سيف الرحبي
تَتراءى له القطارات
تسْكُبُ الدموعَ
تَنفجرُ بالبُكاء
على القَادِمين والرَّاحلين
في ساحةِ الفَقْد والفَرَاغ
نِسوةٌ وحقائبُ تبكي
على الأحبّاء الذين رحلوا قبل قليل
ذاهبين إلى الحرب
أو البحثِ عن كرامةِ العيش والمقام
البارحة طالعًا من مقهى النهر، نهر (ترنت) الممتدّ إلى أعماق الأدغال والغابات، قناةٌ من روافد تخترق المدينة، وتهبها عبقًا من هواء الحقول، تحرّرها قليلًا من أثقال هذا الصّخب العاتي والحطام. طالعًا باتجاه محطة نوتنجهام للقطارات، حيث يقع منزل الإقامة الذي استأجرناه لشهر.
في قلب السّماء قمرٌ يطلع ببطء وخَفَر يُساعد رافدَ النهر في تحرير المدينة ولو خْطفًا من وطأة الكآبة والسّخام.
على حوافّ المحطّات، القطار، الباص، الترام، يتوّزّعُ الغرباء والمنتظرون، وأولئك الذين لا ينتظرون أحدًا عدا انصرام هذا الليل واستقبال نهار آخر وسط القيء والأسمال والهذيانات التي توّحد الجميع في هذا الليل من ليالي العُطل الأسبوعية، من محطة الباص الملاصقة لمحطة القطار، أسمع المرأة تنفجرُ بلغة سلافيّة في التليفون، من أوكرانيا، أو من بولندا، أو يوغسلافيا السابقة، من ذلك الشطر الأوروبي، الباحث عن نفسه وسط تركة الدكتاتوريات المتعاقبة والحروب.
أحدّق في فضاء محطة القطارات المُوحشة، وقد بدأت تقلّ فيها الحركةُ والزحام المُحتدِم الذي يبدأ منذ الصباح الباكر، من شقتي أسمع صفيرَ القطارات العابرة إلى اتجاهاتها المُختلفة.
في الزمن الماضي كنتُ أهوى المجيء إلى محطات القطارات تحديدًا والجلوس ساعاتٍ في مقاهيها أرقب حركة المسافرين رجالًا ونساءً، وأطفالًا. نساء وحيداتٌ يدفعن الحقائب أو تلك المحمولة على الظهر، بوجوههنّ المُشرقة بطفولة الأحلام والبحث عن المُستقرّ والحبّ المفقود. المشهد بكامل بهائه وحزنه يمكن أن يكون وقودًا للكتابة والقوافل والحياة. وربما يكون اختزالًا لحركة الكائن من بدء الخليقة، منذ أزمنة الترحّل البدائيّة والقوافل عبر الجمال والخيول والكلاب، تضرب بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ في كبد المسافات والفيافي المقفرة، في كل الأصقاع والقارات.
كان القمر يتوسّط سماءً مُفْعمة بدخان الصخب والتقنية الحديثة، النهر ينساب في سيره الأزليّ، وبدأ شخيرُ المشرّدين يتعالى وسط حطام الزجاج والأحلام التي ضلّت طريقها فاحتضنها الخلاء في عرينه الحصين الأكثر حصانةً، من بيوت مُتْرفة وعربات مصفّحة؛ لأنّ العراء والعَدَم، الأقصى، لا يوّزعان غنائمَ ومطامعَ وآمالًا زائفة.
السُكنى في خيمة العراء والعَدَم، هي الحصانة الأخيرة للكائن الذي لم يعُد ينتظر أحدًا أو حلمًا أو يحدّق في دُخان المصانع التي تدثّر المدن والحضارات البشريّة الغارقة في القذارة والبؤس، نحو المستقبل المُشرق والوعود الخيّرة المزهرة بينما تنتج الوحشيّة والسّحق. ودكتاتوريات العوالم الثالثيّة وغيرها تتناسل بأشكال وهندساتٍ مختلفة. بالأمس حاصرت الجموعُ في سريلانكا رئيسها وشلّته بعد أن بلغ الفسادُ والتدميرُ المتسارع مبلغًا يقصُر أمامَه الانتحار والموت والاقتحام.
من الشرفة الضيّقة، أطلّ على محطة نوتنجهام للقطارات، لا أستغرق كثيرًا في النظر من الشرفة، فالصّخب يُصيبني بالدّوار ويشلّ التفكيرَ والحواسّ.
محطاتُ القطارات وخطوط المترو الأرضيّة في البلاد الكبيرة مثل بلدان الغرب والشرق الأوروبي وأمريكا، واليابان وغيرها في الشرق وفي موسكو تشكّل معلمًا جماليًّا بارزًا بِجانب متطلباته العمليّة اليومية الملحّة التي لا تمضي الحياة بدونها بالمطلق في عهود السلم والحروب؛ إذ تتحول إلى ملاجئ من عنف القصف والتدمير. إنها جزءٌ من معمارِ هندسةِ المدينةِ العالية الدقّة والتّصميم والبَهاءِ الذي يَشي بإنجازات الحضارة ووتائر تطورها ورقيّها.
شاهدتُ أول محطّة قطار على نحو من دقّةٍ هندسيّة حديثة وجمال، (محطة رمسيس) أو (باب الحديد) وفق عنوان فيلم رائع للراحل يوسف شاهين تدور أحداثُه في فضاء المحطة وزواياها المُعتمة، في القاهرة التي كنّا ننطلق عبر القطارات منها إلى الإسكندرية وبقية مدن الجمهوريّة. وهي العلامة الأولى التي انحصرت في الذاكرة والوجدان، ضمن عوالم المحطات الكثيرة التي شاهدتها في أكثر من حاضرة ومدينة وقرية.
اليوم ذهبنا إلى حديقة الجامعة في (بيستن) القرية المجاورة للمدينة الكبيرة، التي كنّا نصطافُ فيها في الأعوام التي خلتْ، ويطيب بها المقام والنّزهة والخلوة بعيدًا عن الصّخب والضوضاء التي هي من طبيعة المدن وبنياتها. تلك الحديقة التي هي بمثابة غابة ببحيراتها وجداولها المفعمة بالبطّ وأنواع الطيور الأخرى والسناجب تتسلق الأشجار، وتلعب بطفولة ورشاقة مدهشة. (عزّان) منذ خمس سنوات كان قد قبض على سنجاب وأخذه في حضنه بوَدَاعة واطمئنان، طفولةُ البشر تتآخى مع طفولة الحيوان الذي من عادته الحذر والاختباء في جذوع الأشجار وغدورها. وكان يومًا مشهودًا لعزّان، باحتضان السّنجاب، واللّعب معه كصديق.
