لا تكفي قراءة واحدة لرواية «حوض الشهوات»، لتقطف متعتك مباشرة، ربما لأن اليحيائي يُراهن كثيرا على اجتهاد القارئ، ليصل إلى كبد المغزى، فهنالك مشقة، وقد تصل أو لا تصل أو تصل إلى تأويلك الخاص بك، في منطقة يتنامى فيها الخط الواقعي إلى جوار الخط الأسطوري، أو يشتبكا ببعضهما البعض، فلا تقدر على تمييز أحدهما من الآخر.
تُقدم رواية «حوض الشهوات» لكاتبها محمد اليحيائي، والصادرة عن دار الانتشار، سيناريوهات ومقترحات مختلفة للتاريخ، انطلاقا من هذا السؤال: «ماذا لو؟» ماذا لو تغير سياق التاريخ، ماذا لو تغيرت حسبة السياسة، ماذا لو انتصر الخاسر، وخسر المنتصر؟
فهذه الرواية تحكي قصة الناس الذين توقفت حياتُهم وأحلامُهم على لعبة السياسة والتاريخ، إذ لا يمكن للفرد أن يكون بمنأى عنهما. لذا علينا أن لا نتعجب من الإصرار على ضرورة وجود المزيد من النسخ من صورة «الجد» الذي ناضل إلى جوار الإمام ضد الوهابية، فهو إصرار على ضرورة وجود نسخ من صور الماضي، هو الإصرار على استنساخ الماضي على اعتبار أننا شعوب لا يمكنها أن تنبت عن ماضيها، بل إنّها تعتاش عليه وتقتات منه بذور حاضرها ومستقبلها. فعلى الرغم من انتصار حلف القبائل على الوهابية، إلا أنّ دم الجد كان ضريبة ضرورية، لذلك ظلت ابنته «زعيمة» تحلم بابنها «مبارك بن حمدان»، لكي يُعيد لها زهو الحياة. ولذا فقد سمّته «مبارك» على اسم جده لأمه.
ينطلق أيضا مبارك بن حمدان من ذات السؤال حول أمه زعيمة: «ماذا لو قُدر لها أن تولد في زمن غير زمنها، ربما لكانت ملكة تسوس ناسا وبلادا» ص56
كما تطرح الأم زعيمة هذا السؤال: «ماذا لو.. حارب الانجليز الوهابية وكفوا القبائل من شرهم؟»، «ماذا لو اقترب الثوار وعبروا حاجز دارسيت، ماذا كان سيحدث للسلطان؟ هل سيحدث له كما حدث للبرتغاليين يوم حاصر الوطنيون اليعاربة مطرح، فجاع البرتغاليون في قلعتها، وولوا الأدبار؟. هكذا يتنامى سؤال: «ماذا لو؟»، لتتسع رقعة افتراضات الرواية.
الشخصية التي افتتحت الرواية هي نفسها تلك التي اختتمت العمل. شخصية إشكالية تعيش انشطارها الخاص وتجمع المتضادات، المتضادات الزمنية بين حاضرها وماضيها، المتضادات بين واقعها وحالتها الحُلمية. فهي تتأمل شارع الحب عن بعد، كما أن طفولتها تتماس مع العيش داخل حصن منيع. ندخل إلى متن الرواية بارتباك كبير. من هو هذا الذي يتكلم؟ في أي زمن عاش يا ترى؟ ثم نبدأ بالتقاط الإشارات التي يتركها اليحيائي هنا وهناك.. من قبيل:
«الذين في الخارج، الذين لا يحبوننا والذين علينا أن لا نحبهم ولا نثق بهم.. الآخرون ضعفاء ويجب أن يبقوا على ضعف وحاجة وجهل، الدرس الأبوي البليغ» ص 34، «لم أعرف بيوت الآخرين إلا عندما كبرتُ وسمح لي بمغادرة البيت إلى خارج حدوده وحدود المزرعة. بيوت الناس لا تشبه بيوتنا..صغيرة متجاورة متراصة، كل بيت لصق الآخر وذات لون واحد، هو الرمادي». يتبدى لنا أن هذه الشخصية من علية القوم، ولكن من عساها تكون؟؟ «بيتنا يُسمى الحصن بيت يضج بالبشر. رجال يحيطون بأبي. في القطاع المحرم على الرجال الغرباء تحجل عشرون خادمة». . ص36
كان هذا الرجل والذي من علية القوم، في الخامسة من عمره عندما نشبت حرب ما (لا تُسمى)، ملأ البارود المكان، تحدث عن «الشوازن»، والخراطيش الحمراء، «ذهب غالبية من نحب من نعرف ومن لا نعرف» ص38.
