رغم أني من اعتاد أن يسأله الناس: (من أين تأتي بمثل هذا الكلام!) أجدني أسأل محمد دريوس ذات السؤال: (محمد، حقاً، من أين تأتي بمثل هذا الكلام!). أنا الذي كبر وخبر كفاية، حتى صار لا يفاجئه أحدٌ أو شيء، فكيف بكلام! يفاجئني محمد دريوس في كلِّ شيء! من أين يأتي هذا الفتى الغر (كنت ممثلاً مغموراً من الأقاليم / جئت لأني رأيت مجيئي مناسبا) بكلمات وجمل مثل : (أن أكون في غارق أرض ، وأسمح لِلأيام بالوصول قبلي) و (ثنية النهار) أو : (إن ضَحكتِ أضحكُ وإن مُتِّ أموت، ولا شيء مما كتبت قبلاً يسحرني بهذا القدر).
في شعر محمد دريوس نجد كيف أنه حقاً بلغةٍ جديدةٍ وتفكيرٍ جديدٍ يتأتى لنا الحصول على قصائد جديدة ومعان جديدة. فهذا ما يفعله، حين يقول : (أنهضُ لأرى، إن كنت نهضت مراراً وتعثرت) و (هل أكثر من صورتي على الماء، أم أُقِل؟). وهو في كلِّ هذا الافتعال، زاحماً شعره بما يلزم وما لا يلزم، يحرص على أن لا يدعي أي صفةٍ أو يصبو لأي منفعة، معلناً تنصله من كل الأطماع: (أين رسالتي، إذا كنت أكتب على هذا النحو، دوماً، ثم أنسى) و: (خذي انتباهي، ليكون عندي ما أتباهى به، في المنام) إنه دوماً ينسى، إنه يتباهى فقط في مناماته. أو انتظروه قليلاً ريثما: (أبدل ملابسي فأكون منكم مجددا) ليس فقط فرادة واختلاف شعر محمد دريوس، منذ أول قصائده، ما يُفاجىء، بل أيضاً، تطور أدائه خلال السنين الأخيرة إلى ذلك المستوى الذي يستحق وصفه بالرّفيع، ووصوله إلى قصيدة ذات حساسية لغوية ومزاجية شخصية، تكاد تخلو من كل ما تزدحم به قصيدة النثر الرائجة من عيوبٍ مُعمّمة، مكتفية بعيوبها الخاصة فحسب.
لليوم، ورغم أن محمد دريوس بات يكتب الشعر ما يزيد عن خمس عشرة سنة، نشر خلالها عدداً كبيراً من قصائده في نوافذ المستقبل والملحق الثقافي للسفير اللبنانيتين، وكذلك مجلة المدى العراقية التى تصدر من دمشق وجريدتي الاتحاد والبيان الإماراتيتين، كما كان ربما أصغر شاعر ضمن الجزء الأول والأخير من مختارات نوري الجراح لقصائد النثر العربية: (القصيدة). ورغم إعداد محمد ثلاث مخطوطات شعرية، كل واحدة منها كانت تكفي لتكريسه شاعراً مستوفي العدة لتبوؤ أحد مقاعد الصف الأول بين شعراء جيل التسعينات أو الجيل الأول في ما بعد الألفية الثانية، وفي كل مجموعة من هذه المجموعات كان يحذف الكثير الكثير ويبقي القليل القليل من سابقتها. أقول رغم كل هذا الزمن وكل ما ذكرت لتوي ليس لمحمد دريوس مجموعة شعرية واحدة مطبوعة. علماً بأنه قد تقدم بكل من هذه المجموعات الثلاث لوزارة الثقافة السورية، الجهة الوحيدة في سوريا التي يتوقع منها تقدير