شريف الشافعي
جاء فن القصص والرسوم والأشرطة المصوّرة “الكوميكس” بتفجراته الجمالية الجديدة خلال السنوات الماضية ليضيف الكثير إلى الفنون البصرية السابقة عليه في مصر والعالم العربي، مثل الكاريكاتير. واقترن الكوميكس (الفن التاسع)، شأنه شأن الغرافيتي، بالتمرد والخروج على المألوف وكسر السائد، فصار على أيدي مبدعيه الشباب فن الإدهاش والمتعة الذي ينطلق دائمًا عكس المتوقع وخارج السيطرة، ولذلك لقي رواجا كبيرًا في فترة الثورات العربية، وفي أعقابها، حيث انتشرت مجلات الكوميكس العربية البارزة، مثل “توك توك” و”الفن التاسع” و”مجنوون” و”جراج”، وغيرها، إلى جانب مهرجان “كايرو كوميكس” الدولي الشهير بالقاهرة، الذي انعقدت دورته الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وغيره من التمظهرات المصرية والعربية والدولية للفن الوليد المتحمس. ومع تأثر الكوميكس الحديث لدى الأجيال الجديدة بالنشر الإلكتروني ومواقع الإنترنت والسوشيال ميديا، فإنه صار فن الناس الأقرب إلى ذائقة الجماهير العربية.
ولقد أثبت الكوميكس العربي منذ انطلاقته الأولى تفوقه وجنونه وإمكاناته الواسعة، كفن للمفاجأة والشغف من جهة، وكطاقة تفجيرية قادرة على هضم تحولات السرد القصصي الواقعي والتخييلي وانحرافات التصوير البصري التشكيلي من جهة أخرى. ومع الثورة الرقمية الحالية، صار النشر عبر الإنترنت يتيح مزايا متشعبة، منها: إمكانية التعامل المباشر بين الفنان والمتلقي بدون وسيط ميديوي، وزيادة أعداد المتابعين بشكل كبير، وتخطي الحاجز المحلي إلى جمهور عربي وإقليمي ودولي لا حدود له، وتفادي القيود الرقابية وإجراءات المنع والتضييق.
ومن دواعي نجاح فناني الكوميكس وتمكنهم من القفز عاليًا فوق الأسوار، إيمانهم الراسخ بأن الفن الحقيقي شرارة لا تنطفئ أبدًا، ورؤية استشرافية تسبق العصر، ولهذا فقد توازى الكوميكس بشحناته الخلاقة ووسائله المغايرة في النقد الاجتماعي والسياسي، مع الثورات العربية، التي أفسحت المجال لالتقاط صورة الغد والتطلع إلى المستقبل، وتطور هذا الفن الطليعي إلى أن صار الامتداد البصري العصري للحكايا والسير الشعبية القديمة والسرد النمطي، والوجه الأكثر مرونة وتجددًا للكاريكاتير، فن التهكم والسخرية الذي له باع طويل ورصيد بالغ الخصوبة في الذاكرة المصرية والعربية.
ولربما تلوح في الأفق بعض المعوّقات والمخاطر التي يمكنها أن تتهدد هذا الفن النابع من فوران الأرض وغليانها وأحداث الواقع ومعاناة الناس ورغبتهم في التحرك والتغيير، وعلى رأس هذه المثبّطات تقلص هامش الحرية ومناهضة الروح الثورية، إلى جانب الأزمة الاقتصادية ومشكلات التسويق وتخلي المؤسسات الرسمية والصحف ودور النشر وهيئات الطباعة تدريجيًّا عن احتضان هذا الفن، الذي قد يكون مصدر توتر وإزعاج وقلقلة للرواسخ وخلخلة للاستقرار، سواء على مستوى الثابت الجماليّ أو الاجتماعيّ أو السياسيّ.
وفي هذه اللحظة الشائكة، الفارقة، نفتح ملف الفن التاسع، بلقاء نخبة من فناني الكوميكس العربي المعاصرين من أحدث الأجيال، لنفسح لهم فضاء الكلمة واسعًا، ليسردوا قصصهم، ويبوحوا بما في ضمائرهم، ويتحدثوا بطلاقة حول كل ما يخص فن التمرد والاحتجاج والانتفاض في العالم العربي. وهم فنانون متوهجون، متسلحون على طول الخط بالأمل المتجدد، والحيوية، والعزيمة، والحلول العملية والبدائل الجمالية المتاحة للتغلب على كل العقبات، من أجل أن يحتفظ الكوميكس بعرشه، ومكانه، ومكانته، كفن تفاعلي لديه القدرة على الإمتاع والتأثير، في أحلك الظروف، لأنه دائمًا “فن التحدي واستنفار الهمم”.
