حسين نشوان *
كانت مدينة بيروت مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تعاني من التعب الذي خلفته الحرب الأهلية التي قسمتها لشطرين غربي وشرقي، وفي الوقت نفسه تعاني من «ديمقراطية البنادق» بحسب واحد من أبرز قادة العمل الفلسطيني الذي كان يرى أن حسم الخلاف بين أي فصيلين لا يكون إلا عبر البندقية.
وفي تلك المناخات كانت معاهدة كامب ديفيد تلقي بظلالها على الوضع الفلسطيني والعربي برمته، والحركة الوطنية الفلسطينية واللبنانية تعاني من الانشقاقات التي تفتت قوتها، ودخلت بيروت تحت رعب السيارات المتفجرة، والغارات الإسرائيلية التي كان أعنفها قصف مقرات القيادة الفلسطينية ومكاتب الإعلام في «الفاكهاني» الذي كان يسمى «الجمهورية».
وكما يقول أدونيس:
«الشارع امرأة
تقرأ حين تحزن الفاتحة
أو ترسم الصليب
والليل تحت نهدها محدب غريب
كلابه الفضية النائحة
والأنجم المطفأة
والشارع امرأة
تعض كل عابر».
وهي بيروت نفسها التي وصفها بأنها «مشهد وليس مدينة، تحاصرها الحروب الخفية أو المعلنة».
بيروت الحالمة وغابة البنادق
كانت بيروت في الثمانينيات من القرن الماضي وما قبل ذلك ملاذًا يجمع المتمردين والحالمين من أبناء البلاد العربية وبعض الأجانب، وتمثل «دولة» لها نظامها غير المكتوب والذي يتواطأ معه كثيرون بالصمت.
وكانت الثقافة والأدب والصحافة لا تخرج عن الإطار العام للتنظيمات، حيث تعتبر نفسها فصيلًا مسلحًا بالقلم الذي يرتدي اللون «الكاكي»، وكان لكل فصيل إعلامه ومجلته، وصحفه.
جاء الشاعر علي فودة إلى بيروت نهاية السبعينيات، وكان سبقه إلى بيروت رسمي أبو علي، والتأم شملهما دون مواعيد أو ترتيب مع عدد من الكتاب العراقيين الذين فروا خلال الحرب العراقية الإيرانية، ووجدوا في بيروت ملاذهم.
وكان فودة الذي يحمل في شخصيته عوامل الرفض والتمرد على نحو شبه فطري أميل الى الشغب والصعلكة، لم يستطع أن يكون جماعياً أو منضوياً تحت لواء المؤسسة، وهو ما جعله يتعرض للسجن في بعض الفترات، ولذلك فقد رأى أن الثورة تتحكّم فيها اللعنات، وهي بحاجة لمنبر إعلامي مُستقل وجريء ولا يُجامِل أحداً.
وكانت الكثير من الحوارات تدور في أوساط المثقفين في تلك الفترة، وكذلك في الأوساط التنظيمية التي لا تخلو من أجنحة متباينة في التنظيم الواحد بين الماركسيين والقوميين والمحافظين واليمينيين، وكانت الحوارات تستعر عند المؤدلجين حول طهرانية الثورة ومشكلاتها وانحرافاتها وتاريخية قياداتها بالنظر لتفشي الكثير من الأمراض في جسم حركة المقاومة، ومنها البيروقراطية وتفريخ المؤسسات والشللية و«الأزلام».
من الرصيف للرصيف
ولم يكن الأدباء غائبين عن تلك المعركة أو الصراعات التي كانت تطاول روح الفكرة التي ناضلوا لأجلها، بل أن كثيرًا منهم دفع ثمن موقفه، ويبدو أن بعضهم كان يبحث عن فضاء آخر ينأى فيه عن «عش الدبابير»، وكانت المقاهي منصة للقاء الأدباء والكتاب والروائيين والصحفيين ممن كانت تنتهي حواراتهم فيها بـ»فش الخلق».
وحينما ظهرت «الرصيف» انضم إليها عدد المؤمنين بالفكرة مع فودة وأبو علي، ومنهم ثلاثة من الكتاب العراقيين، هم: آدم حاتم، غيلان، وأبو روزا وولف (الكردي)، وعدد من الأصدقاء، غير أن «المرجعيات الفكرية والجمالية للرصيفيين كانت متعددة إلى درجة التضارب رغم ما يجمعهم من شعور بالرغبة في الخروج على البطاقة الحزبية، وإطلاق الحرية الشخصية في العيش والتعبير الفني». وهو ما كانت تدركه جماعة الرصيف.
