جئت بأمراضي جميعها، عبرت بها القرن العشرين ودخلت القرن التالي وهي تمشي وتنام معي، أعصابي معطوبة برغم الثلج النازل حد الركبتين، الى أين، ومن أين؟ كأنني أكثر من واحد، عندما أكون في بيروت أرى الآخر في الشام، وحين أعبر الحدود الى أنقرة أجد جواز السفر يشير الى عمّان، أنظر الى أختام الرحلات ولا أعرف حقاً من الذي عافني في بغداد وجاء خلفي الى القاهرة؟ يبدو أنني أكثر من واحد، ليس في هذا أدنى شك، إنه اليقين الذي احتواني منذ اليفاعة والصبا… صحيح أنني أطوف أحياناً على حلم طري طازج، أرى نفسي أمرح وأسرح وأذوب عشقاً مع شاكيرا ومرة مع شريهان، أو ألعب كما الأطفال (عريس وعروسة) والبقية لا تحتاج الى تفسير، لكنها محض أحلام أصحو منها فلا أجد شريهان ولا شاكيرا.
المهم، أمراضي معي تعبر القارات والمحيطات والبحار والصحارى والجبال والغابات، أعرف أسرارها وأخفي بعضها عن النساء، لا أكشف أمامهن عن العيوب والعاهات، بل أترك السر ينمو وينغرس في عظامي وتربتي وأبكي وحدي وراء الأبواب، يبدو أنني أكثر من واحد، فأنا لا أبكي ولست ضعيفاً ولا خائفاً، مع أن اسمي هو نفسه في كل مكان أمضي اليه، والثلج لا يزال يتساقط حد الركبتين وأمراضي مازالت تنمو مثل شجرة.
ثمة مقهى في شارع الرشيد أجلس فيه، يأتي إليها جهابذة الفن والرواية والغناء، شلة من العباقرة والكذابين والشعراء والمشعوذين، وقبل أن أشرب الشاي أرى نفسي في مقهى زهرة البستان مع أرجيلة معسّل بالتفاح، وأصحو وقت القيلولة فأرى جسدي مبللاً في مقهى الروضة في دمشق، أذهب الى الطبيب المصري فيقول: لابد من قسطرة القلب وبسرعة، وبسرعة أيضاً دخلت عالم الأمراض، شلل في المفاصل، زيادة في إفراز الدهون، ماء ابيض في العينين، سرطان يتحرش بي وقت التبوّل، لخبطة في الكولسترول، مسامات ملتهبة تشبه المكرونة، قطعت السنوات إذا بها تقطعني نصفين، وفي الدار البيضاء أمضيت الرحلة أشكو من جلطة في الدماغ، ثم ضحكت مما أنا فيه، تساقطت أسناني وقفصي الصدري وتكوّمت العظام على بعضها، وبرغم ذلك ياكلني الحسّاد وتشتغل النميمة ليل نهار.
أنا أكثر من واحد، لم أجلس يوماً في تلك المقهى المطلة على شارع الرشيد، ولا أعرف أديباً جهبذاً، ربما ذهبت الى القاهرة، لكنني لم أدخن الأرجيلة في زهرة البستان ولا اعرف الطريق الى مقهى الروضة، وقلبي (صاغ سليم) وليس من أحد يحسدني أو تأكلني النميمة، أستغرب من يقول بأني دخلت غرفة الإنعاش أشكو من جلطة في الدماغ، ليس من شلل ولا زيادة في الدهون، من يتجرأ ويقول هذا الهراء وأنا في احسن حالاتي وصحتي لا غبار عليها ؟ شاطر في صالات القمار، شاطر في البلاك جاك، أعرف متى يأتي الرقم (زيرو) ومتى يبزغ اللون الأسود على الطاولة الخضراء، شاطر، أعرف متى تدهسني سيارة أجرة وتشطرني الى أجزاء، شاطر في الخسارة، شاطر في الحب، شاطر في الحنين أذرف الدموع على بلدي، ماذا حل به؟ كثر الذين يضعون السكاكين في دربه المزحوم بالأشواك، الكلاب السلوقية بالمرصاد، تنهش به ثم تختفي لتأتي وتنهش ثانية، وأنا أتشظى مثله الى أجزاء، جنوباً وشمالاً، بينما الجزء الثالث يئن في مكان القلب يحتاج الى قسطرة كما فعلوا معي، والجنوب، عيني على الجنوب، أصرخ عالياً أن يحفظه الله، إذا راح الجنوب راح عقلي، والشمال، ربيع البلاد، يتربص به العثمانيون منذ مئات السنين.
