يعتبر مفهوم الخسارة مرادفا مناسبا لمفهوم الربح، وهما من المفاهيم الشائعة وكثيرة الاستعمال ضمن الثقافة العربية السائدة، حيث غالبا ما يقيس العربي عندنا كل أمر يقدم عليه بمنطق الربح والخسارة، وذلك في مقابل الإقدام على الفعل من باب المغامرة والتجربة والإنجاز التي تطبع الثقافة الغربية، «عباس بيضون» لم يشذ عن القاعدة، ولم يخرج عن الضمير الجمعي العربي عندما أرخ لمفهوم الخسارة ضمن رواية جميلة وشيقة.
صدرت الرواية في طبعتها الأولى عن دار الساقي سنة 2012، وتتشكل من مائتين وخمسة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وقد اعتمد المبدع فيها على مدخل مثير يعمل فيه الزمن على صعق مستعمليه وهو ينبه الجميع إلى الغفلة التي تحدثها الأيام المتوالية على حياة الأفراد، لقد مكنت هذه الصيغة الكاتب من فتح حوار مع الزمن للتعرف على عوامل قوته وسطوته وجبروته، ووظف العلاقة بين السمع والزمن مستخلصا بصيغة عملية القاعدة البسيطة التي تدل على أن التقدم في العمر يساهم في انخفاض السمع، وبالتالي يقع على المستوى الفني في البناء الروائي تصدع وخلط في العلاقة بين الزمان والمكان، حيث تفقد الشخصيات الإحساس بالزمن، وبالتالي يفقد المكان لديهم قيمته ورونقه، وفاعليته.
لقد توقف السارد عند علاقته المثيرة ذات البعد الوجودي الصاعق مع «نينو»، القط نينو يشترك مع السارد في جميع تفاصيل الحياة، فالسارد أستاذ في المدرسة، والقط نينو أستاذ في البيت وهو يشكل قلقا وجوديا حادا للسارد يصل به لحد محادثة نفسه كأنه مجنون، ويوظف المبدع هذه المعطيات ضمن متواليات سردية قصصية قصيرة، تامة، ومعبرة، عن طريق استعمال لغة واقعية وظيفية مفهومة تدل على المعنى بدون تعب أو مشقة مع الاقتصاد في الكلمات المشكلة للجمل وتجنب التكرار.
يلجأ المبدع إلى توظيف الوصف الدقيق لكل الجزئيات المحيطة بالموضوع عن طريق المسح الشامل للصورة الروائية بكل دقة واهتمام، عبر سرد بواسطة ضمير المتكلم، وهو سرد خطي واقعي متصل يسير نحو هدف معين، ويرسم معالم تعالق الشخصيات والأحداث بالزمان والمكان، ولذلك ترى السارد يعبر عن هبوطه النفسي الحاد بسبب الفراغ المحبط الذي يحسه بعد بلوغه الستين من عمره وبداية صراعه مع كل شيء حوله، وخصوصا القط نينو الذي يسيطر على البيت بكل ثقة واعتداد بالنفس، ويحاول السارد التخفيف عن نفسيته إحباطها وعزلتها عن طريق استحضار صورة وتقاسيم ابنته « بانة» المسافرة إلى باريس، ويمني نفسه بقرب حلول الفرج عندما تعود « بانة « من باريس لكي تعيد الأمور في البيت إلى نصابها، خصوصا مع القط «نينو» الذي كانت سببا في دخوله إلى البيت عندما قررت كفالته وحمايته من أخطار الشارع، لقد كان قرب رجوع «بانة» من سفرها يشكل نوعا من العزاء للسارد الذي أصبح يعاني مشكلة وجودية حقيقية وحادة بطلها القط «نينو»، ويبدو أن القط البطل هنا رمز لكل الممكنات، فقد يكون جالبا للحظ كما هو في ثقافة بعض الأمم، وقد يكون رمزا للسحر الأسود والشعوذة ومصدرا للشر كما هو لدى ثقافة البعض الآخر، كما هو رمز لعدة امتدادات ثقافية حسب معتقدات المجموعات الإنسانية المختلفة، في اعتقاد السارد فإن القط «نينو» يتعمد إشعال غيظه وغضبه بتصرفاته المثيرة للحنق عن طريق تحسيسه بغربته داخل بيته، كما لو أنه تمت عملية تبادل الأدوار وأصبح القط سيدا ومالكا للبيت ولم يبق له إلا أن يأمر بطرد السارد والإلقاء به خارجا بسبب مضايقته للقط وحرمانه له من التصرف على سجيته وهواه قصد امتلاك كل ناصية داخل البيت، لقد ساهم السارد في تحجيم مساحة تصرف وحرية القط داخل البيت، فبات الحيوان جريحا بسهمين، سهم المرض القاتل الذي كان ينخر جسده ويفتك به، وسهم حرمانه من حريته في التصرف داخل المجال الكامل للبيت، لقد قدم لنا السارد القط باعتباره خيرّا مرة من خلال الإشفاق عليه بسبب مرضه الخبيث وامتناعه عن الذهاب به إلى البيطري لكي يضع حدا لحياته رحمة به، وقدمه لنا شريرا مرة أخرى عندما كان يعتقد بأن القط يناصبه العداء ويتعمد مضايقته ويعتدي على زوايا البيت الأثيرة لديه، لقد كان القط فاعلا في مفهومي الزمان والمكان داخل البيت، دوره كان حاسما وطليعيا في صناعة وتأثيث فصول الرواية، فهل كان السارد يغار من دوره الريادي هذا ففكر مرارا في التخلص منه؟
