علاقة الصَّوت بالأدب هو الموضوع الذي بدأ يأخذ أبعادا نقديَّة عبر مختلف النقاشات الأكاديمية والثقافيَّة بفرنسا حاليا. يعود ذلك إلى بروز ظواهر جديدة في تمرير الأدب للقارئ، فلم يعد الكتاب هو الحامل الرئيسي للنَّص، بل أيضا الأسطوانات التي تنطوي على كتاب مسموع قد يحمل أعمال الكاتب كلها، بالإضافة إلى السيطرة الشاملة للانترنت على وسائل استقبال الأدب، ناهيك عن وسائل الإعلام المختلفة. لم يعد الخط الدال الرمزي لمضمون الأدب كما كان بمقياس رولان بارت، وإنَّما حلَّ محلَّه التَّصويت وصار عاملا أساسيًّا لذلك. عودة الشفهية تدريجيا إلى العالم التكنولوجي سبقتها دراسات هنري ميشونيك سنوات الثمانينات من خلال كتابه الأهم من بين أعماله كلها، والذي يحمل عنوان نقد الإيقاع: أنتروبولوجيا تاريخيَّة للغة. في هذا الكتاب، درس ميشونيك الإيقاع كتجربة شعرية مختلفة عن الماضي مستندا الى نصوص شعريَّة فرنسية(1). كما قام بطرح شامل لأنطولوجيا الإيقاع عبر مختلف النصوص الدينيَّة والأدبية بما في ذلك الشعر. نقدِّم(2) في هذا الشَّأن تعميقا لنظرة هذا الناقد وحدسه اللذين سبقا ما يحدث في وقتنا الحالي ترجمة لفصل خصَّصه في موضوع الشعر وعلاقته بالصَّوت، وفي تاريخيَّتهما أيضاً(3).
لا بدَّ لعلم الأصوات التَّجريبي أن يعترف، كما فعل مسبقاً تينيانوف بأنَّ المقاربة الأكوسيتيكيَّة للبيت الشعري قد مكنَّت من توسيع مفهوم الإيقاع، بعد أن كان محدوداً في البداية بمجال ضيِّق مرتبط بالنِّظام النَّبري»، وهذا ما قام بتطويره مفهوم «التنظيم الموسيقي»، «المجاز الصَّوتي» و«الاستعارة الإيقاعيَّة». إنَّ التمييز الذي قام به رومان ياكبسون بين نموذج الأبيات الشعريَّة، مثال الأبيات ومثال التَّحقيق (بين الكتابة والتَّصويت) والتي صارت من حينها أساسيَّة، سبقه إليها جيرمونسكي الذي كوَّن صورةً عن ذلك سنة 1925، حيث وضع العمل الأدبي على طرف مقابل من التَّحقيق (التَّصويت)، وهو ما قام به أيضا توماشفسكي سنة 1929، حين أبعد مسألة الخلط عن إيقاع البيت والإلقاء الخاص به. ثمَّ بيوس سارفيان الذي قال سنة 1947: أيُّ كاتبٍ، يتصوَّر أنَّه بإمكانه إنجاز رسالة دكتوراه حول البحر العروضي لراسين، سيقوم بإنجازها على مستوى نطق الفرنسية ومناهج الإلقاء بالكوميديا الفرنسية للقرن العشرين». بهذا الشكل، يبتعد هذا التقليد برمَّته وفي المكان المناسب بين النبرة الإيقاعيَّة والنبرة الجماعيَّة. نحن لا نعود هنا إلى ما تمَّ انتقاده قبلاً. إنَّ نقد النَّقد لا يكون ضرورياً إلا إذا أتى على ما يحصره النَّقد في مجال التَّنظير فقط.
يسلِّم الصَّوت نفسه كمعطى فردي إمَّا للتَّأويل، للفسيولوجيا أو لما هو خليط بين ما هو ذاتي وما هو فردي، أي بين الذاتية والفردانيَّة. وهو خلط أيضا بين الصَّوت الفيزيائي الذي ينطق، والصَّوت كمجاز للتَّفرد الأكثر حميميَّةً.
