يمكن اعتبار تجربة الشاعر والمترجم المغربي مبارك وساط ، اتجاها شعريا خاصا في المشهد الشعري المغربي والعربي على السواء. لقد تدرج مبارك وساط في كتاباته الشعرية ، فبدأ بالشعر العمودي في بداياته الأولى، لينتقل بعد ذلك إلى التفعيلة . غير أن المحطة الأخيرة ستكون قصيدة النثر ، ليوقع الارتباط الروحي بهذا النص الذي وجد فيه ذاته ووعاء لترجمة أفكاره ، وللمساهمة أيضا في أسئلة المرحلة التي دشنها أنسي الحاج والماغوط وبول شاوول وبنيس وأدونيس، بظهور مجلة شعر ثم مجلة مواقف . وهي تجارب رائدة وقعت لما يعرف بالكتابة الجديدة . سينخرط مبارك وساط في هذه الحركة الشعرية التي تمثلت أسئلة الحداثة والمجتمع العربي من خلال ما عرف بقصيدة النثر . لقد أتاح هذا النمط الشعري الجديد لمبارك وساط ومجايليه أمثال سركون بولص ، أمجد ناصر ،نوري الجراح، عباس بيضون ،وديع سعادة وغيرهم تأسيس كتابة شعرية جديدة تتمثل العصر وتتبنى أسئلته، وتحرر الشعر من سلطة التقعيد . هكذا دشن مبارك وساط ثورته الشعرية مضيفا للمشهد الشعري المغربي الذي كان آنذاك يضج بأصوات وحركة ثقافية تفاعلت مع الأسئلة المطروحة في العالم العربي .وقد تزعم هذه الحركة الشاعر محمد بنيس مؤسس دار توبقال الرائدة في تدعيم هذا الإنتاج الثقافي الجديد ، ومواكبته سواء في المغرب أو في باقي الأقطار العربية. هذا دون إغفال أسماء أخرى أضحت اليوم رموزا للثقافة المغربية أمثال عبد اللطيف اللعبي مؤسس مجلة أنفاس وغيره ممن ساهم في تأسيس صرح الثقافة المغربية الحديثة…
في سنة 1990 سيصدر مبارك وساط مجموعته الشعرية التي أثارت الانتباه في العالم العربي وهي تحت عنوان «على درج المياه العميقة» . ولعل العنوان نفسه يعكس الأفق الذي تستلهم منه تجربة وساط معالمها . فالقصيدة الشعرية عند مبارك وساط بقدر ما ترتبط بحرية الشكل ترتبط روحيا وبصرامة بروح الشعر وعمقة الغائر في الذات الإنسانية ، ورحلتها عبر تجربة الحياة بكل احتمالاتها وممكناتها . إن عالم قصيدة مبارك وساط يحفر في الغرائبي ليشكل عالم تخيليا فريدا من خلال علاقة الذات الشاعرة بالعالما . فالذات تعيد صياغة العالم الداخلي للشاعر ، من خلال الدفع باللغة الشعرية إلى أقاصي الخيال المفعم بنكهة سريالية ومن خلال الحفر في أعماق الذات وترسباتها من جهة ، وذاكرتها من جهة أخرى. وهذا لا يعني أن القصيدة كائن منفصل عن العالم . ففي نص «قبر» يتوقف الشاعر عند تيمة الموت في المتخيل الشعري وإدراك الشاعر لعالم الموت المتعدد الأبعاد داخل تجربة نصوص الشاعر .إن الموت في هذا النص يماثل الألم ، فنجده في هذه القصيدة يرتبط بفضاء نووي هو «القبر» المشبع بالرمزي والذي يختصر الوجود في الروح ومؤشر دال على الاتصال والانفصال ، الحضور والغياب . ففي بعض النصوص يتعالق الموت مع ألم الغياب . إن الموت تغييب للذات ، وغياب عن المكان القبر الذي أضحى يعيش الاغتراب والألم . إن التجربة الشعرية لمبارك وساط وإن حاولت تغييب المرجع الخارج نصي، فإنها تنهض على مؤشرات داخلية تضعنا أمام عالم تخييلي يستمد جذوره من واقع لغة الألم . وهذه المؤشرات لا تحيل على مرجع بقدر ما تحيل على عالم الشعر بذاته ولذاته ومن خلال مؤشراته كما هو الأمر بنموذج المكان برمزيته الدالة ، سواء كان قبرا أو الوادي في نص «مرثية» حيث يتمدد الجندي أو قصيدة «أماكن» التي ترصد بانوراما الحياة في قصيدة أو فضاء رصيف المقهى الغريب أو الفضاء في قصيدة «ريف» الذي تتخيله الذات كملجأ وجودي ،كما نجد في نصوص أخرى ساحل البحر بآعتباره فضاء الإتصال بالعالم أو السجن الذي يرصد تجربة استلاب الحرية …وغيرها مما سيأتي مقاربته في هذه الدراسة.