هكذا يُدخلنا اليحيائي في الحالة الحُلمية، ويبدأ الاشتغال على المترادفات وعلى الضدية والتكرار في آن، «فكر.. فكر مليا .. فكر عميقا .. فكر كما لم يفكر في حالته»ص14 ، » كم مضى، كم تبقى، كثير قليل، قليل كثير، لا فرق»ص9. «فقدتُ المتعة المتعة، ملل قاتل تمكن الملل مني، لا إثارة ولا من يستثير ولا من يستثار»ص18
ولعلنا نتساءل: لماذا غامر اليحيائي بتلك البداية التي يشوبها الغموض والرمزية العالية؟ عبر حديث مُطول بين الأنا والأنت، أو الأنا والأنا الأخرى، وتلك الرؤى الرومانسية المُفرطة في الحديث عن «حلم إعادة بناء العالم» ص24، أو الحديث عن نكران الذات من أجل الآخر. هل كان لدى الكاتب دواعي مُلحة لأن يُقدم وجعه عبر الكلمات: «استرجع سُكر الهزيمة ومرارة الهزيمة»، هل كان ثمة ما يجعله بحاجة إلى كل هذا التمهيد، «من أنا سوى رجل يعيش في مراياه بعيدا عن التراب والهواء والناس، ويوم خرجتُ من مراياي اصطدمتُ بالهواء» ص34 ، هل كان بحاجة إلى كل هذه الألاعيب اللغوية: «أراني ولا أراني. أعرفني ولا أعرفني، أتفقدني فأفقدُ الرغبة فيّ»، هل كان لديه مبرراته الفنية، التي تصبُّ في جسد اشتغاله الروائي؟
لنقل السؤال بطريقة أخرى: ماذا لو أنّ اليحيائي تخلى عن كل ما سبق الفصل الأول من روايته، لو تخلى عن أول 38 صفحة من هذه الرواية، ما الذي كان سيحدث؟ ألا يمكن أن يقرأها القارئ من دون أن يشعر بشيء ناقص؟ أم أنّ اليحيائي سيتملص بذكاء من هذه المقدمة على اعتبار أنها لا تخص روايته هو، وإنما الرواية التي تكتبها ليلى سليمان؟.. أعني الرواية الأخرى، داخل الرواية.
تداخل الساردين
يتوقف الحديث عن هذا الرجل (الغامض) قليلا، ليذهب السرد بنا إلى «مبارك» الذي انفجرت السماء بعد إمساك طويل فور مجيئه إلى الحياة في سنة سميت بسنة «الغرقة». ولعلنا نتساءل مجددا، هل مبارك حمدان هو الرجل الذي كان يتأمل شارع الحب من على درج بيته، هل هو الرجل الذي تربى في الحصن، فالراوي (وعبر هذه النقلة السريعة)، يُوقعنا في التباس كبير. ولكن ربما الجملة التي قالها الراوي في بداية الفصل الأول تُخرجنا قليلا من هذا الاضطراب عندما قال: «عليّ أن أوضح أنّ ما سأحكيه ليس حكايتي ولا حكايتها ولا حكايته ولا حكايتهم ولا حكايتهن، وإنما حكايتنا»ص41 .
أظن أنّ هذه الجملة وحدها القادرة على تبرير فوضى الشخصيات المتداخلة، والتي تسرق أدوار بعضها البعض في فرص الحكي. إنّه التناوب والتعاقب المحموم على مهمة دور السارد، وبسرعة كبيرة وبلا فواصل ولا مقدمات، وكأن هذه الرواية كُتبت بحضور الجميع، فكل فرد ينتزع حصته من الحكاية ليقول التفاصيل التي تخصه، وعلى القارئ أن يبقى مُنتبها، ليتمكن من تمييز صوت السارد الذي يستلم دفة الحديث، وإلا فاته الكثير جدا. وأظن أنّ هذا التجريب في حد ذاته جديد على الرواية العُمانية، فقد ذهبت الكثير من الروايات إلى تقنية تعدد الساردين، أمّا تداخل السرد فهو لا يزال طازجا.
ولعلنا نتذكر هاهنا الأسلوب الذي يستخدمه «سراماجو»، فهو أيضا يشتغل على طرح سؤال: «ماذا لو؟»، كما هو الحال في رواية «العمى»، ماذا لو استيقظت مدينة على إصابة أهلها بالعمى. وأيضا في طريقته في إدارة البطولة الجماعية للرواية من جهة أخرى، وثالثا في الحوار ذهابا وإيابا، حيث يختفي السارد وراء الجملة، فيجعل الرواية كلاً متكاملاً، وتشعر أن كل الأبطال مشتركون في وضع الجملة في مكانها وليس قائلها وحسب.