عاد كثير من أفراد عائلة السارد إلى بلدهم الأصلي مثل حسن وجورج، وإكرام الحبيبة التي جاءت من أبيدجان، ثم ها هو عبداللطيف يخبر بموت زاهي، زاهي الذي كان يمكن أن يعيش لو تم إيجاد الخيط المفقود، لقد كان يمكن لهذا الخيط المفقود أن ينقذ حياة زاهي إذ هو الرمز، وذلك من أجل استكمال عناصر بناء الألبوم العائلي والعشائري الذي يعتبره السارد ألبوما فاشلا بدون قيمة، ورغم ذلك فهو مضطر للتعايش معه وقبول أفراده بصورهم الحقيقية أو المنسوخة، حيث نجد أن السارد يرتبط مع إكرام بعلاقة قرابة بعيدة، بينما يرتبط مع آمال بقصة حب.
يصعب كثيرا على السارد أن يتكيف مع سن الخامسة والستين حيث هو دائم الشكوى والتبرم والقلق من تبعات هذه المرحلة من حياته والتي يجد ذاته بعيدة عن تحقيق الانسجام والتوازن معها، ثم هذا المشكل المزمن في رعاية القط «نينو»، فالمشكل الكبير هو صعوبة عيش الإنسان والحيوان ندا لند دون أية علامة على التنازل عن حق أو واجب من أي طرف منهما، ثم لن تظل الأمور دائما عادية عندما يستمر السارد في التفكير لنفسه وللقط لأن رغبات هذا الأخير لا تفهم نظرا للحالة الصحية المزرية التي أصبح يعيشها الحيوان المقلق، وأصبح السارد يعتبر معاقبة القط «نينو» شبيهة بمعاقبة ابنه له بحرمانه من رؤيته، والعيش معه، والتفكير فيه على الأقل من خلال مكالمة هاتفية بسيطة وقصيرة، وتسبب هذه العوامل للسارد كثيرا من المشاكل النفسية المؤلمة حيث أصبح يعتبر أن حياة الإنسان في جميع مراحلها عبارة عن صفحات مسودة بالحبر القاتم ولا وجود في حياة هذا الإنسان لصفحات بيضاء أو صور بريئة، إنها صفحات ثقيلة ومملة، إنه ألبوم أسود ومتعب ومنفر، ورغم ذلك فهو مضطر لتوثيق ذكرياته الماضية عبر البحث المضني عن ذكرى ماجدة فيها العزاء والترويح عن النفس حتى يكون الألبوم نافعا نسبيا، لأنه حاليا لا يثير إلا حديث الأزمة ولا يوثق إلا ذكريات الحياة والموت والمرض والألم… وبعضا من الحب.
لقد أكد السارد بكل ثقة وتصميم بأن جده كان يحفظ عن ظهر قلب تاريخ الطبري، كما كان يحفظ أشعار المتنبي وابن الرومي، والمقصود هو أن الكتاب السابقين قاموا بإثراء عصرهم والتأريخ له بنتاجاتهم الثرية، ومن هنا كان الألبوم كما أراد له صاحبه رمزا لجميع مراحل الحياة رغم شح وندرة مساهمات المحدثين القريبين في الفكر والتراث والمعرفة، وهذا عار على أمة القراءة والمعرفة لأن «أستريد» الفرنسية تعرف جزئيات معمارنا العربي أكثر مما نعرف نحن، وقد حز هذا الأمر كثيرا في نفس الكاتب حتى اضطر للظهور في الرواية في الصفحة «72»، بروز اسم «عباس بيضون» في هذه الصفحة صيغة سردية مشهدية، ودليل على محاولة ربط أحداث الرواية بواقعية قدرية لا مهرب منها في حياة جميع المجسدين في الألبوم الذي احتوى على جميع أنواع الذكريات التي عاشها السارد بطريقة واعية ومضبوطة لأنه كان يخشى باستمرار من التهام جذوره لكي لا يصبح معزولا عن مجاله ومحيطه أو يصبح بطلا من ورق، أو أن الكاتب أحس بوهن وضعف ويأس سارده فسارع للظهور في مجرى السرد كي يسنده، ويوجه رؤيته، ويصحح خطئه، ويدعم بطولته خوفا من سقوطها، حيث يؤكد نص الرواية على أن حفل سقوط البطل لا يقل متعة وقيمة عن حفل تنصيبه وذلك انطلاقا من الأفكار التي يوظفها البطل في تدبير أحوال الشخصيات الروائية والتي يتقبلها كل واحد بطريقته الخاصة، وعلى العموم فإن كل فكرة يمكن أن تفسد شهيتنا.