إن الشاعر يصور صورة أخرى للموت تقترن بشعرية الألم وواقع الذات وذاكرتها ، وهي تعيش تجارب متباينة والتجربة هنا كما يتضح من خلال نصوص وساط تجربة جمالية على حد تعبير شيفر تتمثل باعتبارها نموذجا من نماذج التجربة الجمعية التي نحياها داخل العالم. (1) هكذا نجد الذات -الشاعر في قصيدة «مرثية» يصور عالم الموت الذي يطوي كل شيء في خضم النسيان كما يتبين من خلال المؤشرات الدالة : الدولاب رمز الذاكرة التي تنبض بالحياة والطفولة ، والقصيدة التي تؤشر من الناحية الاستعارية إلى المرآة ، باعتبار أن القصيدة تعكس الوجه كما تعكسه المرآة كما تتمثل باعتبارها الذاكرة الحياة التي تصارع الموت ، وهي مكونات تحيل على فضاء مغلق وهو الغرفة الذي يتقاطع مع الفضاء المفتوح وهو الهضبة والبساط في الوادي وهما يحكيان سيرة الموت . إن النص ينبني من خلال التوتر الدلالي والمفارقة بين فضاءين: المغلق والمفتوح ، الموت والحياة أي الذات في مواجهة العالم تعيش تقاطعات الاتصال والانفصال ، وهو نفسه التوتر الداخلي الذي تعيشه الذات بفعل الغياب ومحتملات المعنى التي تشتغل على إرساء دلالة عالم الحرب الموسوم بالتوتر والألم الذي تحياه الذات التي تعيش لحظة الموت في فضاء يعرف جدلا بين الحضور والغياب ، الذاكرة والحاضر :
كان قد نسي كل شيء :قبعته في الدولاب ،/ذكرياته على طوار مهجور وجهها في نهاية قصيدة ..تمدد فوق بساط من رماد /ولا الهيكل العظمي الذي يشتعل على هضبة / ولا ألسنة الخريف التي تهذي وتتهرأ (2)
إن وجود الشخص المرثي مؤشر على فضاء الألم ، كما أن التشاكل المعجمي السابق يؤشر على سمات الشخص العلامة التي تصب في نسق واحد هو إنتاج المعنى المرتبط بصورة الجندي المتفاعلة مع الفضاء المأساوي . إنه فضاء الموت فالذاكرة تعطلت (كان قد نسي كل شيء) والحواس الأخرى كلها توقفت عن الإشتغال ، فلم يعد يرى ويحس الصورة التي تنسجها شعرية المكان ، حتى ان الأحجار تشتعل والهيكل بدوره يحترق ، وهناك أيضا التمثيل الاستعاري الذي يتجاوز البعد الزخرفي والجمال السطحي ليرسم المحو الذي أصاب الذات الإنسانية من خلال الإشارة إليه بأحد لوازمه اللسان الذي يمثل الجراح والألم الذي أصابت هذا الكائن الإنساني ، فشرع يهذي ثم يتلاشى في الفضاء . لكن صورة الفضاء هذه تحتضن نويات دلالية تشتغل على إنتاج المعنى المحتمل كما يتضح إذا تأملنا الأمكنة العلامات:(الدولاب، الطوار المهجور ، السرداب ، الوادي ) والعلامات القرائن (مرثية ، رماد ، الهيكل العظمي، الأنياب ) وهي علامات نووية داخل القصيدة ترسم صورة الفضاء المرتبط بمحتمل المعنى الموت المرعب .فالجندي المتمدد في الوادي الذي افترسته أنياب الموت تحول إلى رماد بعد أن احترق بلهيب الحرب ورعبها . فاستعارة الرماد تكشف صورة الموت في فضاء الحرب والتي لا تترك سوى علامة باهته تمحو الهوية وتطوي كل شيء في خضم النسيان. ونفس الشيء بالنسبة للأمكنة الجميلة والحميمة كما يتضح من خلال العلامات الأمكنة النووية التي تؤشر إلى نهاية حتمية تطوي جماليات الحياة (القصيدة) وكل ما هو حميمي(دفاتر الطفولة ، السرداب ، الدولاب ، ووجه الحبيب في فضاء القصيدة ) .