وربما نتساءل حول الدواعي الفنية التي أخذت اليحيائي إلى هذا الشكل من التجريب، وماذا أضاف للرواية؟ لأنه بدا منسابا أحيانا وصعبا عصيا في أحايين أخرى.
«قبل سنة الغرقة كانت الناس تشربُ الماءُ بالتقسيط إذا جفت الحلوق، «خرجتُ من هنا فزخت السماء من هنا»، أسمتني أمي مبارك، لكن لا علاقة لذلك لا بالمطر، ولا بقدميّ المباركتين الخضراوين، وإنما بنذر لها» ص44، على اسم أبيها سمتني. لكن «مبارك» لم يأخذ من أبيها إلا عينيه وأنفه المعقوف كمنقار بازي والجبهة العريضة أما داخله فهو هش. الأب: هو ابن مزارع ونخيل وأشجار، ابن الوادي والدغل ابن الطير، «يخجل من ظله»ص46. لا أحد يشبه أبي «أبي أجمل مني ومن سلطان قنوع وطيب مثل غيمة باردة مثل المرهم». الأم: اسمها زعيمة ابنة الحياة، وزحمة الناس. «لا تحب أبي، لكنها أحبت ولديها» سلطان ومبارك ص50، تقول لابنها: «أنا بنت زعيم قبيلة وتاجر ورجل حرب. أبوك مجرد مزارع بلا طموح» 50.
ومجددا يتركُ اليحيائي الحديث عن شخصية مبارك حمدان، لينشغل ويشغلنا بتاريخ شخصية الأم زعيمة، وهو يمارس هذا الفعل أكثر من مرّة، فقد بدأ الحديث عن الأخت «زوان» التي تكبر رجل الحصن بفارق 15 عاما، والذي تعوّد أن يُعاملها كأم، فظننا أنّنا على موعد مع حكاية تخصها، ولكن شخصية زوان تبدأ وتضمر في مكانها كما هو حال شخصيات كثيرة تنمو وتضمر على عجل، من دون أن تدخل في تقاطعات العمل السردي لترفع من وتيرة تصاعده. يفتح اليحيائي شهيتتنا بسرد شهي عن الأم زعيمة، فتخطفنا اللغة الرشيقة، وقوام القصة الممشوق، كانت الوسطى بين بنتين. كانت الأقرب لأبيها، «كسر جدي عرفا لم يسبقه إليه أحد، أخذ ابنته إلى الدكان وأجلسها مكانه». الراوي هنا هو الابن ثم ما يلبث أن يتحول إلى، «كبرتُ في دكان أبي وسط الرجال، وكنتُ أصد النظرات بالنظرات» ص51 ، وهنا تختطف الأم مهمة الراوي من ابنها كما نلاحظ. تعلمت زعيمة في ليوان البيت على يد المعلمة فاطمة بنت سعيد. سمح لها والدها بالذهاب للسوق ولم يسمح لها بنزول البحر..حتى كأن البحر ذكر» ص 69
وكسر العُرف مرة أخرى عندما زوج الصغيرة قبل الكبيرة، وبعد موت الأب قبلت زعيمة بالخطيب الذي جاء من دون تردد أو سؤال. كان مزارعا فقيرا لا عزوة ولا قبيلة ولا مال، بالرغم من أن الأب تشدد في تزويجها: «لا تتزوج زعيمة إلا زعيم» 52
مات والدها قبل ولادة مبارك حمدان بسنوات طويلة، قُتل في نزاع مسلح بين حلف القبائل والوهابية (كما ذكرنا سابقا).
ترتبُ الأم زعيمة السيناريو لأكثر من مرّة في رأسها.. ماذا لو نجا والدها من الوهابية. ماذا لو انتصر الإمام على الحاكم، فيما يقف الانجليز على الحياد في حرب «الجبل»، ويحكم الإمام البلاد بعد توحيدها تحت راية دولة الإمامة. «يصبح أبي أحد رجال الإمام المقربين» ص53. كانت بالتأكيد ستتزوج برجل غير هذا الزوج. لكن السيناريو تغير، لأنّ والدها قُتل، والانجليز وقفوا مع الحاكم، الذي انتصر في الحرب على الجبل، والإمام هُزم، فهزمت الأم في أحلامها. فضمر حضورها وضمرت ظلالها في العمل الروائي.