ومع وجود ذلك الصراع والأمراض البيروقراطية فقد كانت الساحة الثقافية كانت تعج بالأسماء اللامعة في الوسطين اللبناني والفلسطيني،وكان لذلك الصراع بعض الإيجابيات التي خلقت جملة من المعارك الأدبية، وبالتأكيد فإن وجود الصراع والأمراض لا يمكن أن يفهم منه أن الخواء كان مسيطرًا على الحالة الثقافية، فقد كانت الكثير من المجلات تصدر بانتظام، ومنها: «شؤون فلسطينية» و«الكرمل» و«الهدف» و«الكفاح العربي» و»الثائر العربي» و«الوطن» و»المعركة» و«الحقيقة» و«فلسطين الثورة»، عدا عن الصحف اللبنانية ومنها: «النهار» و»السفير».
وكان مركز الأبحاث الذي رأسه وقتذاك د. فايز الصايغ يقوم بمهمة حضارية ونضالية كبيرة وتوثيقية وبحثية مهمة، وصدر عنه العديد من الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتعلق بالعدو الصهيوني وأخرى تتعلق بتاريخ فلسطين ونضال شعبها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كانت هناك المحترفات التشكيلية، والمتحف الفلسطيني الذي يحتوي على عدد من أعمال الفنانين الفلسطينيين والعرب والأجانب، وحينما نتحدث عن ذلك، فإنما لنعرض المناخات الثقافية والفنية القائمة التي كان على رأسها عدد من المبدعين والباحثين، ومنهم: محمود درويش واسماعيل شموط ومنى السعودي وعز الدين مناصرة والياس خوري وأنسي الحاج وفايز الصايغ.
وفي هذه المناخات برزت فكرة «الرصيف» التي لم تنسحب أو ولم تنشق عن تلك المؤسسات لأنها لم تكن جزءًا منها أصلًا، فقد اختارت أن تُنبت بعيدًا عنها في فضاء الشارع لتعبر عن فكرة الهامش في مواجهة المؤسسة التقليدية التي غدت جزءًا من دولة، بدلًا من أن تكون جزءًا من الثورة.
وبدأت اللقاءات في مقهى أبو علي في «الفاكهاني»، وكانت تجري خلالها حوارات غير مخطط لها، ولكنها تصب في الهواجس التي يحملها المشاركون بإزاء الحالة الراهنة والغربة التي يعيشونها في منفى المكان والزمان. ثم تبلورت الفكرة بالاتفاق على الخروج من الانصياع إلى نقد الواقع، بمعنى الإجابة عن سؤال «ما العمل»؟ فكانت الفكرة، في العام 1981: «رصيف 81» كمجلة/ منصة للتعبير عن الرفض لواقع المؤسسة.
البيان الأول
ويعيد رسمي أبو علي الفكرة إلى زمن يسبق تلك الجلسات وحتى موعد صدور «الرصيف» بأكثر من عقدين حينما شارك الكاتب التونسي الصافي سعيد، في إطلاق «المنفستو الجنائزي رقم صفر»، نصوص مضادة من أجل الإنسان، العمل، الفن، اللعب. الذي يمثل الهاجس الأول لفكرة الرصيف، ومنطلقاته، وأن «المنفستو» كانفي بمثابة تمهيد نظري لـ«الرصيف» الذي ظهر بعد حوالي سنتين في العام 1981.
الانتماء إلى اللا أحد
وحينما صدر العدد الأول من الرصيف وجدته على طاولة في أحد المكاتب الإعلامية، وتصفحت العدد من باب الفضول بعد أن تعرض لهجوم كاسح من المثقفين، ولفتتني افتتاحيته على ما تسعف الذاكر، ومنها: «اننا لا نرتدي الكاكي، ولا نحمل السلاح، واننا استبدلنا بالكاوبوي وقمصان الكاريهات.. واخترنا الرصيف»، و«نحن لا ننتمي لأحد، وأننا فوضويون»، و«أننا خارج النخبة وننحاز للبسطاء والهامشيين».
