حسن بحراوي*
لا بدّ أن هناك عدة مداخل يمكن الولوج منها للحديث عن شخصية الأستاذ محمد برادة.. وهو أمر طبيعي بحكم اختلاف إسهاماته وتعدد عطاءاته الأكثر تنوعا وتأثيرا واقعيا ورمزيا.. فالأستاذ برادة يعتبر رجل النهضة الثقافية المغربية بامتياز من خلال المشاركة الفعالة والحضور الدينامي على الأقل في المجالات الأربعة التالية:
1ـ مجال الدرس الأدبي في الجامعة المغربية الناشئة الذي كان أحد مؤسسيه في ستينيات القرن الماضي عندما التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بظهر المهراز بفاس لينخرط في تجربة تربوية رائدة مازلنا ننعم بثمارها إلى اليوم من خلال تواصل الأجيال المتعاقبة التي وضعتها رهن إشارة المدرسة العمومية.. وتتميز شكلا ومضمونا بانتصارها للتيار الحداثي في تلقين الآداب والفنون مع ربطها بوظائفها المجتمعية الأصيلة القائمة في أصل نشأتها أي الإعلاء من شأن الهوية المغربية والتقليص من مساحة الاستلاب للشرق أو للغرب.. والحث على أن يحتل فيها الإنسان مكانه المستحق وجودا راسخا وأفقا مفتوحا.
وأما اللحظة الثانية في هذا المسار الجامعي فهي لا تقل أهمية عن الأولى وتعتبر استكمالا وتتويجا لها، وأقصد بها فتحه أوائل الثمانينات مع الأستاذ أحمد اليابوري لسلك الرواية في الدراسات العليا بكلية الآداب بالرباط. وقد تميزت دروس الأستاذ في هذا الماستر خاصة بتقديم إنجازات النقد الروائي الحديث كما تبلورت على يد المدرسة البنيوية الشكلية في فرنسا (بارث، جينيت، تودوروف، كريستيفا..)، والاستئناس بالتطبيقات الإجرائية والمعالجات المنهجية التي رافقت هذا التيار عبر منشوراته ومنابره المعروفة كمجلتي (تواصلات) و(تل كيل)..وقد أثمر هذا السلك طائفة من الباحثين الشباب الذين أطّر أطروحات بعضهم الأستاذ نفسه وصار لهم موقع مرموق في الجامعة المغربية.. وكان لتأثيره بالأخص امتداد خارج الجامعة في أوساط النقاد وكتاب الملاحق الثقافية..
2ـ مجال النقد الأدبي وله ارتباط وثيق بالمجال الأول وباشر فيه محمد برادة مساهمته الثمينة منذ وقت بعيد مستفيدا من ثقافته المخضرمة وفضوله المعرفي الذي أتاح له الانفتاح على أنواع المناهج وأنماط المقاربات وظهرت نتائجه الملموسة في متابعاته النقدية لما يصدر في المشرق والمغرب، وفي كتبه المتعددة الصادرة هنا وهناك والتي نال بأحدها جائزة المغرب للكتاب وكان لها جميعها تأثيرها المشهود على أجيال القراء والممارسين للنقد والتنظير..
3ـ مجال الترجمة، وسار في موازاة مع مجال النقد لدى محمد برادة بل وكان سندها المعرفي والمنهجي.. وقد ترجم الأستاذ مبكرا وكثيرا فنقل أعمالا فكرية وإبداعية للكتاب المغاربة المعبرين بالفرنسية كعزيز الحبابي وعبد الكبير الخطيبي والطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي، وأعطى بذلك للقارئ العربي والمغربي صورة عن تلك الجهود الحثيثة التي ظلت تبذل في سياق ثقافة وطنية لا غبار عليها ولكن بلسان يسجنها في اغتراب لغوي مفروض لابد من مغادرته ذات يوم، وبادر بعد ذلك مدفوعا بهاجس الباحث الأكاديمي الذي كانه بترجمة رائدي النقد الغربي الحديث الفرنسي رولان بارت والروسي ميخائيل باختين.. وطبعا سيكون لهاتين الترجمتين المرجعيتين تأثيرهما الكاسح الذي نعرفه عربيا ووطنيا في أوساط النقاد وطلاب الأدب..
4ـ مجال الإبداع الفني الذي كان فيه من مجددي الكتابة السردية المعاصرة التي ظلت قبله تراوح المكان وتجاري التقاليد السردية البائدة حتى جاء هو وكوكبة من مجايليه فرفعوا عنها الحصار وفتحوها على عوالم جديدة لم تكن تتوقع اختراقها وهي قابعة في أقماط التقليد والاجترار مع الجيل الأسبق من رواد البدايات..