ترى.. هل تقصد اليحيائي هذا الضمور، على الرغم من جمال حكاية هذه الزعيمة التي تنتصر لأفكارها وقوة شخصيتها مقابل ضعف الزوج؟ أم أنّ اختفاء الشخصية وضمورها.. هو انعكاس للهزيمة التي لحقت بروحها.. هل انتهت حكايتها هاهنا فعلا؟ زعيمة هي رمز كبير، ليست مجرد امرأة فقد حلمت بأن تقترن برجل من الثوار، وكما مات الثوار ماتت زعيمة. لكن الغريب هو نجد سيناريو الضمور مستمرا، ويطال حتى أبطال العمل.
لـ مبارك أخ يكبره اسمه سلطان: هرب من البيت وسجل في الجيش، «يرحلونهم في شاحنات إلى معسكر الحزم»، لكن سلطان لم يكبر في الجيش. كبر خارجه. تم إعفاؤه من الخدمة ولا يُفسر لنا السارد لماذا تمّ الإعفاء. الوالي قال: «كان يذود عن الدين والوطن ضد الكفار في الجنوب»ص46. ترك الجيش بعد 3 سنوات. يقول أنّه كجده والأكثر شبها به. الجد حمى البلاد من الوهابية، وسلطان حماها من الشيوعية. يصفه الراوي: «عاقد الحاجبين، يتطاير الشرر من عينيه، صوته كالرعد يرج المكان » ص49
يبدو واضحا أن اليحيائي كان ينوي فرش الأرضية التاريخية السياسية، أكثر من انشغاله ببث الروح في هذه الكائنات، مُنشغلا برسم ملامح المرحلة أكثر من انشغاله بتحريك هذه الكائنات في مسارات مستمرة، أو ربما لا يزال اليحيائي متشبثا بروح «القصة القصيرة»، تلك الومضات المكثفة والحادة والمُغامرة، والتي تتمتع بنفسها القصير، ثم ما تلبث أن تلفظ أنفاسها في الأشواط الطويلة.
عن روز جلال:
روز جلال: «صغيرة تشبهنا غير أنّ عينيها شهلاوان واسعتان وبشرتها أكثر بياضا تميل إلى الحمرة» ص60» لا تشبه لا الجواري ولا الخادمات.. دخلت روز مثل ريح ستنفض البيت، وتعيد ترتيب كل شيء فيه» 61ص. يتناوب على سرد قصة روز كل من مبارك وزعيمة التي أحبت روز وتعلقت بها. لكن لوح العلاقة الشفيف انكسر يوم مات والد زعيمة. زعيمة عاشت في رعاية الخادمات أكثر من رعاية أمها.
الجد مبارك بن حمدان كان مع الإمام ضد الحاكم، والسلاح يُخزن في بيته. «البنادق المُعلقة على الجدران هي تمويه.. زينة.. الأسلحة في مكان آخر، مجلسه يمتلئ برجال يجيئون من ولايات ومناطق بعيدة» ص63
خزينة هي أخت زعيمة وهي الواسعة المعرفة بشأن والدها التي تعرف كل شيء عن تحركات والدها، وعن اجتماعات الحلف «مرة في الحزم، ومرة في العوابي ومرة في البركة ومرة في بركاء» ص75، لم يكن لها صوت واضح، كان هنالك دائما من يتحدث بالنيابة عنها. فعلى الرغم من حضورها إلا أنها مُكممة، كما أن الحقيقة التاريخية مُكممة، ومسكوت عنها. «خزينة تقول إن القضية أكبر من فهمنا وتسكت».
«كانت كريمة بنت ثماني، وكنتُ (الراوي هنا زعيمة) بنت اثني عشر عاما، وكانت خزينة بنت أربعة عشر عاما. » أمي لا تتذكر أو لا تريد أن تتذكر أمها.. (مجددا نقلة سريعة بين الساردة الأم، والسارد الابن المُعقب). بدون فواصل بدون علامات تنصيص. أخرج الجد الجدة من البيت، وأتى بهدية السلطان. «خرجت جدتك خولة من هنا، ودخلت روز من هنا».
روز جلال: دخلت وعمرها من عمر خزينة 14 عاما. صوتها عميق وأخضر، » كبرت روز بسرعة، بقينا بنات وهي صارت غير، تتكلم غير وتمشي غير وتلبس غير» 67ص. يتساءل الراوي: «هل سحرته وحفرت حوضا لمائه، فانساب فيها وإليها حرا خفيفا» ص 68
وأيضا تنطفئ روز هاهنا، ثم تعاود الظهور لنا في رواية ليلى سليمان ولكن بطريقة أخرى.