وبهذه العودة إلى الماضي كتبتْ أمه بدور الريامي هذا المقطع:
((عزان الصّاخب
يجلسُ بِصبر
ويَنتظرُ السّناجبَ
وبين أصابعه حبّة لوز،
لعلها تَذكر صديقها القديم
وقد كبر)).
أيامًا متعاقبة كنتُ أقضيها في هذه الحديقة الغابة، نزهةً وكتابةً وقراءة ، نودّ أن نستعيدها، طالمَا قذفت بنا الصّدفة إلى العودة، إلى هنا من جديد، نستعيد بعضًا من ألقها الروحيّ وعزلتها.
كان الجوّ حارًا بمعايير البلاد الأوروبية، والبلاد في حركة إضرابِ قطاعاتٍ واسعة من العمال والشغيلة، تذكّرت هذا الكباش الحكومي النقابي، حين دخلت مع ناصر إلى الحمامات التابعة لمقهى الجامعة، فهالنا مشهد الأوساخ والقاذورات المتراكمة، التي لا نشاهدها على الأرجح إلا في البلاد الهنديّة والآسيوية، والعالم ثالثية وفق التوصيف التقليدي لها.
حين عُدنا في آخر النهار إلى الشقة المستأجرة في الدور الثامن، انفصلت عن صحبتي، وذهبت جهة محطة القطار أتفقد إخوتي من المسافرين الذين تجمعني بهم آصرةٌ خفيّة روحيّة ووجوديّة، وجماعة قليلة من المشردين (الهومليس) الذين لا يتجاوز عددُهم أصابع اليد مقارنة بالأزمنة الغائبة حين كنا نشاهدهم في أنفاق المترو والمحطات أسرابًا وجماعاتٍ، رجالًا ونساء، ومن أعمار مختلفة.
أصغيت إلى صفير القطارات، وهي تنطلق من أرصفتها باتجاه البلدات الأخرى والآفاق، ما زال يوقظ ذلك الحنين الغامض ما تبقّى من رغبة مطمورة في الترحّل من غير هدف واضح، وقضاء الأيام والليالي بين البلدان والمدن الغريبة والعربات والصّفير المترحّل مع هباء المغيب وانبلاج الصباحات المتجدّدة.
كعادة نومي المتقطّع، أصحو في غمرة هذا الليل الإنجليزيّ الضّارب في أدْغال الجمال والمأساة، ليل القراصنة والغزاة المغامرين الأوائل الذين استباحوا الآفاق متناسلين من ليل البلاد الجرمانيّة.
في غمرة هذا الليل وهدأته، أصحو أقرأ شعرًا في موقع متخصّص، عبر جهاز التليفون، لأصدقاء منهم من رحل ومنهم ما زال على شاطئ الحياة، يفتح صدره للريح القادمة من بحار العالم أو من الصحراء الكونيّة.
أصغي إلى ما يُمكن أن يصل في وقت آخر من فيوض حركة محطة القطارات، وصخب مسافريها، ومضة من بروق توتّرهم، لهاثهم، فرحهم، وقبلاتهم التي تنزل مع الدموع كمطر الصيف القادم من الصحراء البعيدة.
لا شيء، لا أحد، لا نأمة، تأتي من جهة عرين القطارات النائمة في مجاثمها مثل نسورٍ تحلُم بالفرائس والتحليق في الساعات القادمة التي لن تطول، في هذا الليل البشريّ الضارب في الدغل والغابة والنهر، في المحطات والمجاثم والسفوح.
أقرأ مقالًا لسوس الأسطح واقتباسات من مقالة الصحيفة البريطانية (الإيكونومست) كيف دُمرت وخربت القطارات وسكك الحديد ببناياتها المختلفة ومحطاتها، وأحيلت إلى حُطامٍ يمضي في تفكيك أواصر العالم العربي، بمناطقه وأقطاره المختلفة.
أسس المستعمرون الإنجليز في مصر سكك الحديد، وأدخلوا القطارات باكرًا إليها من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث تأسّست محطة رمسيس. وكذلك عملت فرنسا في البلاد المغاربيّة من أجل ربط مصالحهما بالطبع، ومد النفوذ وتعميقه على المستوى العربي، والعالمي. نفس هؤلاء دمروا خط الحجاز الذي بناه العثمانيون ليمضوا في تفكيك وسحق الإمبراطوريّة الآذنة بالأفول. وكذلك الحرب الصهيونية دمرت خطوط فلسطين الرابطة مع لبنان وبلاد الشام، في المنحى التدميري نفسه. وبعد هذا الخراب العميم لحركة القطارات وبنائها وسككها، لم تقم الدول الوارثة للاستقلال، المهيمنة والمستبدة، بإصلاحٍ حقيقيّ أو طرح مشروعٍ، في هذا السياق الحضاريّ الحاسم والموحّد لأجزاء هذا العالم العربي، المُوغل في تمزيق نفسه وتسهيل تحطيم الآخرين له.
((سقطت شبكة السكك الحديدية ضحيّة لعدد من الطعنات، ومعرفة المسؤول ومرتكب الجريمة لا يزال أمرًا يكتنفه الغموض)) تختتم الكاتبة اللبنانية اقتباسها وتواصل: من يظنّ أنّ القطار هو مجرّد مقصورات تمشي على سكة حديد فهو واهم، إنه مثل الكهرباء وألياف الإنترنت والرقائق الإلكترونية أداة مسيّسة حتى النخاع، تبنى بقرار وتندثرُ بقرار بينما الشعوب تتفرّج.
يبدو أن قرار إنشاء بنايات وسكك لحركة قطارات تربط أجزاء الوطن العربي الممزّق طوائفَ وأشلاءً ومناطقَ معزولة بحدود ودبابات وبنادق بعيدُ المنال حتى كطرحٍ نظري. والوحدة العربيّة المُغناة في أناشيد وشعارات تبقى في هذا النطاق الفارع للهَذر اللفظيّ، ما تقدم منه وما تأخر.
