* – حكاية تلقِّي الديوان
بين يدي ديوان الشاعر فؤاد رفقة «محدلة الموت وهموم لا تنتهي»، (دار نلسن- بيروت طبعة أولى 2011.)
أخذته، وهو الأخير، بلهفةٍ وشوقٍ كبيرين، وقد تداخلني حزنٌ آسر لأن الشاعر طريح الفراش، أو، ربما، لعوامل أخرى قد تنكشف، لي، تباعًا، فيما أنا أعمل جاهدًا على تفكيك حُجُبكلامه. قدّمه لي الصديق الأديب سليمان بختي، مدير دار نلسن للنشر، قائلاً: «هي النسخة الثالثة لك بعد أن حملت الأولى إلى صاحبها رفقة، برفقة الفنان أمين الباشا. وها أنا اعود، لتوّي، من بيت شباب، مكان سكنه الذي ارتضاه في جوار الراحل الشاعر والصحافي رياض فاخوري. كتابٌ جدير بالقراءة: «إِقرأ…»
أخذت الديوان كمن يحتضن كائنًا عزيزًا طال انتظاره. وقد هتف في داخلي صوت الشاعر رفقة يردّد كلام السيد «إِذا اجتمع إثنان باسمي أكون الثالث بينهما».
صَدَقَ فؤاد، وأنا أعرف علم اليقين، وهو أيضًا يعرف أنْ لا قيمة «للأنا» بمعزلٍ عن «الآخر» الذي يتعدّد ويختلف. لا قيمة للحروف والأرقام إلا إذا اختلفت، لأنها إن وقعت في المشابهة، قتلها التماثل وأدخلها مقبرة النسيان!
أحبّ هذا الإنسان –الشاعرَ الذي التقيته في السبعينيّات، وهو ليس كمثله آخر. أحبُّ فيه عزيمة الفلاّح، وهمّة الحطاب والراعي الذي يبذل ما بوسعه لأحبائه. أحبُّ فيه النايَ- صوتَهالذي ما بعده صوت». وقد حمل لنا، في أعماله الشعرية الكثيرة شدوَ الطبيعة المسافرة مع النهر، وعافية الحياة مع النبع الذي دفقٌ هو على أفواه العطاش.
لا يسأل الماءُ عطشانَ: «أَأَنتَ عطشانُلأسقيك من مائي؟». ليس الماءُ ماءَ تلك السامرية على بئرها…
إنه الشاعرُ – الناي يقلّب بنغماته حبّات التراب، وقد استعار أنفاسه من النسائم، وحفيف الأوراق المرنّمة، لا فرق إن هي سقطت على أمها – الأرض، أو بقيت عالقةً بعافية هذه الأم- الشجرة. واستعار، أيضًا، من ديمةٍ عابرةٍ ليونتها ليشنّف الآذان.
إنه الناي… وإن نأي عنّا، أو نحن نأينا عنه لحينٍ، صوته يموج مع مسامع الأبدية. لن يموت هذا الناي، طالما صوت الشاعر ماثلٌ للحضور، وطالما له إمكان أن يكون ساعة نشاء وساعة لا نشاء.
هذا الصوتُ- صوتُه نعمةٌ، طالما هو نغمةٌ.. نغماتٌ باقيات في كتاب الكون الوسيع. وما أنا بمسترسلٍ إلاّ لأقول فيه كلامًا طيبًا، أحبّه كطيب طينته. وأعرف أنه يعرف أنْ ليس بمقدور الكلام دائمًا، أن يقول ما يجب أن يقال.
كان هذا، فيما أنا أقلّب الديوان على دهشةِ مني وخفَر، لا سيّما وأنه الديوان- الخطر يواجه شعرنا الحديث. إنه ديوانٌ- إنفجارٌ. وكلُّ انفجارِ من الداخل يكون لا من على سطح الأرض. على أنّ خطر هذا الانفجار يعمل على تفجير لغتنا التي طوّعها لعبةً بيديه، ولقمةً سائغةً لغذاء فكريّ، شعريّ، روحيّ، روحانيّ وشعشعانيّ.
أحبّ فؤاد رفقة المغامرةَ الخَطَرَ منذ كتب، وعشق القلق حبًا لا خوفًا. وها هو، كما هو، جوهرة من طين عجيب مرّغ يديه في تراب قريته كفرون(صافيتا – سوريا). أليس الكَفْرُ، في السريانيّة، يعني الأرض؟!
وإني، إذ أحاول مقاربة هذا الديوان الصادر حديثًا، أرى لزامًا عليّ أن أعقد الكلام على مفهوم النقد، باعتباره بات متنقلاً بين مختلف المجالات، ومرتحلاً عبر كلّ شبكات المفاهيم، وأساليب النظر والعمل. وليس النقد، بمفهومه التقليديّ الزّائل، من حيث كونه بحثًا عن الهفوات وإصدار أحكام القيم، بقصدِ الهدم والنقض. وإنّ، لفي هذِه الطريقة، ضيقَ مسارٍ، فيه يبتعد النقد من موضوعه أكثر مما يقترب منه.