وبإمكان الكوميكس، فن الذكاء والمراوغة، وفق فنانيه المتحمسين، أن يتغلب مثلًا على تقلص هامش الحرية ببساطة، وينجو من آليات الحصار والرقابة والتضييق بحيل فنية وجمالية كثيرة، كما أن بإمكانه التغلب على مشكلات التمويل والتسويق، بل والتحول إلى صناعة رائجة مُربحة، دون الإخلال بدوره ومسؤولياته، كالطامحة إلى بصيص النور. فن ملتفت دائمًا إلى صوت الشعب ونبض الشارع، وأزمات الفئات المقهورة والمحبَطة والهامشية في المجتمع، وثمة تحدٍّ آخر يخوضه فنانو الكوميكس الجدد، هو مواجهة المتطرفين والتيارات الدينية المتشددة، التي يراها البعض أخطر على هذا الفن من أي سيف مشرع.
ولقد تمكن الكوميكس من جعل الملايين يشعرون بأهمية الفنون في التعبير عن حركة الحياة، وكانت الجرأة دائمًا هي سر نجاح مبدعي هذا الفن، الذي طرح مسائل اجتماعية عدة إلى جانب القضايا السياسية، منها تفجير أزمة “التحرش” بمصر على سبيل المثال، والإسهام في التصدي لها. ومع هذه الأجواء الملتبسة في الوقت الحالي، يجدد الكوميكس العهد بعدم قبوله الحلول الوسطى، فهو فن الهواء الطلق والأنفاس الملتهبة والمرايا المفتوحة على الشارع بشكل مباشر، وهو فن التجرؤ على الأبوية والسلطوية، والتحليق في مدارات عليا “خارج السيطرة”، وهكذا سيبقى مثلما يؤكد فنانو الكوميكس المعاصرون في تصريحاتهم.
أفكار غير نمطية
وفي قلب معركة التجديد والتطوير ومسايرة العصر، ومواصلة الجموح والتحرر والتثوير كشروط للإبقاء على فن القصص والرسوم والأشرطة المصوّرة “الكوميكس” متوهجًا حيويًّا، يقف الفنان أحمد عبد المحسن كواحد من شباب المبدعين المتطلعين إلى نهوض الفن التاسع واسترداده عافيته بأسرع وقت، عبر المزيد من الأفكار غير النمطية والجهود الفنية وأيضًا الإدارية والترويجية. وللفنان حضور لافت في حركة الكوميكس الجديدة بمصر والعالم العربي، وهو رسّام ومصمم غرافيكي ومصوّر حر، قدّم العديد من الإسهامات المتميزة في حكايات “الكوميكس” المصوّرة ومجلاتها وفعالياتها ذائعة الصيت، ومنها: مجلة “قالك فين”، وفعالية “إنكتوبر” (InkTober) الهادفة إلى المحافظة على الرسم بأقلام الحبر التقليدية على الورق بمشاركة فنانين من سائر أرجاء العالم، و”أسبوع القاهرة للكوميكس”، وغيرها.
يشير الفنان أحمد عبد المحسن في حديثه إلى أن “الكوميكس”، ببساطة واختصار، هو نافذة مفتوحة على التمرد وكسر المألوف، وعلى التثوير والتنوير، وميزته الكبرى أنه فن مكرس لصناعة الوعي، والتعاطي مع العقول والقلوب والأرواح في آن. ولقد انتشر الكوميكس هذا الانتشار كله، وحقق هذه النجاحات الملموسة الواسعة في مصر والعالم العربي، لرهانه الدائم على الاستنارة، والتقدمية، والتفجير، والتغيير. ويقول: “كمثال على ذلك، فإنني قد شاركت في فعالية جماعية للكوميكس في مصر، موّلتها منظمة الأمم المتحدة، كان هدفها التوعية المبكرة للأطفال في المرحلة التعليمية الابتدائية بمخاطر السمنة ومرض السكري، وذلك بالتعاون بين فنانين وأطباء وتربويين ومختصين، وشاركتُ بتأليف قصة وإعداد الرسوم لها، ونُشرت على أغلفة كرّاسات المدرسة. وكانت النتيجة مذهلة، لنا جميعًا، ولأعضاء الأمم المتحدة الذين راهنوا على بساطة الكوميكس وتأثيره وسحره، فقد أدت الحملة ما هو مطلوب منها بتوعية الأطفال ونشر المعلومات الصحية وإقناعهم بأضرار السمنة والسكري، وأدى الحكي والتشويق والصور المحببة ما لم يكن ليؤديه صوغ المعلومات بشكل تقليدي”.