ومع أنه تأخر في نشر مجموعته القصصية الأولى (سلخ الجلد) إلى أواخر السبعينات فإن لا أحد ينكر الدور الرائد الذي نهض به في وضع القصة المغربية على سكة الحداثة التي طال انتظارها.. ثم حان الوقت المـتأخر قليلا لكي يقدم تجربته الخصيبة في مضمار الرواية التي دشنها بروايته المتحفية (لعبة النسيان.1987) التي كان لها مفعول مشهود على مسار الرواية المغربية وواصلها بالمثابرة على نشر الرواية تلو الأخرى بإيقاع منتظم وبنكهة متميزة استقطبت مزيد القراء والمهتمين بفنه..
* * *
ولأننا نتوقّع أن هذه المجالات الأربعة قد ألقي عليها الضوء كفاية من طرف الباحثين فإن اختيارنا قد اتجه إلى تناول مجال آخر وليس أخير بلورته تجربة الأستاذ كرئيس لاتحاد كتاب المغرب ومساهم في إنشاء تقاليد ثقافية راسخة تواجه المدّ الجارف لأوضاع لم تكن على الدوام لصالح المثقف المغربي وأساسا بالدعوة إلى الارتقاء بممارسة الكاتب إلى صف النضال الملتزم..
وقد كان بدا واضحا، في وقت مبكر من حقبة السبعينات، بأن الظروف قد قاربت النضوج داخل اتحاد الكتاب لكي ينتقل زمام القيادة إلى جيل جديد بعقلية مغايرة وحساسية جديدة..أي عمليا من يد حزب الاستقلال الموصوف بالمحافظ إلى أياد بديلة تبشّر بشعارات مختلفة بدأت تمارس إغراءاتها على الشبيبة من الكتاب الذين لا يبدون مقتنعين بجدوى أو أهمية أن يواصل الكتاب الاستقلاليون إدارة دفة اتحاد كتاب المغرب.. ولكن كان لا بد من انتظار الوقت المناسب الذي لن يتأخر طويلا..
وكان محمد برادة، المثقف العضوي الملتزم، الذي ساهم في تأسيس الاتحاد أوائل الستينات، واعترض بعنف على ممارسات الدكتور عزيز الحبابي التي كان الكثيرون يصفونها ب»اللامؤسّساتية»، قد عاش فترة في فرنسا صرفها في تهيؤ أطروحته للسلك الثالث حول (التنظير النقدي) لدى الناقد المصري محمد مندور..ولمّا عاد إلى موقعه في الجامعة المغربية، أواسط السبعينات، وكانت هذه الأخيرة تعاني من سكرات القمع بعد الإجهاز على مكاسب الطبقة الطلابية بحظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاستغناء عن بعض الأساتذة المشتبه في ولائهم للدولة أمثال محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وأحمد اليابوري.. أتيح له سريعا أن يستعيد موقعه المعهود في كلية الآداب بفاس ويسهم في تجديد الدرس الأدبي الحديث بصحبة زمرة من الزملاء القدامى كحسن المنيعي ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي والخمار الكنوني.. كما عمل على تجديد انخراطه في صحافة حزبه الذي تحول من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وجعل قلمه في خدمة الخط التحريري لجريدته المسمّاة المحرر التي كان يرأسها الشهيد عمر بنجلون.. متعاونا مع زمرة من رفاقه أمثال الجابري والسطاتي والقرشاوي..
وأخيرا توجّه بنظره إلى اتحاد كتاب المغرب وبادر إلى مواصلة اللقاء مع أعضائه وانخرط معهم في تلك النقاشات المحتدمة التي ظلت تقوم حول موضوعات السياسي والثقافي وحول حرية الكاتب وهويته ومطالب الالتزام التي تطوّقه بها دينامية المجتمع…
ولا بد أن الكثير من الكتاب كانوا مهيّئين لتقبل نوعية الخطاب الجديد الذي بدا محمد برادة بارعا في صياغته إلى حد بعيد.. سواء عبر مقالاته الملتهبة في مجلة أقلام الاتحادية أو على صفحات جريدة المحرر.. أو في أثناء التجمعات الثقافية والأدبية التي كان يداوم على غشيانها والتدخل في حلقاتها بهيأته العصرية وشعره المنسدل على طريقة مثقفي اليسار الفرنسي.. وسوف تساعده قساوة الأوضاع السياسية والحالة الفاترة التي كانت تجتازها الثقافة المغربية إجمالا إضافة إلى البؤس المتزايد الذي ظلت تعاني منه أوضاع اتحاد الكتاب على الإمعان في التبشير برؤية ثقافية جديدة هي في الواقع مزيج مستمد من الأدبيات الاشتراكية والفكر القومي المبطن بنزعة يسارية ..كل ذلك في إطار من الروح الوطنية والإنسية المغربية وغير ذلك من توابل تلك الحقبة..
