امرأة الأرق سيرة ثقافية للروائية ميرال الطحاوي، صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة كتابات جديدة / 2012م. تجسد الكاتبة فيها كيفية تحولات الشخصية من خلال تكوينها الثقافي وقراءاتها المتنوعة. تتآزر العتبات النصية للسيرة مع المضمون الدلالي في بلورة رؤية الكاتبة وفق بناء قائم على حرية الفضاءات الزمكانية، وسنلاحظ أن العتبات النصية المتمثلة في : العنوان، صورة الغلاف، الإهداء، تصب كلها حول مفردتين هما : المرأة والأرق. فالعنوان المتكون من المبتدأ (امرأة) والمضاف إليه (الأرق) هما الثيمة التي تنتظم العمل جملة. وتدور صورة الغلاف حول المفردتين بشكل فني نجحت الكاتبة أو مصمم الغلاف (أحمد اللباد) في توظيفه فالغلاف عبارة عن زجاجة عطر تتوسط الزجاجة خطوط واضحة لامرأة واقفة بعرض زجاجة العطر، والوقوف عادة يكون طوليا لا بالعرض والشكل يوحي بأن هذه المرأة مستعرضة في وقفتها، وكلمة مستعرضة لعلها من جانب آخر توحي بالاعتراض والرفض فشكل المرأة يعترض الزجاجة، والزجاجة ربما تشير من جانب آخر إلى سجن الأنوثة وفق رؤية المجتمع للأنثى وحصرها بالتزين والعطور، وعلى الزجاجة كتبت كلمة لافندر، واللافندر في الموروث العربي هو زهر الخزامى، ودلالات زيوت الخزامى وفوائدها في المعاجم العربية تفيد ما يلي : «يساعد على الاسترخاء، ومضاد للاكتئاب، مهدئ للأعصاب ويستخدم لعلاج الأرق والاضطرابات العصبية…» إذن الغلاف أيضا يحفر على بلورة مفردتين هما (المرأة والأرق). أما الإهداء فيجسد لنا امرأة توسدتْ بياضها ورحلتْ (قبضتِ الأبيض في يدك السخية، وتركتِ لنا أسود الحداد القاسي الطويل.. إلى أمي هذا بعض أرقي. أرق الكتابة) هاهما مفردتا المرأة والأرق تنتظمان تماما خيوط الإهداء أيضا المتمثلة في الفقد / فقد الأم الذي سيتسبب في زيادة القلق والحزن والوحدة والألم للكاتبة، وكلها مسببات الأرق. محتوى الكتاب أيضا يرتكز على محورين هما المرأة والأرق، فالسيرة كلها عبارة عن فسيفساء متنوعة مرصوصة إلى بعضها البعض لتشكل لوحة كلِّية للمرأة، إذ تقصتْ السيرة جزئيات المرأة وخصوصياتها وعلاقاتها وإشكالياتها الإنسانية، فتناولت المرأة والكتابة، المرأة والتكوين والخلق (ضلع أعوج) المرأة والموجودات (علاقة المرأة بالقمر والشمس والبحر والسماء والأرض) المرأة والحكي (المرأة الحكاءة الأولى) المرأة والفقد / الموت (الرثاء والعدودة) الحب والفقد (علاقة سوزان بزوجها طه حسين نموذجا) المرأة والأبراج، المرأة والأسطورة، المرأة والحنين، المرأة والاغتراب (التمرد والرفض) كتابة الجسد لدى المرأة الكاتبة، المرأة والعشق. الأرق : هو المرتكز الثاني الذي تتمحور حوله التجربة وجدناه في العنوان ولوحة الغلاف والإهداء، وتتناثر مفردة الأرق، عبر الكتاب كله بكثافة مركزة وعمق في وعي الكاتبة، والأرق هو المعادل الفني لفعل الكتابة ومن ثم فإن العنوان (المرأة والأرق) يعني تحديدا المرأة والكتابة، أي أن أنثى الكتابة تصاب بالأرق، لماذا ؟!! لأن الكتابة مرتبطة بجلب متاعب جمة للأنثى، الأمر الذي يولِّد الأرق لديها، وما أسباب حتمية تولد الأرق لدى الأنثى الكاتبة ؟!! لأن الأرق يرتبط بثلاثية تمر بها المرأة المتعاطية لفعل الكتابة ويرفض الجمع الذكوري تقبل الأنثى بها، هذه الثلاثية نستطيع تجسيمها بمثلث متساوي الأضلاع تتكون أضلاعه من الأسر، الحلم، التحرر، وتقف الذات الكاتبة داخل هذا المثلث بأرقها محاولة أن تتجاوز الأسر / المنع عن الكتابة، لتحقق حلمها وتتحرر، فكيف جسدت ميرال هذه الثلاثية؟ أولا الأسر : سنجد مفردة الأسر مرتبطة دلالاتها بمفردات تتكرر بكثرة عبر صفحات السيرة مثل (السياج، السور، الجدران، النوافذ المغلقة، الأبواب المؤصدة، الحراس، العيون، الأخوة الذكور، الرفض، التمرد، العصيان، المحظورات، الأقفال، المرأة الخانعة (نموذج الأم / نساء القبيلة) التقاليد الصارمة. تقول ميرال منطلقة من ذاتها، متحدثة عن الأديبة الايرانية فرخ فروخ زادة (ثم تخرج من الأسر لتحط العصيان ولكن حتى العصيان لم يولد سوى سور آخر من المحظورات التي تضاف إلى ابنة الأسرة المتحفظة والتقاليد الصارمة فتكتب بعد العصيان مجموعتها الثالثة «الجدار» مصرة على الدرب الذي قررت السير فيه، امرأة من مشاعر جامحة ومن ألق يتوق إلى فتح كل نوافذ ومغاليق الأبواب والجدران التي تأسرها، متمردة إلى حد العصيان) ص80 / امرأة الأرق. الحلم : هو الضلع الثاني للمثلث، والحلم هو المتسبب في أرق الكتابة، وأقصد به الحلم في تحقيق الجمال والفن والتوق للمجد والشهرة والتشهي للخلود، والرغبة في الحب والتقبل الاجتماعي من الآخر، وتصف الطحاوي هذا الحلم بأنه أول حكايات الغرام (الكتب غرام، والوقوع في غواية الحكاية غرام آخر، أول كتاب يقع القارئ في أسره، يفتح له جنة القراءة، أتذكر الكتب الأولى في حياتي بألوانها وملمسها وموضعها في دولاب الأغلفة المتراصة) ص9 / سيرة امرأة الأرق، التحرر : هو الضلع الثالث في ثلاثية الأرق والتوق للخلاص من الأسوار والمراقبة وتكدس المسؤوليات المنزلية المعيقة للكتابة، وقد جسدت الكاتبة دلالات التحرر بكثير من المفردات مثل : (أركض، أرمح، يطوحني، الجموح، عنفوان، عين الصقر، الرمال الشاسعة، البراري، الخلاء، غجرية، شاردة) تصف رغبتها في التحرر (صغيرة كنت وكان عنفوان الطموح يطوحني، أصرخ أريد أن أخرج من هذا البيت، بيت أبي المسيج بالمحرمات) ص 107 وتقول (من النوافذ المغلقة أطلُّ عليها، ترتدي منديل غجرية أحمر… تركضُ في سراويل تكشف ساقين مجهدتين من الرمح في الخلاء) ص109 / أمرأة الأرق. هنا تكاملت أضلاع المثلث فقد خرجت الذات الكاتبة من الأسر وحققتْ الطموح والحلم بالنجاح والشهرة والتفوق ونالتْ حب الآخرين والإعجاب، فهل تخلصتْ الذات من الأرق وارتاحتْ وحققتْ السعادة، الحقيقة لم يحدث هذا لأن ثلاثية الأرق هذه ولدتْ الشعور(بالحزن، الاكتئاب، الوحدة، العزلة، الرفض، التمرد) وهي تنويعات الاغتراب لنكتشف أن الذات حتى بعد أن تحررتْ لم تحقق ما كانت تصبو إليه من السكينة والراحة وقهر الأرق أي قهر اغترابها، بل أنها بحثت عما كانت ترفضه بالماضي، فصارت تبحث عن الحماية والأمن عن العيون التي كانت تسألها أين كنتِ ولماذا تأخرتِ، تصف غربتها في البعيد (كل مشتهياتها الآن في يديها، باب بيت مفتوح على بحيرة، الناس يركضون على جسرها ويتبادلون القبل، شوارع فسيحة تستوعب أرقها، وليس هناك عيون مبالية بوجودها لتراقبها، لكنها رغم ذلك كانت تختبئ خلف نافذتها، تراقب الذين يمرون… دون أن تجرؤ سوى على التحديق الطويل من النافذة، أو أبحث عن شمس قوية تقتحم النوافذ وأبواب محكمة الاغلاق لأشعر بالدفء، وربما أبحث عن أحد يقول لي أين كنتِ؟