ويوضح عبد المحسن أن الكوميكس فن ليس للمتعة والإبهار والشغف والإدهاش فقط، فهو مقترن دائمًا بغاية اجتماعية، بإضاءة مشهد ملتبس أو بالإشارة إلى سبل الإصلاح، أو انتقاد أمور سلبية، ويتم ذلك كله في قالب جمالي شيق وصياغة فنية مبتكرة، فمن سمات الكوميكس تجاوز السائد المجاني وارتياد جزر غير مأهولة، فليس كافيًا قراءة ما هو كائن، فالفن الطموح يتطلع إلى ما سيكون وما ينبغي أن يكون.
ويقول: “لقد وعى جيلنا جيدًا خصوصية فن الكوميكس، وأنه فن العلاقة الحميمة بين الفنان والجمهور بلا وسطاء، وأنه فن التحديث والتجريب والتحرر وإزاحة الرقيب إلى غير رجعة، فالفنان كاتبًا كان أو رسّامًا يحلق بأفكاره وخيالاته بعيدًا، وينفذها على نحو مباشر بدون أي سقف أو جدران، وهنا تبدو مساحة الحرية أوسع بكثير من فنون أخرى تعتمد على الصورة مثل السينما مثلًا والدراما التليفزيونية والمسرح وغيرها من الفنون التي تتطلب وجود لجان للمراجعة ورقباء وإداريين، فإجازة العمل في ميدان الكوميكس قرار للفنان وحده، خصوصًا أنه يكون نفسه المُنتج والممول والناشر في أحوال كثيرة. ولقد انطلق جيلنا من هذه المفاهيم والسمات والمقوّمات كلها، فجاءت الأعمال التي قدمناها، ولا نزال نقدمها، مقتحمة، جريئة، هادفة، لا تخشى الصدام، ولا تتفادى التابوهات، فهي تتناول قضايا جادة وتخوض موضوعات اجتماعية وسياسية وإنسانية بحرية ودون عوائق”.
ويستطرد عبد المحسن أن من الأمور الأخرى التي سعى جيله إلى إنجازها، وربما على نحو أوسع من المؤسسين والأجيال السابقة، ما يتصل بالجوانب التقنية والفنية في مضمار التجريب، وهي أمور مرتبطة على نحو كبير بتطورات العصر ومنجزاته الصناعية والتكنولوجية، ويعني بذلك مستجدات الطباعة الحديثة مثلًا، وأبجديات التطور الغرافيكي، وثورة النشر الرقمي والإلكتروني، وما نحو ذلك. فلقد تطورت تجارب الكوميكس على أيدي الأجيال الجديدة، فلم يعد هذا الفن مجرد حكاية مرسومة، إذ ظهرت تجارب مركبة، كمشاريع التصميم الغرافيكي مع الرسوم، كما في “شقة باب اللوق”، وهي “غرافيك نوفل” من تأليف: دنيا ماهر، ورسوم: أحمد نادي، وإخراج وتصميم غرافيكي: جنزير، وهي خليط بين الرسم والغرافيك ديزاين، وأخذت جائزة في مهرجان “كايرو كوميكس” بالقاهرة. وهناك تجارب أخرى متفوقة، من قبيل مزج الكولاج والكوميكس، كما في أعمال الفنانة مي كريّم التي تبدو عادة خارج المألوف، فهي تستخدم خامات ووسائط متعددة، منها مثلًا تذاكر المترو، والقطارات، وأغلفة الكراسات، والعلب والكراتين، وغيرها، وتلصقها بعضها بالبعض، في أعمال كوميكس كولاجية جريئة.