دلالات حوض الماء:
العنوان يحيل إلى شيء، ويذهب إلى شيء آخر تماما. فمجرد التصاق كلمة «شهوة» بكلمة «حوض»، تفتح خيالاتنا على عوالم كثيرة، ربما ليس من بينها شهوة الدم والموت التي تنمو إلى جوار شهوة المتعة. كل الشخصيات تقريبا لها علاقة ما بالماء، وإن لم يكن واقعيا فيمكن أن يكون ذلك بصورة حُلمية. ولد مبارك حمدان في سنة «الغرفة»، وهو عام لا يُمكننا تحديده بدقة، لأن الذاكرة الشعبية تحتفظ بمناسبات كثيرة ترتبط بالقحط الذي يليه انفجار مائي. في الحلم كان ثمة ماء. في الولادة ماء أيضا.«في طفولتنا كنا نحلم كل ليلة بأننا نطفو في حوض محتشد بالطيور، كل ليلة كنتُ أشرف على الغرق، فأتشبث بساق طائر وأحيانا بعنق طائر وأنجو. الماء يصعد موجات موجات وكلما تشبثت بطائر أغرقته معي حتى امتلأ الحوض بأجساد الطيور، وغطى الريش سطحه». ص30
والعجيب أنّ هذا الحلم الموجود في رواية اليحيائي يأتي مقاربا لمشهد آخر في رواية ليلى سليمان، الفارق أن المشهد الثاني أكثر رعبا: «عشرون جارية يسبحن عاريات مثل الفقمات في الحوض تحت شرفة الأمير الوقاص، فيما كان فخامته يتسلى من على كرسيه بصيد الفقمات برصاص مسدسه الماغنون ذي الماسورة الذهب والمقبض العاج دافعا الفقمات إلى السباحة في فوضى شهوة الحياة الهاربة في ماء الحوض الذي اختلط بدم جوار نخزتهن صنارات مسدس الأمير المفدى وبعضها في مقتل» ص 248
وتقول زعيمة، «الماء حرام علينا» ص67، البحر جوار بيتها، ولكنها لا تستطيع الاقتراب منه، لأنه ليس لبنات علية القوم. لذا فإن الجد مبارك بنى حوضا لبناته: «لا يوجد في البلاد كلها سوى حوضين، هذا والذي في قصر الحاكم» ص57، وقد جاء بالفكرة من جواذر بسبب تجارته هناك. يقول مبارك حمدان: «بلّل الحوض البيت، ملأه بهجة، كانت أمي وخالتاي يحتجنها». في الحلم رأى سالم مطر حوضا والورّاد يقترب ليشرب فلا يصل. رأى الباحة وقد غمرتها المياه. شاهد المياه وقد تلونت بالأحمر والأخضر.
حتى أنّ الأمير الباهي كان يغرق في مياهه الصفراء التي غالبا لا تنجو من ممسحة روز القماشية. والأمير النهروان مات مع زوجته التاسعة أميرة القلوب على اليخت الأميري في عاصفة هوجاء.
لذا فغالبا «الماء» ليس سببا كافيا للبهجة هاهنا، وإنما هو غضب الطبيعة وعبث البشر، وغالبا ما يعقبه التغيير المنتظر أو ذاك الذي نخاف من وقوعه. فما أن يندلق ماء الرحم حتى تأتي الآلام البغيضة أو الولادة العاجلة، وما أن تندلق السماء بعد انقطاع حتى يأتي رغد العيش أو الدمار.. فالماء «ثورة» جامحة ونتائجها غالبا غير مضمونة.
حوض الشخصيات:
تمتاز لغة اليحيائي منذ الفصل الأول بالخفة والرشاقة، وتلك القدرة على قول الكثير من التاريخ الذي يتقاطع فيه الواقعي والأسطوري من دون التورط بالخطابية أو الفجاجة أو المباشرة، حتى وهو يخوض تفاصيل ساخنة عن حلف القبائل، والإمامة، والشيوعية في الجنوب، وقصص الأمراء، لم تفقد اللغة انسجامها، ومتانتها وتدفقها الحيوي. كما أنه يشتغل على لعبة «الفلاش باك» بصورة مستمرة، فيذهب إلى ماضي الشخصيات ومن ثم إلى مستقبلها ويعود إلى حاضرها، بصورة لا تخلو من براعة وإتقان، ودقة في ضبط إيقاع الشخصيات رغم آلة الزمن التي تدخلها وتبعثر كيانها.
ولكن إذا كان ينبغي على القاري العُماني أن يتحلى بكثير من المعرفة التاريخية والسياسية ليفك رموز وطلاسم هذه الرواية، فماذا ينبغي على القارئ العربي أن يفهم من كل هذه الإشارات، أم أنّ اليحيائي تقصد ترك التأويل حرّا ومتاحا لمستويات التلقي المختلفة، لا نحو الإسقاط الحقيقي للتاريخ.
