عيسى مخلوف
يتواصل صدور مجلّة «» في مرحلة تشهد انحساراً كبيراً لحضور المجلات الثقافية الفصلية والمجلاّت الأسبوعيّة والصحف اليومية التي تنطفئ، في الوطن والمهجر، الواحدة بعد الأخرى، وبعضها كان يولي الثقافة حيّزاً مهمّاً.
يواكب هذا الأفول ضمور ثقافي وتراجع معرفي عامّ وانهيار إعلامي وغياب الحسّ النقدي الموضوعي الذي لا تستقيم ثقافة من دونه، في مرحلة أصبح فيها الترويج لكتاب جديد أهمّ من مضمون الكتاب ومن لغته وبنيته الفنية، وأصبح سعر اللوحة أكثر قيمة من جماليّاتها، أي أنّ قيمة الأشياء أصبحت تنحصر، في المقام الأوّل، في مردوديّتها المادية.
الغرب أيضاً يمرّ بمرحلة ثقافية جديدة تتغيّر معها النظرة إلى الثقافة والإبداع بصورة عامّة.ولئن كان الغرب يخضع، في هذا المجال أيضاً، للرأسمال المنتصر، فإنّ المؤسسات والمراكز الثقافية فيه لا تزال قائمة ونشاطاتها مستمرّة من خلال اللقاءات والندوات والمعارض التي تقيمها صروحٌ ثقافية بارزة نذكر منها (هنا، في فرنسا)، على سبيل المثال، «مركز جورج بومبيدو» أو متحف «اللوفر». وهذا المتحف ليس مجرّد صرح ثقافي، بل دولة قائمة بذاتها. دولة أمميّة. هنا يمكث المصري الفرعوني بجانب العراقي السومري، والفنون الإسلامية قرب الفنون اليابانية، وفنون النهضة الإيطالية قرب الفنّ الفرنسي. فضاء شاسع لبعض أجمل ما أنتجته الحضارات الإنسانية، وهو فضاء يؤكّد أنّ باستطاعة البشر على الأرض أن ينتجوا شيئاً آخر غير الحروب.
الوضع في العالم العربي مختلف تماماً، فتلك المنطقة من العالم تمرّ بلحظة تحوّل تاريخي، وهي لا تعيش أزمة ثقافية فقط، بل أزمة وجود. أزمة تطالها كياناً ومقوّمات، حاضراً ومستقبلاً. أمّا لماذا حلّ به هذا الويل، فليس هنا المجال لتناول هذا المسألة بشقّيها الذاتي والموضوعي، لكن كان لا بدّ من هذه الالتفاتة السريعة لموضَعَة مجلّة «» في سياق عامّ يشكّل تحدّياً يومياً لولادة أيّ جديد، ولاستمرار أيّ مشروع مهما كان نوعه وحجمه.
لقد استجابت مجلّة «»، منذ صدورها حتى اليوم، لتحدّيات كثيرة انطلاقاً من وعيها لمعنى الرهان الثقافي. انفتحت على الثقافات الأخرى من خلال الحيّز المخصّص للترجمة، والدراسات والمقالات التي لا يغيب عنها الفعل الثقافي في العالم. هنا يتجاور الأدب والفنون، الفكر والفلسفة، النثر والشعر، المسرح والسينما، قراءة الواقع العربي والإسلامي عبر متابعات بعض البحّاثة والمفكرين، وذلك كلّه ضمن هاجس الإصغاء إلى واقع الثقافة العربية والعالمية في توجّهاتها وحساسياتها المختلفة. كأَن تطالعنا في عدد واحد من الأعداد الأخيرة للمجلّة مراجعة لعلي حرب عن موقع العالم العربي والإسلامي في العالم الراهن، ونصّ مترجم لفاطمة المرنيسي، وأيضاً مقال بعنوان «الملابس العربية في الشعر الجاهلي»، إلى جانب «الرسائل المتبادلة بين فيديريكو فيلّيني وجورج سيمنون»…
في الثقافة – الثقافة بمعناها الإبداعي-، تَبطُل الفواصل بين الجغرافيات وبين الأزمنة. هل يمكن أن يكون فيلّيني ماضياً؟ هل ينتمي أبو نواس، مثلاً، إلى المرحلة الممتدّة بين القرنين الثامن والتاسع فقط؟ أم أنّ هناك نصوصاً وأعمالاً أدبية وفنية لا تتنازل عن حداثتها العابرة للزمن. وهنا يكمن الرهان على الإبداع غير المقيّد بزمان ومكان، الإبداع الذي يحرّض، هو أيضاً، على طرح أسئلة جديدة، ويدفع إلى رؤية الواقع من زوايا أخرى تتجاوز السائد والمألوف.