لكن إذا كانت سكَك الحديد والقطارات لها كل هذا الدور الحضاري الوحدوي الحاسم، على المستوى الموضوعي العام، تبقى المحطات والقطارات، وهذا أكثر ما تومض به هذه السطور العجلى، وهي تلهثُ وراء (قطار الشرق السريع) الذي صارَ قطارًا لا يحملُ إلا الجثث والهاربين من وحشيّة القتل في أوطانهم، وتحمل المخبرين والوشاة سعيًا وراء حروبٍ قادمة.
ترفّق خليلي هل ترى من ظعائن (…..)، الظعائن تعبر باستمرار وتتدفق في خضمّات قبائلها وحمولاتها، تشقّ الصحاري والفيافي، المقفرة غالبًا، باحثة عن ملاذات أخرى توجد فيها شروط الحياة والخصب، أو هروبًا من حروب غبراء ضروس إلى مكان يَعدُ بالأمان، أو هكذا يتراءى للقوم ويُخيّل إليهم بعد أن اكتشفوا عقم الحرب والقتال بين الأعداء، بين أبناء العمومة والسلالة الواحدة، تتفجر بينهم بؤرُ العدوان والأحقاد العبثيّة، وتستقر رحى الحروب اليوميّة لعشرات السنين.
هل ثمّة من ملاذ يقي العدوان والشرّ والعنف البشري؟ يتراءى للقوم ذلك ويترحّلون كما تتراءى لهم الظعائن سرابًا، واقعًا في غَبش الصحراء والتباساتها ومراياها.. هكذا من تشكيلات البشر الأولى على هذه الأرض، هذا الرحيل، هذا التصدّع الوجوديّ لكينوناتٍ كان يلمّ شتاتها مكان أو أمكنة واحدة، قطعة من الأرض هي المساحة والفضاء لكينونات وتشكيلات بشريّة متآخية متآلفة، تسند وجود بعضها أمام عوادي الزمن والطبيعة والبشر، لا تلبث أن تصعقها صرخةُ غراب البين، وتشتت الشمل في الأنحاء والأصقاع. منذ تلك البدايات المُوغلة في القِدم، اللقاء، التجمع، الحبّ، الألفة، التناسل، فالفراق.. من تلك العهود القديمة التي تنطلق الأقوام من خيمها ومرابع ديارها، منازل العشيرة والأحبة، إلى محطات القطارات والمطارات الحديثة ومجاثم الآلات والتقنيات.
الوقت الذي تقضيه مع أو بين الأشجار، لا ينفد هباءً وطبعًا لا تندم عليه، أو هكذا… أقرأ هذه العبارة في مكان ما، وسط ضجيج منطقة محطة القطارات وتقاطع الخطوط الحديديّة وصخبها الزاعق بالصفير والأصوات التكنولوجية، هِبة عصور الحداثة والبشرية، هِبة على الأرض التي عاشت طويلًا خالية منهم، وعاشت بحيواتها البدئيّة الأولى، قبل انفجار هذه القفزة النوعيّة حتى الوصول إلى راهن العصر بجرائمه وإنجازاته العقلانيّة العظيمة.
ها أنا أحقق حلمًا طالما حلمت به، ولو بشكل عابر وسريع، أمام مناطق الضجيج وهي الأغلب والأعمّ التي تسكنها وتسكننا عبر امتداد العالم ومدنه ومحطاته وتقنياته التي فاقت وسحقت فضاءات الخيال المجنّح والخرافة التي تتناسل خيالًا وأحقابًا من بدء الخليقة وسديمها الأول.
ها أنا وسط غابة، أنام وأصحو بين شعوب من الشجر السّامق الحالم وحيواناتها المتنوعة الأنواع والطبائع والأشكال.
سُئل صوفي ما المسامحة ؟
أجاب: إنها العَبَق الذي ينبعث من الورود، عندما تُسحق. وانسحبت العبارةُ على كل مظاهر الطبيعة وعناصرها وكرمها الذي يُعبر عن جوهر الرّوح الأسمى للوجود.
مع التقدّم في العمر والزّمان، تقلّ وتخفُت حتى الامّحاء، تلك الجاذبيّة للحنين الرومانسي والشعريّ، إلى تلك المناطق التي تشكل بؤرة العبور واللقاء والفراق والقبل والدموع، وهذه الأخيرة هي الأكثر بقاء وديمومة، تاريخ البشر، تاريخ الدموع والجراح والفراق، أما ما تبقّى فحلمٌ نائمٌ في ليالي ربيع خاطف.
يبقى ذلك الحنين، وتلك الهواجس النازعة إلى الترحّل العاصف في أبعاده الواقعيّة والوجوديّة، كالمحطات، والمطارات، والموانئ والمدن بفنادقها ذات الليلة الواحدة، ما اختزلته الذاكرة تستعيده المخيّلة برهة الكتابة والتعبير، وهي وجود لا ينضب محمولًا على إشعاعها الرمزي المحتدم.
لكن على صعيد الواقع والمعيش اليومي تتحول مع تقادم الزمن إلى أماكن مريعة وساحقة للخيال والذاكرة، بإنهاكها الجسد وما تبقى من حيويّته ونزوعه، اللازم للحياة والاستمرار.
في مطلع العمر، حتى الحروب ومعاركها الوحشيّة تشكّل جاذبًا، عاطفةً وافتتانًا للدّخول في حومتها، حومة الوغى والإفناء المتبادل للأقرباء المتحاربين، كل من منطلقاته وتبريراته، التي قادته إلى سفك الدماء والمجزرة. ولا بد للكائن البشري الشابّ أن يكون له موقف صارمٌ وحاسمٌ لا يطوله الشكّ والريبة، مع هذا الطرف أو ذاك، موقف مبدأ ومصير، من غيره يتوهّم الفتى أن دورة الحياة والكواكب، سيختلّ توازنها وربّما تنهارُ على رؤوس ساكنيها، وهو يقف مع ما يعتقد أنها العدالة والحقّ المطلق.
لكن إذا سلّمنا جدلًا كما يقال، بأن فورة الشباب وتأجّج الحماس والعاطفة تعود إلى وهم امتلاك الحقيقة المطلقة حتّى في فعل القتل وارتكاب المذبحة. فما القول الأنسب، لتلك الحروب التي يرتكبها ويقودها الكبار العقلانيون الملفّعون بالحضارة والحصافة والرّصانة، كلها مظاهر لصيقة وعضويّة، لمرتكبي الفظائع عبر التاريخ قديمًا وحديثًا، إنهم حكماء التاريخ والحرب، جزءٌ من هذه الحكمة وهذا التدبير الحصيف.
