حمود حمد الشكيلي*
لم يقف أحد من أولئك الذين مروا على السيارتين الغريبتين، يعبرون رجالا ونساء كما لو لم يروا أحدا، كأن لا غريب في الدار، أو أن الغريب لص. أحيانا يخاف الضعيف من انتشال جزء من روحه وشحمة كبده.
واحد أو اثنان تقريبا دحرجوا سلاما، بشفاه صارت عطشى من المسير تحت الشمس، أفواه ما انفتحت إلا وانغلقت؛ بعد تحية قصيرة عابرة، السلام الملقى على الغرباء قصير، لم تصل الجُمَل إلى اسم الجلالة، جملة قصيرة كبرق من ضوءين. تمشي عنهم الخطوات الحافية نحو المبتغى والمقصد، فتتركهم خلفها.
كل عابر إلى حال سبيله، إطعام حيوان داخل زريبته أجدى من شيء لم يقتنعوا به يوم أمس، تنقية التمر وفصله يأتي بخير أكثر من غيره. كان الشيخ قد بيّن لجماعته أن مجموعة من الجيش ستزورهم هذا الأسبوع، لتسجيل الراغبين في العمل، جنودا مقاتلين، وحرّاس كتائب، ومنشآت نفطية في مناطق الحفر والتنقيب، مناطق في حاجة لحراسة، هناك مناطق تعرضت لعمليات تخريبية متعمّدة، آخرها قبل يومين، حرق معدّة تكسير وحفر ألمانية في سمائل، تفجيرات أنابيب نفط في إزكي، ثم بعدها إشعال نار في إحدى السفن الراسية بالميناء.
تحت شجرة الزامة الكبيرة النابتة قبل قرون وسط البلدة، سيارتا لاندروفر، لونهما يشبه أعواد الذرة الواقفة في العوابي.
ظلة الزامة تريح ضيوفا يدخلون البلاد للمرة الأولى، كانوا حوالي أربعة، كل اثنين في سيارة بكابينة واحدة، مغطاة بطربال من الأعلى، مفتوحة من الجانبين، خلفها مسند حديدي مفروش بطول السيارة، مكسو بقطع قماش، لتغطية مستطيل الحديد المفروش خلف الكرسيين الأماميين.
رجل يلف حول الشجرة، يدور حولها كمن ينتظر أحدا. بعر الشياه والأغنام الغادية نحو مرعاها تركت أثرا تحت الشجرة، كأنه على موعد مع أحد وينتظر، يتحدث مع أحد أشعل وهو في السيارة بيب دخانه. حول الشجرة يلف ويدور؛ لكأن شيئا سقط، وهو يبحث عنه من الأرض، أحيانا يرفع عينيه نحو أغصان قمة الشجرة، يغني شجنا، يُطْرب أصحابه بصوت حزين قادم من أعماق الروح، تأتي به حنجرة تغرق بالشاي الأحمر، وتستلذ بالتدخين، يمكن تأويل الكلمات بأن المغني غير مقتنع بما يقوم به، بدا كمن هجر وطنا وأتى إلى غيره؛ لأخذ دروع بشرية نحو القتال.
– حرام، لا يجوز أن نضحي بأولادنا، حفظ القرآن والشعر سيفيدهم طوال حياتهم، ما بندفن أولادنا وهم مضرجون بالدماء، البقاء قرب أشجار النخيل والليمون والعنب هو الخير، الجنة في ماء البلاد، الزاد والثروة في الأبقار والأغنام، والسند هم الأولاد، والأولاد هم السند، والأولاد هم السند..
خرج المصلون من المسجد، رفعوا ما تركوه جنب “مجازات” الوضوء على رؤوسهم، قفران رطب وليمون على أصابع أكثرهم، حزم أعلاف طعام، في أرواح أقمشة قديمة ثمار تتدلى من أيادي أصحابها، يمشون إلى سكك ترابية نحو بيوتهم، قاصدين مساكنهم المتفرقة، على عوابي المكان وماله وضواحيه.
كلمة عبدالله بن صالح كانت أقصر من سحابة تتبع مغيبًا، توارى ونام، ما أن أنهى صلاة المغرب في مسجد الصراني إلا وألقى على المصلين بعد تحية التشهد كلمة محدثا أهل بلدته، ممن لحقوا على المغرب جماعة، خلف تلاوته لقصار السور بطريقة شعر هو نفسه أن لا تدينه، إن رأى أحدا أن لا يفترض الإنصات لمعاني الكلمة، فيؤمن الرجل القادم من السعودية قبل أشهر قليلة أن الله معه ومصلحة الإنسان همّه.