إن صورة المكان وعلاقته بالحميمي تظهر بصيغة أخرى رغم أنها تكشف شعرية الالم ومعاناة الذات وهي تطل من الشرفة على العالم . ويمكن أن نميز هنا بين أمكنة تشكل علامات نووية رصدنا بعضها ونتوقف عندها مرة أخرى من خلال العلامة النووية» الشرفة « التي تفجر المدلول المتجذر في تجربة اليومي. ويكفي أن نتتبع تاريخ الشرفة في الشعر العالمي بمختلف آتجاهاته ومشاربه وسواء كانت بنبرتها الرومانسية الجياشة أو نزعتها السريالية أو الواقعية، تاريخ حافل بالمعاني والرمزية . لكن شرفة مبارك وساط غريبة وهو أمر طبيعي ، لأن العلامة تنطبع بالسيكولوجي والثقافي والاجتماعي (3) . فمرة أخرى تحضر استعارة الرماد المرتبطة بالحالة النفسية للذات ، فهي كلمة بثقل نفسي على ذاتية الشاعر . وهناك علاقة وثيقة بين الرماد والمكان كما في القصيدة السابقة ، فكلاهما يزكي دلالة الغياب والمحو ليبقى الأثر شاهدا على الذات . إن الشرفة في هذه القصيدة تبدو ملاذ وملجأ ولكنه مكان ينزاح عن وظيفته الواقعية ليضاعف من محتملات المدلول. فالشرفة نافذة على العالم وذاكرة الشاعر ولكن آنعكاس لعالمه الداخلي ، إنها آستعارة للقصيدة التي تعيد تشكيل وبناء العالم باعتباره فضاء يحتضن التجارب الإنسانية . فنجد المكان يصور الألم ويرتبط بالذاكرة كما هو الأمر في النص السابق الذي يصور الجندي الممدد قرب الوادي مضرجا في دمائه ، وإن كان الشاعر لا يصرح به لفظا فإن كل من التشاكلين المعجمي والدلالي يؤشران إلى البنية العميقة للقصيدة كما حللنا سابقا ، كما أن الشرفة تعكس فضاء الألم والذاكرة وهي نفس الدلالة التي نعثر عليها في نص معادلات لكن هذه المرة المكان المغلق الذي يسلب الحرية أي المعتقل كما يتضح من خلال المؤشرات اللغوية (أقدام الحراس ، عين الشاعر، مواطن الصيحة والقروح ، مروحة هاربة من السجن ، بدأ يكتب أرقاما وحروف، مخطوطات … ) فالألم هنا يرتبط بالحرية المستلبة . أما في نص «خيمة لغبار « فالمكان يرتبط برغبة الذات الشاعر التحرر من سلطة المكان الواقع الألم وارتياد عوالم تخييلية أكثر رحابة:
أحيانا ، اقيم مع سدنة العشب في فجوة الجبل العميقة ، أو أمضي إلى كهف بعيد ، أرى فيه العلماء المقعدين يفكون ألغاز سير الحقول .كنت ،أيضا أجالس صديقي الذي يشتغل بنجم الدموع السوداء …(4)