وعليه، أرى النقد، باعتباره حقيقةً ثابتةً في نطاق فلسفة العلوم وتاريخ المعرفة، أنه نقدٌ مستمرٌ يدخل في أصلٍ من أصول الحياة الإنسانية الواعية، وإنه باتَ شرطًا من شروط حركيّة الواقع البشري في مختلف المجالات، ونُظُمِ القيم والإجتماع والمعرفة، وأصناف التفكير والإنجاز والتصرّف.
لقد غدا النقد ممارسةً عقلانيّة ونمطًا فكريًا، تفكيكيًا استنطاقيًا. أنّه، بمعنًى آخر، مساءلةٌ وتحليلٌ ومراجعةٌ للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معاييرَ معيّنةٍ، وَوفْقَ شروطٍ محدّدة، بحيث يتيح خلق سياقات معرفية جديدة، ومناخات ثقافيّة متباينة، ومساحات فكريّة مغايِرة. ومن ثمّ، يتيح الإسهام في الإنفتاح على آفاقٍ جديدة للنظر واختلاف مَهَمّات عديدة للعمل. فالنقدُ شرط الإبداع ، والإبداع شرط التقدم والنهضة.
وعليه فإنّي أرى النقد، أيضًا، أنه بات يشكّل عبئًا كبيرًا على الناقد الحقّ، إذا شاء، فعلاً، أن يكون، على الأقل، بمستوى النص الذي يعالجه، وما ذلك كذلك إلاّ لأن صاحب النص، في عصرنا، يحمل فضلاً عن موهبته الإبداعيّة وبديهيته وعفويّته، وخصوصيته المميزة، تراثًا فكريًّا ومخزونًا شعريًّا لا يستهان به. وإنْ نحن أغفلنا، عن قصد أو عن غير قصدٍ منا، هذه الحالة المستجدّة، كنا وبالاً على النصّ المعالَج وعلى صاحب النصّ.
لذا، إني أتهيّبُ الدخول في مساءلة وتحليل، ومراجعة أفكار ووقائع، وهواجس وهموم ديوان رفقة «محدلة الموت وهموم لا تنتهي». وإنيّ، لفي موقفٍ حرج، لا أُحسد عليه، باعتبارٍ أوّلٍ أن الشاعر رفقة، ليس شاعرًا عاديًا، وإن كان قريبًا حميميًا. وباعتبارٍ ثانٍ، أن هايدغر قد صَدَق حين أعطى مفاتيح الوجود إلى الشعراء. وباعتبارٍ ثالثٍ، وهو الأهمُّ، أن رفقة يؤمن أن عملية الإبداع لا تنشأ من فراغ. فهو الشاعر ذو الرؤيا العميقة، يتناغم مع صوت الأعماق، وهمسات ديدان الأرض، ودبدبة الحشرات في الحقول، ومع النحل المُهوِّم على الزهور، ومع تموّجات أوراق الشجيرات النامية، ومع الحطاب الخائف من بردٍ وصقيع، ومن يباسٍ يقضي على نموّ شجرٍ أعطاه من عافيته، ومع الفلاح الغادي إلى حقله، يتصبَّب عرقًا، وهو المأخوذ برائحة الخبز الطالع مقمّرًا من النار المقدّسة.
هو الشاعر الذي أغنى تجربته الشعرية الخاصة باسترفاد نصوص أخرى، واستلهامها من تجاربَ مختلفةٍ ليربط بين تجربته وهذه التجارب.
من هنا، إنّ توظيفه كشاعر معاصر لما في هذه النتاجات، لا يعتبر تعدّيًا أو سرقةً أو انتحالاً. ذلك لأنه حاورها، وتفاعل معها، وامتصَّ منها ما يخدمه، ويمنحه التميُّز والتفرّد والخلود.
وعليه، وانطلاقًا مما تقدّم ، أرى لزامًا عليّ أن أشير إلى ظاهرة التناصّ «* ntertextua* * té» ، باعتبارها قانونًا للنصوص جميعًا، ومفتاحًا لقراءتها.فهي ظاهرةٌ شهدها الحقل الأدبي حتى صارت قانونه الطبيعي الذي لا مفرّ منه للنصوص المستقبليّة، لأن التنّاص أَحدُ شروط الإنتاج الأساسيّة للعمل الأدبي.
إنّ التّناص لوحةٌ فسيفسائيّة من الإقتباسات، وسلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى.