يفترض نقد الإيقاع أو نقد الخطاب أنتروبولوجيا للصَّوت، أو تأريخا للصَّوت. إنَّ استخدام الصوت لا ينبغي أن نهمِّش فيه المجال التاريخي للإنشاد، سواء الإلقاء المشبع للأليكسندران بمسرح القرن 17 للميلاد أو الإلقاء ذو الوتر الواحد للشعر الرمزي بفرنسا. يمثِّل هذا النظام الثقافي جزءاً من شروط إنتاج الشعر، أو إنتاج الخطاب في شكل شعر، على خلاف ما يحدث بأوروبا أو بإفريقيا. […]
لكنَّ الصَّوت ولو كان وحيدا فهو غير مفرد، وهو يملك فضلا عن توفره على خصائص فسيويولوجيَّة علامات ثقافيَّة مميزة. علامات لا يمكننا تهميش اختبارها -حتَّى أثناء محاولة استيعابها- إذا لم يكن هناك من عناصر ترتبط بما يفرضه الصَّوت.
فالشفهيَّة لا تبتعد عن القول، وفي بعض الحالات عن ما تمَّ قوله. إن هناك شفهيَّة المجموعة وشفهيَّة الـحُجرة، أو شفهيَّة الصراخ، وما يُهمس به في مجال الداخل تقريبا. فالقول هو تعدٍّ للآخر، لكنَّ ما نقوله هو داخل القول أيضا. فتعرية الشعر الفرنسي المعاصر من شفهيته –بعض الشعر وليس كله- هو مثال جيِّد على أنَّ ما صار يكتب بشكل مرئي هو الوحيد الذي شيئا فشيئا لم يعد يليقُ بأن يُقرأ بصوتٍ مرتفع. ممَّا يبرز العلاقة بين التاريخيَّة والشفهيَّة، ويجعل الكتابة نكوصاً وعدولا. فسان جون بيرس يوحي في شعره «بأنَّ الشعر لا ينبغي أن ينشد»، تكون الشفهية بهذا إشارة لوضعيَّة شعريَّة. وهي تمثِّل بذلك العلاقة الاضطرارية في الخطاب بين الأوَّليَّة الإيقاعيَّة والتنغيميَّة وبين طريقة تعبير لما يقوله الخطاب. الشفهيَّة إذا على هذا النَّحو جماعيَّة وتاريخيَّة(4).
[…]
التاريخيَّة والإلقاء المسرحي :
يمثِّلُ تعليم الإلقاء بفرنسا، من خلال المسرح ومن أجله، المعهد الفنِّي للإنشاد. لقد تمَّ تحديد الإلقاء على أنَّه «مجموعة من القوانين التي تنظِّم الكلام المحكي» (جورج لوروَا) و«الطريقة الخاصَّة بكل فرد في الكلام أو في القراءة بصوت مرتفع»، تسيطر القراءة بشكل طبيعي على الكلام: «فالإلقاء يدرس اللغة المحكية من خلال اللغة المكتوبة». لذلك يبقى الإلقاء تصويتاً تقليديا، فحروف الرَّوي المؤنَّثة كــ(oue, ue, ie, ée) لا بدَّ أن يتم تمديدها(5). لذلك لا بدَّ أن يجعلنا هذا المقطع (ée) نسمع فيه صوت (ée) وليس صوت (é-eù)، وهو ما قد نعيد من خلاله بناء طريقة نطق أصحاب بلاط القرن السابع عشر للميلاد بكل المستحيلات التاريخيَّة فيه[…]. لهذا، فبعد أن أدلى جورج لوروا برأيه في أنَّ روح الجملة أو روح البيت الشعري تكمن في النَّبرات القويَّة، فإنَّه قد أجبر نفسه على الإضافة فيما بعد بأنَّ حرف (e) هو أيضا عنصر إيقاعي، لأنَّه يمثل وقفة استراحة ضمن تصويتات مختلفة من لغتنا، وانتقال تنغيمي بينها».
التَّاريخيَّة والإلقاء التَّعبيري:
الإلقاء تعبير، والمعيار المعلَنُ في ذلك هو الطَّبيعي، الرَّصانة، البساطة، على طرف النقيض من تلك الانفجارات العنيفة للنَّفس على الأصوات التي لا تضيف للتَّعبير شيئا. علينا من هنا أن نولي اهتماماً للصَّمت: «لأنَّ الأشياء الأكثر أهميَّة في الإلقاء هي التي لا نقولها». إنَّ لها قيمة الزَّمن المتوقِّف. فالإلقاء في مجموعه، يحاكي الصَّوت، بل إنَّه يحاول أن يكون صوتاً.