وأنا بين الجنوب والشمال مازلت في منطقة القلب، أكثر من واحد، أمشي محاذاة الفرات ويضحك لي دجلة، ماذا أفعل بأمراضي وهي تتشعب وتزداد وتهبط فوق جلدي، تتراكم في جسد نحيل، بينما أولاد الزنا يمرحون قرب رأسي ورأسي يتحرك في أكثر من مكان، ليس من شيء ثابت، عظامي تتكسر، أهلكني داء السكري ورافقني الصرع ولا أدري متى يوقعني أرضاً، والكوابيس تشذب أظافري وقياس الضغط يشير الى ضرورة السفر نحو الثلج بين الغابات، وهكذا مضيت الى باريس وبكيت فرحاً وأنا أمشي في الشانزليزيه، ثم غادرتها الى بلاد الثلج يغمرني ويغمرها ولم أمت، دخلت حي سوهو ورأيت كولن ويلسون، أخذت القطار الى أبعد نقطة في أوروبا الشرقية ورأيت نفسي في بودابست، ماذا أفعل؟ أمراضي مازالت تتراكم، مع أنني أتمتع بالحانات في وارسو وألتذ بالمواخير في الرباط، مع أن المسافة بينهما أطول من نصف الكرة الأرضية، وما الغرابة، فأنا أكثر من واحد في كل زمان ومكان!
j j j
تعلمت من أمراضي الصبر، وتعلمت من الصبر المكابرة على جروحي، وتعلمت من المكابرة الكتمان، وتعلمت من الكتمان الصبر على أمراضي، وهكذا أدور في حلقة مفرغة، منذ القرن العشرين حتى هذا اليوم السابع من حزيران، هو نفسه يتكرر كل عام يؤكد ميلادي في الثانية ليلاً حيث يقفز التاريخ من السبت على جمجمة الأحد، وأنا لا أحد يعرف عني أي شيء سوى ما قلته وما كتبته، وهو قليل إزاء ما أخفيته، قليل جداً، انتقمت، وأنا في حالة الغليان، من كل من سكب السم في شرابي، دون أن يدري بأنني أعطيته الكأس نفسها واكتفيت بالعسل، أتعامل مع الناس بنصف ذكائي والنصف الثاني أحفظه للطوارىء، وهكذا تمكنت من البقاء حياً برغم جميع أمراضي، الاحتفاظ بنصف الذكاء لعبة خطيرة، قد تموت وأنت في أول الطريق، تأخذك المخابرات مثلاً وأنت مازلت مكابراً أنك ستنجو منهم، تمر الأيام ولا فائدة، تلعب مع الوقت والمخابرات تلعب أيضاً، وما الفائدة؟ حتى إذا كنت أكثر من واحد كما تقول، ماذا ستفعل وأنت وحدك في غرفتك؟ غرفة تحت الأرض لا أحد يسمعك ولا أحد يراك، غرفة انفرادية لا ينفع معها الصراخ او طلب النجدة، هناك ستكون النهاية، إذ ليس من المعقول أن تكون في سجن المزة وأنت في قلعة (أبو غريب) مثلاً…
j j j
منذ خمسين عاماً وأنت تراقب أفعالك، أنقذك القدر وطاوعتك الطبيعة، هذا حالك منذ خروجك من هناك وقبل ذهابك أيضاً، كثيراً ما راقبوك، يبحثون عن الحقيقة بين أحراشك وأسرارك، أنت اللغز بينهم، مع انك أكثرهم وضوحاً، كثيراً ما خدعوك مع أنك أول من اكتشف خبثهم وطعناتهم من الخلف، ضحكت منهم ومن سكاكينهم، ضحكت كثيراً، حيث تعود الطعنات الى نحورهم وأيديهم تلتف حولهم وتطعنهم واحداً واحداً، جئت بأمراضي ودخلت القرن الخطأ بعد أن غادرت القرن العشرين في آخر عام منه، نظرت الى نفسي، الى السنوات البطيئة، نظرت الى روحي