كان هذا لأقول إنّ النصّ الشعريّ غدا نصًا مفتوحًا، لأن كلّ نصّ هو صدًى لنصّ آخر، وإلى ما لا نهاية. فالنصّ بهذا المعنى، طبقات، حيث تموت طبقةٌ فتولد طبقة. والقصيدة ليست وصولاً بل هي سفر لا ينتهي. والتراث ليس كتلةً موجودةً في فضاءٍ اسمه الماضي، علينا العودةُ إليه، والإرتباط به، وإنما هو حياتنا نفسُها، واندفاعنا نفسُه نحو المجهول(1)
وعليه، فإنّ فؤاد رفقة كان من بين أكثر الشعراء حداثة، لأن، لنا في شعره، أصداءَ تراثه العربي والمشرقيّ، وتراث الغرب، وتحديدًا الألماني. إنّه، بحقّ، من بين أكثر المبدعين أصالةً، لأن تكوينه الشعري ذو طبيعةٍ تراكميّة، بمعنى أنهُ يستلهم، تجارب إنسانيّة متشابهة لدى معاناته تجربته المعاصرة. وتاليًا، أصبح فاعلاً في مجتمعه ومحيطه، ومتفاعلاً معهما، فضلاً عن إبداعه في التراث الألماني الذي نال على أساسه تكريمًا في ألمانيا، العام الفائت.
هذا، وإنني سأرى لاحقًا، أنه عرف باستقلاليّة نصه الشعري كبنيةٍ لغويّة لها طبيعتها الجماليّة الخاصة، وقوانينها الأسلوبيّة المميّزة.إنّ خصوصيّته هذه، وإن تشكّلت من مجموع نصوص كثيرة في الحقلين الأدبي والطبيعي، فقد غدت ذات تركيب فنّي ذاتي، جعلت منه وحدةً متكاملة. إنّه، بحقّ، شاعرٌ صادق، صدقه مستمدٌّ من ذاته، وليس من خارجها. فاللغةُ تولّد اللغة، واللغةُ تحيل إلى اللغة.
تجدر الإشارة إلى أن التناص ليس قالبًا جاهزًا مشحونًا بثوابت اللغة الخاصة، بل هو نتاج تكوين المبدع من خلال قراءاته ومطالعاته المختلفة.
وعليه، فإنّ فؤاد رفقة قد شكّل القارئ بامتياز، وهو الذي ولد في الطبيعة السورية، ونشأ في الطبيعة اللبنانية التي أمدّته بخزّان شعوري وشعري عظيمين.
وإذا كنت متهيّبًا الدخول في هيكله الشعري، فإنّ كتابه «الشعر والموت»(2) أمدّني بالعافية، وأعطاني المفتاحَ- الأساسَ لولوج بيته الشعريّ، وتحديدًا ديوانه الأخير الذي أقاربه.
يعدّ هذا الديوان فاتحة وخاتمة شعره وعمره الذي نسج له فيه وللإنسان ثيابًا اتّخذت قماشتها وألوانها من جسد الطبيعة المتوسّطيّة. فكان، بحقّ، الحائك الماهر. وكان له بِنَوْلِهِ أن يطبع قبلة وفاءٍ على خدّ هذه الطبيعة التي أسمعها تهمس له : «نَوْلُكَ أن تفعل كذا…» فاستجاب طائعًا» مختارًا لِنَوَالِها(عطائها)، إلى حدّ أنّهما تزاوجا زيجةً رضيّة، فتحاورا وتحاضّا لمزيد من الإبداع الذي عاد عليهما، معًا بالخير والفائدة. وقد كان رائدُ رفقة في الشعر «مجانًا أخذت، مجانًا أعطِ».
كان رفقة عقلَ الطبيعة المدبّر، وقلبها النابض، وحسّها الذي رقّ وعطفَ عليه، فآلَىعلى نفسه أنْ يستمدّ منه قوّةً في النفس بها أدرك المحسوسات، وأنصت إلى سماع الأصوات الخفيّة والحركات المشفوعة برنّاتٍ أطربت موسيقاها فضاءاته المختلفة والمتنوّعة.
أنْ تقرأ رفقة وتفهمه، عدْ إلى كتابه «الشعر والموت»(1973). لك فيه خلاصةٌ كونيّة استفادها من أعمال كبار الفلاسفة الشعراء أمثال:
أوتو فريديريك بولنوّ Otto Fr* eder* ch Bo* * now، ويلهيلم ديلتاي W* * hem D* * tey، مارتين هايدغر Mart* n He* degger، فريديريك نيشه Fr* eder* ch N* etzsche، راينر ماريًا ريلكه Ra* ner Mar* a R* * ke، هولدرلن Ho* der* * n، غاستون باشلار Gaston Bache* arde، هوسيرل Husser* ، شيلر Sche* er، كيركيكارد K* erkegaard ، ماركس Marx، فيشته F* chte، شيلينغ Sche* * e* ng ، هيربرت ماركوز Herbert Markuz، هيجل Hege* ، فالتر شولز Wa* ter schu* z، أوتو ?وغلر Otto Poge* er… الخ.
وإذا كان اليونان، قديمًا، فلاسفةً وشعراء لهم الفضلُ بأن يعمّدوا الفكر والشعر باسمهم، فها هم فلاسفة وشعراء الألمان، حديثًا، لهم الفضل الأكبر، إذ يثبّتون للفكر والشعر عماده الجديد، ويضعون بصمةً مميّزةً على جبهته العريضة، ويفتحون آفاقًا له على المستقبل، بحيث أنّ العالَم اليومَ، ما زال يَنهَلُ من نهر فكرهم وشعرهم ماءَ الحياة المحيي.