أنهى حديثه بالحث على التمسك بالفائدة:
– البقاء على الأرض أنفع للإنسان من الانخراط في الجيش.
طارت الجملة الأخيرة من فم الإمام، فانتصبت فوق أعلى قمة جبل الذاكرة، خلف جبال من جروح حمراء تحضن البلاد، قيل إن جملته ظلت تؤوب، فبنت عشها داخل الرؤوس، طنّ صداها على جدران الأدمغة كطلقة رام، كبرت والأولاد، عقدا بعد الآخر.
مع فجر إنجاب طفل جديد يتذكرون قائلها، ويترحمون عليه.
أقل من خمسين كلمة غيرت مجرى أحلام الليلتين الفائتتين، ليلتان استبدلت فيهما أجفان “القرش” بالعملة الجديدة.
غادرت السيارتان بعد زوال شمس ذلك اليوم، يرافقها غبار الطريق الترابي، نامت ورقة أهل تلك البلدة فارغة بلا اسم، عادت إلى المعسكر مثل ما استيقظت عند منتصف الليل، قبل مسير السيارتين نحو البلدة، بينما جاراتها من أوراق البلدات الأخرى أنارت خطوطها أسماء صبْيَة صغار، كتبها خط مائل ومعوج.
في مرة آب إلى المعسكر فريق التسجيل بمجموعة مرضِيَةٍ، لم يتجاوز أكبرهم خمس عشرة سنة، بل كما في ذاكرة أولئك الذين استمعت إليهم، أن في مرة عادت إحدى السيارتين بحوالي تسعة عشر صبيا كتبوا أسماءهم، فصعدوا في أكثر من سيارة. عند صباح أول يوم من وصولهم تعسكروا، ثم تحجّروا وهم يحملون الأثقال الصعبة، عدّ الحدثُ أول إنجاز كبير ومعلن، لنجاح الجيش في أول سنتين من بداية تشكّله.
2
لم يكن الفجر طويلا، يركض الزمن إلى الشمس، فيوقظها، تلبس بريق ضوئها، ثم تطل على البلد خجلى، كعروس تزور أهلها للمرة الأولى بعد الزواج، تخرج على الأرض من ممر بين جبلين متعانقين على منحدر الجبهة، تلتقي بالناس، تصافح الوجوه، تمسح العرق بمنشفة هواء خفيف، تأتي به الريح من بين الزرع، تحضر الشمس خفيفة هادئة بعد أيام ممطرة، فيرحب بها كزائر لطيف، على وجبة إفطار اجتمع عليها ملائكة في الحقل.
الشمس لا تأكل التمر، ولا تشرب اللبن، تشبه الذين لا يشربون اللبن ويأكلون السمك، لكنها مثلهم، تحضر على الصحون، لا تصاب بالملل، تستمع إلى القصص، تصمت ولا تضحك، تبقى ساكنة واجمة بعد دلع دائرة صفرتها، أحيانا تبدي ما يمكن أن يسمى متعة ورضا، يحدث هذا كلما غطتها سحابة وغابت هناك، تزود الغائبين بخبر عن الأرض.
على بساط من سعف النخيل تمر وماء، لبن وخبز، وأكثر من لوحي سمك مجفف فوق غصن شجرة، تلفها قطعة ثوب شفاف، تحت الثوب حشرات لاسعة تحط وتطير، كأن القطعة مطار، والنخلة برج مراقبة.
اسم ينطلق من أفواه النساء، يخرج من الأفواه العاملة في حقل البرّ، فيطيّره الهواء إلى الحارة، يرتطم النداء برأس يقرأ محفوظا من القرآن لأخيه، يتيقّن الصبي الذاهب نحو اخضرار شنب رجولته إلى اسمه، يرخي أذنيه، يصل الاسمُ واضحا، يظهر في خيال عيون نساء الحقل أنه آت من بعيد. بدا من التفات وجهه أنه مطلوب، ترك نواة على المصحف، رفعته اليد اليمنى داخل حافظة جدار طين في صالة البيت، سار يمشي، أو يركض حتى يصل.
