رسمي أبو علي *
كنت موظفا في إحدى دوائر منظمة التحرير، شاعرا طيلة الوقت أنني لست في المكان الصحيح، والأهم أن المؤسسة لم تستطع احتوائي.
على المستوى الروحي على الأقل وجدت نفسي أكبر من المؤسسة، بما في ذلك المؤسسة السياسية ورأسها ياسر عرفات.
حدث فيما بعد أن صغت منشورا مع الصافي سعيد، ووزعناه في الفاكهاني وبيروت الغربية خلاصته أن الثورة تم تحويلها إلى مؤسسات، وتُدار من قبل عرفات، الأمر الذي ينذر أن الثورة في خطر، وأنها باتت أسيرة مؤسسات فوق بيروقراطية متضخمة.
لكننا مع ذلك؛ لم نكن في حالة قطيعة مع المؤسسة، وإنما كنا في حالة الخيار النوعي الثالث وهو «وحدة-صراع-وحدة»، وعلى مستوى آخر، وفي تواقت غريب مع انتصار ثورة الخميني في آذار/ مارس 1979م، وزعت مع الصافي سعيد منشورا مطبوعا بعنوان بدا غريبا في أوساط الفاكهاني «المانيفستو الجنائزي رقم صفر من أجل الفن واللعب، من أجل الإنسان اللاعب الفن واللعب»، نصوص مضادة، وكان البيان هجوما كاسحا ضد المؤسسة والتي تبدأ بالأسرة وتنتهي بالدولة، المؤسسة التي تهدد بابتلاع الثورة، كان البيان غريبا نوعيا بلغته الماركسية المتقدمة والتي يجيدها الصافي سعيد التونسي اليساري والمتشرب للغة الماركسية المتقدمة في فرنسا من خلال أحزاب اليسار خاصة وأنه – أي الصافي- صديقا مقربا من العفيف الأخضر أشهر يساري في تونس في ذلك الوقت ..
بيان الرصيف الأول
لعلني أشرت بسرعة إلى بعض ملامح الرصيف هو أننا أمميون دايلكتيكيون، لماذا أمميون؟،لأن الثورة الفلسطينية لها أربعة أبعاد، الفلسطيني العربي الإسلامي والأممي، وبدون تفعيل كل هذه الأبعاد فمن المستحيل أن تنجح الثورة، وهو ما حدث بالاقتصار على البعد الفلسطيني عبر مقولة الممثل الشرعي الوحيد.
أما ديلكتيكي فتشير إلى البعد الماركسي في تفكيرنا، أما تفعيل أبعاد الثورة فهو وحده الكفيل بأخذ الشعب الفلسطيني لحقوقه كاملة غير منقوصة، أما الثورة الفلسطينية فهي رأس الرمح لخلق تيار أممي يهم جميع المهمشين والمقموعين في العالم، ففلسطين كانت ولا تزال كلمة السر للنظام الدولي والذي لن نحصل على شيء إلا إذا توازن هذا النظام وبرز ميزان قوى جديد وليس لنا فلسطينيين وعربا ومسلمين إلا هذا الطريق، وإلا أصبحنا خدما لدى الصهيونية والإمبريالية كما نوشك أن نصير الآن.. وهذه حقيقة علمية قبل أن تكون سياسية؟ .
في البيان الافتتاحي للرصيف كتبتُ أننا مقبلون في السنوات القادمة على عالم أحادي القطب يكون المركز وتكون علاقتنا به أخذ وعطاء؛ لا قطيعة ولا تبعية، أي أنني تنبأت بانهيار الاتحاد السوفييتي ضمنا، وهذا ما حصل بعد 12 أو 13 عاما، وطبعا هذا أثار سخرية اليساريين في الفاكهاني والذي وصفني بعضهم بالمجنون، أما أبو عمار رحمه الله فوصف مشروعنا بأنه تحشيش فكري.
ما هو الرصيف؟
سأتجاوز بعض الاعتبارات وأقول بوضوح: أنا الرصيف، فعلاقتي به علاقة توحد صوفي وشركائي الأربعة لم يكونوا يهتمون بهذا الموضوع وكنت أعرف أن لكل منهم أهدافه الخاصة؛ فعلي فودة كان يطمح لدخول «جنة عرفات» ليحظى بامتيازات النخبة، لكنهم كانوا أصدقاء مقهى حيث نلتقي يوميا في مقهى أم نبيل وهي امرأة فلسطينية تجاوزت منتصف العمر، وكان مقهاها يقع في قلب الفاكهاني.
إذن كنت أنا الرصيف وهو دور ابتكرته بإلهام من طبيعة الثورة الفلسطينية الفريدة من نوعها في التاريخ والتي لا تشبه إلا نفسها، مع العلم أن هذا الدور لم يوجد في أية ثورة، كأنني كبير القوم وخادمهم دون أن أكون في قطيعة مع المؤسسات بشكل عام، أردت أن تكون المؤسسة في خدمة الرصيف، أي أن تكون التنظيمات في خدمة الثورة والشعب لا العكس، لكن للأسف لم يتح للتجربة أن تتبلور إذ تعرضنا لهجوم كاسح من الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون وبعد صمود أسطوري دام ثلاثة أشهر اضطررنا إلى الخروج من بيروت ولبنان.
بعدها تفرق الشمل: علي فودة استشهد وهو يوزع أعداد «رصيفه» على المقاتلين، آدم حاتم بقي في مخيم عين الحلوة قرب صيدا وتوفي هناك، غيلان هاجر إلى أستراليا وافتتح مطعما هناك، وأبو روزا وولف ذهب إلى هولندا كلجوء إنساني ولا يزال هناك وانقطعت أخباره، أما أنا فعدت إلى عمّان عبر دمشق حيث مكثت فيها خمس سنوات، وما أزال إلى اليوم رصيفا؛ فهذا في دمي وما زالت تنفجر انتفاضات رصيفية مثل السترات الصفراء وقد بلغت الثمانين، ولا زلت أتابع أملا أن يظهر شخص ليكمل ما بدأته.