هذا الشعر وطبعه، فقوبلت، حسب معرفتي، مخطوطتان منها بالرفض، المرة الأولى كما نقل لي محمد، أن الأستاذ الراحل أنطون مقدسي وليس سواه قال له وهو يعيد مخطوطته: (شعرك لا بأس به ولكن نحن في الوزارة لا نطبع إلا الشعر العالي المستوى) وفي المرة الثانية نقَل لي صديق من العاملين في وزارة الثقافة السورية بأن الشاعر الذي كلف بقراءة المخطوطة وإبداء حكمه عليها ورفضها، لم يجد ما يبرر به رفضه، سوى عدم تصديقه أن محمد هو من كتب هذه القصائد، معللاً بأنه لابد يسطو على سطر من هذا الشاعر ومقطع من ذاك. التهمة التي وجهت لي ذات مرة من قبل أستاذ الشعر الحديث في جامعة دمشق، حيث، على حد قوله كان يشعر دائماً عندما يقرأ هذا الشعر وأمثاله بأنه قد قرأه سابقاً ولكن لا يذكر أين، ولكن هذه المرة أكتشف بأني لطشت دون إحم ولا دستور قصيدة كاملة من شعر يوجين ايفتشنكو الشاعر السوفيتي المعروف، نشرت في مجلة الهلال المصرية عندما كان عمري 12سنة ولليوم لم يقع عليها نظري قط.. أما وكيل النيابة العامة في قضية محمد فلم يجد أن هناك حاجة أن يبين أي سطر أو مقطع أو قصيدة يقصد، ومن أي شاعر على التحديد؟ غير أنه في النهاية تمت الموافقة أخيراً في الوزارة ذاتها على طبع النسخة رقم 4 من باكورته المتأخرة، بعد أن اشترطوا حذف عدد من قصائدها، لا أدري لم! وإبدال عنوانها (خط صوت منفلش) لأنه عنوان لا يلائم مزاج الوزارة الرسمي، كما حدث حين استبدلوا عنوان مجموعة فراس سليمان (حزن مشبوه) بـ (رصيف) رغم أن المقدمة التي كنت قد كتبتها له ونشرت مع الكتاب تذكر العنوان في أكثر من موقع. ولكن كل هذا جيد، ما دام طبع المجموعة في أي جهة وبأية طريقة يتيح لمحمد أخيراً أن يخطو الخطوة الأولى الحاسمة التي خطاها أقرانه من الشعراء كنجيب عوض ب (طقوس حافية – 2003) وزياد عبد الله صاحب: (قبل الحبر بقليل -2000) الشاعر الشاب الآخر من ذات المدينة ومن ذات الجيل، والذي تعرفت عليه منذ ما يزيد عن عشر سنوات، عندما جاء مع محمد لزيارتي في مكتبتي (فكر وفن) التي أغلقتها عام 1994، نتيجة أنها، صنفت لدى الجهات المعنية كمكان مشبوه أمنياً. وكان الاثنان، محمد وزياد، ينويان إصدار مجموعة مشتركة بغلاف مقوى وبحجم ورق كبير! عدلا عنها للأسباب المعروفة ذاتها. عدم توفر الناشر وعدم توفر المال اللازم لديهما لطباعتها على حسابهما الخاص، ثم أنه يقتضي الحصول على موافقة الجهات الرقابية الرسمية، وزارة الإعلام واتحاد الكتاب، من الوقت ما يؤدي إلى تغير في العلاقة وقتل الحماسة والدافع، وخاصة بالنسبة لشاعرين يكتبان في حمأة الدفعة الأولى من قصائدهما. أقول