ويحتفظ التاريخ بمجلّدات وكتبٍ ومراجعَ لا حصر لها حول إنجازات هؤلاء القادة الحكماء، وبطولاتهم مع جيوشهم الأسطوريّة، منذ حروب القبائل والعشائر في مناطق شبه منسيّة من بقاع العالم إلى حروب الدول الصّغيرة والكبيرة، وتلك (طبعًا) التي تدخُل في حلبات العالميّة والكونيّة، التي ما زالت قائمة أو ستقوم على قدم وساقٍ لتنتهي إلى قطعها وبترِ كلِّ الأعضاء الحيويّة في الجحافل البائسة المتناحرة، لينعم الزعماءُ بالمجد والخلود.
الحرب والعدوان ومختلف أنواع الشرور، هي من جبلّة الطبيعة البشريّة، وربّما تغلب على النقيض المتسامي سلامًا وتسامحًا وإنسانيّة.
ليس في الدول والمؤسسات، بمصالحها وطموحاتها في الفوز والغلبَة والهيمنة، وإنما في الأفراد والشعوب، في العشيرة الواحدة والعائلة الواحدة، في الأشقاء الخلّص، أو المنحدرين من أبٍ واحد وأم على حدة.
إنّها المكوّن الملعون والأعمق في كينونة الكائن حياة ومسارًا ومصيرًا.
من هنا انبثقت ضرورة (الدولة) ذلك الوحش الخرافي كما دعاه الفيلسوف الإنجليزي، الذي تقهر قوّته الجموع وتُرجعها إلى الحدّ والحدود، لكنّه وغيره من مفكرين وفلاسفة، أشرطوها (الدولة) بالدّستور أو العقد الاجتماعي العادل والقانوني. معظم الدول العربيّة التي استقلّت عن الاستعمار بمعناه القَهْريّ المباشر، تبنّت رؤية (الوحش الخرافي) لكنّها جافت في العمق والجوهر، شروط الدّستور والقانون ما عدا عبارات شكليّة فضفاضة، تستعمل وفق الحاجة والاستهلاك، لذلك فهي لم تستقل عن مستعمريها، إلا في المظهر والشكل، في العَلم والنشيد ومواكب الزعماء الانقلابيين الخالدين التي تنافس الخالق الأجلّ في قدسيته وتعاليه.
المحطّات حَلبات صِراع من نوعٍ آخر، ساحاتُ حربٍ صامتة، لا تقطع هذا الصمت المسترسل المريب منذ القِدم وعصور الظّعن والترحّل الباحث عن الكلأ والماء، أو الهارب من حروب الإخوة الشعواء، لا يقطعه إلا صفير القطارات والطائرات والبواخر، وأصوات طيور تأوي إلى أعشاشها أو تطير منها، وتلك المحلّقة المهاجرة في دوراتها الموسميّة المحددّة.
مع الأسى المرير يُولد البشر ويموتون وهم في حروب دائمة صغيرة فرديّة وجماعيّة تجرفهم رغم وعيهم بكارثيّتها، وليس السّلام الحقيقي إلا هنيهات روح مضطربة، استراحة مؤقّتة وسط إعصار جاثم من الهواجس والانتظارات المؤلمة.
وإذا كان أبشعُ أنواع هذه الحروب، حرب السلاح والإبادات والتدمير المتبادل عبر التاريخ وسنوات السلم المراغة بكل مكرها ومرارتها خاصة (طبعًا) على الشعوب المنكوبة بالقهر اليوميّ والتسلّط والاستبداد في غياب أيّ عقد أو قانون حقيقيّ مُلزم، فمن مفارقات التّاريخ الحالِكة الاستثنائية، أنّ بعضًا من هذه الشعوب التي اختبرت طويلًا حروب السلاح واحتدام رغبة الإفناء المتبادل، تحنّ إلى تلك السنوات الدمويّة، من فرط ما ضاق بها المعيش وقسوة شروطه الجحيميّة، من شحٍّ في مواردها، بسبب النّهب المُستعر، من ذلٍّ وانكسار لم تعرفه قبلًا حتى صار بعضُهم يفتّش عن قوت يومه في براميل القمامة، وهو المعروف بكرامته ورفعته حتى في حمأة حروب السلاح.
والشعوب أو الجماعات المُتاخمة لهذه الجماعة، ليست بعيدة عن هذا المصير، إذا استمرّت وتيرة الأحوال والقبضات الحاكمة على هذا النحو والمنوال.
النظر إلى الطيور بأنواعها والجداول والأشجار تتسلقها السناجب وأفراخ البط، وقد غسلها المطر ليل البارحة، تتمايل بنشوة وفرح، في هذه الغابة النائية عن أوطان اللغة والتاريخ المشترك، وأفكر:
لماذا يجرفني الهذيان إلى مهاوي هذه الهواجس للموضوعات الأكثر حِديّة وقسوة، بدل التعبير عن دهشتي الطفوليّة وانبهاري بهذا الجمال الباذخ المرَهف، بهذه البُرهة العابرة، في هذا الصيف المُتصاعد الحرارة والحرائق أكثر من سابقه، أي العام المنصرم، حين كنت في بلادٍ وجبلٍ غابيّ آخر.. لماذا لا أحصر التعبير عن بذخ هذا الجمال الطبيعي، سرّه الخفي ورهافته الآسرة؟!
يعيش الكائن (الإنسان هنا) حياته منذ بداياتها الملتبسة وحتى الشيخوخة، وما بعدها الحتميّ، وهو يناضل من أجل استمرار فسحة الحياة وأحلامها وطموحها، نحو الأفضل والأجمل حسب المستويات المُختلفة للوعي والمقدرة، تجمعهم أحلامٌ مشتركة للدفاع عن هذه الهِبة الربانيّة، الحياة، حياة الفرد ذاته، والعائلة والأولاد والجماعة؛ إذ ثمّة ذلك النّزوع الجماعيُّ والإنسانيّ الأبعد بصفته (الفرد) جزءًا من نسيج هذا الكون بكل حيواته وعناصره وتشكيلاته البشريّة والحيوانيّة والطبيعة، ثمة إنسان ما يتألّم لقراءة خبر علميٍّ متخصّص عن السُّرعة الضاربة لانقراض طبيعة الكوكب المشترك، إنسانٌ من شبه جزيرة العرب المفرطة الحرارة والطقس القاسي، يقرأ عن الانهيارات الكبرى لطبقات الجليد المتراكمة منذ بداية التكوين، في القطب الشمالي، فيتألّم على ما يجلبه هذا الانهيار البيئي ليس على الساكنة الحيوانية بتلك الأصقاع الموحشة، كالدببة والثعالب القطبيّة، وحيوانات الفظ ، أكبر الثدييات على الأرض؛ إذ يمتدّ تأثيره على كافة القارات والبلدان التي تتداعى عوالمها البيئية تباعًا؛ فازدياد وتيرة الاحتباس الحراريّ وتغيّرات المناخ حسْب تعبيرِ الخُبراء، يُلحق الويلات بكافة الطبائع والجهات. فالمناطق الحارّة تزداد حرارتُها الجهنميّة حد الانقراض الشامل، أو الانتقال كما في الماضي السحيق، إلى أماكن وبلدان أقل خطرًا.