وقد قوبل ذلك الطرح بهجوم ساحق من غالبية مثقفي التنظيمات، وصدرت الكثير من التأويلات حول مفردات الهامش والفوضى والانتماء التي أولت سياسًا وأيديولوجيًا، فالماركسيون اعتبروا ذلك دعوة «فوضوية»، وآخرون اتهموا «الرصيفيون» بالتخلي عن الكفاح المسلح، واعتبرت هذه الخطوة بالنسبة للمؤسسة عصيانًا وتمردًا وشغبًا، وخروجًا على الطاعة، ولم يفهم في السياق خلفياتها كحركة «صعلكة»، ولم يتم التعامل مع الحركة معرفيًا بالمعنى الاجتماعي والعلمي لقراءة الأسباب في ظل هيمنة فكرة التعالي والولاءات التنظيمية.
وقبل أن يخرج العدد الثاني من المطبعة، كان الخلاف قد دبّ بين علي فودة ورسمي أبو علي، فانشق الأخير عن صاحبه ومضى يتهمه أنه «خان الهامشية» بحسب نوري الجراح، وقاد المنبر إلى «علاقة غير بريئة ومرفوضة مع المؤسسات». فـ«القطيعة مع المؤسسة»، حتى الـ«ثورية» منها، كانت شعاراً أعلى لـ «الرصيفيين».
وتم تقويض الفكرة في مهدها باحتواء أحد أركانها، حينما أشاد أبو عمار في واحدة من اللقاءات بجامعة بيروت العربية بعلي فودة، وقال «كلنا رصيفيون»، وتحولت الفكرة لصحيفة يومية تولى رئاستها الشاعر علي فودة وساهم في الكتابة فيها عدد من الكتاب الفلسطينيين واللبنانيين والعرب.
وتحولت مجلة «رصيف 81» إلى صحيفة يومية، وكان فودة يقوم بتوزيعها على المقاتلين بنفسه حتى يوم استشهاده أثناء الغارة الصهيونية التي استهدفت مقار الثورة والفلسطينية، وقد أعلنت وفاته مرتين، حيث اكتشف أنه كان مصابًا، ونقل إلى المشفى، وحينما أفاق قرأ نعيه في الصحف، فرد على ناعيه بمقال، وفي المرة الثانية رحل تاركًا «الرصيف» صامتًا كما جاءه أول مرة.
والسؤال، هل حققت الرصيف فكرتها الإبداعية والتنظيرية؟
على الصعيد الإبداعي، لم تشكل المجلة تجاوزًا للصحف والمجلات الصادرة في بيروت وقتذاك، سواء أكانت المجلات الصادرة عن التنظيمات أم الصحف اللبنانية، وكما كانت بيروت غابة للبنادق فقد كانت حديقة للطباعة والنشر، تصدر المعرفة لغالبية الدول العربية، ولكن «الرصيف» حتى كفكرة استطاعت أن تقف جوار تلك المجلات.
انقلابية التعبير
ومع أن المجلة كانت تمثل منصة للتجارب التي تتصل بانقلابية التعبير على المؤسسة بكلياتها، ومنها المؤسسة الثقافية والنقدية، إلا أنها لم تحقق ذلك على صعيد الشكل أو التجربة بالنسبة لمؤسسيها الذين لم يكونوا في غالبيتهم من أصحاب التجارب المميزة بالقياس لمثقفي بيروت. ولم تلق المجلة حجرًا في الماء الراكد والسائد، وإن كانت نشرت العديد من قصائد النثر إلا أن المجلة والقائمين عليها في ذلك الوقت لم يلتفتوا إلى ذلك الصوت الشعري الخافت، ولم يتم نشره في سياق تنظيري أو انحياز لهذا النوع من التعبير في المجلة.
ومن المؤكد أن هاجس التمرد والخروج عن جدران المؤسسة وسقفها لم يكن مشفوعا بمقولات تنظيرية تتصل بالأدب، بمقدار ما تمثلت في «مماحكات» تتصل بالمواقف في اقتراباتها من «المؤسسة» التي كانت تمثل سلطة المصالح التي تفتح الآفاق أو تغلقها في وجه مناكفيها.
