال السابق، يحق القول :
1- إن التمرئي هو ما يطبع الرواية..
2- إن البطل هو السارد، وفي الآن ذاته تتقاطع همومه والكاتب.
3- إن القراءة والمعرفة قاسم مشترك بين البطل والكاتب.
4 – كون الفضاءات المرتادة واحدة إنها المقهى والبيت.
5 – كون فكره الزواج توحد بين الطرف الأول (ولبدها) والثاني (الكاتب ).
"يريد أحدهم اليوم أن يفعل بي ما يشاء.. سوف أترك له الفرصة.. غير أنه سوف يجد نفسه أمام بطل لن يشابه ما كان يفكر فيه " (ص 1)
".. لم يكن ضروريا أن يقول لي النادل : ما الذي سوف يفعله بك كاتبك " (ص 13)"لم يفعل الكاتب سوى أنه دخل معنا المقهى ورأى ما حصل لي ذلك الصباح.." (ص 17).
".. وهل كنت أنا نفسي أعرف أن كاتبا سوف يترصدني وسوف ينطقني بما كنت أحاول أن أخفيه ؟ وأن يتتبع حركاتي؟ " (ص 19)..
الضمير
إن أهم ملاحظة يحق ضبطها بخصوص الضمير المحرك للخطاب السردي في "أفواه واسعة " كونه يتحدد في ضمير المتكلم.. الأخير الذي تقول من خلاله شخصيات الرواية أو الأفواه، ملفوظها وما يعتمل بداخلها من احساسات نفسية ومواقف تمس البنية الاجتماعية والسياسية. فضمير المتكلم أساسا، يتنوع فيما بين السارد المهيمن (بطل الرواية : وليدها لم، ليتحول الى الكاتب، ثم الى أم "وليدها" الى حبيبة الكاتب.. فالضمير من خلال هذا يتلخص في سياقين : سياق الذكورية المتمثل في البطل السارد والكاتب الروائي، والأنثوي الجامع بين الأم والحبيبة، علما بتفاوت مستويات الإدراك والمعرفة، فيما يتعلق بالسياق الثاني، وتقاربه فيما يخص الأول.. بيد أن هذا لا يمنعنا من ملاحظة التداخل الذي يطبع هذه المستويات، حيث تنتظم عبر منطق تقني محكم يقول الرواية ككل.
إن الهدف من التنويع على الواحد:
1- خلق مسافة بين الخطابات الملفوظة.
2- اضفاء نوع من التعدد داخل الرواية بعيدا عن أن يطال ذلك الرواية في مجموعها، خاصة في مستواها اللغوي.. فالتعدد يرتبط بالوعي لا بمستوى اللغة الوصفي..
3- تأكيد خاصة التمرئي المشار اليها، ذلك أن البطل السارد يرى ذاته في الكاتب، والأم هي صورة للحبيبة.
"إن الكاتب يعرف بأن عندي صراصير في المطبخ، وهو وحده يعرف لماذا لم أستطع قتلها.(ص /3). "لا تقولي بأنه لا يتحدث الى أحد.. إنك مخطئة…" (ص / 25).
"لست كاتبا، وانما أنا مجرد انسان يحاول أن يعطي انطباعات عن هذا العالم، مثلما سبق للأخرين أن أعطوا انطباعاتهم، مثلما سوف يعطي الآخرون انطباعاتهم في المستقبل القريب أو البعيد" (37).
"إنه وليدي وأنا أحبه كثيرا.. وهل هناك امرأة لا تحب أولادها.."
(ص 79).