لم تعُد العزلة مُمكنة لا من حروب البشر ولا من حروب الطبيعة والمناخ، هناك حتميّة هذا المشترك التراجيديّ للمسار والمصير، والبلدان والجماعات الأقل إمكاناتٍ وتحضّرًا، ستكون فريسة مثاليّة أكثر من غيرها، لهذه التغيرات والانقلابات.
الإنسان يمضي في الدّفاع عن حياته حتى النّضوب والجفاف للقطرات الأخيرة منها حتى لو تقادمَ به العمرُ والزّمان، مثل هذه المرأة التي تقترب من مئويتها تندفع بعربتها المصنوعة خصيصًا لمن بَلَغَ بهم العمرُ أرذله، لكنّها تناضلُ مندفعةً في أعماق الغابة، تستنشقُ الهواء الصّافي، محاولة التخفّف من ثِقلِ الآلام والسنين.
يناضلُ الإنسان حتى الرّمق الأخير ضدّ العوادي التي تعرقل مسار حياته، عدا أولئك الذين يخطفهم الموتُ قسرًا، أو انتحارًا مبكرًا، لرؤيا اختزال هذه الملهاة أو المأساة العبثيّة، كما عبر فلاسفة وأدباء.
المحطّات غارِقةٌ
في سُخام المَدينْة
حيثُ الحقائبُ
مزدانةٌ بالنّحيب.
محطّات القطارات، التي تبدو كما يصورها الأدبُ والسينما مضجرة موحشة، تتوزّعُ على أرجاء القارّات والحواضر والقرى والصحاري، تلك المحطّات في خط العراق – حلب… وأين تلك القطارات التي كانت تأخذنا من حلب إلى تركيا بطيئة تنفُث دخانًا كثيفًا، تجرجرُ أحشاءها كحشدٍ من الجرحى على سِكك الحديد. وفي الحدود السوريّة – التركيّة، يقف القطارُ لفحصِ الوثائقِ والجَوازات والاستجوابِ البوليسي. هناك من يُنزلك إلى الأرض متكلّما باللهجة السورية، لا تعرف إن كان تركيّا أو سوريًّا، يخلقُ لك مبرّراتِ مشكلةٍ قانونيّة، كي يبتزّ بعض المال، وحين ترفضُ وتماطلُه، يتركك حتى يبدأ القطار في صفير الرّحيل والحركة، فيدبّ الرعبُ فيك وتعطيه ما تيسّر من ليراتٍ قليلة لتواصل الرحلة إلى اسطنبول، وبعدها إلى بلغاريا، وربما تصل إلى وارسو ببولندا.
أتذكّر أيضا حين دفعتني الرغبةُ الفتيّة ذات مرة إلى (كارديف)، عاصمة ويلز، تلك المحطة التي تبدو مثاليّة لتصوير أفلام الأبيض والأسود الرومانسيّة، أو البوليسيّة، أو أفلام الكاوبوي، مثل تلك اللقطات التي تشكّل مشهدًا صامتًا برصانة مُوحشة، في فيلم سيرجي ليوني، (حدث ذات مرة في الغرب).
حيث الممثل هنري فوندا، يتمدّد على مصطبة، ينتظر القطارَ ويبدو أن لياليه كانت مؤرقة فيحاول النوم بكامل ملابس الكاوبوي ومسدّساته وأحزمته، وهناك ذبابة تطير في الفضاء المحيط وتحدث أزيزًا، تنقض عليه كلما هدأت عينه أيقظته على مدار الأيام. يحاول إبعادها، لكنّها تلح في إزعاجه أكثر فأكثر، حتى تحطّ على خده المضطرب، فيطلق عليها رصاصة من مسدسه… فضاء المشهد في صمته الضاج بالإيحاءات، كان مُوحشًا ودمويًّا.
في إحدى سنوات الحرب اللبنانية، قرّر بول شاؤول، مثل الكثرة من وسطه وشعبه، أن يرحل إلى باريس بعد إيجاد وظيفة في الصحافة المهاجرة هناك. ذهب ومكث فترة قصيرة، ثم عاد إلى قبرص، ومنها إلى بيروت الحرب الأهليّة.
بعد سنواتٍ حين التقيتُ به، سألته متعجبًا، لماذا عُدت وأضعت تلك الفرصة المثاليّة التي يحلم بها الكثيرون، هروبًا من جحيم الحرب والقتل.
أجابني، لم أستطع التكيّف مع نمط الحياة اليوميّ، أصحو صباحًا، أنزل مع الحشود إلى المترو، ومع الحشود المندفعة إيّاها أعودُ مساء، فوجدت نفسي في دوّامة الجموع والصّخب واللهاث.
أكثر من نصف قرنٍ قضاها (بولس) مستقرًّا في روتينه اليومي، من المنزل في الحمراء، إلى المقهى، الذي يتغيّر باستمرار، إلى الجريدة التي يعمل بها، وحين أُغلقت الجرائد الورقيّة، صار من البيت الواقع في (الروف) إلى المقهى في ساعة وزمن محدّد بدقة رياضيّة. سنوات الحرب المديدة كان يشرب قهوة صَبَاحِه مع المقاتلين في المقهى، المزنّرين بالقنابل والرشاشات، وحين يطلّ بشعره الأبيض المبعثر، يُطلق بعضُهم صيحة (صباحية بولس) وكأنه زميل أو قائد فرقة في الحرب، هو المعادي جذريًّا لكل حربٍ وكل عنفٍ وكل تعسّفٍ وديكتاتوريّة.