وينبغي أن نضيف إلى ذلك كله أن شخصية الأستاذ برادة الإنسانية وفكره المتفتح سيلعبان دورا كبيرا في إغراء عدد وافر من الكتاب على المراهنة عليه كرجل مناسب لهذه المرحلة.. وقد كانت الدورة الثالثة والأخيرة من ولاية الأستاذ غلاب، بين 1973 و1976، قد تزامنت مع مجموعة من الحوادث الظرفية الضاغطة دوليا (أزمة البترول..) وعربيا (حرب أكتوبر..) ومغربيا (المسيرة الخضراء..)..ورافقها احتدام ذلك الصراع الإديولوجي الآخذ في البروز بل والاحتقان بين الأعضاء المنتسبين للاتحاد (يمينيون، استقلاليون، اتحاديون، يسار ثقافي ناشئ..إلخ).. والتبلور التدريجي لفكرة كانت مهيأة للانبثاق هي إعلان الاتحاد الانتهاء من مرحلة والخوض في مرحلة جديدة يلجها بوصفه «منظمة جماهيرية مستقلة وديمقراطية».
وفي يوم مشهود من أواخر شهر ماي 1976 انعقد بأكدال بالرباط المؤتمر الخامس الذي سيكون الحدّ الفاصل بين تاريخين عاشهما الاتحاد منذ تأسيسه أوائل الستينات.. وسيتميز هذا المؤتمر في المقام الأول بأنه سيكون آخر مسمار يدق في نعش طائفة الكتاب الرسميين الذين عادوا إلى رشدهم وقرروا الانصراف بغير رجعة إلى دواوينهم وأطماعهم الصغيرة، بل أكثر من ذلك سيسجّل انسحاب الطاقم الاستقلالي من التباري على عضوية المكتب المركزي بمن فيهم المرحومان عبد الجبار السحيمي والعربي المساري اللذان كانا مقربين من برادة.. وهكذا سيعمل الزعيم الجديد على تقوية مكتبه بثلاثة كتاب اتحاديين اثنان منهما سيصبحان رؤساء للاتحاد فيما بعد، هما أحمد اليابوري ومحمد الأشعري، فضلا عن زميله القديم أحمد السطاتي.. وسيقوم باستعادة ممثلي المستقلين الذين غابوا في المكتبين المنبثقين عن المؤتمر الثالث (1970) والرابع (1973) في شخص الروائي مبارك ربيع والشاعر المعبّر بالفرنسية محمد الواكيرة، ولكن أهم خطوة سيقبل عليها برادة هي تمثيل اليسار الثقافي اليافع عبر مواصلة الشاعر محمد بنيس، مدير مجلة الثقافة الجديدة، لعضويته في المكتب المركزي مما سيبدو اعترافا ضمنيا من الاتحاد بوجود تيار جديد في الفكر والثقافة لا بد من إسماع صوته…
وسنلاحظ بأن هذا الحضور اليساري الذي بدا محتشما في المؤتمر الرابع سيتقوّى تدريجيا في عهد الرئيس محمد برادة وذلك في موازاة مع استبعاد العناصر الاستقلالية خلال الولايات الثلاث التي قاد فيها هذا الأخير الاتحاد.. وهو أمر لا يمكن تفسيره سوى باستمرار الخلاف السياسي، بينه وبين الاستقلاليين، حول النهج الذي ينبغي للاتحاد أن يسير فيه..
وهكذا، فما إن نصل إلى المؤتمر السادس (يناير 1979) حتى يكون اليسار التقدمي قد أصبح ممثلا بثلاثة أعضاء هم الكاتبان إبراهيم الخطيب ومصطفى المسناوي إلى جانب استمرار الشاعر محمد بنيس، بينما سيختفي ممثلو التيار المستقل من الصورة من جديد.. وفي الجملة، فقد بدا وكأنما صادف برادة في هؤلاء الشباب ما يُغنيه عن تلك الفسيفساء السياسية التقليدية التي لم يعد الاتحاد يرى من وراء وجودها أي طائل..
لكن ظروف المؤتمر السابع الذي انعقد بالدار البيضاء في أبريل 1981 ستشهد انفصام هذا الزواج الكاثوليكي بين الجناح الاتحادي والجناح اليساري.. وسيكون انفصاما صاخبا زاد في إذكائه الحضور الانقلابي للشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي كان قد أفرج عنه من اعتقال سياسي طويل، وإلحاح الشاعر محمد بنيس على اعتبار هذا المؤتمر مؤتمر تراجعات كما أطنب في توضيح ذلك في كلمة نشرها في الثقافة الجديدة..