إنّ الكلّ يعيش على فتات اليونان والألمان ليدعّم كيان ذاته في «الوجود والزمن»(Se* n und Ze* t).
يبقى السؤالُ – الأساسُ، كيف تلقّيت الديوان؟
لقد منحني نكهةً مميّزة، إذ جعلني أسعى جادًا الى كشف كيف استطاع الشاعر أن يصهر التجارب الحضاريّة، ويمزج معطياتها في وحدة جماليةٍ ميّزته في بعديها الإنساني والكياني.
ومن ثمّ، أنّى لهذا الديوان أن يجسّد كنزًا ثقافيًا حيًا قادرًا على امتصاص الحضارتين: اليونانيّة والألمانية، ليبلغ هذا الشاعر هدفه الإبداعي بالتماهي مع عباقرة هاتين الحضارتين؟
تتوالى الأسئلة وتتعدّد، غير أن الإجابات لن تكون إلاّ لمحًا وإيحاءً وإشارات. من هذه الأسئلة:
أ- ما هو عالم رفقة الشعري؟
ب- ما هو الشعر والموت بنظره؟ وهل من علاقة جدليّة بينهما؟
ج- ما هي العلاقة بين الشعر والسكن؟
د- إذا كان كلّ موجودٍ زمنيّ يبدأ وجودهُ وينتهي، فكيف يموت الآخر – الإنسان؟
ه- إذا كان الانسان لايصير إنساناً فقط، الا عندما ينغرز وجوده في تربة اللغة، فما العلاقة بين الشعر واللغة؟
و- وأخيراً ، كيف واجه رفقة الموت وهمومه التي لا تنتهي؟
* * – عتبات ديوان
إنّ أوَّل ما يفاجئ القارى ويدهشه هو العنوان «محدلة الموت وهموم لا تنتهي».
وهو يشكل عتبةً دونها عتبات بمفهوم جيرار جينيت(G. GENETTE)، وثانياً: الغلاف، وجهاً وظهراً كونه عتبةً تنفتح على أخرى، وبذلك يصبح الكتاب بيتاً للسكن، للحماية، فنلتقي مع كلٍ من هايدغر وبولنوّ وباشلار. يقول هايدغر إن صفة السكن الأساسية هي هذه الحماية، أما بولنوّ، في كتابه «الإنسان والمكان»، فيقول إن البيت هو ما يوفر للانسان الحماية. أما باشلار فيقول، بطريقته الشعرية، يخلّي الانسان صحيحاً، رغم كل عواصف السماء والارض(3)
عودة الى العنوان، نظراً لأهميته، فهو ذو أبعاد متعددة اذا ما أخضعناهُ لمفهوم التأويل. وهو في الأساس يختصر جوهر الكتاب.
أمّا، عند رفقة، فقوام العنوان ثلاث مفردات رئيسةٍ: المحدلة، الموت، والهموم. غير أن الفعل «تنتهي» المسبوق بـ«لا» النافية، يوظّف مسارَ «الهموم» الرفقاويَّة.
وفي عودةٍ لغوية الى المعاجم اللغوية العربية، نسنتج ما يلي:
أ- المحدلة: من فعل «حدل» ومنه تباعاً: حَلَدَ، دَلَحَ، دَحَلَ، لَحَدَ، ولدَحَ. ستُّ كلمات من جذر واحد، ولها أربعة مدلولات، بإستثناء لَدَحَ وحَلَدَ.
[ حَدَلَ عليه: ظلمهُ، ورجلٌ حَدْلٌ: ظالمٌ، والحِدْلُ: ألمٌ في العنق.
[ دَلَحَ: مشى بحمله منقبض الخطو بثقله.
[ دَحَلَ: دخل في الدّحْلِ، وهو حفرةٌ في الأرض. دَحَلَ عنهُ: تباعد عنه فرَّ واختبأ وخاف.
[ لَحَدَ: 1) الميتَ: دفنه. 2) لَحَدَ للميت: عمل له لَحداً. 3) واللحد: حفرة. 4) لَحَدَ في الدين: ومال عنه، وشكَّ في الله.
[ لَحْدٌ: شقّ محفور في أحد جانبي القبر.
في النتيجة، نرى أن أربع مفردات من أصل ستّ لها مدلولاتها. وأما( حَلَدَ) و(لَدَحَ) فلم يضعالعقل العربي حتى تاريخه، مدلولين لهما.