درس الكتابة
ألمحنا في السابق، الى أن هذه الرواية يهيمن عليها الطابع الذهني، تأسيسا من كون محور موضوعها يدور حول الكتابة تعريفا وانتاجا وتداولا.. هذا التصور، يجعلني اعتبر درس الكتابة مجموع الانطباعات والملاحظات المثبتة في الرواية بخصوص حقل الكتابة، ولكأنى بالروائي "محمد زفزاف " اختار تصريف آرائه في هذا الباب بشكل غير مباشر، انطلاقا من الشخصيات المحركة لرواية "أفواه واسعة ", وبالضبط السارد/البطل، الكاتب الروائي وحبيبته.. على أن البنية الذهنية المتحكمة في الرواية ومثلما سلف، الى كونها انطباعات وملاحظات، بمثابة نقد موجه ككل للذين يمارسون طقوس الكتابة وفعل التخييل.. من ثم فالردود والانتقادات تتعلق بالأفواه المتحدثة عن الكتابة، أو التي تدعي ذلك أو ~ملك التي تزعم بأن من وراء ممارستها يتحدد هدف اعتباري لشخص الكاتب أو المؤلف.. لذلك فإن المظهر الاستعاري يسم "أفواه واسعة ".
إن توجها كهذا لم تطلع به الروايات السابقة لـ "محمد زفزاف " التي قامت أساسا على سرد قصة اجتماعية واقعية، في المقابل تحفل نصوصه القصصية القصيرة بهذا النمط، ويكفي التمثيل بـ "بورخيس
في الآخرة " و"جيمس جويس ".. وأعتقد بأن وراء الامتداد المرتبط بالتجربة واختبارها تكمن حصيلة معرفية تأسست من الذات (ذات الكاتب ) نحو مجال (الكتابة ).. من ثم أعتبر ما جاء ضمن الانطباعات والأراء والملاحظات يتحدد في الكتابة أصلا، إلا أنه يمتلك الطابع الذاتي الصرف أو العام، مما ينسحب على كل الذين يزاولون فن الكتابة :
"انا لست كاتبا، ولم أحلم بأن أكونه ذات يوم.. انني أعرف كثيرا من الناس يحلمون بأن يكونوا كتابا أو رسامين أو عفنين أو ممثلين أو فاضحي عوراتهم حتى يقال بأنهم موجودون وأنهم أنجزوا شيئا في هذه الحياة.. " (ص 39). "أعرف بأن كتابة كتاب واحد، خير من كتابة ألف كتاب.." (ص 41). "عندما يكتب الكاتب فإنه يعتقد أن كل الناس يهتمون بما يكتب.." (ص 39). ".. ولكن ما كل شخص قادر على الكتابة.. وحتى لو توافرت له القدرة على الكتابة يخشى أن يبصقوا عليه، مع العلم انهم مبصوقون في هذا العالم ومبصوق عليهم كذلك " (ص 50). "فالكتاب تكون لهم نظرة أخرى للحياة حتى أنهم ينتحرون بعد أن يكونوا قد نحروا مجموعة من الناس بأفكارهم.." (ص 51). "إن الحياة غريبة.. ولن يستطيع أن يفهمها الكاتب مهما حبر من الأوراق ولم يفهمها حتى الذين عانوا الأمرين.." (ص57).
إن ما يحق استخلاصه من درس الكتابة :
1- اعتبار الرواية ذات منحى تجريبي. منطلقه الرهان على الذهني..
2- التركيز على توجيه النقد سواء لمجال الكتابة في حد ذاته، أو للمنشتغلين بها ككل..
3- خلق التباسات وتبديل للمواقع، بين البطل / السارد، والكاتب الروائي..
في نقد الاجتماعي والسياسي
إذا كانت الموضوعة الأساس للتأليف الروائي هي الكتابة، فإن نقد الاجتماعي والسياسي يواكب ذات الموضوعة..من ثم نجده مبثوثا هنا وهناك.. ذلك أن الشروط التي يتواجد فيها الكاتب المبدع والمثقف، تدفعه الى تشكيل تصورات ومواقف هي عادته العملية في الانجاز والتأليف.. ولعل مما لا يحتاج التعبير، الافصاح عن الوضعية المتر دية لشرط الكتابة في معظم المجتمعات العربية من محنة العيش ومطلق التجاهل، الى انتفاء الحرية.. هذه المواصفات هي ما يهجس به النص الروائي : "أفواه واسعة "، تأسيسا من الالتباس الخاص بين السارد، البطل والكاتب… من ثم، جاء نقد الاجتماعي والسياسي ليشمل :
1 – ظروف العيش بالنسبة لشخصيات الرواية.. ذلك أن لكل منها سحنته الاجتماعية الخاصة، والتي لن تكتمل الا بتحقيق الحلم المراد ادراكه والوصول اليه..