هذا المنحى الذي اتخذته «»، منذ البداية، ينتصر للسؤال لا للإجابات الجاهزة. للشكّ ينتصر لا لليقين. ألا يقول نيتشه إنّ «كلَّ يقينٍ سجنٌ». والعالم العربي الذي صدئت روحه أكبر سجن في العالم اليوم، إذ تستحيل الحياة فيه، هي نفسها، سجناً. والذين يعيشون في أرجائه، في القسم الأكبر منهم، إنّما يتجرّعون الموتَ، قبل الموت، بسبب العنف الذي يتآكله، من الداخل ومن الخارج معاً، وبسبب الحروب الأهليّة والطائفيّة، وبسبب الغرق في دوغمائية مُطلَقة عمياء تطفئ جميع الأنوار وتَحول دون أيّ تقدُّم.
في هذا السياق العامّ، لا تفتأ المجلّة تقترب، ومن دون تردُّد أو خوف، من بعض الأسئلة الصعبة – وهي أسئلة الحياة اليومية – التي تحاول الذهنية التقليدية الجامدة أن تطمسها وتخفيها في غياهب النسيان، كأن شعوب تلك المنطقة غير معنية بها. ومن تلك الأسئلة ما يتعلّق بالدين والمرأة والجنس والعلم والتكنولوجيا واللغة والانفتاح على العصر وقبول الآخر المختلف…
حتّى الشعر الذي أصبح كائناً مهمَّشاً إلى أقصى الحدود، لأسباب عدّة ومنها عدم القدرة على تدجينه وتحويله إلى سلعة تُباع وتُشترى، يجد مكانه في «»، ليس فقط من خلال الكلمات والقصائد، بل أيضاً، وهذا هو الأهمّ، من خلال رؤية إلى الشعر تجعله جزءاً من البحث عن المجهول وإعادة صياغة الأسئلة الجوهرية التي تضع الإنسان على طريق المصالحة مع نفسه ومع العالم من حوله. لأنّ الشعر الحقيقي، في النهاية، هو الذي ينقذ الكلمات من الاستعمال اليومي، ويحييها من رمادها. وهو المرادف للحرّية والبحث والاكتشاف. إنه نقيض الحقيقة الواحدة والفكرة الواحدة. ألا يصفه سان جون بيرس بقوله إنه «مُحيي حلم الأحياء والحارس الأكثر وفاء لميراث الأموات»؟
إنّ طمس الحسّ الشعريّ هذا، بمعناه الأعمق، شرقاً وغرباً، هو جزء من طمس الشاهد على ما يتهدّد الإنسان والحيوان، النبات والبيئة، أي جميع الكائنات والعناصر الحيّة التي تتقاسم الحياة على هذه الأرض، وذلك لاعتقاد العابثين، الساعين فقط إلى الرِّبح، أنّ الجريمة التي لا يُشهَد عليها هي جريمة لم تحصل.
أخيراً، هل يمكن الحديث عن «» من دون ذكر الصديق الشاعر سيف الرحبي الذي أعطاها من نفسه ومن رؤيته الى الثقافة ككلّ، وإلى دور الثقافة وما يمكن أن توفّره بصفتها فضاءً للقواسم المشتركة؟ هل يمكن ألاّ نلتفت إلى مقدّماته في كلّ عدد من أعدادها، وهي مقدّمات تنطلق من الشعر بالمعنى الذي كنّا نتحدّث عنه، أي كطائر يحوم فوق الكائنات والأشياء ويشهد على جمال ما يرى وهَولِ ما يرى؟ لكن ماذا يفعل الشاعر الأعزل حيال الدمار الحاصل أينما كان، وخصوصاً حيال العالم العربي حيث «القلوب مأهولة بجراحاتها ونحيبها… شلاّل دماء ودموع»، على حدّ تعبيره؟ في صوت سيف الرحبي حسرة كبيرة ووجع إنساني كبير. صوته رجع صدى لكلمات الهنديّ الأحمر حين قال: «عندما يتوارى آخر إنسان أحمر عن هذه الأرض، يستمرّ ذكره ظلاًّ كظلّ غيمة فوق الحقول. سوف تبقى الضفاف والغابات مسكونة بأرواح شعبي، لأننا نحبّ هذه البلاد كالطفل الرضيع يحبّ دقّات قلب أمّه».
لكن وراء الغيوم السود، وراء الأحقاد والإقصاء والعنف، وراء اللاعدالة والاستبداد والاستغلال والظّلم، وراء الحروب وتجارة الأسلحة وانتصار السيّد المال، لا بدّ للمسافر أن يتمسّك بالخشبة العائمة. يقول هولدرلين، وكم نحتاج اليوم إلى الاقتناع بقوله: «حيث ينمو الخطر، تنمو أيضاً إمكاناتُ الخلاص».