ويؤكد عبد المحسن أن “الكوميكس” فن مراوغ، ذكي، متجدد، وإذا كان فنانو الأجيال السابقة قد تمكنوا من خلال المطبوعات الورقية مثل مجلات “توك توك” و”الفن التاسع” و”الدشمة” و”العصبة” و”فوت علينا بكرة” وغيرها من خوض مغامرات الانتقاد الإيجابي، في ظل أوضاع مثالية سمحت لهم آنذاك بذلك، فإن الفنانين الحاليين يستفيدون من معطيات أخرى متاحة مباحة، منها ثورة النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، من خلال المواقع والصفحات الفردية، والمنصات الجماعية المتخصصة، التي تحقق مشاهدات بأرقام كبيرة للغاية، لم تكن لتتحقق في ظل النشر الورقي، كما أنها يصعب ملاحقتها والتضييق عليها أمنيًّا مثلًا، لكثرتها وتنوعها ولامركزيتها، وسماحها بنشر أعمال بدون توقيعات للفنانين أو بأسماء “شهرة” مستعارة. وإذا كان البعض يرى أن هامش الحرية قد تقلص، فإن فن الكوميكس الراهن تمكن ببساطة من مواجهة ذلك، بواسطة هذا السيل من النشر الرقمي، إلى جانب ذكاء الفنانين الجدد في استخدام التورية، بمعنى تقنيات الإسقاط والأقنعة والرموز وعجلة التاريخ إلى آخر هذه الحيل المشروعة التي تجعل الفنانين في مأمن من الخطر حال ملاحقتهم.
الرؤية المستقبلية
ويلتقط خيط الحديث الفنان إسلام أبو شادي، وهو فنان له حضور وخصوصية في مشهد الكوميكس العربي الجديد، ورسام حر ومصمم للشخصيات، أسهم بجهد لافت في العديد من القصص الواقعية والخيالية التي حفلت بها المجلات والإصدارات ذائعة الصيت، ومنها مجلة “الدشمة” التأسيسية، إحدى بواكير مجلات الكوميكس العربية، وسلسلة “قلعة الموت”، التي تروي السيرة البطولية الشعبية لسيف بن ذي يزن، حيث يعنى إسلام على وجه الخصوص في حكاياته ورسومه بتجسيد الشخصيات التراثية والخيالية من أمثال عباس بن فرناس، ورموز الثقافة العربية، الكتابية والشفاهية على السواء.
يوضح إسلام أبو شادي في حديثه أن أغلبية الفنون الحديثة والمعاصرة، وليس فقط الكوميكس، تنطلق من مفاهيم الحرية والتمرد والسعي إلى خلخلة السائد والإتيان بالجديد. وسط هذه الفنون، مثل الغرافيتي والكاريكاتير والتجهيز في الفراغ وغيرها، فإن الكوميكس على وجه التحديد إذا لم يكن فنًّا سابقًا لعصره فلا يجوز اعتباره فنًّا، فهو فن لا يكتفي بأن يكون انعكاسًا للواقع، وإنما يتجاوزه نحو صورة الغد، والتطلعات إلى المستقبل، ولذلك اقترن الكوميكس منذ بداية مراحله الأولى في مصر والدول العربية بالثورات والانتفاضات، التي هي بدورها توجهات مجتمعية نحو الأمل في ما هو آتٍ، والحلم بما هو أفضل.
ولقد نشأ الكوميكس فنًّا مغامرًا، لا يقف على أرض ثابتة، ولا يستقر على معطيات مفروغ منها، ومسلمات نهائية، فهو في تحوّل دائم، وليس مجرد دعوة إلى التحوّل ومناداة بالتغيير. وليس ضروريًّا أن يتوجه الكوميكس بموجب هذه الطاقة الاستثنائية والشحنات الإيجابية نحو النقد الاجتماعي والسياسي، وإن كان هو بالفعل من أقدر الفنون على إنجاز ذلك، وليس هو بالضرورة أن يغدو الكوميكس فن التهكم والسخرية في سائر الأحوال، وإنما هو فن متحمس فائر متدفق بحد ذاته، بمعنى أن التثوير والتمرد والجنون من طبيعة الفن وماهيته، حتى لو أريد به التسلية فقط في بعض الأحيان، أو إذا استخدم الكوميكس من أجل استدعاء شخصيات تاريخية وأسطورية.
ويستطرد إسلام أبو شادي: “ملامح التميز وجوانب التطوير التي يراهن عليها جيلنا هي نفسها عوامل تصنيفه كجيل أسعد حظًّا، وأقصد بذلك هذا التنوع المتاح والزخم في الأفكار والأساليب والتقنيات الطباعية المتفوقة المذهلة، وتعدد أشكال الكوميكس بين ورقي تقليدي ورقمي إلكتروني، والتقدم في استخدام التكنولوجيا في الرسم نفسه وليس فقط في الطباعة والنشر، إلى آخر هذه الأمور التي سهلت على الفنانين الجدد خوض ميدان الكوميكس، إلى جانب وجود العديد من المعارض والمهرجانات والمحافل المحلية والدولية مثل كايرو كوميكس وأسبوع القاهرة للكوميكس، ووجود رصيد من أعمال الكوميكس أبدعتها الأجيال السابقة تمثل إرثًا يستند الفنانون الجدد إليه، وسهولة اطلاع الفنانين الشباب على إبداعات الكوميكس العربية والعالمية عبر الإنترنت، وملاحقة أحدث مستجدات الفن التاسع عبر العالم.
