هي أكبر مجلة ظهرت بعد الحرب العالمية لتحل في دار غاليمار محل «المجلة الفرنسية الجديدة» التي منعت من الظهورعقب تحرير باريس لكونها مالت نحو العمالة مع دريو لاروشيل. منذ ظهور العدد الأول في أكتوبر 1945غدت «مجلةَ سارتر» على نحو ما كانت المجلة الفرنسية الجديدة قبل الحرب «مجلة جيد». سيعرف سارتر شهرة عالمية بفضل موضة جديدة هي النزعة الوجودية.
وعلى رغم ذلك فمن هيئة التحرير الأولى التي كانت تشمل ريمون وسيمون دوبوفوار وميشيل لايرس وموريس ميرلوبونتي وألبير أوليفي وجون بولان، لم يكن يجد نفسه في الوجودية سوى سارتر ودوبوفوار. فقد اختارا، وفاء لشارلو، عنوانا للمجلة عبارة «الأزمنة الحديثة» تعبيرا عن ارادتهما في التدخل في ماجريات الأحداث. واليوم يرأس كلود لانزمان المجلة التي مازالتتحتفظ بصورتها الأصلية وروح الالتزام والمسئولية التي كان سارتر قد أجملها على النحو التالي:» في الأدب الملتزم لا ينبغي أن ينسينا الالتزام الأدب بأي وجه من الوجوه…ينبغي أن ينصب اهتمامنا على خدمة الأدب بأن نضخ فيه دماء جديدة هو والجماعة البشرية، وذلك بأن نهب لهذه الجماعة الأدب اللائق بها».
لم يفتأ الجدال أن اندلع، فقام أندري جيد مع أندري بروتون وآخرين بتوجيه أصابع الاحتجاج ضد هذا المفهوم عن الأدب الذي يريد أن يخدم الحاضر. وهكذا صرخ أراغون: «لا نلزم بالخدمة الا الخدم». فعقب سارتر على ذلك سنة 1947 في «ماهو الأدب؟» مستخلصا هذه النتيجة الذائعة الصيت:» بامكان العالم أن يستغني عن الأدب، الا أن بامكانه كذلك أن يستغني حتى عن الانسان». لم يحد سارتر قط عن النهج الذي اتبعه في نشر مقالات الكتاب المجددين. من بين الأوائل ريشار رايت، فيوليت لودوك، جان جوني، نتالي ساروت، فرانسيس بونج، بوريس فيان، سمويل بيكيت. ولن تحيد الصيغة الجديدة للمجلة برئاسة كلود لانزمان عن ذلك. وهكذا ففي سنة 2001 ظهرعدد مخصص لسيرج دوبروفسكي.
الاأن هذا التوازن بين الأدب والالتزام السياسي لن يعمر طويلا. وقد أدت المسألة الشيوعية الى احداث انقسامات وانفصامات، فغادر ريمون آرون المجلة سنة 1946 من أجل أن يصبح محررا في صحيفة الفيغارو. مع كامو سيفضي الخلاف السياسي الى خصام سيتخذ مظهرا عموميا: عبر كامو عن عيائه من تلقي الدروس «من مراقبين لم يضعوا الا كراسيهم في اتجاه التاريخ». رد سارتر على ذلك: «اسمح لي يا كامو، قل لي ما السر في أننا لا نستطيع انتقاد مؤلفاتك من غير أن نجرد الانسانية من مبررات عيشها».
كان ميرلو بونتي عمليا هو الذي يعطي المجلة توجهها السياسي. كان في البداية أشد قربا الى الشيوعيين من سارتر، الا أنه سرعان ما أخذ يبتعد عنهم بقدر ما كان سارتر يقترب من الحزب الشيوعي الفرنسي الى أن انسحب م. بونتي من غير صخب سنة 1950 عند اندلاع الحرب الكورية قائلا: ليس علينا الآن الا أن نخلد للصمت». سيروي سارتر التاريخ السياسي للمجلة عند تأبين م. بونتي لحظة وفاته سنة 1961. خلال سنوات 1960و1970
سينحو أندري غورز بالمجلة نحو «التوجه الايطالي» للمناضلين الشباب لليسار المتطرف، ثم نحو النقد الرأسمالي الجديد فيما بعد.