إن المفارقة بين النثر والشعر كما يتضح من خلال قصائد الديوان، مفارقة تعكس إدراك الذات للعالم المتشكل في الأصل من مفارقات الماء والنار، فالهيكل العظمي يشتعل على الهضبة كناية عن عالم الألم والجرح والإحتراق الناتج عن الغياب بفعل الموت . وهو عالم الحرب حسب المؤشرات السابقة ، والوادي المشبع برمزية الماء يتألم من شدة الفراق : (كانت الطحالب هامدة وقد أنضاها الحنين) الهضبة التي تحمل رمزية التراب مشبعة بألم الإحتراق الداخلي للذات والغياب ، كما يتضح من استعارة الأحجار التي تبني عالم الفقد والحنين من خلال الصوت الذي تحدثه من شدة الاحتراق والألم الذي يخيم على عالم الهضبة . أما الهواء فقد توقف بعد توقف الحياة، وتجمد الشخص الممدد: (إنه الآن متجمد في الوادي ) تساهم العناصر الأربعة : الماء التراب، الهواء ، والنار بمختلف حمولاتها الاستعارية والمجازية ، في تشكيل عالم القصيدة وهو عالم يشاكل تشكل الحياة والوجود الإنساني للذات. إنه عالم يصور لحظة الألم بعد أن غيب الموت الكائن الإنساني . فلفظ «أنياب» الإستعارة التي تعكس شراسة الموت أو عالم محتمل الخطاب وهو الموت ، وبالتالي فهي سبر لأغوار الذات الشاعر وعلاقته بالعالم . فقد شبه الأنياب بالموت: (وحوله أحجارو أنياب مبقعة بالدم) . وفي نص «حرائق» يرسم خطاب الشعر صورة أخرى لشعرية للألم المرتبط دائما بالحرائق، من خلال التوتر بين الدال والمدلول وعلاقته المبنية على المفارقة . فالذات الشاعر يشتغل على الحفر في أعماقه التي تذوب في الضمير نا الدال على الجماعة ، مما يضاعف من محتملات المعنى التي ترسي على الدال المرتبط بالعالم اليومي الكابوسي للقصيدة . هكذا ينشغل الشاعر برصد مشهد اليومي وقد جاءت الأداة كم الخبرية التكثيرية مبني في محل نصب مفعول به لتبأر ألم الذات وتكشف عن الواقع اليومي الصادم :
كم جهدنا لنرسم البسمات على شفاهنا الكئيبة /كم شدهنا ونحن نسمع المياه تدمدم ونرى أقمارا معتوهة تسقط في أحابيل الألم /كم ذرفنا من دموعنا الخضراء(5)
وفي نص «انفعالات» الذي لا يحيد عن هذه العوالم التخييلية ، تنزع الذات إلى تأمل فضاءات مفتوح مجاورة للنافذة التي يطل منها الشاعر على العالم (أحراش، الحقول ..) . هكذا يشتغل الشاعر على تحوير اليومي وكائنات الوجود إلى استعارات تحيا بها الذات الشاعرة ، وهي في خضم رحلة التخييل الذي يحضر في مقطع في القصيدة باعتباره استعارة لعالم الشعر، وهو يشاكل الخيال في شساعته وحرية التجوال وإلغاء الحدود. وإذا كان خطاب الرحلة مقترنا بالدهشة فالأمر نفسه بالنسبة لرحلة الشعر الخيالية :
طيلة هذه الظهيرة
المبرقشة كأفعى
جبت أحراشا خيالية
وكانت حيرتي تتبعني (6)
إنها رحلة تقترن بالمشاهدات والصور الخيالية في غابات الشعر وأحراشه ، تبعث الذات من رماد الموت والألم ، وتحيي الكائنات وتتجاذب معها الحياة بكل تفاصيلها وهو ما يؤكد التشاكل الدلالي في نصوص المجموعة بين الشرفة ،الذاكرة ،القصيدة ، الحياة ، الأحراش الخيالية . فتجربة القصيدة تحفر في جماليات العالم وتجاربه من أجل إحياء الذات الذاكرة القصيدة التي تعادل الحياة وتختزن تجاربها الإنسانية بكل تفاصيلها مما يفتح الأفق أمام الذات لتتحرر من حدود منطق اليومي وتجاربه المؤلمة وترتاد عوالم أحراش خيالية مليئة بصور الحياة وجمالياتها ورحلة الخيال تنتهي بالدهشة التي تتولد عن المشاهدات ووصف الأماكن التي تحتضن تجربة جمالية القصيدة ودهشتها . ففي قصيدة «تفاصيل الدهشة» يتحول فضاء الغرفة المغلق إلى مكان مليء بالغرابة ، يكاد يشاكل المكان الحلم :