ما نلبثُ في الفصل الثالث أن نتعثر بـ نقاش سياسي تحليلي. أخرجنا من لذة السرد المُنساب، إلى أقفاص التحليل والرأي والرأي الآخر، وكأننا في أحد برامج السياسة.. حيث يختصر السارد نظرته إلى البلد: «البلاد محكومة بقدر لا فكاك منه. تصعد وتصعد وقبل بلوغ القمة يحصل ما يجعلها تعود إلى أول السفح» ص164. وهنالك أسئلة أخرى عن وعي الشعب غير المستعد بعد للمجابهة : «كم تظاهرة خرجت تطالب بحكومة منتخبة وقضاء مستقل وصحافة حرة» ص166 ، «الناس مشغولون بلقمة العيش أكثر وبغلاء الأسعار».
تختلف اللغة جذريا، ما أن يستلم الأصدقاء، أصدقاء الدراسة في القاهرة، سالم مطر وليلى سليمان دفة الحديث.. استطيع القول.. لقد توقف تصاعد النص هاهنا تماما، لندخل لعبة المونولوج الداخلي، الذي تتشاطره ليلى ومطر. حتى أننا في هذه اللحظة نكاد نشعر أنّ اليحيائي يبدو كمن يُودع شخصياته في حوض كبير وضخم، ويستعير الشخصية الملائمة للحدث أو المرحلة التاريخية التي يود أن يفرشها. وهنا تتحول الشخصيات إلى أدوات أو دُمى تخدم برمجة جاهزة في ذهن الكاتب، وهذا الشعور قد لا يتسرب إلينا ونحن نقرأ قصص زعيمة وأولادها وحكاياتهم، ولا قصة روز، ولكن عندما نصل إلى المرحلة الانهزامية برفقة سالم مطر وليلى سليمان ينتابنا هذا الشعور بقوة، ليعبر عن مرحلة النكوص بمقولات جاهزة ومُعلبة ومُستهلكة.
قصة ليلى سليمان وسالم مطر، تبدو وكأنها قصة رومانسية منتزعة من أحد الأفلام بالأبيض والأسود. حتى في لحظات مرض ليلى لم تستطع أن تستوحذ على تعاطفنا، ربما لأنها قصة مُكررة، وكثيرا ما طُرقت، ربما لأنها ليست أصيلة في متن النص الروائي. فقط كان أداة سهلة للتعبير عن جيل نفذ بجلده عندما ماتت الأحلام، فبقيت في غربة أبدية منذ أن ضرب الجبل الأخضر. كل شيء هنا مُنهزم، غاطس في لوثة الماضي وكآبة البكاء عليه، والمستقبل لا يُنبئ إلا عن موت مُحقق بالسرطان. تكبر قصص وتنطفئ من دون أن تضيف شيئا كثيرا إلى المتن الروائي، من مثل قصة فؤاد سليم الذي عاد إلى زنجبار، محمد جمعة الإعلامي الذي سافر لأمريكا، عبدالله حميد المهندس الزراعي في تايلند منذ سنوات. عبد اللطيف سلمان، فاطمة يوسف.. وغيرهم؟ ولا أدري إن كانت الشخصيات السابقة حقيقية أم تمّ تغيير أسمائها، ولكني متأكدة أن حكم عايل شخصية حقيقية. «يلي أنت مسافر إلى عُمان الحبيبة»، وهذه أغنية له. هنالك أيضا الفنان التشكيلي موسى خان، الذي تشمع قلبه ويبدو مخترعا أيضا.. أيضا القصة التي تكتب عن الملك دستم، وصاحبها الذي استقال من عمله، ليعمل في شركة الدواجن؟ الأمر الذي سيذكرنا لاحقا بفعل «القوقأة» ومعجزات الأمير الباهي.. ولكنها قصة عابرة، ليس لها جذر تنمو عليه.
لا أدري إن كان اليحيائي بحاجة لهذا الذكر السريع والعابر ليدلل على الأصدقاء الذين رفعوا الرايات البيضاء وهاجروا؟ ليتسع الحوض بالشخصيات التي لا تتماهى في متن النص ولا تذوب فيه، وإنما تبقى خارجه تلعب دور المتفرج!