كانت المجلة تصل في عهد ازدهارها الى 20000 قارئ داخل فرنسا وخارجها، وكانت تمارس تأثيرا بليغا حتى أواسط سنوات 1960. خلال حرب الجزائر ساندت المجلة مناضلي جيش التحرير مساندة قوية، واستنكرت كل أشكال التعذيب، مما أدى الى اخضاعها للرقابة فالحجز.
تلك كانت معركة سارتر الذي عمل فيما بعد على الانفصال التدريجي عن مجلته. وهكذا فبينما أخذ تأثيرها يفتر، تزايد تأثير مجلة «الفكر» التي ظهرت خلال سنوات 1930. تواصل هذا التنافس، وانتصرت الكاثوليكية الشخصانية التي تنهج نهجا مناضلا على حساب الوجودية التي لم تعد «الأزمنة الحديثة» تنتصر لها. واليوم لا نعثر للمجلة على وجود الا في بعض المكتبات، الا أنها مازالت تحافظ على عدد من المشتركين.
هل هو سير في طريق الأفول؟ الجواب نعم إن نحن قسنا الأمر عدديا، الا أن المجلة مازالت تقرأ بعناية، لأنها تنشر مقالات جيدة تحفز على طرق قضايا الحاضر. فهي قد ظلت ،على طريقتها، وفية لسارتر حتى بعد وفاته سنة 1980.. تحدث كلود لانزمان، عندما تسلم من يدي سيمون دوبوفوار التي توفيت سنة 1986 مقاليد ادارة المجلة، تحدث عن «ميثاق اللاخيانة». وهو ميثاق حوفظ عليه رغم أن لانزمان ليس في مقدوره أن يصرح على غرار ما فعل سارتر سنة 1976: «انني أساند الفلسطينيين بقدر ما أساند الاسرائيليين، والعكس».
اذا راجعنا الأعداد السابقة، فاننا نتبين أن الأعداد الخاصة هي التي تجسد تاريخ المجلة. ففي العدد الخاص الأول الذي ظهر سنة 1946 كان سارتر قد قدم الولايات المتحدة التي عاد منها لتوه الى الفرنسيين الذين لم يكونوا يعرفونها الا عبر كليشيات وأحكام مسبقة و أساطير. عدد خاص آخر ظهر سنة 1955 حول «اليسار» حاول فيه كلود لانزمان كفيلسوف ذي ميول سارترو- ماركسية، أن يرسم صورة «رجل اليسار». في سنتي 1956-1957 ظهر عدد حول « التمرد الهنغاري» منددا بالقمع السوفييتي. ثم عدد آخر ظل مرسوما في التاريخ حول «الصراع الاسرائيلي العربي» الذي ظهر خلال حرب الستة أيام سنة 1967 وهكذا تمكن من أن يضع في العدد نفسه مثقفين اسرائيليين مع مثقفين عرب جنبا الى جنب.
لن نأتي على ذكر العناوين جميعها: «أفغانستان» (1980)، «شهادات سارتر» ( عددان ضخمان سنة 1990) «روواندة- بوروندي» (1995)…غير أن العدد الخاص «النساء يتعنتن» 1974 وهو العدد الذي كانت سيمون دوبوفوار من ورائه، هو الذي يعبر أحسن تعبير عن روح سنوات 1970. كانت دوبوفوار قد نشرت «الجنس الآخر» 1948- 1949 على شكل مقالات في المجلة. وماذا عن سارتر؟ انه ظل حيا في مجلته، بفضل مقالات لم تنشر خلال حياته، وهي مقالات رائعة، هامة ومثيرة للاهتمام.
عن صحيفة لوموند الفرنسية le monde
ميشيل كونتا ترجمة:عبد السلام بنعبد العالي\
\ مفكر من المغرب