يهتمُّ الإلقاء بعلم النَّفس، وحتَّى تحديده للحركة هو بسيكولوجي، فالحركة في الإلقاء هي تمرين متنامي ناتج عن نشاط يتطوَّر إلى غاية الشَّدة التي تصبح سمة لنهايته. سواء كان ذلك فصاحةً أو نشاطاً، فالفعل ههنا يحَدَّد بمثابة فصاحة للجسد. ولا بدَّ أن يستلهمَ من الأعمال العظيمة للنَّحت القديم، وفي متحف اللُّوفر ما ينم عن ذلك(6). […].
يتكوَّن الإيقاع في الإلقاء من خلال توسيع صوتيَّة المقاطع المنبورة عموماً. والعلاقة الصَّعبة كلُّها بين الإلقاء (المسرحي) والعروض تكمن في هذا التعريف، وهي نفسها التي تحدِّد نوعيتها من خلال إعطاء البحر العروضي وحدة نفس واحدة. فالأبيات الشعريَّة الجميلة هي التي لا بدَّ أن تقال بنَفَسٍ واحد، أو بانعطافة صوت واحدة(7).
ولأنَّ الإلقاء فنُّ الصَّوت، فهو اللاصوت. إنَّه ثقافة. ومن هنا كان اهتمام مَايْرولدْ بالتَّقليد، بالأسلوب ضدَّ الطبيعيَّة. (…) فليس ما يهمُّ هو محاكاة صوت الطبيعة، ولكن جعل الصَّوت مادَّة. كتب مايرولد سنة 1912 ما يلي: في مجال الإلقاء ، 1- فإنَّ الترصيع البارد للكلمات ضروري: لا نبرة اهتزازية ينبغي أن تكون ولا صوت متباكٍ، بل غيابٌ كاملٌ للشِّدَّة ولصفات الصَّوت القاتمة. لا يوجد في الصَّوت تماهٍ ولا أشياء غير مدقَّقة، وليس هناك نهايات اهتزازية في أواخر الكلمات كتلك التي تلحق بمن ينظم أبياتا منحطَّة. […] 5- ينبغي تجنُّب بكلِّ ثمن سرعة الكلام التي لا يمكن قبولها إلا في الأعمال الدراميَّة التي تحيط بوصفها المنهكين عصبيًّا، أو تلك التي يضع فيها الكاتب بحبٍّ كبير نقاطاً متتالية. (مهما كان)، فإنَّ السُّكون الملحمي لا يلغي الشعور المأساوي، والأحاسيس المأساوية هي دائماً جليلة». هنا تظهرُ الصِّفة المتباينة والمتجدِّدة للإلقاء.
إنَّ المسرح التقليدي «مسرحٌ غير متحرِّك». ففي سنة 1914، كتب مايرولد ما يلي: «في المسرح، لا ينبغي محاكاة الحياة، لأنَّ الحياة على خشبة المسرح، تماماً مثل الحياة في لوحة، متميِّزة، وموضوعة على الطرف الآخر من الحياة اليوميَّة. إنَّ ما تفرزه عملية نقض المحاكاة من آثار في مظهرها المتباين يضع مفهوم الإيقاع ضمن مركز المسرح، وضمن مركز الإلقاء : فماهية الإيقاع المسرحي برمَّتها هي ضدَّ إيقاع الواقع أو إيقاع الحياة اليوميَّة. «ولو اعتبرنا أنَّ الإيقاع يمثِّلُ قاعدة الإلقاء وحركة الممثِّلين، فإنَّه سيجعلنا نستشفُّ إمكانيَّة نبوغ قادم للرَّقص، بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الكلام يمكن أن يتحوَّل بسهولة في المسرح إلى صراخ منسجم أو هدوء تنغيمي».
نفهم التقليد لدى مايرولد بمثابة تقنية تحضير المشهد. […]. لكن مايرولد هنا يحرِّر الصَّوت ويعتبر أنَّ الإلقاء لا بدَّ أن يكون متحرِّكاً.