وتالياً، فالتقصير لا يقع على اللغة بل على متكلمها ومبدعها. وتجدر الاشارة الى أن هذه المفردات يجمع فيما بين معانيها، خيط معنوّي يدل على حالة الحزن–الفاجعة والمأساة- الغياب
ب- الموت: هي من جذر( م وت) ومنها: مات موتاً: 1- زالت الحياة عنه. 2- ماتت الريح: سكنت، هدأت. 3- ماتت النار: برد رمادها فلم يبقَ من الجمر شيء. 4- ماتت الحمّى: سكن غليانها. 5- مات الحرّ او البردُ: زال. 6- مات الثوب: بَلِيَ. 7- مات المكان: خليَ من العمارة والسكان. 8- مات الطريقُ: إنقطع سلوكه. والملاحظ أننا لا نستطيع ان نولّد من جذر(م وت) أي دالِّ وبالتالي/ لا دلالات. لانه معتلّ أجوف.
ج- الهموم: من الهمّ والفعل: همَّ من( ه م م). 1-همّه الأمر: أقلقه، أحزنه. 2- همّ المرض جسمه: اذابه وأذهب بلحمه. 3- همّ اللبن: حلبه. 4- همٌّ: حزنٌ، وانشغال البال في مشلكة.
وعليه، نلاحظ أننا لا نستطيع أن نولّد من الفعل «همّ»، لا دوالاً ولا مدلولات. وقد يكون السبب أن «همّ» فعلٌ مضاعف.
ما يعنيني من كلّ ما تقدّم، أن المفردات التي صاغت العنوان تحمل، في ذاتها، الايجاب والسلب، وتؤكد أن الشاعر انتهى الى حالةٍ – مأساةٍ، وأن «الهموم لا تنتهي» فليس المقصود منها معناها الماديّ بل المجازيّ. وعليه، إنتهى الشاعر الى حالةٍ–غيابٍ، والهموم باتت هموم الكتابة. وقد جسّد الديوان نشيداً جنائزياً من خلال عنوانه.
فالكلمة الشعرية تؤسس. والشعر هو تأسيس كلاميّ للوجود. والكلمة الشعرية تبقى بمفهوم هايدغر؛ «ولكن ما يبقى يؤسسه الشعراء»، بمفهوم هولدرلن.
من هنا إن الكلمة الشعرية في أساسها أغنية(4)
إن هذا الديوان الشعري يستعصي على القارىء، وإن استعصاءه، يكمن في سهولة ألفاظه، وسهولة معانيه وأبعادها. وبقدر ما يسهل علينا الفهم، يصعب علينا ادراك الحقيقة.
لذا بات على القارئ –المتلقي أن يلجأ الى التأويل الذي هو بمفهوم إيكو «تفاعلٌ مع نصّ العالم، او تفاعل مع عالم النصّ عبر إنتاج نصوصٍ أخرى»(10)
مّما يعني ان العالم(الوجود) هو علامة قابلةٌ للتأويل. وهو لا يوجد الا من خلالنا نحن، أي من خلال ما نعطيه له من معنى. والفهم، تالياً هو التأويل. ولمّا كانت اللغة هي الوسيلة التي يحوّل بوساطتها البشر بيئتهم، ويعبّرون بها عن أفكارهم، فانّ الطريق الى الحقيقة لا بدّ أن تمرَّ عبر اللغة.
وعليه، فانّ بحث خطاب الحقيقة – بحسب غادامير – يحيلنا الى طرائق مساءلة اللغة هذه. وهي بدورها، تحيلنا الى النصّ. والنصّ، بدوره، يحيلنا الى القارئ، والقارئ هو مؤوّل، بمعنى من المعاني. ثمّة، إذا تأويل لا تضبطه قيودٌ، ولا تحدّه حدود، ما يعني أن هناك نوعاً من الولادة المتجددة لمنتج النصّ عبر قارئيه الذين يمارسون سلطتهم على النصوص، وان امكانيات لا متناهية في تحديد المدلول التي تتاح عند إنتاج المدلولات.
وبما أن رفقة قد أطلع على مجمل النظريات والمعارف الحديثة، وتحديداً فكرة الزمن عند هايدغر، كان من الطبيعي أن يدرك إدراكاً لا يقبل الشكّ بأن الزمن الوجوديّ ليس مجرّد زمنٍ بل هو زمن الذات التي تعي وجودها. وبهذا يكون الزمن هو الأساس الأنطولوجي للانسان، ويكون المستقبل هو الآن المحوريّ في الزمن الوجوديّ، والانسان في مواجهته للمستقبل، يكون في مواجهة الزمن الأقصى، باعتبار الزمن متناهياً. إن زماني سينتهي. وأنا، كزمنِ وجودٍ، نحو الموت. وإنّ فكرة تناهي الزمن، بمفهوم هايدغر، تجعل هذا الكائن الباحث عن المعنى قلقاً ويائساً على مصيره في عالم غريب عنه. فالشاعر، وحده، هو القادر على الافصاح عمّا لا يمكن تسميته.
وعليه، فان اللغة الشعريّة هي بحث في المتخفي، حيث الأشياء تصبح كلماتٍ، والكلماتُ تجمع، في موقع مشترك، ما بين الوجودِ والموجود. وإنَّ مهمّة الشاعر هي «تأسيس الوجود بواسطة القول». لذا يحمّل هايدغر الشعر والفكر قسطاً وافراً من المسؤولية في قول حقيقة الوجود.