وقد قاد محمد بنيس، بمعية جماعة قليلة، وكان متوّعك الصحة ويتحرك بمساعدة عكازين، صراعا مريرا خلال هذا المؤتمر ضد ما اعتبره استحواذا على الاتحاد من طرف جماعة الاتحاديين الذين لم يعد في نيّتهم الذهاب بعيدا في الاعتراف بفصيل اليسار الثقافي وإحلاله المكان المفترض أن يحتلّه داخل اتحاد الكتاب..
وحتى يغطي برادة على ذلك الفراغ الذي نجم عن إقصاء ممثلي اليسار (باستثناء المرحوم المسناوي) سيعمل على تسهيل دخول عنصر جديد يمثل حزبا يساريا تقليديا هو حزب التقدم والاشتراكية ممثلا بالشاعر إدريس الملياني الذي سيطول مقامه، لأسباب لوجيستيكية، لعدة مكاتب متوالية…
لقد عرف عن الأستاذ محمد برادة أنه يعشق الانخراط في الصراعات ويبرع في إدارة الأزمات.. وسواء في كلية الآداب بالرباط التي تقاعد منها أواسط التسعينات..أو في إطار النقابة الوطنية للتعليم العالي..أو ضمن مكاتب اتحاد كتاب المغرب المتعاقبة.. فقد ظل الرجل نموذجا للمناضل الصلب الذي ينافح عن حزبه ويروّج لخطه السياسي والثقافي الذي كان من أبرز مهندسيه على الإطلاق.. وفي ذلك يقول محمد برادة: «أشهد أنني لم أتلق أبدا تعليمات من قيادة الحزب الذي أنتمي إليه (..) وكنا حريصين من جهتنا على أن نعيش التجربة على ضوء الحوار الديمقراطي مع جميع المثقفين والمبدعين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم. لكن الديمقراطية لا تعني في نظري ألا يدافع من يشكل توجها راجحا عن موقفه.. الديمقراطية صراع أيضا وتحمل للمسؤولية في الآن والهنا وعدم الخوف من الانتماء..»
وإلى ذلك، سوف تتميز ولاية برادة بمجموعة من لحظات القوة لا يمكن للملاحظ إلا أن يسجلها في باب المكاسب التي حققها الاتحاد عبر مساره الطويل، وفي مقدمتها ما سيسفر عنه المؤتمر الخامس من إعلان للاتحاد كمنظمة جماهيرية مستقلة ديموقراطية، والعمل على تحديد مفهوم الثقافة الوطنية الديموقراطية، وتجديد مطالبة السلطات الحكومية بمنح الاتحاد صفة جمعية ذات نفع عمومي، وأخيرا وليس آخرا اقتراح صيغة لميثاق الشرف وهي الوثيقة التي جاءت لتسدّ فراغا تنظيميا ظل يشكو منه اتحاد الكتاب في غياب قانون داخلي تمتثل له جميع الأطراف..
ويعتبر ميثاق الشرف من أهم الوثائق في أدبيات اتحاد كتاب المغرب.. وهي الوثيقة التي أقرّها، كما تقدم، المؤتمر الخامس للاتحاد سنة 1976 مدشنا بذلك مرحلة جديدة ومبلورا لأفق مختلف في الصراع الثقافي الذي ارتفعت حدة إيقاعه خلال السبعينات والثمانينات.. وبتعبير الميثاق نفسه فإنه جاء «ليضع خطا فاصلا بين ثقافة رجعية قائمة على إديولوجية محافظة وتبريرية ملتبسة..وثقافة تنطلق من منظور قومي تحرري»..
ويتعلق الأمر في هذه الوثيقة باستعراض جملة من الأفكار تتجه إلى تحليل الوضعية الثقافية بالمغرب بعد عشرين سنة من الاستقلال ودعوة إلى تدعيم أسس أدب مغربي يستوحي قيم الثقافة القومية الجديدة المنشودة..وسواء في مضمار الكتابة الروائية أو المسرحية والشعرية والقصصية..أو في مجال التراث الشعبي المكتوب منه والشفوي.. فإن المطلوب أن تستمد مشروعيتها وقيمتها من «استيحائها لأشكال الصراع الطبقي ومن تفاعلها مع الواقع المغربي الجديد.» وسيكون الهدف المنظور والمعلن عنه هو «تحقيق ثقافة وطنية ذات مضمون تحرري ثوري ضد الأوضاع الفاسدة» تجعل من الكتابة تعبيرا عن ممارسة و»التحاما مع قوى التغيير الفعلية ومراهنة على تصور معين للمستقبل».. وينتهي هذا الميثاق الملتهب بعبارات حاسمة تذكرنا بحماس السبعينات: «إن هذه الاختيارات هي التي يلتزم بها أعضاء اتحاد كتاب المغرب عن مجتمعنا وصراعاته ومشاغله كما يستوحي الموافق الشجاعة لطلائع مثقفينا وأدبائنا ولجميع الذين جعلوا من الكلمة دربا يضيء مسيرتنا التاريخية.»