في علاقتهما الوطيدة والضرورية، يكشف الإلقاء والصَّوت هنا عن أنَّ هذا الأخير الذي يبدو العنصر الأكثر التصاقاً بالشخصيَّة والأكثر حميميَّةً، يصبح كالموضوع مجال عبورٍ فوريٍّ لكلِّ ما يميِّزُ العصر، الوسط، وما يميِّزُ طريقة تحديد وضع الأدب، وخصوصا الشعر كطريقة للتموضع. ليس الصَّوت هو دائما من نموضعه. إنَّه قطعة فرديَّة بكلِّها الاجتماعي. كلُّ الثنائيات موجودة في الصَّوت. إنَّها ترد بشكل أساسي من أجل الشعر ومن خلاله كدليل على ثنائيَّة الداخل والخارج، وفي المقابل، دون أن يكون هناك تناقض، بين الكاتب والقارئ أيضاً.
إنَّه من الضَّروري أيضاً ومن خلال التَّوثيق التجريبي الذي يرتكز على التَّسجيلات – لاسيما بعد الشهادات – تحليل العلاقة التي تربط صوت الشعر وإنشاده بالشعر، وبشعرهما، وبما يقدِّمانه للاستماع. ما هي العلاقة التي تكمن بين الـ-يقول وبين القول، بينهما مجموعَينِ وبين الإلقاء، بين الإلقاء وبين الصَّوت.
هناك من الذَّوق، لتوضيح هاته المسألة، أحكام تشوِّشُ عليه داخل الانطباعيَّة الجماليَّة التي لا تظهر أبداً لَعِبَها: لن يكون هناك تلاؤمٌ إذا قرأ الكاتب بطريقةٍ أجود أو أردأ من محترف، فذلك يأخذُ الإلقاء كما لو كان بمثابة توثيقٍ للنَّص، للموضع وللمقام. وأبعد من ذلك، للهندسة الخطِّيَّة التي يتمتَّع بها.
سأبدأ هنا بتناول بعض الأمثلة الفرنسيَّة. إنَّ للوثيقة وجهين: الصَّوت والخطاب حول الصَّوت. إنَّ مزيَّة الوضعيَّة التي يحتلُّها الخطاب في هذا الأمر تحوُّله لسجِّلٍ إيديولوجيٍّ، لاسيما من خلال محتويات أغلفة الأسطوانات.
لن نجد أحسن من أبولينار لبدء توضيح هذا الأمر، من خلال قصيدته المسجَّلة «جسر ميرابو»سنة 1912. يتكامل إلقاؤه فيها وهندسته الخطِّيَّة، حيث لا نقاط ولا فواصل، ويبدو صوته فيها ذا رتابة واحدة، يدخل ضمن تقليد قراءة ملارميه التي قال عنها فاليري: هي قراءةٌ رمزيَّةٌ تعتمد مساراً خطِّيًّا في القراءة الفرنسيَّة للأشعار، إنَّها قراءة الكاتب، ولكنَّها قراءة الكتابة أيضاً. فهي لا تلقي إلا العروض المسجَّع للشعر، وتبرز كصوتٍ له فقط. لكنَّها لا تبحثُ عن المحاكاة ولا عن أن تعيش طبيعةً أخرى أو تعبيراً آخر. لا نستطيع أن نجد من يمنحها تقييما أحسن إلا طريقة المُمَثِّل جاك ديبي. لقد أعاد كلَّ النِّقاط والفواصل التي حذفها أبولينار، وأشار إليها، ومدَّد المقاطع الأخيرة، وأومأ في كلِّ ذلك بالمعنى – فمادام هناك معنىً، فينبغي تأويله-. سجَّل بيار سيغر على ظهر علبة الأسطوانة أنَّنا لا نعثر «في أشعار غيوم أبولينار انفجارات الأصوات الثَّوريَّة». يُمَرَّر ههنا خطاب حول القصائد كما لو أنَّ المسرحة (théatralisation) تنطلق من ذاتها، وأن قراءة الشعر تكون خارجه. ليس إذا داخل الإلقاء وحده أين يجدُ التَّقليد البلاغي موضعه. فبلاغة الكتابة وبلاغة الإلقاء يحملان الصَّوت في الصَّوت. ولن يكون من المجاز إذا أن نقول : إنَّ الشَّاعر يغنِّي. فها هو سيغر يكتب بأن «أراغون يغنِّي على باريس البعيدة والشَّهيدة».