لأشعر أن ثمة من يهتم بي) ص 112 / امرأة الأرق. لقد داخل الذات الحنين إلى رؤية سماء الله حيث بيوت قبيلتها الواسعة بدلا من الشقق الضيقة المحكمة الإغلاق، والحرية المطلقة المخيفة، وحنتْ الذات إلى عناية الأهل واهتمامهم بها وخوفهم عليها حنت للمشاعر التي تجسدها تلك الاسئلة. وهنا تكمن مأساة الانسان الوجودية يظل يبحث عن شيء وعندما يصل إليه يجد أنه فقد بالمقابل أشياء وأشياء، فهو في حالة فقد واتصال دائم في بحثه المستمر عن جنته المفقودة والتي لن يجدها على الأرض، لأنها مسيجة بالحرمان، إن قارئ هذه السيرة سيتوقف عند عدة ملاحظات بارزة منها : – شعرية الكتابة : تكتب ميرال جملتها وفق خصائص اللغة الشعرية حيث يتوفر فيها عنصر الخيال الشعري واللغة المنتقاة والصورة الشعرية والبلاغية حيث المجاز والاستعارات والتشبيه موظفة التناص وبعض تقنيات التركيب الشعري المعروفة، وتسري روح الشعر في كتابتها لنجد كثافة الجمل واختزالها. – استخدام مفردات تجسد القوة والتمرد لأن الكاتبة لا تحب الضعف ولا المرأة المستكينة وتجسد هذا بجمل مثل : تقع في براثن النداهة، ألتهم رواية الزوج الأبدي لتلستوي، أقاتل الطريق، أرمح في البراري، لك عين الصقر، تكسر القفل وتكتب، تكسر جدار البيت وتخرج. إن هذه المفردات تكرس دلالات القوة والتمرد وتدل على قوة الفعل للوصول للحلم والتحرر وقهر الأرق. – الكم الهائل من الثقافة الذي يتخلل السيرة ليس استعراضا لعضلات الكاتبة الثقافية بل هو توظيف فني عميق يتسق ويتماهى مع الذات وما تموج به النفس فعندما تذكر لنا علاقة فرويد بأمه وكيف اختفى البيانو الذي تعزف عليه شقيقاته الخمس ويزعج فرويد ابن العاشرة (فرويد كان معبود أمه المتفانية في تأليه ذكورها الصغار) تخلص من هذا إلى ما يتسق مع حدث للذات في صغرها (الرجال في بيت أبي أنصاف آلهة، والبنت خادمة أخيها وهي التي تقول نعم وحاضر وتركض لتلبية حاجات الجميع.) ص19 امرأة الأرق. (ألتهم رواية الزوج الأبدي لتلستوي لأن بها صورة المرأة القادرة كما أشتهي) ص25، وعندما تصف تمرد فرخ فروخ الايرانية (تبدأ في تأمل حياتها، تمردها العنيف، ضجرها، رغبتها في أن تصبح الكتابة كسرا لكل أقفال الصمت الأنثوي الطويل تكسر القفل وتكتب، تكسر جدار البيت وتخرج، تتزوج، تسافر لتتعلم) ص 79 السيرة إن هذه المتمردة المتمثلة في فرخ هي ميرال الطحاوي ذاتها بتفاصيل حياتها وتحولاتها، إنها تسقط هذه الحياة الغيرية على نفسها. وفي ص54 تجسد ميرال ما ذكرته سيمون دي بوفوار (لا يوجد من المهام ما يماثل عذاب «سيزيف» من العمل المنزلي بتكراره الذي لا ينتهي، فالنظيف يتسخ، والمتسخ يتم تنظيفه مرات ومرات عديدة، إنها حرب الأوساخ)ص52 وهنا تتماهى