وعلى الجانب الآخر، فثمة عوامل وإشارات قد يستند إليها البعض للدلالة على أن جيلنا أتعس حظًّا، وفي ذلك قدر من المنطق أيضًا، ولا بأس من أن نكون أسعد حظًّا في أمور، وأتعس في أمور أخرى. ومن هذه العوائق انصراف الدولة تمامًا ونفض المؤسسات الرسمية يدها بصورة كاملة عن الكوميكس وفنانيه، وعدم التحمس لفن متحرر لا سقف له ومحاولة تقليص وجوده، وانحسار دور النشر المعنية بالنشر الورقي عمومًا وأعمال الكوميكس على وجه الخصوص، وندرة المجلات والإصدارات المتخصصة في هذا المجال، إلا في ما يتعلق بالأطفال، وفي أضيق الحدود أيضًا، وضعف فرص الإنتاج والتسويق بالمعنى التجاري، أي تحويل الكوميكس إلى صناعة تدر ربحًا على الفنانين، كما يحدث في العالم الغربي مثلًا، الذي يشهد حضورًا طاغيًا للكوميكس كفن جماهيري واسع يمارسه محترفون متفرغون”.
ويرى إسلام أبو شادي أن الكوميكس العربي قد قطع أشواطًا غير هينة نحو مصافحة المتلقي، الصغير والكبير على السواء، الذكر والأنثى، من سائر الفئات والطبقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية. ويقول: “لتحقيق المزيد من الامتداد والتأثير، فإن الأمر متعلق بأطراف عدة، فعلى الدولة ومؤسساتها إعادة النظر إلى هذا الفن الذي تخلت عنه تمامًا رعاية ودعاية، وعلى دور النشر إبداء مرونة في التعامل مع الفنانين على نحو منصف، وعدم بخسهم حقوقهم، ومراعاة طبيعة المنتج من فنون الكوميكس، وأنه يختلف عن الروايات والقصص المكتوبة، وعن الكاريكاتير والرسوم الصحافية. كذلك، فإن على الفنانين أنفسهم التمسك بالاستمرارية والمقاومة مهما تأزمت الأحوال وساءت الظروف، والرهان على المحتوى الشيق الجيد الذي يهم قطاعات واسعة من الجمهور، فهذا الفن هو فن الشعب بجميع فئاته وطبقاته، وهو فن التاريخ كذلك، لأنه يجسد الامتداد البصري للحكايا والسير الشعبية القديمة. ومن جهتي، أركز على هذه الشخصيات التاريخية والأسطورية كثيرًا، بدافع إحيائها وإعادة تفجيرها في أثواب معاصرة، وتوليد المفارقة من خلال إبراز الصراع بين الأجيال والاختلاف بين العصور”.
تعرية وسخرية
ومن أبرز فناني الكوميكس الشباب الفنان فريد ناجي، وقد نشر في بداياته قصص الكوميكس التي يؤلفها ويرسمها في مجلات الأطفال المعروفة مثل “سمير” و”قطر الندى”، ومع انطلاق مجلات وكتب وإصدارات الكوميكس المتخصصة مثل “جراج” و”حدث بالفعل” و”قالك فين” و”توك توك” و”مجنوون” و”الشكمجية” وغيرها، التي أحدثت ثورة وألقت حجارة مشتعلة في المياه الراكدة، والتي جمعت أعمال الفنانين المحترفين والهواة من مختلف الأرجاء خالقة حالة من التفاعل بين الرسامين أدت إلى زيادة إنتاج الكوميكس وتحوله إلى فن شعبي، بدأت تجربة فريد ناجي تتبلور وتأخذ مسارها المستقر وتحقق بصمة في ميدان هذا الفن الجديد مصريًّا وعربيًّا، بما جعله في واجهة فناني الصف الأول الشباب في هذا الميدان.