إن طباعة مجموعة شعرية أولى لمحمد، ليست باكورته على الإطلاق، هي الخطوة التي ستساعده أن ينجو من مصير شعراء، منهم من عرفتهم وهم قليلون، ومنهم بالتأكيد كثيرون لم يتح لي معرفتهم، كانوا يعدون بمستقبل رائع للشعر السوري، فكتبوا قصائد وأعدوا مجموعات شعرية صغيرة وكبيرة كان مصيرها كلها الأدراج ثم الاصفرار والنسيان. من عرفتهم، على سبيل المثال لا الحصر: مصطفى عنتابلي وبولص سركو وجميل حلبي وبسام حسين وأخيراً وليس آخراً محمد خير علاء الدين، الذي خصه أدونيس بالجائزة الأولى لملحق الثورة الثقافي في نهاية السبعينات، منوهاً بأن هناك فرقاً شاسعاً بين مستوى قصيدته (الجسم) الفائزة بالجائزة الأولى ومستوى القصيدتين الفائزتين بالجائزتين الثانية والثالثة! والذي كان يحرص دائماً على أن ينشر قصائده في مجلة (مواقف) مصرحاً: (إذا ما زال محمد خير يكتب شعراً في سوريا، فالشعر بسوريا بخير) وذلك نقلاً عن لقمان ديركي الذي استنكر أمامي أن يصدر عن أدونيس مثل هذا الكلام، لأن فيه إلغاء لجهد ونتاج شعراء كثيرين، لكني استنكرت استنكاره، معتبراً أن كلاماً كهذا يجب أن يفهم على نحو آخر، أعمق وأبعد مما يوحي به مباشرة، لأنه صحيح إذا كانت ظروف الإبداع الشعري في سوريا، وهي ما نتكلم عنه الآن، توقف عن الكتابة شاعراً مثل محمد خير، فإن الشعر في سوريا لن يكون بخير. لذا فأنا أرى أنه حقاً الشعر بسوريا ليس بخير ما دام لتاريخه لم تصدر أي مجموعة شعرية لمحمد خير علاء الدين، وما أخافه أنه أبطل كتابة الشعر وغير الشعر نهائياً، كالبقية ممن ذكرت.
قلت أنا هذه المرة من يسأل محمد من أين يأتي بصوره ومفرداته، ولكنني حقيقة لا يهمني وإن كان يأخذ كلمة أو جملة أعجبته من هذه الرواية أو تلك القصيدة، فأنا، بوعي أو بدون وعي، عن سابق قصد أو بدون قصد، أفعل هذا والكثيرون من الشعراء ومن مختلف أنواع الكتبة يفعلونه أيضاً، فما نقرأه لا ريب أحد المصادر الأساسية لكتابتنا من أي نوع كانت هذه الكتابة. وعندي حول هذا الموضوع كلام كثير لا مجال الآن للخوض فيه. وقد قال لي محمد بنفسه يوماً ما أخذته بدوري وجعلته عنواناً لقصيدةٍ كتبتها عنه في (دعوة عامة لشخص واحد): (إن كل ما يحصل لي هو في الكتب!) ما يهمني هو النتيجة، مستوى، قيمة، فرادة، القصيدة التي يقدمها لي بأية طريقةٍ توصل إلى كتابتها، أذكر مرةً وكان مثل هذا الحديث يدور أمام أختي مرام مصري، ولم تكن قرأت من شعر محمد سوى بعض القصائد التي أرسلها لها إلى فرنسا، أنها علّقت بقولها:(أعتقد أنه أمر يحتاج لموهبة حقيقية أن تنتقي جملاً من هنا وهناك وتؤلف منها مثل تلك القصائد!)