البلاد تفقد ذاكرتها:
في الحوار الذي دار بين سالم مطر وليلى سليمان عن الكتابة. تحديدا عن رواية «حوض الشهوات» التي تكتبها ليلى سليمان لا اليحيائي تقول: «حكايات أقرب إلى الأساطير.. الكتابة احتيال، لكني أخاف أن تكون حيلتي مكشوفة. حكايات كثيرة يجب أن تكتب، البلاد تفقد ذاكرتها». السارد العليم يختبئ وراء ليلى، يتكلم عبرها، «لا أريد أن أضع على الصفحة الأولى العبارة التي لا تعني إلا ضدها «شخصيات هذه القصة من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين شخصيات الواقع هو محض صدفة». ألهذا السبب وضع اليحيائي هذا المقطع في نهاية روايته بدلا من بدايتها؟
هنالك ما يدلل على هدف هذه الكتابة، «البلاد تفقد ذاكرتها»، مما يعني أنّ الرواية في جزء كبير منها تقوم الآن بمهمة التذكير.
في الفصل الرابع رفيق طفولة الجبل الأخضر يحكي لـ سالم مطر عمّا حدث وكيف حدث وكيف رممت الجراح .الصديق الذي يضاده ويعاكسه في التفكير. بقي وحصل على معونات من الجيش. عيديات قروض بدون فوائد لإعادة البناء.. ماذا يريد أكثر، بينما هذا الفار بأحلامه لا يزال متشظيا ومتعبا وغير قادر على التكيف. منذ الحرب على الجبل الأخضر التي امتدت بين 57 إلى 59 م. ليلى سليمان وسالم مطر، الرابط بينهما الجبل الأخضر، ورأس الخيمة. وقت ضرب الجبل كان عُمر ليلى وسالم 7 سنوات، مما يعني لنا أنهما من مواليد الخمسينيات.
تجمعت قبائل الجبل حول شجرة الزام العتيقة. دُك بيت الإمام دكا وتجنبوا المسجد. (بعد عشرين عاما سيظهر من يشيع أن خروج الإمام وعائلته تمّ بموجب صفقة بينه وبين السلطان. وبعد عشرين عاما تالية سيأتي من يكذب الإشاعة)ص194
السؤال الأكثر سخونة: هل تنتصر الرواية لحراك الإمامة، هل هي محاولة لبث الحياة فيها ونبشها من سكونها، أم أنّها محاولة لقول التاريخ المسكوت عنه بجرأة وفي سياق روائي، سيجد طريقه إلى القراء بصورة أسرع، مما قد تفعل كتب التاريخ والمؤرخين؟ فليس أدل على ذلك من اختار سالم مطر أن يعيش في «جبروه»، لأنها المكان الذي سقط فيه رأس الإمام عزان بن قيس غدرا عام 1871م. وهذه الإشارة ليست عابرة فالإمام عزان بن قيس، تم انتخابه من قبل أهل الحل والعقد من أجل إعادة حكم الشورى والبعد عن تدخل الإنجليز في الشؤون العمانية وتوحيد عُمان وزنجبار بعدما فرضت بريطانيا التقسيم، وقد استشهد في مطرح. كل الشخصيات لها جذر متين يربطها قبليا وتاريخيا بحركة الإمامة.
رواية ليلى سليمان:
سننتقل لاحقا إلى رواية ليلى سليمان، الغريب أن تفكر ليلى بكتابة قصة بعنوان «حوض الشهوات»، والغريب أن تنشغل بشخصية «روز» وحكايتها في قصور الأمراء، وترغب في الكتابة عنها. تمرض ليلى لثلاث سنوات ثم تموت، لتبقى روايتها ناقصة.
ترى ماذا أضاف فصل رواية ليلى سليمان في سياق رواية اليحيائي؟ لماذا لروايتيهما نفس العنوان؟ ولكل واحد منهما صفحة تشير إلى سنة ودار النشر؟
نكاد نصدق بالفعل أنها رواية أخرى أنه صوت آخر، ونخال أن اليحيائي كتبها في زمن آخر أيضا، اللغة مختلفة، العوالم مختلفة. يبقى الخيط الرابط هو خيط السلاطين الذين تحولوا إلى أمراء. وشخصية «روز» التي تكاد أن تنتزع بطولة العملين معا. الفارق أيضا أن روز في المرة الأولى ظهرت مع عائلة زعيمة، ظهرت في سياق الإمامة، وهنا تظهر مع الأمراء الذين يملكون موقفا من الإمامة.
يُكتب هذا الجزء من رواية ليلى بلغة عذبة مُنسابة بلا تكرار لفظي، حتى أن بعض التكرار في مشاهد «القوقأة»، وتكرار المياه الصفراء وجري روز خلفه بالممسحة القماشية، أضاف بعدا جماليا رمزيا مهما للمتن.