أما السؤالُ الأساسُ، فأين تقع، إذاً، مسؤولية رفقة في قول حقيقة هذا الوجود؟
يفتتح الشاعر رفقة ديوانه بالوقوف على حقيقة الموت. يُحاوره، يسائلهُ، ولأول مرّة شاعرٌ عربيّ لا يهاب الموت، ولا يستسلم، رغم أن الموت يطرق بابه مقنّعاً، فيما الشاعر حاسر الرأس، مكشوف الوجه، عارٍ أمام الحقيقة. لا يملك من متاع الدنيا الا الكلمة الشعرية، وهو يعمل، بطريقة أو بأُخرى، على البحث، شعرياً، في ماهية الموت والكلمة الشعرية، متسائلا: اذا كان من علاقة بين هذين الضدّين المتصارعين، فلمنْ تكون الغلبة؟
* * * – في أقسام الديوان:
يقسم الديوان الى نصيّن رئيسيين: الأوّل، «محدلة الموت»، والثاني «همومٌ لا تنتهي». يتشكل الأول من فاتحة، وخاتمة وما بينهما عشرة مقاطع قصيرة، رأيت تسميتها مراحل. وهي حالات موسومة ببدء ونهاية. أما فضاؤها فموسوم بغيوم ملبّدة تمطر على الموت بعض ماءٍ، علّها تخفف أعباء الحياة.
ما الموت؟
أعمى، «خبط عشواءً، لا يرى. إنه الجمجمة التي لو رآها الموت لاشتهى المقصلة، ومدّ الصراخ حتى جروف الغيب.
«تزنّري بخاتم البقاء/يا شمس/ يا عشيقة الفضاء»(الديوان ص 1)
تتكرّر لفظة «الموت» ثلاث مرات في الفاتحة، وكذلك حرف «لو» بمعنى التمنّي. أما «ألا» فمرتين، وهي تأتي بمثابة العَرْضِ الذي هو طلب بلين.
إن الموت، تلك الجمجمة، هو إذاً، يترجح بين التمني والَعرْضِ – الطَلَب. وهو، لو كانيدرك ناتج فعلته، لاشتهى المقصلة- الاعدام. وقد أغاضته شمسٌ تتزنّر بخاتم البقاء وتعشق الفضاء. واللافت أنّ حرف النداء «يا» المتكرر مرتين لم يسبق لفظة «الموت» بل لفظتيّ «شمس» و«عشيقة». فالشمس، بها رؤيةٌ ودفء وحياة، والموتُ انعدام الرؤية، زوالٌ وإمّحاء. الشمس حقيقة مجليّة. الموت ظلمةٌ قاتلة. الشمس حضورٌ، الموت غياب. والشاعر محكومٌ بين قوسيّ الحضور والغياب.
يتدرج النصّ من مفاجأة الى مفاجأة. أما الشاعر فيحافظ على جرأته يجابه الموت:
«ماذا تريد؟/ أن تخلي المكان/ – لمن؟/ لمستأجر آخر/ – هكذا دون إنذار؟ / كالجميع تتكلم / – لحظةٌ وأجمع الأمتعة / لن تكون في حاجة اليها / – وصيّتي / تأخرت / – لحظة الإعتراف/(فجأة ينزاح القناع) / ضلوع جرداء»(الديوان ص 2)
إن الشاعر ما يزال يتحلّى برباطة الجأش، وبرودة الأعصاب، يرغب بالانتظار علّه ينتهي من قصّة»منها يتبقى أحرفٌ / فاصلةٌ / ونقطةٌ أخيرة»(الديوان ص 3)
أرى الأحرف أنها الشاعر، وإلى الفاصلة وقف قصير ليضعنقطة أخيرة. وبهذا، تسدل الستارة ما بين الحياة والموت، ما بين الوجود واللاوجود. والشاعر هو صياد المعاني، والموت يصطاد بني البشر. وما يلفت إنتباهنا، هنا، هو فعل «أسرى» في دلالته على الصلاة والمعاني الروحانية. أليس النبيّ، (صلعم)، هو الذي أسرى ليلاً، وعرّج على القدس الشريف ليلاقي ربّه؟ ثمّ، اليس الشاعر هو الذي يمتلك مفاتيح الوجود ويجسِّد بعضاً من معاني النبوّة في آن؟
«يا موت/ يا محدلة/ لا تعرفُ الضجر»
(الديوان ص 4)
نداءٌ، تحسّر، وأسىً، علامات يعانيها شاعرٌ وقع في شباك الغدر، وخيانة الحياة من دون سابق إنذار، ومن دون أن يترك وصيةً – حقاً مقدساً.