محمد دريوس مثله مثل أي شاعر يستحق الاسم، يأتي كحلقة من سلسلة، كجزء من حقبة، أقر بذلك أم لم يقر، يأتي كواحد من جيلٍ سبقه جيلٌ ويلحق به جيلٌ سيلحق به جيلٌ. وهو إن لم يكن له أجداد شعريون يعترف بهم فإن له آباءً وأعماماً. لولا هذا لما ساعده شيء في أن يكون له موقع أو مكانة. قلت إن لم يكن له أجداد لأنني أعلم أن أقدم شاعر عربي اهتم له محمد هو أنسي الحاج! أما بقية نتاج الكوكبة الرواد، رفاق أنسي في مجلتي شعر وحوار (الخال، أبي شقرا، الصايغ، أدونيس، جبرا…) فقد اطلع عليه بإحساس مسبق بالرفض، دون أن يأخذ باعتباره أيا من المبررات والظروف التي كانت تتحكم في تجاربهم. من يبالي بهم محمد دريوس حقاً ويتتبعهم بكل ذلك الحرص الذي أعرفه عنه جيداً، هم: أمجد ناصر ونوري الجراح وأنطوان أبو زيد ووديع سعادة وبسام حجار وعباس بيضون، وجميعهم لبنانيون، كما يمكن الملاحظة، ما عدا الاسمين الأول والثاني: أمجد ناصر الأردني ونوري الجراح السوري وهما الأشد أهمية بالنسبة له، دون أن أقلل من شأن الآخرين الذين ذكرت والذين لم أذكر كسركون بولص وسيف الرحبي ويوسف بزي وحازم العظمة وغيرهم. ما لا ينتبه له محمد هو أن هؤلاء أيضاً جاءوا ممن سبقهم، جميعهم جاؤوا في السياق، لا أحد خارج السياق، وإن بدا أحياناً أن الشاعر الحقيقي هو العكس، محطم السياق.
لا يخفي محمد تولعه بمفردات معينة مثل: (خطف- نهض – أوهام – نهار – ندم – نوم) مع مشتقاتها، ومن تراكيب يفرضها أسلوب المخاطبة والحوار الذي يجري في قصائده كالأخبار والأمر والسؤال، بين (أنا) ضمير الوحيد المتكلم في القصائد كافة وبين أنتِ الضمير المخاطب المؤنث غالباً، وأحيانا أنتَ المخاطب المذكر، وأحياناً أخرى يكون هناك مخاطبون غير محددين، هم ربما نحن أو القراء نستطيع القول ولو بصورة مبسطة! من هذه التراكيب استخدام الجمل الفعلية التي يخبر بها الضمير المتكلم الضمير المخاطب بما فعل أو يفعل وهي تبدأ بمثل: (أصعد – لا أريد لنظرتي – بلى .. وأحب أن انسل – استسلم لأرى – أمرُّ ، فلا يروني إلا رجعاً في فم المغيب – أنهض ويربكني نهوضي ..) وكذلك الجمل الاسمية الإخبارية أيضاً، لأن الكم الأكبر في القصائد هو ما يضطر الضمير المتكلم لأن ينقله لمخاطبه من مشاهد وأحداث وأفكار: (الصورة تتكدر / والأفكار تنسرب خلف ظنونها – الكلام أخذ من الصيف ما له وما عليه – اللاعبون يتقاسمون حصص الكلام – الهلال على الغصن يحرز من السهام المباغتة نصيبين – هوذا نهار نجاتي يعطف بين السنابل .. ) ثم لا بد أن تستخدم صيغة الأمر أو الطلب في هكذا حوار، مثل : (قف برهة الخاطف وقف ساعة الإشفاق – اكسر نصلك وقف في الخيام – شد الأوقات – شدني إليك – اجرحني وقف في حد – لا تقلقي لأجلي – يا فتى عرج علي – سلمني للنوم ، أرجوك ..) إلا أن الصفة الأغلب هي صيغة السؤال فهو يبدأ أغلب مطالع قصائده إن لم أقل كلها بتنويعات هذه الصيغة: (هل – أين – أ تظنين – أ مقيم هنا – أ أنا – ماذا لو _ من أخدع بكلامي – مم أخاف إذاً – بم أغراكِ وخدر اندراج ضحكتك..) وكذلك بدايات ونهايات الكثير من المقاطع داخل القصائد. صيغة السؤال هذه التي تطغى على بقية الصياغات في مجمل نصوصه وتكاد لولا قدرة محمد على تنويعها وإخفائها وأحياناً عديدة إلغائها أن تشكل للقارئ صورة أحادية مبسطة عن آليات كتابته. أما ما يحتاج لبعض الجهد لملاحظته وما لا علاقة له بأسلوب المخاطبة