وتتعدد مجالات اهتمام فريد ناجي كمؤلف ورسّام كوميكس، فرؤيته منغمسة في الطرح الاجتماعي والقيم الإنسانية والشأن السياسي، فمن تحية ضحايا “أولتراس أهلاوي” (مجموعة مُشجعي النادي الأهلي المصري، التي تأسست عام 2007، ولقي منهم العشرات مصرعهم في حوادث مختلفة)، و”المجد للشهداء”، و”يسقط كل من خان”، إلى نقد ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح كل شيء فيه متشابهًا “لا شيءَ حقيقيٌّ، لا شيءَ جديدٌ”. ومن سحابات “المدينة الرمادية” والبشر كالحي الوجوه ووحوش المتحرّشين، إلى محاولات اختلاس قبلات الحياة والحب النقية في فضاء الأحلام. ومن استغراق القائد الفرعوني “أحمس” في إهدار وقته أمام الموبايل والسوشيال ميديا، إلى اغتراب “آدم” في محطات الأرض “التي لم تعد بمثل بساطتها المألوفة”. وأخيرًا، من آمال الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد العليا إلى ذلك الإحساس القاسي بعجز وضآلة وتآكل “الرسّام” الذي لا يجد في دروب الحياة غير عبارة “اطلعْ بره”، التي يصوّبها في وجهه الجميع (انعدام فرص العمل، وفرص الزواج، وفرص السكن، الخ)، وفق سيناريوهات فريد ناجي، ورسومه، ولقطاته الكاشفة.
يتحدث فريد ناجي قائلًا: “شغفتُ في البداية برسم الكاريكاتير في الصحافة، وبأفلام الكارتون القصيرة، وكلاهما كان ذائعًا وسائدًا قبل موجة الكوميكس الجديدة، وكان هدفي دائمًا مع رفقاء جيلي تعرية الواقع المصري المحلي على نحو الخصوص ونقده نقدًا بنّاء عبر السخرية، من أجل حاضر أفضل ومستقبل لائق. لكنني بعد فترة استشعرتُ أن هذه القوالب التعبيرية تقتنص مواقف لحظية مجتزأة فقط من حركة الحياة، فلجأت إلى “الكوميكس” كشكل سردي قصصي مصور، يمكنه أن يتسع لي لإخراج طاقتي كاملة باتساع وجسارة، ونقل ما أود الإفصاح عنه من أمور ذاتية خاصة، وجماعية عامة. ومن خلال الكوميكس، فن اللحظة الراهنة، صار متاحًا التنقل بين القضايا المتشعبة، والهموم الإنسانية المختلفة، والتعبير عنها بعمق من خلال الرسوم والحكايات المصوّرة، فتناولتُ باستفاضة الاغتراب والانعزال والفراغ الروحي، وقضايا فلسفية ووجودية، وسيطرة الآلة على البشر في عالم مادي ميكانيكي. وتعاملتُ بحرية مع قضايا المرأة والنسوية في مجتمعاتنا الذكورية الأبوية، وعلى رأسها “التحرش”. وتقصيتُ أحوال المدينة (القاهرة نموذجًا) بعد ربيع الثورات العربية، وكيف أصبحت المدينة من حيث الفاعلية والسلوكيات والمظاهر الحضارية والأخلاقية، وكيف يُدار الصراع بين البشر، وتتشابك العلاقات، وتتعقد المشكلات”.
وفي سياق الحديث عن مميزات الكوميكس وقدراته الخاصة، يشير فريد ناجي إلى أن هذا الفن الطموح قد يتخطى التعبير عن أزمة ما، ليسهم في تحليلها أو التصدي لها بإيجاد حل جذري أو تحقيق تأثير إيجابي توعوي، ومن أمثلة ذلك تجربة الفنان أحمد نادي مع إحدى دور النشر، حيث نشرت له ملصقات كوميكس كبيرة متنوعة جرى عرضها داخل محطات مترو الأنفاق، حول “التحرش الجنسي”، ومدى الإساءات التي تتعرض لها النساء جرّاء هذا الفعل المشين، وخطورته على النسيج المجتمعي، وما إلى ذلك، وقد لقيت هذه الملصقات الفنية اهتمامًا واسعًا من الجمهور العادي، الذي تفاعل معها ومع ما تحمله من رسائل، وهكذا أدى الكوميكس دوره في التوعية كما ينبغي، بما يؤكد أنه أقوى وسائل التعبير والتأثير بين الفنون، وأنه فن التحرر من القيود، والثورة على ما هو سائد، والتغيير إلى المحمود والمأمول. فالكوميكس ليس مجرد فن للتسلية والمتعة الجمالية فقط، لكنه فن العمق والاشتباك مع أزمات المجتمع ومشكلاته واهتماماته إلى جانب القضايا الإنسانية والأسئلة الوجودية والطرح الفلسفي، عبر ذلك التوحد السحري بين الصور والكلمات والحكايات، وذلك التفاعل بين حرارة الفن وتوهج الدهشة وغليان الشباب وغضب الشعب.