ميرال مع ما كتبته دي بوفوار مسقطة الحدث على ما يتسق مع الذات (كنتُ عائدة من عملي وأقاتل الطريق لأصل في موعد عودة طفلي من مدرسته، أراجع ما عليَّ فعله، المطبخ ساحة قتال دامية، بقايا اليوم الماضي مازالت آثارها جاثمة، تمرين السباحة، الواجب المدرسي،كتابة مقال «المرأة اليوم» الغسيل المكدس، الكلمة التي صرت أرددها بتلقائية مفجعة « عايزين مني أيه ؟! أموت نفسي» ص54 / السيرة – الخروج عن المألوف والتحليل الجيد للظواهر : على سبيل المثال مصطلح (أزمة منتصف العمر) معروفة هذه الأزمة أنها تصيب الرجال بعد الخمسين لكن ميرال أجادت بإضافتها للأنثى المنكسرة الضعيفة التي لم تجد ما تحققه، وهي تبحث عنه، فتقرر فجأة التمرد والبحث عن الذات (صديقات كثيرات تركن بيوتهن وبحثن في منتصف العمر عن منعطفات جديدة، يمكن أن تحمل توجها آخر من الحياة، نساء كثيرات يتفاجأن بأن ما كان يرضيهن أصبح مصدرا لقلقهن) ص44 / السيرة. وعندما تحلل أسباب انتشار الكتابة الجسدية لدى الكاتبات العربيات مؤخرا تشير في تحليل عميق إلى انتقام المرأة الكاتبة من تاريخ طويل بالغ في تهميشها وتجاهلها وحرمانها من التحدث عن هذا الجسد (فالكتابة التي جنحت إلى مضمون «سيري» فاضح مهووس بالكشف والإبانة كانت تنتقم من كل تاريخ التخفي وراء أبطال وهميين، صار النص يشير ويعين صاحبه، يؤرخ لتاريخ انجراحاته وخبراته، ينطلق من الجسد ويحتفي بخبراته الفاشلة، دون خوف من تلصص القارئ، ولا مشرط الناقد الذي ينفق جهده في محاولة اكتشاف التماثلات بين الكاتبة ونصها، فكل نص هو إمكانية لنميمة أدبية محتملة…) ص48 / امرأة الأرق. – فضاءات السيرة – كما ذكرتُ في البدء – حرة تماما مكانيا وزمانيا فالساردة تنتقل بحرية تامة بين الأزمنة والأمكنة والأحداث، وبطريقة ليست نمطية وليست وفقا للتسلسل الزمني أو المكاني الذي تعايشه الذات ويجري به الحدث بل تتنقل من الماضي للمستقبل للحاضر وتقفز للماضي لتعود للمستقبل وهكذا في قالب بنائي متماسك، ووعي بأدواتها وكيفية توظيفها. – بالسيرة تصحيح لغوي بسيط وهو النسب إلى صنعاء قالت : ميرال (ثمة رجل صنعائي) والصواب صنعاني لان الهمزة في صنعاء تتحول إلى نون، يقول الرزاي : إن النون تبدل من الهمزة في نحو صنعاء (صنعاني). وإلى صنعاء ينسب عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني أحد العلماء الثقات المشهورين، لكن هذا السهو البسيط لا يمنع من أن نسجل أن لغة الكاتبة متقنة وسليمة وشعرية في كثير من الأحيان – كما ذكرت سابقا- وأوضحتْ ميرال من خلال السيرة مدى حبها للشعر العربي القديم وإطلاعها عليه وحفظه، إذ كانت تنتوي في الصغر أن تصبح شاعرة، لكنها عندما وعتْ وأدركتها حرفة الأدب، وصلت إلى ما وصل إليه جون كوهين (إن للشعر جوهرا ملكيا، فإما أن يسود وحده أو يعتزل) ص17 / الرؤية والعبارة / مدخل إلى فهم الشعر / عبدالعزيز موافي. لقد أكبرت ميرال الشعر من محاولات العبث به، واختارتْ مسارها السردي باقتدار ونضج ووعي وثقافة عريضة، أهلتها لاحتلال مكانة هامة في مسيرة الإبداع النسوي العربي.
سعيدة خاطر الفارسية
كاتبة واكاديمية من عُمان