ولم تستطع المجلة أن تجاري نظيراتها من الصحف التي كانت تصدر في بيروت، وهي صحف لا تعوزها مساحة الحرية وتنوع الموضوعات وجديتها وجديدها واحتراف كتابها، وقبل كل ذلك الدعم. وكانت الصحف والمجلات التنظيمية تعتبر «الرصيف» و«الرصيفيين» خارج البنية الثقافية الثورية، وبالتالي كانت لا تنظر لها بجدية، وإن كانت المجلة تنطوي على نصوص لعدد من الشعراء العالميين. كما أن أعضاء الجماعة لم يكونوا الأكثر موهبة في مجتمع أدباء «الفاكهاني»، لكن هؤلاء على تفاوت مواهبهم، كانوا الأكثر إشهاراً لهامشيتهم، ولإحساسهم بالقلق، والعبث، واستشعار الكارثة، كما قال الشاعر نوري الجراح، ولم تخرج تجربتهم عن مسار تجاربهم السابقة، باستثناء ما قاله رسمي أبو علي عن علي فودة: «إن كتابات فودة تغيرت بعد قدومه إلى بيروت، حيث أصبح شعره أكثر حميمية فتغيرت مفرداته الشعرية ورؤيته الجمالية بشكل عام».
وقد أحدثت بعض النصوص التي نشرت ضجة سلبية و«صدمة»، ونقدًا وتهكمًا من عدد من الكتاب، ووصفت بالهذايانات، واللامعقول، وهو في الواقع يمثل توصيفيًا حقيقيًا لطبيعة نصوص «الرصيف»، وربما يكون ما قيل إذا ما نقي من مفردات التهكم والإقصاء، في مثابة قراءات نقدية «صحيحة» لأسلوب الكتابة الرصيفي في انسجامه مع ذاته وأطروحاته النظرية في ذهابه للفنتازيا والسوريالية واللامعقول الذي يرى فيه الواقع مشوها.
ثمة مشكلة في التوثيق للمجلة التي رحل مؤسسها، واحترقت المطبعة التي تحتفظ بأرشيفها، ثم تلا ذلك خروج المقاومة من بيروت، ورحيل واحد من مؤسسيها الذي كان على خلاف مع رسمي أبو علي منذ العدد الثاني، وبالتالي فإن مصادر الحديث عن التجربة تكاد تصعب مهمة الباحث، غير أن المرء لا يعدم الوسيلة من قراءة ما تناثر هنا وهناك.
تذويت الكون
ولعل من أبرز القضايا التي تتناولها النصوص الرصيفية، هي تذويت الكون، والانصراف عن القضايا الكبرى لمصلحة تصوير مشاعر اللحظة، ومع أن غالبية الخطاب ينصرف للماضي إلا أن المستقبل هو رهان الرصيفيين الذين كانوا ينقلون الإحساس بالمظلومية، ويواجهونها بنوع من العزلة والتشاؤمية التي تعلن عن نفسها بحزن يشبه الأنين، وتبرز الأنا في النص، ولكن الأنا المجروحة التي لم تفقد الأمل:
يقول علي فودة:
«كنا ذئاباً من الطيبة تجأر
في وجه النعاس
كنا جوقة من الغربان البيضاء في الفاكهاني
وفي المساء صعاليك: لا صلح
لا مفاوضات
لا اعتراف بغير قانون الوردة».
وكتب غيلان: «موكبتُ دمي كطفل طري/ حاذيت أفقاً كان مزرعة للنيازك/ وكخناجر البروق حين تشق أنهاراً في جسد العتمة/ حييتُ رجلاً كان يحاور وردة/ بانتشاء الذي استعرض العالم على ظهر نمر».
ومن التجارب اللافتة التي يمكن التوقف عندها الكتابة التبادلية، بمعنى أن يكتب رسمي أبو علي عن أبو روزا، ويفعل الأخير ذلك مستشرفا حيوات الآخر، كنوع من كتابة السيرة الغيرية، وفي ذلك كتب رسمي أبو علي: «وهكذا/ يا صديقي/ وبعد أن تصدح الموسيقى في قلبك ورأسك/ ستصدح بعد قليل في جسدك الظامئ/ وتكون الحركة الأولى من السيمفونية».
وعلى ما تستعر به بيروت، وتشتعل أرصفتها بالمتفجرات وصوت الرصاص، كان «الرصيفيون»، يحاورون صورهم عبر الدخان، والعالم الافتراضي الذي يهجسون به على طريقتهم السريالية، أو الفوق واقعية التي ربما تكون «موضة في ذلك الوقت» مع اتساع انتشار السريالية كنزعة تعبيرية فتعتبر نفسها فوق كل الحركات الثورية، وتستند إلى فكرة التلقائية النفسية الخالصة. وهو ما يمكن أن يفسر قول رسمي أبو علي: «الرصيف ليس مجلة، انما فكرة أجسدها عضويا وصوفيا»، وهو الذي عبر عنه أبو روزا بعيدًا عن المحيط الخارجي وتأثيراته، وبعيدًا عن الشكل الجمالي لرسم الصورة الحاضرة بتفاصيلها العادية «الهذيانية» التي تؤكد حضوره من خلال ممارساته مهما كانت صغيرة، فهو ليس حضورا فيزيائيًا خاملًا، بل جدليًا يقع بين الغموض والكشف. يقول أبو روزا:
«فرفع صديقي غاضباً سيجارته إلى فمه
ثم أخذ شهيقاً منها
ونفخ بالزفير فكوّن ستاراً دخانياً بيني وبينه
فأخذت أنفخ وأنفخ بالستار حتى أرى صديقي».