التائهة، نظرت الى السماء نجوماً ونيازك وتذكرت سمائي، تذكرت أصابعي التي أتعبتها في الكتابة، الكتب التي تناثرت حولي حتى أغرقتني، نظرت الى أصابع اليد اليمنى، قبلتها، أقدسها، لهذا جاء من يسحقها، مرة في أقبية المخابرات، مرة بسيارة أجرة، ومرة من الحب، كنت أغازل البنات فارعات الطول بأصابعي، أصابع اليد اليمنى، والآن لا أدري ماذا حل بها، أصابعي، مع أنها ما زالت تكتب، ماذا تكتب بعد أن حلت أمراضي في جسدي طولاً وعرضاً؟ هل يشفقون على أصابعي وعلى ما تكتبه بعد هذا العمر العليل؟ كلا، أنا أكثر من واحد، لن يخدعني أحد، ولم أكن اللغز بينهم، لا شأن للقدر في أفعالي ولم تفرض الطبيعة سطوتها عليّ، اعصابي على حالها، هادئة منتصرة في وجه الريح، هل قرأتم (حياتي في قصصي)؟ ستعرفون إذن لماذا أكتب عن أبطالي وأبدأ (مني)… كل واحد هو أكثر من واحد، أنا، لا أحد يستحق البطولة سواي، لا أعرف غيري بطلاً للقصة، ومتى انتهيت مني سأبدأ فوراً بغيري، هذا هو العدل، أنا ثم الأقربون الذين هم أولى بالمعروف.
j j j
صحوت في ليل دامس، مسكت أصابعي، كنت أخاف عليها، هي كنزي الذي… وحياتي معاً، بينما تركض بي أمراضي بين المحيطات والغابات، من مشفى الى مشفى، ومن نهر هنا الى بحر هناك يغطي عورتي بأوراق التوت، أصابعي ترتجف إذا شعرت بالخطر، كما الكلب يتحسس الكوارث قبل حدوثها، أنا الكلب الوفي في عالم خبيث يدور حولي، أنا أحسد كلاب العالم منفوشة الشعر قصيرة الأطراف تعبر الشوارع قبل صاحبها خوفاً عليه، ترقص إذا حل الفرح وتبكي إذا بكى أهل بيتها، أنا هذا الكلب بامتياز، أحمل بعض صفاته ولا أعبر الشوارع إذا كانت الإشارة تقول(قف)…
هذا ما حل بي ذات ليل دامس، أتحسس أصابعي وأتمنى أن أكون كلباً مدللاً منفوش الشعر قصير الأطراف، أن أكون كلباً جميل الطلعة ينام في مونت كارلو ويصحو في شمال أوتاوا… هناك أتساءل: متى أرى الآخر مني؟ أعني كيف أرى الآخرين الذين في داخلي والذين يرفضون الخروج؟ يأتون في أحلامي كما السراب، أصحو فلا أرى غير بقايا هزائم أتلاشى بعدها في حلم مسعور آخر ينهش بي، أتماهى مع تلك الأحلام وأنكمش خائفاً منها، مخذول في صحوي وفي نومي، أهذا أنا أم الآخر الذي يختفي حين أظهر والذي يظهر حين ينام؟ حلم فاسد يبعثرني في أكثر من طريق بينما أبحث لم أزل عن الآخر حتى تهرأت ثيابي، قميصي مهلهل كأنني دخلت حرباً، والرمال أطمس فيها حتى عنقي، عليل منذ طفولتي تلاحقني النكسات، بينما الآخر الذي هو مني ما زال أنيقاً مرتاح البال، يسمع الأغاني ويطرب حتى الثمالة، لا يشرب غير بلاك ليبل، والجواري يسرحن حوله ويرقصن، أهذا أنا ام الآخر الذي يختفي حين أظهر والذي يظهر حين أختفي؟ الآخر يعذبني بسعادته، وأنا أتكسر بذاكرتي، عندما ذهبت الى روما كان هناك خلفي يراقبني، أنا حزين مع أنني في أجمل بقاع الأرض، بينما (هو) يشرب ويرقص ويغازل أحلى البنات، لكنه يظهر حين أختفي ولا أدري كيف أصطاده وأمسك به، فما كان مني غير الهجرة نحو الصحراء، هناك حيث لا أحد يمكنه الاختباء وراء الرمال، إذا جاء سوف أهبط عليه قبل أن يفكر بالنجاة، لا أريد أن أكون أكثر من واحد، يكفيني(أنا) في حزني ومسرتي، أريد أن أكون وحدي في المكان الذي أنا فيه، وحدي في صحوي ونومي، وحدي في بغداد إذا ما عدت اليها ذات عام، وحدي في زهرة البستان إذا أينعت، وحدي في دمشق الحلوة، أكثر من واحد محنة كبرى لا يعرفها إلا من ابتلي بها، لا أريد البقاء في المحنة، قد أحلم حلماً لا يشاركني أحد فيه، ربما أطرق الباب على شريهان، تفتح الباب لي وحدي، وقد أرقص مع شاكيرا، أرقص معها وحدي، وحين أستيقظ من نومي أكون قد صحوت وحدي، لا أريد البقاء في المحنة.
j j j
رجعت الى الوراء، كل شيء معقول، ذاكرتي واسمي وميلادي والآخر الذي هو مني، درب شائك يمتد من آه وأنين الى ذرف الدموع، لم أعد أطمح في المسرات، يكفيني ما أنا فيه، يرضيني ما جرى برغم قسوته، يرضيني ما تبقى من عمري مهما كان فاجعاً، سأرى كيف ينقلب العالم من شمال الى جنوب الى شرق بلا غروب، أريد رؤية النيازك تهبط وتحرق الأول والتالي، وقد نزلت… أريد رؤية القادة يتخلون عن كراسيهم بعد أن مسكوا بها دهراً مستطيرا، وقد ذهبوا، أريد رؤية نفسي في مكانها دون الآخر الذي هو مني، وربما يأتي اليوم الذي أتحرر فيه من قيودي ومن عتمة الطريق الذي أمشيه، لا أريد أي شيء بعد الآن غير أن يمضي الآخر في ذاك الطريق المعتم ويتركني أعيش حياتي، أو ما تبقى منها…
أظنني بعد هبوط النيازك وبعد أن تخلى القادة عن كراسيهم، غادرتني أمراضي، أعصابي باردة شتاء وصيفاً، لم أعد أكثر من واحد، عندما أكون في بغداد أنا في بغداد فعلاً، وعندما أدخن الأرجيلة في زهرة البستان فأنا وحدي في تلك المقهى، حين أحلم بشاكيرا أو شريهان فهو حلم يخصني وحدي ولا يشاركني أحد فيه، يهبط الثلج ويصل حد الركبتين، لا فرق بين ربيع وخريف، المهم أنني وحدي، أتمتع وألتذ بالثلج وأرقص طرباً في الفصول كلها، أنا كما تشير شهادتي (عراقي قح) من رأسي حتى أسفل جنسيتي، ليس من أحد بعد الآن يمرح قرب رأسي ولا أشكو من داء السكري، لقد انتصرت على أمراضي بالصبر عليها، أنقذني القدر وطاوعتني الطبيعة، القرن الحادي والعشرون يمشي معي، نسهر معاً حتى الصباح ونحتسي الخمرة في صحة آخر القصص، ما زلت أحسد الكلاب المدللة منفوشة الشعر قصيرة الأطراف تنام في باريس وفانكوفر، وأتمنى أن أكون كلباً منفوش الشعر قصير الأطراف أعيش في هاملتون، لن يعذبني أحد بعد اليوم ولن تلاحقني الهزائم والنكسات، لقد انتهيت تماماً من الآخر الذي هو مني، رأيته، لم أفعل أي شيء، رأيته بقوة ولم أفعل أي شيء، إنني أعيش حياتي بهدوء، أو ما تبقى منها…..