ما أجبر نفسه على تحقيقه جون لوي بارو، جامعاً كلَّ العلامات، وصانعاً من كلمة جميل في «إنَّه فعلا ليوم جميل» مفردة ممدودة جدًّا ومرتفعة أيضا، هو ذلك المقطع الذي امتدَّ بقامة الحميَّة-الطبيعة في المفردة (جميل) التي سنعجز فيها عن التفريق بين الشِّعر وبين الإلقاء – التحقيق الصَّوتي الفردي. لا يثقل أراغون-الكاتب الأصوات بالعلامات مثل جون لوي بارو، فإلقاء هذا الأخير على بلاغةٍ كبيرة، تماما كما هو الحال بالنسبة لكتابته، سواء بلثغة الراء فيه أو بإشباع الأواخر من الكلام. إنَّ الصَّوت بلاغة كما كتابته.
[…]
إنَّ مكان الصَّوت هو مكان الشعر وهو مكان تاريخي، وهو ثقافة أيضا. فمكان الصَّوت في التقليد الفرنسي ليس هو نفسه في التقليد الإنجليزي الأمريكي، لأنَّ علاقة الشعر بالشفهي، بالكلام، باللغة العادية، ليس هو نفسه دائماً. فالجديد الشعري من ووردزورث إلى هوبكنس، إلى بوند وإيليوت وإلى غاية بيتنيكس وشارل أولسون يُحَقَّق دائماً في الإنكليزية في علاقة جديدة بالكلام. يوجد الصَّوت ههنا بالضرورة من خلال أوَّليَّة الشفهي المرتبط بالكلام وبذلك يكون ارتباطه من خلال التاريخ أيضا.
ربَّما لن يكون لنا الصوت نفسه في ثقافةٍ أخرى، مادام ليس لنا الصَّوت نفسه في لغةٍ أخرى. لقد تمَّ وصف إنشاد ماندلشتام بما يذكِّرُ بإنشاد ييتس: «ها هو عندما يقرأ، يترنَّم، بتأرجحٍ إيقاعيٍّ خفيف».
إنَّ ماياكوفسكي كمستقبلي (مذهب أدبي عرف أكثر بإيطاليا)، أو بالأحرى كمستقبلي روسي لا يلقي بصوتٍ ممتلئٍ أبياتاً بل مقاطع، مجموعاتٍ مجموعاتٍ، وفق الهندسة الخطيَّة التي تأخذ شكل سلالم. إنَّ له إنشاد هندسته الخطِّيَّة، وله الهندسة الخطِّيَّة لإنشاده. ويبدو أنَّه لم يبتدع فقط هذه الهندسة ولكن ابتدع أيضاً تقليداً للإنشاد.
[…]
يمكن أن نستشهد أيضا يالحكاية الملحميَّة الإفريقيَّة للتدليل على تاريخيَّة الصَّوت. فالكلام المحكي يوجد بين الموسيقى، الرقص والكلام المغنَّى. إنَّه من الواضح جدًّا أن تكون مسألة التمهل أو أن نضبط الوتيرة الصوتية للحكاية الشعرية على إيقاع سرعة الكلام العادي على وجهٍ نقيضٍ لما هو موجود باللغات أو الثقافات الأوروبيَّة. فالشعر في اللغة الفرنسية بطيءٌ جدًّا. والشعر المنشد هنا أسرع من الخطاب المُلقى أو من الغناء. كذلك بالنسبة للأغاني بالكاميرون، فالإيقاع له وتيرة جسدية تجعل منه وضعاً وثقافة.