إن اللافت، في نهاية المرحلة الثانية، هو لفظة «الضجر» المسبوقة بـ «لا تعرف». فهي من فعل «ضجر» أي سئم، ومنها «ضرج» ، و«ضرجه بالدم» أي لطّخه به. وعند هذا، يستقيم المعنى تأويلاً بأن الموت الذي «لا يعرف الضجر» يتقن المضارج، أي يلحق بالآخر، المصاعب والمشقات.
وعليه، فهو أمرٌ غريب عجيب أمر لغتنا العربية. كيف لها ان تولّد طاقاتٍ تفجّر المعاني، وتتوالد الى ما لا نهاية؟إنّ في هذا، ما يمكنها من إمكانية تأويلات مفتوحة، وآفاق لا حدّ لها.
في المرحلة الثالثة، تبدأ مراسم الدفن. فالشاطئ استراحة وسُكنى، وقت فاصلٌ ما بين الماء واليابسة حيث يعلوها قوسٌ من غار. طقوس جنائزية ويقلع الكفن في كنف «مدّ وجزر يتأرجح / ويتقلّص / نقطة على شفير المدى/ بياضٌ أسودُ»(الديوان ص)
في الموت تنعدم الألوان. لا وجود الا للونين أساسيين: الأبيض والأسود، أي ثناء تخالطه ظلمة حتّمها فقدان أشعة النور، والحالة شحوب وشجوٌ(في ذكرى الأربعين/ قداس وابتهال / بعدها عجلات الشمس / حمّى النهار / والستار»(ص5)
في المرحلة الرابعة، كأن الانسان في لحظة الموت لا يملك الا الذكرى «من قديم / بالحلم في بيته يحتمي / وبالنعاس/ فما باله الآن/ للريح يسلّمه البيت، والأمطار»(ص6)
في المرحلة الخامسة، تحمله أطياف الذكرى الى يوم كان عاملاً لا يشيخ أبداً. وقد تحلّى بمزايا الأمانة والدقّةفي المواعيد وعلوم الحساب. كان كَمَن لا بيت له، وفي كلّ بيت.
وفي المرحلة السادسة، «مسمار في حجر» / هذا الجسد / لايتحرك / لا يلهث / لا يتنفس/ لئلا باكراً يوقظ الجلاد/ فيصدر الحكم / بعد ضربة المطرقة / لا محكمة عليا/ ولا استئناف»(ص8).
ما أشبه هذه الحالة بحال المعلم يومَ عّلق على خشبة ما بين الأرض والسماء!
في المرحلة السابعة، مقبرة في الوحشة. سياجها «كلّ عامٍ / يشرق الوردُ وتعلو شجرة/ فوق أجساد مضت / صارت لهاثاً/ في جذوعٍ مقمرة»(ص9)
ما يلفت الانتباه أن ما بين «مقبرة» و«مقمرة» حرف واحد تلاعب بالمعنى فكان الانزياح وتولدت دلالات. يحملنا هذا الانزياح، تارةً الى وحشة القبر، وطوراً الى السّمر في العشايا.
في المرحلة الثامنة، إنَّ للشاعر أنْ يحلمأنَّ ما بعد الموت، كفناً يوقظه على مرتفع مقمر يهمس له في رقة: «هناك/ الى وادي الملوك / معهم تفرش المائدة / وفي كتاب الموت / تقرأ الحكمة»(ص10)
هذه اللغة العربية، لغتنا بما فيها من طاقات ابداعية توليدية، جعلتني أربط لفظة «الملوك»(العروش ومفردها العرش) بلفظة «الشعر». أليس «شَعَرَ» من «عَرَشَ»؟ أليس ملوك الأَرضِ-الحضورِ، وملوك الآخرة –الغياب هُمُ الشعراءُ وفي أيديهم مفاتيح الوجود والعدم؟
وما بين البارحة واليوم، في المرحلة التاسعة، كان «أبعد من الأُفُق/ ومن سديم الغيب…/ أقرب للعين من البصر / أيها المنجل الأعمى /(صوت من جهة المدافن)/ «أنت أعمى/ أبداً في الرأس/ في الشريان/ في بيت الجسد/ يتمشى/ كإِله من سلالات الابد: / إنه الموتُ الاحاديُّ الأحد»(ص 11)
يعرف رفقة كيف يقرأ جيداً في كتاب الطبيعة الشرقية ليكتب لنا بطريقة جوداء. واذا كان «المنجل» تلك الآلة الحديدية العقفاء التي بها يقطع الزرع فها هي تتحول رمزاً للموت يجمع حصاد حياة البشر في المقابر. وشتَّان ما بين حصادٍ وحصاد!
في المرحلة العاشرة والأخيرة: «شكراً» «يا موت، شكراً، / ما تبقى / ربّما ينهيه في مملكةٍ/لا زمن فيها / ولا حدود: / فانثر على جثمانه الورود»( ص13)
ما رأيت شاعراً كرفقة، يثني على الموت، ويشكره. وهذي الـ «ربّما» هي أصلاً «ربّ»، زائد ما المصدرية. وهي حرف جرّ وُضع للتعليل. وإني أرى اليها تفيد التكثير. فالشاعر، حتماً، أميرٌ على مملكةٍ لا زمن لها ولا حدود. وهل بجديرٍ لتكريمه غير من أوقع به المظالم؟!