الصغير ذو السنوات الخمس ظل وحيدا، لا شيء يمكن أن يلعب به. بيت طين صغير، “برندة” مستطيلة، على جدرانها ثماني فتحات محفورة داخل الجدران، رسمها يظهر كأنه محراب صغير لطحين البيت، أوتاد مغروسة في الطين، تمثل دور علّاقات وماسكات، تظهر الأشياء لمن يدخل، تقرأ العين في رؤيتها نظاما لائقا ومرضيا، فرش معلقة من المنتصف، سجادات صلاة، ثمة أكثر من وتد فارغ، الهدوء الفائض عن الحد في المحتوى أخرجه إلى معبر سكة، تتوزع منها مخارج مسير أقدام إلى أمكنة عديدة. المحيول، المال، مرد الموز، الصراني، الدّير، الرفع، الحارة، حارة ورى، غربا، مشرّق، الظاهر، العقبة، الشيشة. مخارج ومداخل، مسالك ومآوٍ تظهر الميت في الطرقات، أرواح تزور أمكنتها، أبدان تظهر، أجساد تطير، أصوات صارت مألوفة في الضحى، روائح غريبة منتصف الظهيرة، ارتطام كائنات غير مرئية في الهجيع الأخير من الليل، مع كل هذا، لا أحد يؤذي الآخر أبدا.
3
لا أحد يعرف لماذا، لا هو، ولا أنا، ولا جدته؟ فعلها وخرج.
خرج ولم يعد.
قبل انتصاف الصباح خرج يهرول من بيتهم في طرف المال، لم تركض قدماه مسافة تظهر عليه تعبا لحظة وصول مربط قرار رغبته، أقدامه أكلت أرض فناء البيت بسرعة، طوتْ محيط أرض يمكن لجدته أن تراه على غير العادة، سار بعد أن سترته جنان النخيل جهة الغرب، ظهر لمن رآه كمن يمشي إلى شيء مخافة أن يفقده، وجلا يمشي، يمد ساقيه، يحركهما؛ فتنطوي من خلفه الدربُ، ثمة خوف يجاور ساقيه، هذا ما وضح لمقتفي أثره بعد أن بحثت عنه جدته، إذ أعلنت أن ابن وحيدها لم يعد إلى البيت، وفي فراشه لم ينم يومها.
يمشي ولم يلتفت إلى الخلف، قرر ألا يلتفت. لا إلى الصوت، ولا الرائحة، ولا الناس الذين يعرفهم أو يعرفونه، لم يطبع حذاءه على التراب كما تعود بقوة فعلها، وهو يقيس قوة غبار سكك ترابية حفظته، وألفت قدميه.
في السنوات الماضية عرفته البلاد بحبه للغبار، قضى كثيرا من أوقاته ولهًا وعشقًا به، من يلعب في طفولته وأول سنوات صباه بالغبار؟
أثره قدميه الحافية حفظتها عيون الكبار الآيبة من الحقول والمزارع، رجالا ونسوة، فخف قدمه يتميّز بالكبر، مقارنة مع المألوف من الخلق أو العادة، أو من الصبية البالغين من أبناء سنة ميلاده. ثمة انبساط ملحوظ لقدمه، يمكن تقريب أثر قدمه ووصفها بالخف المتفلطح، أثر يشد ويجذب أي عين ترى سطحها على الأرض.
في السنوات القريبة الماضية عانى جداه كثيرا، وهما يشتريان حذاء لحفيدهما، رغم أن عمره يوم أن دونت الذاكرة فقده للمرة الأولى يقدر بحوالي خمس عشرة سنة، أو ست عشرة سنة، لعل يوم فقده لم يشارف سبع عشرة سنة، هذا خلاف عمره تقريبا. يمكن إضافة تخييل عمّا رُوِيَ عنه، وهو أن لم يقل يوم خروجه عن أثر قدمه: ” علّ مو ذي الآفة؟!”. لكأن الجملة تخمين، حول عدم انشغاله في زمن مسير قصير، قد لا يتجاوز بالدقائق عشرين، هذا حساب تقريبي جدا جدا، علاقته أقرب إلى القصة من الواقع.
ودّعت ظلال النخيل جسدا متوسط الطول، رائحة شجر الليمون مررت عبقا من زهرتها البيضاء نحو أنفه، طائر يغرّد حزنا من فوق شجرة تنحني بعض أغصانها على جدار يتكئ متباهيا بتبره، في الحفر الصغيرة، يشدُ التبر ويعضدُ ميلان انعكافه على زاوية ضاحية نخيل. نحلة كأنها الملكة تسير فوقه، بين حين وآخر تظهر على جانبي وجه مائل للسمرة، بشعرات خفيفة متناثرة بخجل حول الذقن، كأن لم تُحْلقْ منذ أن زارت الوجه بعد البلوغ، بدا لمن عرفه صبيا أن نموها أبطأ من سلحفاة لم يرها أحد من قبل.