رواية المبدع «عباس بيضون» تحتفي كثيرا بالمرأة وتهتم بها، فالسارد يفرد وقتا طويلا وكافيا للحديث عن حبه وشوقه لابنته «بانة» صاحبة القط القدري «نينو»، ويفرد كلاما كثيرا للحديث عن طباع زوجة خاله، ثم العلاقة الوطيدة بين السارد وحبيبته «إكرام» التي يحب كثيرا وصالها ويستمتع به دون التفكير في تجاوز الأمر إلى علاقة مصيرية، ورغم أن «إكرام» لبست الحجاب مع أخواتها فإن السارد اعتبر بأن الحجاب ليس عند «إكرام» وأخواتها فقط بل عند الكثيرات هو عبارة عن مصدر لحرية إضافية لا غير.
ألبوم المبدع غني بشخصياته المتنوعة التي طبعت مجرى الأحداث في الرواية، وقد اعتمد في تقديم شخصيات الألبوم أو أفراد العائلة على الأدنى ثم انتقل إلى الأعلى فأثار الحديث بنوع من الشموخ وعزة النفس عن جده الذي يحضر في الرواية في صورة غاضب كبير وجامح متمرد، يؤكد السارد بأن هذا الجد العتيد للأب هو الذي أورث أفراد الألبوم العائلي الاكتئاب والكآبة، بينما أورث الجد للأم عترته الخوف والجنون، فاكتملت بذلك الأعراض المرضية النفسية لدى شخصيات الرواية حتى تجذرت وبات من الصعب جدا مواجهتها بالعلاج والتطهير، فأصبح من قبيل المشروعية الفنية والأدبية وسم العمل بالخسارة والانهيار عوض الربح والتألق، وعلى هذا المنوال تظهر لنا الخطوط العامة التي قصد بواسطتها السارد تقديم ألبومه العائلي الموبوء انطلاقا من فصول مشوقة خاصة بتشريح جينيالوجي تعتبر فيه الذكريات الماضية سيدة المكان والزمان حيث تسطع صعودا بشدة وتوهج لتعود مرة أخرى وتختفي تماما وتستحيل إلى ذكريات هشة مريضة ومتلاشية، ولم تفلح أي من العناصر الحياتية التافهة في التسرية عن السارد وجعله ينسى الوقع الشديد والصادم لعناصر ألبومه الخاسر، وحتى التجربة السياسية التي خاضها لم تفلح في اقتلاعه من لوعته الوجودية القاسية، فهو كان يعتبر السياسي رديفا للمغني، والمغني رغم الشهرة والنجاح يظل دائما أسيرا لذاته النرجسية المتقلبة وقلقه المزمن خوفا من زوال النعمة، ورغم دخول السارد السجن بسبب وعيه ونضاله السياسيين ومعاناته الرهيبة في المعتقل الإسرائيلي فإنه كان مؤمنا كل الإيمان، ومقتنعا كل القناعة بأن النشاط السياسي يرتبط بالبطالة، فيكون وقت البطالة إذا هو وقت الحزب والنضال، أما الحرب فقد أصبحت هي الأخرى معمقة للخيبة وسقوط الأحلام، فهي أعادت الجميع إلى البطالة والسأم، وتبقى مزيتها الوحيدة هي أن مساهمتها في البطالة جعلت أحلام الجميع تكبر، كما علمت الجميع السخرية من كل شيء، وفي الأخير بقي للسارد القط «نينو» فقط، هو وحده من أسعفه في التماثل معه، إن المحاكاة بينه وبين القط هي التي صانت ذاته الهشة من الضياع والانهيار، وظل صامدا بكبريائه أمام الحيوان لا يريد أن ينهار أمامه ويعلن فشله، كما ظل القط شامخا ومعتزا بذاته الحيوانية أمام الإنسان رغم مرضه المدمر، ولم يهتز شموخه ولا انفرط عقد عزته حتى دخل في مرحلة الاحتضار، ثم نفق أخيرا، فأدرك السارد بأن موت القط هو إيذان بموت ألبومه المهترىء، وبأن الموت سواء طال الحيوان أو الإنسان هو رديف لانتهاء السرد، وانهيار الأحلام، وتلاشي الألبوم.