في كتابه الفريد (منديل عطيل) يكتب بول شاؤول سيرة المدينة في يومياتها وتفاصيلها وهي ذاهبة بخطى سريعة إلى شيخوختها وخرابها. إنه سيرة المدينة وسيرة الذات الفرديّة، سيرة الجموع المندفعة من غير محطات مترو وقطار، إلى انسحاقها وحتفها البطيء أو السريع.
هناك ما يمكن تسميته بأدب القطارات كما هي مسرحًا لأحداث أفلام سينمائيّة كثيرة. وإن كان معظمُها يأخذ المنحى الاستهلالي الإثاري. الحبكة البوليسيّة خاصة، تجد معينًا خصبًا في غموض الليل الجاثم على القطارات وهي تمخر العباب والقفار، كما المدن والقرى والدساكر، وبمحاذاة الخطّ البحري الممتدّ كون من التوقعات والمفاجآت الصادمة من الأحلام والكوابيس، حيث جريان الأحداث التي تُوغل في وعي ولا وعي شخوصها، مع توغّل القطارات في آفاق دلالاتها الشاسعة.
وهناك الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائيّة، الرفيعة جمالًا ورؤية، يكون القطار جزءًا أساسيًّا في سياقات أحداثها وبنائها الكليّ، وإن لم يستحوذ على كامل الحبكة والبناء والأحداث، مثل تلك الأعمال الأقرب إلى الترفيه السطحيّ والتجاري.
هناك أفلام لصوص القطارات، مثل أدب وأفلام لصوص المصارف سواء في الغرب الأمريكي أو في صحاري العرب والتتار، حيث ينقضّ اللصوص، الفرسان على ظهور خيولهم الجامحة ملفعّين بأحزمة السلاح، يُحيطون بمفاصل القطار ويطلقون النار في الهواء بدايةً حتى يتمّ الاستسلام، أو توجّه الطلقات إلى البَشر والأجساد والحديد.
في الصحاري العربّية، حين كانت هناك سكك حديد وقطارات من أيام الإمبراطورية العُثمانيّة وما بعدها من استعمارات غربيّة متلاحقة، كان البدو الشّرسون ينقضّون جماعاتٍ على القطارات المحّملة بالمؤن والأسلحة والبضائع، ينهبونها كغنيمة جادَ بها الحظّ أو الصّدفة؛ حيثُ يتولّى شيوخ وأمراء القبائل توزيعَ الغنائم المنهوبة وفق التّقاليد والأعراف؛ لذلك كانوا يبعثون مع القطاراتِ فرقَ حمايةٍ كما بقيّة القوافل (القطارات قافلة عربات وقاطرات) التي تحمل البضائع والتبادلات التجارية، أو تحمل الحجّاج إلى بيت الله الحرام، قاطعين القفارَ والصحاري الخطيرة الموحشة، مرضاة لوجه الله الأسمى، وأملًا في آخِرةٍ تعوّض شقاء هذه الدنيا، وما أعظمه من عناءٍ وشقاءٍ في دنيا العرب في تلك الفترة، ممتدًّا ومتواصلًا حتى المشهد الراهن الجاثِم على الصدور والقلوب.
الطائرُ المُنتحب في أعماق اللّيل والمدينة الكبيرة، يسفحُ مراثيه فوق شجرة تطلّ على مقبرة أحلام الشعراء المُتاخمة لمقابرِ الأزمنة والقطارات.
كانوا يَصخبون في المطاعم والحانات، وكنتُ أرقب الغيمَ المتّرحّل فوقَ العَمائر وعلى ظهور قطارات ذاهبةٍ إلى المَجهول.
عندما تخلُد المدن إلى السُّبات وهدأة الليل، وتفرُغ الشوارعُ أو معظمُها والمؤسسات، تبقى القطارات باندفاعها في الواقع والخيال، ويتّخذ صفيرُها أبعادًا ميتافيزيقية مهيبة تلتحم بأجراس كنائس مهجورة، كأنّها النشيد الأخير في جنائز البشريّة جمعاء، بعد جنون البشر العقلاء، الذي يقف على حافة إفناء نووي وما لا تستطيع اللغة أن تعبر، من أسلحة تدمير ماحقة، بضغطة زر، يكون العالم وجبةً سلسة سهلة لا تغصّ في حلق السفّاحين الكبار الذين ما فتئوا يقودون الكون إلى هذا المصير التراجيدي.
ذهبنا من محطة نوتنجهام، التي ننظر إليها من نافذة الشقّة أسفل العمارة في الدور الثامن التي ينقطع عنها (المصْعد) أحيانا لأيام تحت وقع الإضرابات العماليّة التي تقودها نقاباتٌ وأحزاب، فتكون معاناة الصّعود والنزول خاصة مع حمل إضافيّ، وصياحِ أطفالٍ على السلالم مع نوبات زعيق (الأمهات) يجعل الوضعَ كارثيًّا.. ذهبنا إلى لندن، استغرق الوقت في القطار ساعة ونصف الساعة، أما في السيارة فيستغرقُ ثلاث ساعات. وفي القطار يمكنك أن ترى تلك المساحات اللامحدودة لخضرة الحقول التي بدأ يزحف عليها يباس الجفاف الذي يضرب أوروبا والعالم والغابات والبحيرات. قطعان الأبقار والأغنام وهي ترعى بهناءة الأبديّة، لا تلتفت إلى أي حركة، غير الرعي والمضغ والاجترار، ويمكنك أن تحلم في اليقظة وأنت تسند رأسك بعد أن ترخي الكرسي مثل الطائرات، والبواخر الأنيقة، وفي النوم أيضا إذا داهمك النوم خاصة بعد ليلة مؤرقة من زئير المدن والقطارات، حيث لا تستطيع التّركيز في قراءة الكتاب الذي تحمله معك، والذي يمتحور بين الشعر والفلسفة.
صباح عودتنا من العاصمة البريطانية الشهيرة الغاصّة بسكانها وسياحها، عنونت إحدى الصحف البريطانية في موقعها العربي أن محطات القطارات في المملكة المتحدة، أضحت مخازن للقطارات، جراء إضرابات عشرات ألوف العمال التي تقودها النقابات المُعارضة. توجستُ خيفةً من التخلّف عن السفر، وصعوبة حجز فندقٍ جديد بهذه السرعة، بادرنا مع الحقائب إلى موظفة الاستقبال، وكانت من أصول باكستانية، ألاحظها حين أجلس في صالة الاستقبال، ذلك الحضور الطاغي رغم صغر جَسدها أمام أحجام الأوروبيين، ذلك الجسد الذي يحمل تحفّز النمور الرّقطاء وهي تهمّ بالقفز أو الانقضاض، لكنّ سحر ابتسامتها الطاغي مثل كامل حضورها الجسديّ والروحي، يمحي ذلك الإيحاء العنفيّ على جمالهِ وفرادتهِ.