هكذا، وبعد أن كان الموت الآمر الناهي، نرى الشاعر يتّخذ المبادرة، وواثقاً يأمر الموت«فانثر على جثمانه الورود»(ص13)
في خاتمة النص الاول يناجي «العودة الأبدية»: «حقيقةً كوني/ أيتها العودة الأبدية/ أبدياً يعود»(ص14)
هذه العودة الأبدية ذات أبعاد وآفاق مزج الشاعر فيها الشعر بالفلسفة، رابطاً بين ما انتهى اليه العقل اليوناني، قديماً، وبين الفكر والشعر الألمانيين، حديثاً. وكان له أن يأمر الحقيقة بفعل«كوني» . وقد بنى مملكة الشاعر، وجعله سيداً على عرشها. «حقيقةً كوني/ أيتها العودة الأبدية/ الى هذا المكان أبدياً يعود»(ص14).
«الى هذه اللحظة/ ابدياً يعود(ص14).
«يموت / ابدياً لا يموت»(ص15)
إنّ الموت، بنظره، موتٌ مؤقت، اما الحياة فعودة أبدية لا تموت، باعتبار أنَّ «ما تبقى/ ربّما ينهيه في مملكةٍ/ لا زمن فيها / ولا حدود»( ص13).
وهكذا، فان الشاعر ينهي النصّ الأول الذي شكل تلت الديوان بالقول:
«يروي احد الرعاة انه في شروق
اليوم الثالث شاهد فوق جبل
الزيتون نسوراً تدور، وفي
دوائرها صدى جوقةٍ غير مرئية:
هللويا، هللويا، مباركة أنتِ
أيتها العودة الأبدية (ص15)
إذا كان هناك من كلمة تقال، فان فؤاد رفقة، إنساناً وشاعراً، يتكلم في كتاباته. وأرى الى كلمته تحقق ما تقول. إنها تساعدنا على بلوغ الحرية في زمن الشعرية الحقّ. لذا، لا يمكننا أنْ نردّ على كلمته إلاّ يمفهوم الشعرية كما ارتضاها فعل ايمانٍ باللغة-الكلمة، بالموت في الحياة، وبالحياة في الموت.
تغذّى رفقة من عطاءات الأَرض – الطبيعة، ومن عطاءات الفكر والشعر الألمانيين. ولم يتوانَ، لحظةً عن الاعتراف بفضلهما.
وفي هذا الديوان الأخير، أظنّه قال كلمته النهائية. وقد ركّز عليها، بالدرجة الأولى، لأنها تعبّر عن تصرُّفه. وها نحن نسعى الى استرجاع كلامه حول الشعر والموت والحياة. ومن أوْلَى واجباتنا أنْ نأخذ شعره كحدث لغويّ، والقيامة كحدثٍ هي حدث لغويّ. لذا علينا أن نأخذ الشعرية- شعريته، أيضاً، كحدث لغويّ. فقد وُلدَ نصّه، وولدت معه لغةٌ جديدة، عبّر في ضوئها عن مفهوم جديد للوجود.
إنّ الشعر يُعلمنا لغة الحياة، وإنْ تعرّض للانحلال والموت. فاللغة الحقيقيّة الأساسية المطلقة لغةٌ يتحداها الموت فتنتصر عليه بالحبّ. هذا الانتصار لن يكون ممكناً من دون الشعر. وهذي اللغةُ– لغتُه هي كشفُ ذاته. لذا هي تنضح حبّا وعطفاً وهدوءا مبدعاً. وهكذا بات الشاعر فؤاد رفقة شاهداً على تاريخ اللاهوت الشعري.
وتُسدَل الستارةُ على لوحةٍ أخيرة، جمَعَ الهمسَ فيها والإيماء والأنسام إلى العناصر الأربعة: الهواء، النار، التراب والماء. وأطلقَ تحديده للشعر «همسة كونيّة، لغة اللغات»:
«أبداً هذا الهمسُ
وهذا الايماء
بين الأنسام والقصب:
حديث مُشفّر
هديل الهواء
هسيس النار
نَفَسُ التراب
سقسقةُ الماء:
لغةُ الشعر
همسةٌ كونيّة
لغةُ اللغات»(ص 60)
أيّها الشاعر، إذا كنتُ أنا نقطة ماءٍ، فأنتَ البحرُ! ..
الهوامش:
1- أدونيس، كلام البدايات، ص 143-144.
2- فؤاد رفقة، الشعر والموت – دار النهار للنشر، بيروت 1973.
3- لمزيد من الاطلاع يراجع كتاب الشعر والموت مصدر سابق، ص36.
4- فؤاد رفقة، مصدر سابق.
5- امبرتو ايكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ، بيروت، طبعة اولى 2000، ص 117.
** (مقطع من كتاب ماثل للطبع يتناول ديوان رفقة الأخير)