إن أهمية مجلة «رصيف 81» تكمن في الجرأة المغامرة لإصدار مجلة في غابة المجلات، وتقول رأيها وفكرتها «المناكفة» في غابة البنادق، وفي تلك الهواجس التي طرحها الرصيفيون، والتي تتصل بواقع المقاومة ومستقبلها، ومستقبل الثورة برمتها والعالم في الفترة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي بقليل، وهي بلا شك تندى عن إحساس بخطر وجودي على الإنسان وكينونته وسؤال الهوية، وتحديدا في ظل التحولات العالمية التي كانت تنبئ بالخراب.
وعي النص وعي العالم
كان الرصيفيون يتلمسون ذلك بوعي النص بما هو وعي للعالم، ولأنه عالم مشوه فهم يعبرون عنه بأسلوب احتجاجي عبثي أو سريالي، ولكن العائلة الرصيفية لم تركن لرافعة قادرة على ترجمة تلك الهواجس إلى خطاب جماهيري.
كان هناك إحساس بفرز طبقي في بنية المؤسسة، وشعور بظهور الكثير من الأمراض التي تفتك بجسدها، وفي المقابل وعي يقيني بأن المستقبل يحمل معه الموت، وأن المؤسسة بهذا الشكل لن تكون قادرة على مواجهة الطوفان الذي يمس هوية الثورة وطهرها. يقول سليم النجار: إن «الحداثة الشعرية فتحت في المشهد الشعري العربي، خلال السبعينيات من القرن الماضي، آفاقاً شكَّل فيها سؤال الهوية الضاغط من برزخ العروبة المحضة، أطيافاً تواشجت مع حركة الحداثة في الشعر العربي عبر النزوع إلى صياغة جديدة «.
يقول رسمي أبو علي: بعد عقود من اشهار الفكرة «الرصيف» أصبح الجميع على الرصيف من دون استثناء، مستدركا إنه قال في البيان: «إننا سائرون في السنوات القادمة إلى نظام دولي ذي قطب واحد، وإننا سنكون الهامش او الرصيف الذي يحاور المركز ديمقراطيًا وفق مبدأ الخيار النوعي الثالث، أي لا قطيعة ولا تبعية، وهو المبدأ نفسه الذي مارسناه مع المؤسسة الفلسطينية»، ويتابع أبو علي: «تنبأت ضمنًا بانهيار الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أثار سخرية وغضب اليسار الفلسطيني التقليدي»، ويقول: «أردنا أن نحدث ثورة في الثورة لنقل القرار إلى الهامش، لكن غزوة شارون 1982 على بيروت ولبنان لم تعطنا أي فرصة».
كانت بيروت عام 1982، رصيفًا ممتدًا على الجهات الأربع، ينتظر فيه المقاتلون الرحلة إلى المجهول وهم يلقون النظرة الأخيرة على رصيف الفاكهاني، بينما علي فودة لا يزال ترابها يحتضنه، ويمد يده بالصورة السريالية نفسها التي رسمها أصدقاؤه لوداع الراحلين، وكما يقول الكاتب الدكتور حسن مدن: كان محمود درويش اجتلس الرصيف، في قصيدته: «أحد عشر كوكباً في وداع المشهد الأندلسي»، ليستذكر رحلة أبي عبدالله الصغير مودعا غرناطة:
«مر كل الخريف
وتاريخنا مر فوق الرصيف ولم أنتبه».
في كثير من الحقب التاريخية، تظهر جماعات صغيرة، تعبر عن اعترضها على فساد السائد بفكرة تتشوفها بيقين القلب، وتقرع الجرس، ولكنها حينما تفصح عنها بالبرهان ربما تخفق، ويخفق معها الآخرون لأنهم لم ينتبهوا.