حسام الدين محمد
نام محمد، والدي، وهو في الباص.
حاول البعض إخراجه من حلمه الخفيف،
ولأنه أبي وحسب، وليس مسيحاً، لم يعد بعد ثلاثة أيام.
كان هناك عطل إضافيّ في قدرات الركاب على بعث الموتى فلم يتمكنوا من إيقاظه.
نام نومته الهانئة تلك يوم 14 شباط الأبيض فأحببته، مرة لأنه أبي، ومرة لأنه تركني في عيد الحب.
في تلك الحافلة الذاهبة إلى النهاية تحدث معي ليوصيني أن أفعل ما أفعله طيلة حياتي: أن أظل مسافرا.
أتذكر يا أبي، غيبتك الأولى.
أتذكّر، ربما، الجلابية المبطنة بجلد خراف نائمة في حضن جدّي (الذي صار أبي) وهو يعبر بي زقاق الجنّية.
ملفوفا بثغاء متخيّل أهبط الممر الصغير بين الخانكيّة وزقاق الطالع فيتماهى رعب الجنّ الطفيف مع بهموت عسس “الحكومة”.
استطال ظلّك، يا أبي الغائب، واندمج بنوافذ مطليّة بالأزرق لتضليل طائرات إسرائيل.
تطابق ظلّك معك فجأة وغدونا من سكان ثريّا مفتوحة على سكة حديد وبرية قمح وضفادع وسراعيف.
أتذكر يا أبي، غيبتك الأخيرة.
ترفرف روحي فوق أرضين وسماوات صغيرة
يسحب مخرج سينمائي يلبس الأبيض سرّة جنيني وأنا أزحف خارجا من إرث السمكة
أحفن خيط الذاكرة برائحة الأم الفاغمة بالحليب فتطير مثل بالون أبيض
أسمع شهيق العمّات والخالات وقد راودت أرحامهن عشيرة صغيرة
أهوّم فوق كل هذا كالشبح
وأحاول أن أتذكر أين كنت يا أبي:
في طابق البيت الذي يطلّ على مقبرة
أم في مشفى “المجتهد” قرب منزل ميشيل عفلق؟
في بيت جدّي القادم من عجلون
أم جدّي المهاجر من حلب؟
الموت يوهن الذاكرة فلا تتعب نفسك بالتذكر
أنا سأتذكر عنّا جميعا
محاولًا رفع رأسك الحزين من موت ضاحك
سأنفخ في روح معجزتي الصغيرة
لتنبعث تلك الحادثة الغريبة:
أبوّة الابن الذي صار أبا
وشاهد صورة أبيه فرأى نفسه
ليترك صورة لابنه لعلّه يرى
ويكتب لك هذه القصيدة.
عمل كثير
لا تنم في الليل
قد يفتقدك سكان الفضاء اللطيفون حين يهبطون
ستطير الفراشات بأسرارك السوداء
ستهجرك الفاتنات فيما أنت تحلم بلقائهنّ
ستعانق السماء الأرض
وستهرم فجأة من دون أن تنتبه.
لا تعمل في النهار
سيمرّ سيرك الحياة وأنت غافل
ستمتلئ الحدائق بالأمهات الجميلات والأطفال البلهاء
سيضحك زوّار الحانات ويبكي المصلّون
وستتفتح زهور على قبور الموتى
وستضيع عمرك في ارتقاء سلّم يصعد إلى هاوية.
أسهر في الليل
وأمرح في النهار
لديك عمل كثير لإنجازه في المقبرة.
بيت في مقبرة
من بيتي داخل المقبرة
أراقب الموتى.
امرأة تحاول، من دون طائل، أن تزيح رجلا يمسك بخنّاقها.
طفلة ترفع يدها لتمسّد شعر لعبة بلاستيكية
فيما عيناها تلتمعان بكسرات زجاج يائس
وساقاها تتقصفان مثل سنابل قمح أمام منجل.
شاب ينادي ساكنة جديدة
جسدها الطري يتخشب
فيما صوته يزحف إلى قبرها كخيط عنكبوت
رجل يُحاول، دون جدوى، رفع سكين المطبخ
ليحمي ابنته من القتلة،
ثم يراهم، مجددا، يعاودون اغتصابها.
جنود دفنوا على عجل
يحاولون، كل يوم،
طمر أسلحتهم والهرب إلى أحضان زوجاتهم.
صغار يحاولون، كل فجر، الذهاب من المدارس.
كبار يحاولون تذكّر ملمس الهواء.
شباب يفكرون بملء حفرهم بدخان السجائر.
نساء يجهزن الطبخ للجميع.
يودع زوار أغراضهم عند حارس القبور
ثم تتهشّم هياكلهم فجأة وينضمون للموتى.
كل ليلة أمسّي على أصدقائي الموتى
من غرفتي المطلة على أرواحهم
ومثلهم، لا أستطيع أن أفعل شيئا.
هناك شيء هائل يجمّد الجميع
فيتوقفون عن الحركة ويبتسمون
فيما القدر يلتقط صورتهم البائسة.