«ظهر الميت على النحو الذي لم يظهر عليه طوال السنوات الخمس الماضية»، نعود مجددا للتساؤل.. من هو هذا الميت الذي سيعود في قصة أسطورية. إنّه الملك الباهي الذي يتلبس بحالة الديك، ومعجزته هي المعرفة بلغة الدجاج. رغم أنه فقد السيطرة على رغبتيّ التبول والمشي، فيظهر على الدوام متبوعا بخيط مياهه الصفراء المياه التي تطاردها «روز» بالممسحة القماشية. لكن أيضا تستخدم ليلى سليمان نفس أسلوب اليحيائي فيما يسمى بتعدد الساردين حيث يقبض كل واحد من الشخصيات نصيبه من الحكي. كما أن الزمن يتقدم ويقفز إلى الوراء بسرعة كبيرة ومتقنة.
«لم يعد لديه ما يفعله بعد أن استولى اثنا عشر جنرالا على مقدرات البلاد وقسموها فيما بينهم إلى اثنتي عشرة ضيعة يديرونها على هوى النزوات. البلاد تحولت إلى مزارع مُغلقة» ص 220، 221.هنا أيضا لا تُسمى ليلى البلاد. ولكن تذكر «السكيكيرة». وفي ضربة صارخة تقول: «حتى أن فردا واحدا لا يمكنه التوافق مع نفسه بالقدر الذي توافق فيه الاثنى عشر، وكانوا مضرب المثل في عدالة النهب المنظم»، فمن هم هؤلاء الاثنا عشر الذين اتفقوا على النهب المنظم ؟ ص269
الناس في السكيكيرة» تمنوا من سويداء الفؤاد أن تلحق دجاجاتهم بعيد القوقأة وتحظى بشرف مخاطبة أمير البلاد والتحدث إليه» .
القصر تحول إلى قن دجاج ضخم تهز أرجاءه قوقأة الدجاجات تمضي بين أجنحة وغرف القصر حرّة بين أقدام الحاشية والحرس والخدم وتبيض حيثما اتفق.. روز طردت الدجاجات حين لاحظت أن سموه لم يعد يُقوقئ.. في اليوم الذي عادت الحياة إلى طبيعتها إلى القصر الأميري شاهدت روز سبعة تيوس بيض ملتحية»ص 222، 223
«اعتاد الناس رؤية أمير البلاد بينهم. الوحيدة التي ترى الأمير ولم تصدق معجزات ظهوره المتتالية هي روز وقد واظبت على الصلاة أن يتغمده الله».ص273
هذه الجملة تحيلنا إلى أن ليلى سليمان أعادت إحياء أمير قديم من الأمراء، ولكن رغم كل معجزاته إلا أنّه عاد ضعيفا هشا غارقا في بوله وبلا إمكانيات كافية لاستعادة المجد. فجاء من بعده سيل من الأمراء والقصص.
لكن هل يمكن أن تكون الدجاجات هي الحشد الكبير من الشعب الذي خرج ليُطالب بأحلامه (وقد اختار الدجاج لأنها في المخزون الشعبي العماني والعربي ربما تشير إلى ضعف الحيلة)، وعندما فقد الأمير الباهي القدرة على التفاهم معهم، فقد شرعيته أمام الشعب، فلم يعد يُقوقئ، لذا فضلت روز طرد الشعب من القصر!
لكن ما الذي يغري ليلى سليمان لأن تكتب عن روز ، وروز في روايتها لا تختلف عن صفات روز في رواية مبارك حمدان كثيرا، ولكنها صنعت عوالم جديدة حولها. وهنالك ذكريات جديدة عن سوق العبيد الذي مرت به، وبيعها بالأثمان المضاعفة لجمالها وحصانة عفتها إلى أن وصلت إلى القصر.
يبقى من الملح أن نقول: لماذا الرواية العمانية مشغولة بإعادة إنتاج حمولات التاريخ، والتاريخ السياسي (غالب الأمر) أكثر منه (تاريخ الفرد) حتى لتبدو (في بعض الأحيان) الشخصيات هي أدوات للتاريخ، وليس العكس. هل يحصل ذلك، لأن تاريخنا لم يكتب جيدا ولم يُدرس ولم يكن محط نقاش، وتحوّل جزء كبير منه إلى تابوهات مغلقة؟ لذا فهو شهي ومغرٍ كمادة خام لأعمال روائية؟ لا نجد إجابة كافية على ذلك الآن.
لكن وعبر هذه الرواية، ثقب اليحيائي مياها راكدة في «حوض شهوات الحكي»، عندما قذف حجرا كبيرا، فانطلقت سلسلة من الدوامات لتطفو على السطح وتتعرض أفقيا، ثم ما تلبث أن تسكن وتهدأ.
—————-
هـ . حـــ