ولعله من هذا المنطلق، اقترنت عادة “افتتاحيات” مجلات وإصدارات الكوميكس بقضايا عامة كبيرة، كما في مانفستو “الشكجمية” على سبيل المثال: “الشكمجيّة شايلة جوّاها حكايات عن العنف الجسدي والجنسي اللي بتتعرّض له البنت المصريّة في حياتها”. وتبقى الجرأة هي بوصلة النجاح والعنوان العريض لهذا الجيل من الفنانين الشباب، فعلى الرغم من المحاذير يتحلى الفنانون بالجسارة والمغامرة، سواء على مستوى المضامين والأفكار والقضايا المطروحة، والقصص والرسوم، وكذلك التقنيات والمذاهب والاتجاهات والعناصر والمفردات المتطورة. وإلى جانب ما حققه الجيل الجديد من فناني الكوميكس من تنوع وزخم في هذا الفن، وتعزيز للجرأة والاقتحام، فإنهم تمكنوا من تسخير ودمج الأدوات الحديثة والتكنولوجيا لتكون أداة أسهل في تنفيذ الأعمال الفنية، مثل الرسم الرقمي، والتطبيقات الجديدة على الموبايلات والشاشات الإلكترونية، لتتولد مساحة جديدة لنشر القصص “أون لاين”، بدون الحاجة إلى طباعتها.
حياة البسطاء
ومن المبدعين المدافعين عن عرش “الكوميكس” وضرورة مواصلته الصعود والتحدي بكل ما أوتي من قوة وقدرة على التعبير بأبجديات متنوعة، مباشرة ورمزية ومقنّعة، الفنان محمد وهبة الشناوي، وهو صاحب تجربة خصبة في توثيق روح المدينة وأمكنتها التاريخية والأثرية وأناسها البسطاء من خلال الكوميكس، ومن كتبه اللافتة: “القاهرة”، و”يوميات رسّام متجول”، كما أن له نشاطات وإسهامات متعددة في فعاليات الكوميكس الذائعة، ومنها أسبوع القاهرة للكوميكس، ومهرجان القاهرة الدولي للقصص المصورة “كايروكوميكس”.
يقول محمد وهبة الشناوي في حديثه: “مثلما أن فن الكوميكس هو بطبيعته فن التحرر والتمرد وتحقيق الذات وفرض الإرادة والنهوض والاحتجاج والتفجير والبقاء والمقاومة وعدم الاستسلام وغيرها من المعاني الخلاقة والقيم الإيجابية، فإن نتيجة الرهان على هذا الفن وعلى قدرات أحدث أجيال الكوميكس في مصر، وطاقاتهم اللامحدودة، مُرضية في سائر الأحوال، بل أكاد أراها مضمونة. إن ثقتي كاملة بإمكانات هذا الفن المختلف عن مسار الفنون البصرية التي باتت تعاني الجمود والتشابه والنمطية، وثقتي كاملة كذلك بابتكارات مبدعيه الشباب المجدّدين، القادرين على عبور هذا النفق القصير الضيق إلى آفاق ممتدة من الرحابة والشغف والبهجة وإثارة الصدمة والجنون، وتقديم منتج فني بالمستوى الذي اعتاده عشاق الكوميكس خلال السنوات الماضية، من الكبار والصغار على السواء. لربما هناك الآن بعض الركود والانطفاء، أعترف بذلك، لكن في مجال الكوميكس السياسي في المقام الأول، لاسيما المباشر والفج، فلا يكاد يوجد هذا النمط حاليًا. أما الكوميكس الاجتماعي والإنساني، بما يحمله من انتقاد وسخرية واحتجاج وتصوير للمآسي والأوجاع والأزمات وغيرها، فلا يزال يقوم بدوره بدون تأثر، ولعله من حسن حظي انتمائي منذ أعمالي الأولى إلى هذا المسار، المنخرط في القضايا المجتمعية والإنسانية بدرجة أكبر”.