كل هذا لم يبال به، ظل المسير همه، حتى يصل إلى ما رآه رأي حكيم صائب، لم يعر مخلوقا حركة، أراده مسيرا صامتا، وارتحالا أخيرا. وصولا هادئا لأجل مال يأخذه إلى حب بدأ ينمو في النفس، وترضعه الروح من حلمة نباتها، بل إنه الآن في هذه اللحظة من بدء اطمئنان دقات قلبه تذكر ما جعله يمقت نفسه، حتى السلام لم يردّه على رجل ألقى عليه تحية في منتصف دربه، لو أنه رد السلام! ما ضره؟ لو قال عمي حميد؟ لأخذ من “المخرافة” رطبات يقمن معدته عند الظهيرة، وينعشن ذاكرته في الليل، ويربطن وجده بالبلاد، في كل حين ولحظة.
سلمهم نفسه، منحهم روحه، أخذوا جسده، ساروا به بعيدا في سيارة آبت صباح اليوم، لكأنها خصصت له وحده، وأتت من أجله، هناك من شك أنه وحده أرسل لهم خبرا، يؤكد رغبته في أن يصير جنديا.
وصل، فسلّم.
مد يده لاثنين، كانا جالسين داخل سيارة مخططة، بألوان لم تألفها العين في تلك السنوات، عرفهم باسمه، وقال: أنا حمدان سعيد العظم، من المال، أريد الالتحاق بالجيش، أمنيتي خدمة وطني، للدفاع عنه، أقول كما قالها أهلنا قبل عام، يعيش السلطان قابوس ، الله/ الوطن/ السلطان/ البلاد / حمدان سعيد.
سئل حمدان عن عمره، كان أحد أولئك الذين داخل تلك السيارة قد أخرج استمارة بيضاء، عليها بيانات في حاجة إلى معلومات شخصية، من يتذكّر تلك الاستمارة يقول إنها مكتوبة بخط اليد. أوضح حمدان لسائله أنه ابن ست عشرة سنة، كما سمع من جدته، قدّر سائله أنه من مواليد 1954، كتب الاسم كاملا، والعمر، واسم القرية، ثم سئل حمدان يومها إن كان يقرأ ويكتب، أضاف ما ليس في حاجة إلى كتابته، قال:” نعم، أنا أقرأ القرآن، حافظ لكثير من سوره القصار، وأبيات من شعر المتنبي، وأبي العلاء، وابن الرومي، أحكي قصصا لأخي الصغير، حفظتها من جدي وجدتي، كتبت قبل سنوات، مرة أو مرتين، رسالة للإمام، يطلبها الناس من أبي وجدي، يقولان إن حمدان يمكن أن يكتب لكم، فيأتون طالبين رسائل، ولهم أكتبها.
نزل من كان خلف المقود، دار خلف السيارة، وقف جنب حمدان، كلمه بلهجة عربية مكسرة، استوعب حمدان مطلبه، فصعد للسيارة، أُمِرَ برفع وزن ثقيل، قطعة حديد أو نحاس، كانت في غمارة اللاندروفر، شكلها دائري. في ذاكرة الذين رأوها قالوا إن في وسطها فتحة، بينما قال آخرون إنها قطعة كرويّة ثقيلة. قدّرت الحكايات المتناقلة لتلك التجربة أن وزنها لا يقل عن ثلاثين كيلو جراما.
رفع حمدان القطعة عاليا، ظل هكذا، طلب منه ألا يتحرك، أحاطت بها أصابع يديه اليمنى، وقف ساكنا كجبل ينتظر ريحا تعصف بما في قمّته، كانت الكرة ثقيلة، أغمض عينيه، ثم طلب الرجل الغريب أن يرفع ساق قدمه اليسرى، فرفعها، حركها إلى الأمام، أعادها للخلف، أرجحها في الهواء.
قال الغريب:
– ارم.
انحنى بزاوية تمكّن حركة بدنه من قذفة قوية، تدحرجت الكرة مسافة، تكاد تكون مرضية، ثم وقفت، التفت الغريب إلى مكان وقوف الكرة، قدّر المسافة، كانت كافية لتثبت لهما أن يمكن لحمدان الالتحاق بالجيش من صباح الغد.
أمره بالنزول من السيارة، ففعل، طلب منه أن يفتح فمه، ففتح، رأى أسنانه مكانها، ظهرت كاملة، لحظتها شعر أن تم قبوله. من تلك اللحظة دخل جندية حلم بها في الليلتين الفائتتين، مع ذلك سأل؛ ليطمئن حلم مستقبله، فأتاه رد القبول، وقال: ” متى نذهب إلى معسكر الكتيبة؟”