والحوار هو استخدام التكرار، ليس فقط تكرار كلمة ما أو فعل أو نداء في بداية المقاطع والسطور كما الكثير من القصائد الجيدة والسيئة التي يكتبها الجميع، بل تكرار ذات الكلمة أو مشتقاتها في الجملة الواحدة أو في شطري جملة ما، وهو ما لا يحتاج لأي جهد لملاحظته في شعر نوري الجراح لكثرته وإلى حد ما في شعر أمجد ناصر. مثل: (المشاعل تهمس لي ولا تهمس لأجلي – قف لأحزر قلبك وأحزر قلبي – يدي تدوخ، يدي تنحرف وتدوخ في الكتابة – ما لخيالي، أبيض يعدو بالهوى ويعود أبيض؟ – جئت لأني رأيت مجيئي مناسباً – والعشب يصير لك ويصير للآخرين – يتهادى لاهياً كالصيف اللاهي – يجدون بي ما لا أجده في أحد – أنهضُ لأرى، إن كنت نهضت مراراً وتعثرت – كلما رأيت جانباً غمض واختفى وغمضت واختفيت – إن ضحكتِ أضحكُ وإن متِ أموت).
غير أن المرء لا يستطيع أن يعتبر صيغاً أسلوبية عامة أو خاصة كهذه التي ذكرت، أكثر من توصيفات لآليات شاعر ما في كتابة ما، ذلك أن التقييم يأتي من الطرق المبتكرة والنتائج التي تحققت من استخدام هذه الصيغ، والتي لا أنكر تأثيرها المؤكد والمتبادل على هذه النتائج كونها الأدوات التي بواسطتها تم الوصول إليها. ما أقصده هو النتائج النفعية، الفوائد على المستوى الجمالي، الحسي والفكري، إن لم أشطح وأقول الفردي والجماعي، الإنساني والاجتماعي، التي يتحصل عليها القارئ الملائم لهذا الشعر. قلت القارئ الملائم أو القارئ المناسب لأنه بات صحيحاً أن ما مضت إليه القصيدة العربية الجديدة من جهة وتدهور الحالة العامة لتلقي الشعر عند الناس، لأسباب شتى، قد صنع تلك الهوة الواسعة بين الطرفين، أقصد الشعر الجديد والجمهور . أتيت على ذكر هذه الملاحظة، رغم أنه لا مكان الآن للتوسع ولو قليلاً بها، لأن شعر محمد دريوس يكاد يكون، بكل ما يعمل عليه ولأجله، نخبوياً بامتياز، هذه حقيقة. وهنا أختم بأنه ليس هناك مديح كافيا لشاعر ولشعر كهذا، لأنني حقاً لم أشعر أني قلت أو قرأت يوماً مديحاً كافٍ لشاعر أولشعر أحببته! ولا أظنها مبالغة، إذا قلت لكم، ما شعرت به دائماً وأنا أقرأ قصائد محمد دريوس: (إن محمد دريوس أحد الشعراء القلائل الذين يقدمون الدليل على أن الشاعر حقيقة مؤكدة) رغم أن ما علمني إياه الشعر الذي أحبه وأصدقه هو: (أن الحقائق المؤكدة لا تحتاج لأدلة)
ـ
كل هذا ومجموعته بحلتها الأخيرة التي صار عنوانها (ثلم في تفاحة طافية) والتي بعد جهد جهيد وعمر طويل تم الموافقة على طباعتها في وزارة الثقافة السورية كما ذكرت، وهي الآن تصف على الدور في مطابع الوزارة منذ ما يقارب السنتين على أن تصدر قبل نهاية هذه السنة، ليست بين يدي. لدي المجموعات الثلاث السابقة التي تكلمت عنها، ولا ريب أن انتقاء أي قصيدة من أي منها سيحمل قدراً كبيراً من المخاطرة في أن تكون القصيدة محذوفة في المجموعة الأخيرة أو بالتأكيد معدلة. لذا فقد آثرت أن أختم مقالتي هذه، بقصيدتين كنت قد كتبتهما مستخدماً سطوراً ومقاطع من قصائد محمد، وكأنهما قصيدتان كتبناهما معاً، كما فعلنا بتلك الرسالة إلى أصدقائنا اللبنانيين التي نشرت في ملحق النهار في الشهر الرابع أو الخامس من هذه السنة /2005/ ووقعنا عليها باسمينا معاً كما هو الآن:
1- اسمي الغَامِض
(محَمَّد دَريوس – مُنذر مَصري)
اسميَ الغَامِض
يَقرَؤهُ في ظِلِّ ثَديِ التِّمثالِ الحَجَري
المُنَقِّبون
لَكِنَّ قِلادَةَ حَظِّي
لامِعَة .