ومن خلال هذا التوجه، غير المنغمس كلية في السياسة -كما يوضح الشناوي- يمكن إنجاز الخلخلة أيضًا، والخرق، وكسر المألوف، ومواجهة الحصار المفروض، والتجرؤ على الأبوية والسلطوية، بالإضافة إلى تحقيق التطوير والتجريب، واستشراف مستجدات الواقع، وتحولات المجتمع، لكن في إطار من التعميم، وبقدر من الترميز والتقنّع، ويظل دائمًا فن الكوميكس حالة منفلتة، خارج السيطرة، فهو فن اللحظة الآنية، لا يتأجج إلا بشرارة حدث ما، يشغل الناس، أو قضية عامة أو خاصة مثيرة للاهتمام، أو واقعة حية.
ويمكن أن تتسع دائرة الكوميكس أكثر لتشمل ما هو إنساني عام؛ وهذا بدوره أمر مهم أيضًا، لأنه يُكسب هذا الفن بريقًا وانتشارًا وتمددًا في فضاء العالمية، وقد كانت قضايا وهموم من قبيل مآسي اللاجئين، وغرق قوارب الهجرة غير الشرعية، وانتشار الظلم والقهر والعنف والإرهاب حول العالم، محرّكات ضرورية لفن الكوميكس لدى الشناوي ولدى فنانين آخرين من جيله، وسواء جاءت هذه الرسوم بدون تعليقات، أو مصحوبة بتعليقات بالعربية أو الإنجليزية، فإن لغة الصورة وطبيعة القصة ونبض الإحساس، تبقى قنوات توصيل قادرة على مخاطبة البشر جميعًا، بغير الحاجة إلى ترجمة أو شروح إضافية.
ويوضح محمد وهبة الشناوي أنه إلى جانب الدور الأساسي للحرية، والزخم المجتمعي أو الحراك الشعبي، في تخليق فن الكوميكس، فإن من المحفّزات التي بلورت توهج هذا الفن في الألفية الثالثة، تطور تقنيات الطباعة الرقمية بشكل غير مسبوق، ما منح الفنان مساحات واسعة من الاشتغال بدون تقيد أو التزام بمعايير ثابتة، وكذلك انتشار الإنترنت ومنصّات الكوميكس الإلكترونية، وهوس الأجيال الجديدة بالسوشيال ميديا، الأمر الذي رسخ ملتقيات كبرى للتفاعل بين الفنانين والجمهور بشكل مباشر ودون وسيط، وسهّل النشر، ومنح الفنانين مجالًا للشهرة قبل طباعة أعمالهم في كتب أو مجلات، فالكثير من مبدعي الكوميكس حققوا ذواتهم أولًا من خلال هذه المنابر الإلكترونية، ومن ثم صاروا هدفًا لدور النشر التي سعت إلى التعاقد معهم لنشر مؤلفاتهم ورسومهم ورقيًّا أو على أسطوانات مدمجة في وقت لاحق.
ومن المحفّزات كذلك، تنظيم العديد من الفعاليات الدولية الخاصة بالكوميكس، بما تشمله من معارض كتب ومجلات وعروض حية وورش عمل وغيرها، ومنها أسابيع القاهرة المتكررة للكوميكس، والمهرجان السنوي “كايرو كوميكس”، وهو الحدث الكبير الذي تتعلق به الآمال دائمًا من أجل إنعاش فن الكوميكس، وترسيخ العلاقة بينه وبين الجمهور من مختلف الأعمار، فضلًا عن تنمية الجوانب الترويجية والتسويقية، وهي أمور مهمة جدًّا، لأن هذا الفن الطموح مرهون بالجهود الأهلية والنشر الخاص، ونادرًا ما تلتفت إليه المؤسسات الرسمية بالدعم أو الرعاية.
ويؤكد محمد وهبة الشناوي أن المعيار دائمًا في “الفن التاسع” هو ذلك التركيز على القصة المصورة، بدقائقها وخباياها، وليس على اللقطة البصرية أو الفكرة الهزلية التهكمية، وهذا هو الفرق الأساسي بين الكوميكس (فن القصص والرسوم والأشرطة المصوّرة)، والتصوير التشكيلي التقليدي، والكاريكاتير كأحد فنون السخرية. وقد جاءت اسكتشات “القاهرة” و”يوميات رسّام متجول” التي رسمها نتاج حركة دائمة وتطواف وتأمل في مختلف أرجاء العاصمة، وارتياد للدروب والحارات، وارتقاء فوق أسطح البنايات، ومآذن المساجد، وتجول على ضفاف النيل، وقرب الأهرامات والآثار الخالدة، بهدف استقصاء كل شبر في القاهرة الكبرى، مدينة الإلهامات الخصبة التي لا ينفد قديمها، ولا ينعدم جديدها.