ذهب خيالي إلى أنها تنتمي سلوكيّا، إلى بشرِ تلك الحضارة التي قامت في حوض نهر السّند الكبير، وهي الحضارة المركزيّة الوحيدة ضمن حضاراتِ التاريخ الموصوفة على هذا النحو قامت في بلاد الهند والسند، وما تبقّى ثقافات وتأمّلات نخبة عميقة كالهندوسيّة التي أعقبتها تعميقًا وبحثًا في أسرار الوجود والكائنات، البوذيّة وليست حضارات بهذا المفهوم الشاسع الشامل.
بداهةً أشرت إلى الهندوسيّة في ذلك التاريخ البعيد، أما هندوسيّة الراهن على يد أحزابها ودعاتها، فلا تخفي سلوكها العنصريّ، وبغضها الدموي ضد شركاء الوطن، وسطحيّتها التي ستقود الهند إلى التفكك والاقتتال.
سألناها أن تساعدنا على إيضاح وضع حركة القطارات، والخط الذي يحملنا للعودة إلى محطة نوتنجهام، فأشعلت الكمبيوتر أمامها وخرائط السكك الحديديّة وأخذت تتمتم بكلمات عن ارتباك الحركة والغموض في معظم المحطات، والخطوط، محطة (كينجز كروس)، الكبرى بالغة الارتباك وجمود القطارات مكانها في المحطة نتيجة الإضراب، أما المحطة المجاورة لها التي ينطلق منها خط القطار الذي يأخذنا وهي (سانت بانكراس) فثمة خطوط متجمدة بالكامل، الأوروبية خاصة.
أخذت تحدّق في المحليّة دقائق، يقطعها زبائن الفندق بين الحين والآخر، حتى لاحت الانفراجة من وجهها المنير، رغم ضموره، ضمور نمرة الغابة التي وُلدت وتربّت في عاصمة الإنجليز الكبرى؛ قالت إن خط قطارنا يبدو متحركًا، وعلينا أن نذهب إلى هناك، إذا لم يطرأ أمرٌ مفاجئ أسوة بمعظم الخطوط، واستقللنا القطار الذي صار يقِف في معظم المحطات في طريقه، بغية سدّ النقص الذي يتركه الإضراب العماليّ الكبير.
محطات القطارات تتحوّل، بفعل الجشع البشريّ الرأسمالي أو النيوليبرالي -مضافا إليه وهم التعالي الإنجليزي في الخروج من مكاسب البريكست الكثيرة كما عبر البعض- إلى مخازن تتجمّد فيها الحركة ويَذوي شغف الانطلاق والرحيل. وهناك قبلًا وبعدًا مقابر القطارات، القطارات الأرضية، وتلك التي تتصادم كأنما في حرب تدميرٍ مُتبادل، في كواكبَ وأجرام أخرى ليتساقط حطامها على الأرض وتتّحد في مقابر جماعيّة واحدة، وحدة وجود ومصير بين السماء والأرض تتجلّى في لهيب هذا الحطام المقابريّ الساكن.
أجلس في مقهى محطة نوتنجهام، أطلب قهوة بالحليب وزجاجة ماء دافئ، حمامة وحيدة تتجول في أرضيّة المقهى، لا تلبث أن تطير، لتحطّ على طاولتي برهة قصيرة من الزمن، تطير إلى مكان قريب، صباح اليوم الباكر رأيت الحمامة التي تكرِج على عشّها في شرفة الشقّة المطلّة على المحطة، بشوقٍ وحنينٍ وأملٍ تُغطّي صغارها لتحفظهم من سطوة الخلاء والرياح والجوارح. فكرتُ لو كان الوقت شتاء، ذلك الزمهرير القاسِي بثلوجه وعواصفه الكاسحة، كيف سيكون حالها مع صغارها؟!
المسافرون على ضوء النداءات والصفير جيئةً وذهابًا، امرأة تضع حجابًا كانت تنتظر على كرسيٍّ مستطيلٍ حتى وصل الرجل الذي تنتظره، مرّا بجانبي فعرفتُ أنهما ينتميان إلى فضاء لغة العرب وأرجائها المتناثرة.
(ليس بيني وبينك أيّتها الساحرة الولود
إلا هذه الكثبانُ من الرّمل
وهذه الأزمنة المكدّسة أمام بابي
تقولين كلامًا لا أفهمُه
وتقولين هذيانًا
أفهمُه بسُرعة سقوط النيزك
على رأسي).
صحوت الساعة الرابعة كالعادة، لآخذ غفوة التوازن بعد السادسة، في الوقت إياه، رأيتُ (عزان) صاحيًا يخرج من غرفته باتّجاه الصالة المطلّة على المحطة وشوارع المدينة. كان عزّان مستوحشًا حين فاجأه الصحيان المبكّر، أزاح جانبًا من الستارة، حين قال (شوف بابا التراميات ثمّة الكثير منها واقفة على خطوطها، تأخذ الراحة في نومها الليليّ) محطّاتها وخطوطها على سطح أرض المحطّة؛ بينما القطاراتُ في الأسفل، ربّما يبدأ انطلاقُها العاصف في الوقت نفسه.
لم أجد شيئًا ممتعًا في السكنى في مثل هذه الأماكن الصاخبة، وإذا كانت القطارات والمحطّات بأبعادها الواقعيّة والرمزيّة تحفّزُ الخيال والوجدان والتفكير من أجل التأمّل والكتابة، فلا يقتضي ذلك السكنى الملاصقة لوجودها الواقعيّ الحسيّ. ربما استعادتها وأنت تنعم بهدوء الطبيعة وثرائها، أكثر جمالًا وعمقًا؛ لكنّها الصُّدفة التي أملتْ هذا العيش المؤقّت في زحمة هذا الصيف الكاسرة، وليست الكلماتُ والأسطر التي تتوسّل المكان بمحطّاته وصفيرِها والدخان المتلاشي مع السحب في سماء المدن؛ إلا لتخفيفِ وقع مثل هذه السّكنى وقبول صدفتها مع التمنّي بانقضاء الزّمن سريعًا وبأقلّ الخسائر النفسيّة والعصبيّة.