/
فَمن أَينَ لي إذَن
غُرورُ الأَسماء ؟ .
/
ثَمَّةَ ما يَشُدُّ اِنتِباهَ التِّمثال
إنَّهُ يَنظُرُ
نَظرَةً تَرجو
ونَظرَةً تُرَمِّم
وكَأَنَّ حياتَهِ كُلَّها
تِلكَ النَّظرَة .
/
(مِن أَجلِكَ فَقَط
أَحَتَفِظُ بِبَياضِ قامَتي
مِن أَجلِكَ فَقَط
أَرمي عَلى الفَيءِ فَيئي
وحينَ أَقسَمتُ ألاَّ أَعود
عُدتُ
عُدتُ لأَكونَ سَيِّدَكَ مُجَدَّداً
أَيَّها النِّسيانُ الكَاذِب ..
2- رُسُلُكَ سَهمٌ وَحَمامَةٌ وَمَلاك
(محمَّد دَريوس – مُنذر مَصري)
أنت هَواءٌ يَهُبُّ لِيُرشِدَ الضَّائعين
وأَنا مَن أُؤَقِّتُ يَدي عَلى
ارتِجافِها .
/
رُسُلُكَ :
سَهمٌ
وحَمامَةٌ
ومَلاك
وأَنا أَيَّامٌ تَمُرُّ في أَيامِكَ
مُروراً باهِتاً في كُلِّ سَطر .
/
لَوكانَ لي اسم أُنادى بِهِ ومَجلِسٌ
لَكانَ قُدومِيَ في الغُروب
خَشَبَةً طافِيَة .
/
رَأَيتُ جَدائلَكَ يَقطُرُ مِنها ضَوءٌ
وعَينَيكَ مُغمَضتَينِ إغماضَةَ
اليَقين
رأَيتُ يَدَكَ ترتَطِمُ بِمَبسَمِ مَلاك
والتَّرانيمَ مَكسورَةً عَلى الصَّفاء
كأَنفاسٍ عَلى
أَوتارٍ مُبَلَّلَة .
/
أنت مَن أَرسَى العِبارة
وأَحكَمَ الوَصف
كَحُلُمٍ قَويُّ الإِضاءَة
يَستَيقِظُ فيهِ الآخرونَ ويَنخَطِفون
وأَنا
خَطُّ
صَوتٍ
مُنفَلِش
أَقولُ الكَلامَ عَلى عَجَل
ودونَ كَثيرِ إمعان
حَتَّى إنَّي استَغرَبتُ مَرَّةً
حينَ وجَدَتَ في كَلامي مَعنى
فَأَخَذتَه .
/
(إلى مُنذِر مَصري)
غافَلتَني وصِحتَ :
(وَدَاعا)..
منذر مصري (شاعر من سوريا)