ومن جهة أخرى، وفي تزامن من الجهد التنظيمي، ستشهد الولايات الثلاث للأستاذ برادة مجموعة من الأنشطة الإشعاعية الكبيرة بهذا القدر أو ذاك والتي ستؤكد مكانة اتحاد كتاب المغرب على المستوى العربي وتخلق للشباب إمكانية التعرف عن قرب على أهم رموز الأدب العربي الحديث في حقبة السبعينات.. وكان من أبرزها إقامة لقاء الرواية العربية الجديدة بفاس الذي سيشارك في فعالياته عدد متزايد من الروائيين والنقاد العرب والمغاربة وستصدر أعماله ضمن كتاب ستنشره دار الآداب البيروتية ويكون له صدى واسع في أوساط الباحثين في الرواية العربية الحديثة…
وكان اتحاد كتاب المغرب قد دعا إلى ملتقى ثقافي عربي حول الرواية العربية بمدينة فاس أيام 21-24 دجنبر 1979.. حضرته ونشطت حلقاته بالفعل ثلّة من النقاد والروائيين العرب التي لم يكن من الممكن تصور اجتماعهم في أي وقت من الأوقات ولا في أي بلد من العالم العربي للأسباب المعروفة. ولا أقل أن نذكر من بين هؤلاء برهان غليون وعبد النبي حجازي محمود أمين العالم وبطرس الحلاق وعبد الحكيم قاسم وسهيل إدريس وغالب هلسا وطراد الكبيسي وعبد الرحمن منيف وإدوار الخراط وجمال الغيطاني..كما شارك من المغاربة الأدباء والنقاد عبد الكريم غلاب ومحمد شكري ومبارك ربيع والطاهر بنجلون وعبد الكبير الخطيبي وأحمد المديني وسعيد علوش وعبدالفتاح كليطو ومحمد برادة.. وقد برز في هذا المؤتمر النقدي لأول مرة للوجود ذلك التيار العلمي، النظري والتطبيقي، الذي يستفيد من المناهج الغربية الحديثة في تفكيك وتحليل الخطابات ومقاربة الفضاءات الروائية العربية ولا يكتفي بالإنشاء الوصفي الذي يحوم حول النصوص من دون أن يتمكن من النفاذ إليها.. وقد أثارت الانتباه بقوتها وطرافتها بحوث المغاربة حول المتخيل والرؤية للعالم والأزمنة الروائية.. وكانت مفاهيم حديثة الوفود إلى نقدنا العربي المعاصر.. كما لفتت الأنظار مقاربات بعض المشارقة بانتقادها المبكر للمنهج الواقعي والإديولوجي الذي كان رائجا ويكتسح الساحة العربية من أقصاها إلى أقصاها..
لكن أبرز مكسب حققه اتحاد الكتاب في هذا الملتقى هو إقدامه على الجمع حول مائدة واحدة بين أهم أقطاب الإبداع والنقد الروائي العربي وبخصوص موضوع غير متوقع تقريبا هو موضوع الرواية العربية الناشئة.. حيث جرى الكشف المخبري عن مظاهر الأزمة الآخذة في الاستفحال إن على مستوى الكتابة الروائية نفسها من حيث شكلها وموضوعها ورؤيتها للعالم أو من جهة النقد الذي يقاربها بكثير من الانطباعية والأحكام الجاهزة والأفكار المستعجلة أو المغرقة في الخلفيات والمضمرات الإديولوجية.. أما الدرس الحقيقي الذي «لقّنه» المغاربة لزملائهم في المشرق خلال هذا اللقاء فهو واقع أن في المغرب العربي كتابا ونقادا للرواية لا يقلّون نباهة وموهبة وإنتاجا.. وأن حكاية «الريادة المشرقية» لا تتضمن سوى أفضلية مزعومة وتنقصها المصداقية. وطبعا ما كانت هذه الندوة لتحرز كل هذا النجاح لولا أن رئيس الاتحاد، أي الأستاذ برادة بكل التأكيد اللازم، قد استنفر جميع صداقاته وعلاقاته العربية والمشرقية تحديدا وأفاد من مصاحباته الطويلة للرواية ونقاد الرواية العرب لكي يجمع شملهم في العاصمة العلمية للمغرب ويجعلهم ينصتون لبعضهم البعض بكل الاهتمام والاحترام المتوقع من نخبة الكتاب وطليعة المفكرين في موضوع قلّما اجتمع حوله العرب وأبدوا حوله آراءهم ومظنوناتهم..