عوضاً عن أو قبل أن نرفض الإلقاء والصوت في النُّطق الفردي، علينا أن نحقِّق إذا تاريخاً مقارنا للانشادات في علاقتها مع الصَّوت وفي علاقتها مع المعنى وإيقاع الأشياء المحكيَّة بالقول. إنَّ طريقة النطق الفردي التي تؤخذ كنظام للخطاب لا تختلط على الإطلاق بتحليل الخطاب وشروطه. فلا يمكن أن نتناول إلا ما نسجِّله ضمن معجم فرنسي لما يمكن أن يقتسم النقاط نفسها. إنَّ للصَّوت خصائص هي نفسها التي نطلقها على الإيقاع، كالارتفاع، الشدَّة، الصِّفة، النبرة، -قد تكون النبرة أيضا علامةً للهجة محليَّة. إنَّ للصَّوت خصائصه الفيزيائيَّة والفيسيولوجيَّة (العمر) الخاصَّة به، فقد يكون مؤنَّثاً، أو مذكَّراً، شابًّا، كهلاً أو شيخاً، مكتملا أو ناقصاً (استخدمنا كلمة ناقصاً بدلا من كلمة أبيض التي أراد أن يدل بها الكاتب على علامة موسيقيَّة تساوي نصف دائرة)، ناعماً أو خشناً، مرتعشاً، مكسَّراً، نديًّا، بحًّا، ثملاً. وهناك في الأخير النُّطق والناطق. إنَّ للصَّوت المعبَّأ بأحاسيس هذين المستويين والمعبَّأ بعلاقته مع الآخرين علاقةً يقال عنها مرَّة إنَّها ذاتية، ومرَّة أخرى منطوقة وفق ما يستقبله الآخر، كأن يقال هذا صوتٌ فاتن، مندفع، حنون، شاكٍ، جاف، ممزَّق، مترجٍّ، متهكِّم، مؤدَّب أو وقح. إنَّ الصَّوت نطفي: إنَّ هناك تصويتاً…
لا يغيِّرُ صوت الصَّدر، صوت الرأس، صوت الحنجرة وصوت الأنف المصوِّتات فحسب، بل إنَّ التَّحولات فيه تحدِّد نطقيَّة الشخص. فالخطباء السياسيُّون يجعلون من الصَّوت وسيطاً بدلاً من أن يكون وسيلة. هناك إشعاع للصَّوت.
[…]
إنَّ الأكثر فسيولوجيَّة في الصَّوت هو أيضا اجتماعي مسبقاً، مثل الفرد. فالصَّوت لا يكتسي وضعيته المختلفة مقارنةً بالثقافات بل بالأنتروبولوجيات(8).
1- نشير أيضا إلى أنَّ هذا الموضوع كان مجال اهتمام بول زيمتور وإيفان فوناجي في السنوات نفسها، مما يدل بشكل واضح حدس الكتَّاب بالعودة القريبة إلى العصر الشفهي.
2- اجتزأنا مقاطع وتركنا ما يفيد التساؤل الأنطولوجي الذي يبحث في مجموعه في تاريخانيَّة الصَّوت والإيقاع، وأشرنا إليه بالعلامة : […]. أضفنا بعض العناوين في المقال المترجم لتنظيم القراءة وتسهيلها.
3- لفصل القصيدة والصَّوت : ص 273-296، من كتاب نقد الإيقاع: أنتروبولوجيا تاريخيَّة للغة، لهنري ميشونيك، فارديي، 1982.
4- ويرى الكاتب أنَّ الصَّوت الطبيعي يقف على طرف النَّقيض من الإلقاء، ان التقليد والبحث عن الطبيعي متشابهان، فكل واحد يرغِّب الثَّاني باستمرار. وحياة الصَّوت في النَّفس، وهو ما عبَّرَ عنه جوفي (jouvet) بقوله: «إنَّ النَّص هو تنفُّس كتابي».
5- وهذا ما يعادل قضية الإشباع التي يحظى بها الروي آخر البيت.
6- تبرز هنا حسب ميشونيك فصاحة الجسد الصَّامت، لأن فيه من القيمة ما لا يمكن أن نجدها في المتحرِّك.
7 النَّفس الواحد هو تقدُّمٌ متوقِّفٌ لمتغيرات صوتية، إنَّه أيضا إلقاء ثابت لا يتحرَّك. وإنَّ فيه معنى صامتا.
8 يتحدَّث ميشونيك عن السِّحر في الصَّوت لتعميق مفهوم الأنتروبولوجي للصوت والشعر والإيقاع معا. يقول في آخر مقاله أنَّ الصَّوت ارتبط قبل الإلقاء بالسِّحر، وذلك من خلال الرقية وما شابهها. وأورد شهادة كومباريو الذي تناول الطلاسم السحريَّة للمصريين وتحدث عن عبارةٍ كانت تستخدم لمداواة الجرح […] كما أورد ملاحظة موس التي كشفت عن أنَّ شدَّة الصَّوت في السِّحر يمكن أن يكون لها أهميَّة أكبر من الكلمة (…)، وقد يكون ذلك مرتبطا بالنسبة له بالإيقاع أيضا.