وكيف لا أتذكر، وأنا في غمرة النّظر إلى المحطّات التي عادة ما يلوذ بها الهامشيّون والمتشرّدون، ذلك الفيلم الذي شاهدته مطلع ثمانينيّات القرن الماضي (عشب الحديد) الذي يلعب بطولته جاك نيكيلسون وميرل ستريب، ومن إخراج هكتور بابنكو، وتلك الحشود من المشرّدين من غير مأوى ولا صِلات بالمجتمع وأركانه ومراجِعه، أولئك المنبتّين جذريًّا عن السياق السائد، يسكنون عربات القطارات والحافلات المهجورة، نشاهد الطبيب والمثقف والكاتب والمهندس أي (النخبة) بجانب البشر العاديين الذين جمعتهم شروط هروب ومعيش مشترك، في هذه الفراغات المهجورة المدلهمّة بالوحشة والنّسيان؛ عدا حملات البوليس التي تحاصر هؤلاء المقذوفين خارج حياة أعظم مدينة في العالم الحديث (نيويورك) وخارج التاريخ.
في لندن التي لا يختزلها أيّ تعريفٍ أو توصيفٍ مهما أفرط في السلب أو الإيجاب، إنّها مثل باريس على ما بينهما من فروق وتمايزات، تفيض على التصنيف مفتوحة الآفاق والمدارات.
من اللحظات التي لا تنسى بسرعة، تلك التي ذهبت فيها إلى متحف (تيت) للفنون الحديثة، بعد خضمّات من زحام السير الصيفي واختناقاته، دخلتُ مع الحشد إلى المتحف الشاسع بحداثاته وعوالمه التي تتوسّل استيعاب علامات الحداثة الفنيّة في معظم البلدان والقارات. لاحظتُ هذا الاحتفاء الخاص بأعمال المنتمين في حقبتهم إلى المدرسة السورياليّة. ولفت نظري انتباههم إلى جماعة (الخبز والحرية) السورياليّة في مصر. وهي الحركة الوحيدة ربما عربيًّا التي تشكل كتلة انتماء متماسكة إلى تلك المدرسة وإنجازها. هناك أسماء وكتابات كثيرة تتفاوت في عمق تأثيرها وسورياليتها وإنجازها على تنوّع الأشكال والرؤى والأساليب، من المشرق العربيّ بكل عواصمه المركزية وحتى البلاد المغاربية. لكن على ذلك النحو (التنظيمي) الذي كانت عليه جماعة الخبز والحرية في مصر، من الصعب إيجاد مثيل لها، حتى (جماعة كركوك) الستينيّة في العراق الطليعيّة، ليس سهلا تصنيفُها على هذا المنوال من الوضوح في الانتماء إلى السوريالية مدرسيًّا، وجماعة (الخبز والحرية) من المعروف في تاريخ الأدب المصري قامت على كوكبة من الأسماء الفرانكفونية، في طليعتهم الشاعر والمنظر جورج حنين، والفنان رمسيس يونان، والمخرج كامل التلمساني، عم الروائيّة مي التلمساني. وأنور كامل، وهو الوحيد الذي أدركتهُ وصحبته في القاهرة وقد بلغَ عقده الثامن، وكنّا نلتقي به أيامًا في الأسبوع، في وسط البلد، يوزّع جريدته الشخصية المكونة من بضع أوراق، يضمّنها ذكرياته مع كبار الأدباء في فرنسا والعالم بالإضافة إلى رفاقه، ورؤيته في الأدب والحياة. مرّة جلست مع صديق، وهذا أحدُ شعراء مصر البارزين، ذو اتّجاه قوميّ بالمعنى الأيديولوجي حيث حذرني من أنور كامل، وفيما قاله أنه مع رفاقه الراحلين الذين شكلوا هذه العصبة الإبداعية، هدفهم تخريب الثقافة العربيّة، وغير ذلك من المفردات المستلّة من ترسانة التهم الجاهزة. وأتذكر أيضا (ألبير قصيري) في باريس الذي عاش نصف قرن في فندق (لويزيانا) بالحي اللاتيني وشهد مجد الثقافة الغربية والعالمية، كنت أنزل أحيانا عابرًا، في الفندق نفسه. كان في أواخر حياته، وقد أجرى عمليّة جراحية في الحنجرة جراء إصابته بالسرطان. ويتعامل بالإشارات والكتابة مع زائريه ممن تبقى من أصدقاء، كان وحيدًا دائمًا؛ لكنّ وحدته تكلّل سلامه الداخلي، من خلال إشراق قسمات وجهه التي يتجلى فيها الرضا واللامبالاة المطلقة.
بعد مشاهدتي لهذا القسم من معرض (تيت)، ومع تدافُع الحشود أحسستُ بالاطمئنان والرغبة الجارفة للخروج إلى الهواء الطّلق، خرجت تاركًا زوجتي الفنانة التشكيليّة؛ فهي الأقرب إلى تحمّل المعاناة من أجل تجديد الرؤية الفنيّة والمعرفة. حين خرجت إلى ضفة نهر (التايمز) مباشرة، في ذلك الطقس الآسر العذب بهوائه وغيومه، المرفرفة على وجه المارّة والموسيقى والمياه المتدفّقة وسط المدينة الكبيرة، إلى الحقول والغابات والمحيط. اندمجتُ في سحر الموسيقى وطقوس النهر والنوارس، كانت فتاة تغني مع عازفين، ورغم أنّها يقينًا من مغنّي الشوارع والمترو، والقطارات أحيانًا؛ إذ لا يمكن لفنان مشهور أن يغني في الخلاء على قارعة الشوارع والطرقات؛ لكن صوتها الآسر العميق، جعلني أفكر مأخوذًا بسحرِ هذه الموهبة الربانيّة، إنها أفضل من عشرات (المادونات) والمشاهير، كان يومًا رائعًا.
تطلّعت إلى الجسر القريب كي أمشي نحوه وأرى النهر من الأعلى، لا أعرف لماذا، وأنا في ظلال دهشة الصوت والموسيقى وجريان النهر، أتذكر قصيدة (إليوت) الشهيرة (الأرض اليباب):
((مدينة الوهم،
تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي،
انساب جمهور على جسر لندن، غفير،
ما كنت أحسب أنّ الموت قد طوى مثل هذا الجمع.
حسرات، قصيرة متقطّعة، كانوا ينفثون …)).