وخلال أشهر قليلة قبل أن يغادر محمد برادة رئاسة اتحاد كتاب المغرب سيدعو إلى ملتقى القصة العربية الحديثة الذي سينعقد بمدينة مكناس أيام 22-25 مارس 1983.. وهو اللقاء الذي كان مقررا له أن يتمّ خلال الصيف ولكن أحداث العدوان الإسرائيلي على لبنان والمقاومة الفلسطينية حال دون ذلك.. وفي ذلك قال برادة خلال جلسة الافتتاح بعد قيام المشاركين دقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء: «كان نشازا أن نجتمع ونتحدث عن القصة فيما كان جسدنا يعيش قصة ترسخ تشاؤم العقل وتشل تفاؤل الإرادة.» وقد تمّ عقد هذه الندوة حول القصة العربية القصيرة كذلك بحضور نخبة من الكتاب والباحثين العرب والمغاربة الذين سيتداولون في شأن هذا الجنس الأدبي الذي نادرا ما سلّطت عليه الأضواء بمثل ما حدث في هذا اللقاء الذي ستصدر أعماله أيضا ضمن أحد أعداد مجلة آفاق التي يصدرها الاتحاد..
وبالرغم مما خيّم على هذا الملتقى من أجواء المأساة العربية في لبنان وفلسطين فإن المشاركين خلصوا إلى فتوى ظريفة اقترحها الكاتب المصري إدوار الخراط مفادها أن «الكتابة القصصية قد تكون من جملة الطرق والوسائل الممكنة للخروج بالأمة العربية من هذا الوضع البائس الذي تردّت فيه.»
ومثل لقاء الرواية بفاس..أريد لهذا الملتقى كذلك أن يكون عبارة عن جلسات مغلقة يحضرها المعنيون والمتخصصون من المشاركين والضيوف وذلك لضمان الحد الأكبر من شروط التداول والنقاش..وقد ساهم بإلقاء عروض من مصر كل من صبري حافظ وسيد البحراوي ومن لبنان يمنى العيد وإلياس خوري وخالدة السعيد زوجة الشاعر أدونيس ومن سوريا هاني الراهب ومن العراق عبد الرحمن الربيعي ومن روسيا المستعرب فلادمير شاكال..أما المغاربة فكانوا ممثلين بالنقاد إدريس الناقوري ونجيب العوفي وعبد الفتاح كليطو ومحمد برادة وساهم فيها أعضاء الجيل الجديد من النقاد كسعيد يقطين وبشير القمري وعبد الرحيم المودن وكاتب هذه السطور غيرهم من الكتاب والروائيين..
وقد انقسمت المداخلات المقدمة بين عروض نظرية اتجهت إلى اقتراح تأسيس نظرية نقدية عربية في مجال القصة القصيرة.. وعروض تطبيقية قاربت نصوصا قصصية بعينها مستعملة مناهج ترصد بواسطتها مضامينها وأساليبها وأنماط بنائها الفني.. بينما ظلت حاضرة في النقاش تلك الثنائيات التقليدية من قبيل التراث والمعاصرة.. المصطلح والمنهج.. التأثير والتأثر. ومن طرائف هذا اللقاء أنه عندما تدخّل أحد الحاضرين ليدافع عن حق الكاتب العربي في أن يقتبس من الغرب صنائعه ومناهجه إسوة بما نأخذه عنه من آلات ووسائل دفاعية كالفانتوم التي ندافع بها عن أرضنا وأطفالنا..عقّب عليه أحد الكتاب اللبنانيين مستنكرا:» لا ليس هذا صحيحا.. فقد كانت سماؤنا خالية إلا من طائرات العدو..»
وهكذا ظلت وقائع الاجتياح الإسرائيلي للبنان حاضرة بقوة رغم هيمنة الخطاب الأكاديمي على أشغال الندوة.. وكانت المفاجأة الكبرى هي قدوم الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى مكناس وإحياء قراءة شعرية باذخة في مقر المعرض ستبقى عالقة في ذاكرة من حضرها وخاصة أنه قد شنّف الأسماع بقصائد ديوانه (أعراس) وفي مقدمتها ملحمته (أحمد الزعتر)..
وفي سياق آخر ستشهد فترة ولاية برادة انعطافة لافتة تجسدت في الانفتاح على أشكال تعبيرية وإبداعية ظل حضورها خافتا أو باهتا في أنشطة اتحاد الكتاب مثل الفن المسرحي والثقافة الشعبية التي ستعقد لهما عدة ندوات ستظهر موادهما ضمن مجلة آفاق وتعطي صورة مشرفة عن مستوى البحث المغربي في هذا المضمار.. أو الفنون التشكيلية التي سيثمر النقاش مع ممثليها في الجمعية المغربية للفنون التشكيلية صدور مجلة «النشرة» التي ستأخذ على عاتقها إشاعة مفاهيم الصورة واللون في تعالقاتهما مع الكتابة الأدبية بحصر المعنى..