2- الوضع السياسي المتخلف، حيث تراجع آليات الإدارة والتسيير، مع افتقاد اللعبة السياسية لقواعدها..
إن هذا النقد لا يفعل، ولا يتفاعل، انطلاقا من حكاية ترتهن لما هو اجتماعي وسياسي، وانما المحيط المتعلق بانتاج الكتابة.. وهو مسار يختلف عما صيغ في روايات "محمد زفزاف " السابقة، ويكفي التمثيل بـ "قبور في الماء" و"الثعلب يظهر ويختفي" و"الحي الخلفي".
هيمنة موضوعة الموت
تحضر على امتداد الرواية موضوعة الموت، ويصاغ هذا الاستحضار وفق تنوع في الأسلوب، وان كان المعنى المراد تبليغه واحدا.. فمن ناحية يتم التذكير بأن وراء كل حياة ثمة موت، وهذه الأخيرة نهاية الحياة.. لذلك فإن اغتنام فرصة العيش واجب.. بيد أن الصورة الثانية للموت تبرز لما يكون بمثابة تخويف من شيء ما، ولكأن الأمر يرتبط بديكتاتورية الفعل والانجاز، والتي في غيابها يكون المصير هو الموت… أما الصورة الثالثة، فتقترن بممارسي الكتابة، هؤلاء الذين يجهرون بالحقيقة وبتعريتها وهم يعلمون بأن مجتمعاتهم تغيب شرط الحرية.. إن الموت في الرواية يستحضر كحقيقة، ويتم ربطه بالحرية، لكن طبيعة الموضوع لا تحتم إصباغه بالطابع والرؤية الفلسفية.. وأرى أن في تقدم السن على الدوام، تكمن خلفية استعادة الموت بالنسبة لجميع الأدباء والكتاب، سواء أتم ذلك بطريقة مباشرة أم بغيرها.
"صحيح أمتا غرباء لكمتا نؤنس بعضنا بانتظار الحافلة التي تعيدنا الى المحطة، لكنها تأخرت.." (ص 21). "إن على الانسان أن يأكل حتى لا يموت.. وإذا لم تأكلي فإنك سوف تموتين حتما ولن تجدي حتى من يشتري لك كفنا.." (ص 26). "ومن لم يسلك تلك الطريق فإنه يحكم عليه بالموت.. وهم لا يعرفون أن في الموت راحة من هذا الجحيم.." (ص 72). ".. وكثير من الكائنات تلسع ثم تموت.. وكثير من الكتاب عبر التاريخ أرادوا أن يلسعوا فماتوا.." (ص 75).
تبقى تجربة "محمد زفزاف " في "أفواه واسعة " ومثلما ورد في المقدمة تجربة ذهنية مدارها الأساسي الكتابة.. انها بصيغة أخرى درس الكتابة الذي يصدر عنه الروائي، والذي يبلغه في الوقت نفسه الى كل الممارسين لفن الكلمة..
من هنا، فإن هذه الرواية التي جاءت عقب "الحي الخلفي" لا تنخرط في ذات السياق والهم الذي انشغلت به بقية الروايات،من حيث أبعادها الاجتماعية والسياسية، وانما تنفرد بخصوصياتها الموضوعية والجمالية.. وبذلك، تنضاف الى تراثه الروائي وآثاره الجمالية، بل إنها الاضافة المشتغلة بالشكل، وهو مسار بدأت تشقه تجارب روائية عربية على تفاوت غاياتها ومقاصدها.
* مصدرت " أفواه واسعة" عن " دار الجنوب" بالدار البيضاء المغرب 1998.
صدوق نور الدين (ناقد من المغرب)