وكانت أول التفاتة جدية وملموسة من قبل اتحاد الكتاب للمسرح قد تمت على عهد ولاية الأستاذ غلاب (68-76) ووجدت صداها المتواضع على صفحات العدد الخاص من مجلة آفاق الصادر سنة 1969 الذي أشرف على إعداده ووضع مقدمته حسن المنيعي.. ومباشرة بعد تولية الأستاذ برادة سيعلن عن تنظيم مناظرة وطنية حول وضعية المسرح المغربي في الفترة ما بين 14 و16 دجنبر 1976.. وسيكون القصد المعلن من هذه المناظرة هو «إعادة طرح مسألة المسرح المغربي من منظور يستقطب أهم العناصر المتصلة بوجود المسرح وانبعاثه وممارسته كشكل تعبيري أساسي في مجال الثقافة وتكوين الرأي العام.».. كما جاءت هذه الالتفاتة لمعالجة «عمق الأزمة» المتصلة بضعف المستوى النظري وبنوعية الممارسة عند العاملين في هذا المجال كتابا ونقادا ومخرجين ومسؤولين عن الفرق المسرحية.. ومن هذا المنطلق دعا اتحاد الكتاب جميع هؤلاء المهتمين والعاملين إلى المشاركة في أشغال هذه المناظرة «للتفكير في إشكالات مسرحنا وبلورة الآفاق الممكنة القمينة بمساعدة المسرح المغربي على تجاوز التعثر واستعادة المكانة اللائقة به في تحريك قاطرة الثقافة الجديدة.» وقد استجاب العديد من نشطاء هذا المسرح في تلك الحقبة لدعوة اتحاد الكتاب.. فمن الكتاب المسرحيين حضر الطيب العلج وعبدالله شقرون وأحمد العراقي ومحمد تيمود وعبد الكريم برشيد ومحمد الأشهب.. ومن النقاد والصحفيين شارك حسن المنيعي وعبدالله المنصوري وخالد الجامعي.. ومن الممارسين عبد اللطيف الدشراوي وعبدالصمد دينية وفريد بنمبارك ونبيل لحلو وعبد القادر البدوي وعزيز السغروشني.. وقد أدار أشغال هذه المناظرة الأساتذة محمد برادة وأحمد اليابوري وربيع مبارك ومحمد الواكيرة. ولكن مما يؤسف له حقا أن أعمال هذا الملتقى ذهبت أدراج الرياح لأنه لم يجر توثيقها ولا نشرها ضمن أعداد مجلة آفاق التي كانت لا تزال تعاني عهدئذ من التعثر وعدم انتظام الصدور للأسباب المالية المعروفة.
وفي مضمار الفنون التشكيلية سيهتدي اتحاد الكتاب برعاية محمد برادة في مايو من سنة 1978 إلى إصدار نشرة أدبية وفنية تحت اسم «الإشارة» بشراكة مع الجمعية المغربية للفنون التشكيلية.. وستكون هذه التجربة من طراز فريد لأنها نجمت عن إرادة مشتركة وكانت ثمرة نقاش طويل وجاد بين الفنانين التشكيليين وزملائهم من الأدباء والكتاب. وقد كانت «الإشارة» تسعى إلى طرح جملة من القضايا والاهتمامات الفنية والأدبية التي تستطيع مخاطبة القارئ المتوسط أو القارئ الذي لا يتعامل مع المجال الإبداعي تعاملا مباشرا في محاولة شدّ ذوقه واستثارة حسّه لتصبح التغذية الفنية وجبة خفيفة في استهلاكه العادي. ومن خلال الأعداد القليلة التي صدرت منها استطاعت هذه النشرة أن تتميز بنكهتها الخاصة وأن تغني المشهد الإعلامي والفني لبعض الوقت.. وذلك في وقت كانت فيه «السوق تزدحم بنثار من الأوراق الرثة والمطبوعات التهريجية والتدجينية.» وللأسف مرة أخرى.. فلم يكتب لهذه المحاولة أن تستمر لأسباب عديدة منها المصاعب المادية وخاصة احتدام الخلاف الإديولوجي بين رئيس اتحاد الكتاب الاتحادي المعارض ورئيس جمعية التشكيليين الفنان محمد المليحي الذي كان قد التحق صحبة صديقه المصور محمد بنعيسى، وزير الثقافة لاحقا، بالتجمع الوطني للأحرار الذي كان الاتحاديون في تلك الحقبة يعتبرونه حزبا إداريا..
ومعلوم على الصعيد السياسي أن الاتحاد قد بقي طوال ولاية برادة قلعة صامدة في وجه السياسة الحكومية القائمة بمعارضته لبرامجها الفولكورية والمناسباتية، ومقاطعته لأجهزتها الإعلامية من تليفزيون وإذاعة، وعدم استجابته للدعوات الرسمية وحضور احتفالات الأعياد وغيرها من مظاهر الوطنية المصطنعة.. وقد أجهز هذا الموقف على العديد من المبادرات التي كانت تتجه إلى الاستفادة من المال العام باعتباره حقا لجميع المواطنين.. وهو الموقف الذي سيتلطّف تدريجيا وبصعوبة باهظة حقا خلال ولاية الأستاذ اليابوري وخلفه محمد الأشعري..
على أن أهم اختراق سيقوده برادة في بداية الثمانينات هو تنظيمه لندوة استثنائية وغير مسبوقة حول موضوع الثقافة الشعبية الذي كانت الأطراف الاستقلالية بسبب من إديولوجيتها العروبية المفرطة تعتبره من المناطق المؤجلة بل المقصية تقريبا في أنشطة الاتحاد. ولا بد من التذكير بأن السياق الذي اندرج فيه إقرار هذه الندوة كان يحيل على صحوة العلوم الأنتروبولوجية والإثنولوجية في البلاد الغربية.. خاصة جارتنا فرنسا.. التي قادها خلال الستينات علماء أفذاذ أمثال ليفي ستراوس وجورج دوميزيل ورولان بارت.. وقد كان لهؤلاء تلامذتهم في المغرب كعبد الكبير الخطيبي وعبد الحي الدويري ومومن السميحي..
وكان اختيار هذا الموضوع بالذات بمثابة إعلان للنوايا الحسنة تجاه الثقافة الشعبية والقطع النهائي مع ثقافة الإقصاء والاستئصال التي عمّرت طويلا في مجتمعنا مستفيدة من عمى الألوان لدى الأنتلجنسيا الوطنية والسكوت المأجور للمثقف المغربي الذي ما إن غادر حاضنته الطبقية حتى سارع إلى التنكر إلى أنماط التعبير الفطرية التي نشأ تحت ظلالها بل وشنّ عليها حملة شعواء كما فعل مفكر إديوليجاني معروف..
وهكذا سيكون هاجس التعاطي مع تطور العلوم الإنسانية من جهة والرغبة المشبوبة في تكريس الوعي الطبقي من جهة أخرى هو السبيل إلى الصدع بجواب ثقافي وتاريخي سيتمّ إعلانه على الملأ وعلى نحو عملي بخصوص هذا المنحدر الشائك الذي كانت الثقافة الشعبية المغربية ترزح فيه خلال ربع قرن ويزيد من الاستقلال، فجاءت هذه الندوة الكبرى، ثم عدد آفاق الذي ضمّ أعمالها، لا تكتفي بالاعتراف فقط بوجودها وإثبات شرعيتها بل لتدشين لحظة وعي جديدة قوامها الالتزام بدعمها وتحصين حدودها لتواصل الإنتاج وإعادة الإنتاج في عالم لم يعد مقبولا فيه تكميم أفواه الشعوب وفرض الوصاية على ذاكرتها.
وسواء تعلق الأمر بالمسألة الأمازيغية التي أتيح لها ربما لأول مرة أن تخرج للعلن وتطرح إشكالاتها تحت ضوء النهار المغربي، أو بفسح مكان مستحق لثقافة الطوائف وطقوس الجذبة المنغرسة في الوجدان الشعبي، أو بمناولة القضايا النظرية والأدوات المنهجية الضرورية لمقاربة هذا القطاع الحيوي من وجداننا.. فإن عقد هذه الندوة كان محطة مفصلية في الفكر المغربي الحديث أرسى اتحاد كتاب المغرب ركائزها وأطلق إشعاعها بحيث لم يعد واردا لجهة أو لأحد أن يقرر نيابة عن الحشود الصامتة أو يأخذ الكلمة باسمها.
وليس من خاتمة أفضل لهذه المقالة من أن ندع الكلمة للأستاذ نفسه لكي يوجز لنا تجربته في إدارة المكتب المركزي للاتحاد خلال السبع سنوات غير العجاف بين 1976و1983.. والتي لخّصها في ثلاثة مكاسب أساسية هي على التوالي:
– مدّ الجسور بين اتحاد كتاب المغرب وبين شباب الجامعات المغربية..
-التعريف بالإنتاج الأدبي والفكري وتنظيم لقاءات لمتابعة تحولات الثقافة المغربية..
-إسماع صوت الأدب المغربي المكتوب بالعربية في الساحة العربية وعقد ندوات نقدية وحوارية لتبادل الخبرات مع الأشقاء العرب وتوطيد الصداقة معهم..