فيما الثلج يتساقط من سقف الغرفة
و يلعب في حضني كطفل
لا شيء تغير /هينمة الوزال تسري في المروج البعيدة /والسماء تنث رذاذ الهذيان / وأنت تتخلصين من دمك وتجرين …(7)
و إذا كانت تجربة مبارك وساط الشعرية تنبني على عالم يحتفي بالتخييل فإنها ، تنفتح على بناء وقائع اليومي والذاكرة الإنسانية وهي تخوض مغامرة الحياة ، كما هو الأمر في نص» معادلات « الذي يستحضر تجربة إنسانية مشبعة برمزية تحفر في هموم وأشجان الذات وهي في المعتقل ، كما يتبين من خلال مجموعة من المؤشرات والقرائن اللفظية . وهذا لا يعني أن نص مبارك وساط بنية مجردة عن الذات والعالم ، وليس لها منطوق دلالي ، بل إن دلالتها كامنة في عالم التجربة الإنسانية الكونية ، وتعكس لنا المقاطع التالية من نص معادلات هذا الأسلوب في الكتابة الشعرية :
ينصت لوقع أقدام الحراس في الرواق/كان مؤرقا بهموم فجر كسيح /عن مروحة هاربة من السجن /عن آنفعالات الحبر.. (8)
إن فعل الكتابة الشعرية كما يتجلى في هذه القصيدة يرتبط أساسا بتجربة إنسانية تنفعل بالوجود وتحاول أن تحفر في معادلات الحياة والكتابة. ولذا كثيرا ما نصادف في تجرية وساط مشاهد يومية للذات الإنسان ترصد وقائع وتعمل على الخرق اللغوي للمألوف. فالذات الشاعرة في قصيدة «على رصيف مقهى» تلتقط مشهد المكان المقهى المؤثث بشخوص وهي تحاول التحرر من الألم والغوص في تجربة الحياة ، إنه فضاء المفارقة بين اليومي والمتخيل ، الحلم والواقع وبالتالي فصورة المكان هنا تنبني انطلاقا من التوتر بين الدال والمدلول كما سلف الذكر ، فالغيوم تقترن في هذا الفضاء بالقوارب المترعة «بنخاع الأجنة» والأهازيج تصبح زوبعة حين تقترن بسيقان المروج وهو جوهر المفارقة الموسومة بالتوتر بين الدال والمدلول :
لا أحد كان من بينهم في حاجة إلى الألم /أهازيج تتردد بين حناياهم كزوبعة تندلع من بين سيقان المروج .. (9)
يتمثل المقطع (لا أحد في حاجة إلى الألم) بآعتباره الوحدة اللغوية المتكررة ومفتاح صورة المكان الخارق رصيف المقهي ، كما تكشف علاقة الذات بالمكان الموسومة بالعشق ، فهي علاقة داخلية تنقلنا إلى لحظة أشبه بالمكان الحلم .فمحتمل المعنى لا يتأسس فقط على تكرار تقارب الأصوات وتكرار الكلمات بعينها كما لاحظ ذلك جون مولينو، ولكن وكما يتجسد في تجربة قصيدة النثر باعتبارها نصا ينفتح على معاني المحتمل التي تؤشر إلى شعرية النص وسماته الداخلية ، بل يتأسس المعنى أيضا على تكرار الصيغ والكلمات المترادفة(10) .. وهو ما يفتح أفق القصيدة لترتاد عوالم يتقاطع فيها المؤتلف بالمختلف ، الإتصال بالإنفصال. فالشاعر يدخل في علاقة آتصال مع المكان رصيف المقهى لينفصل عن العالم الواقعي المشبع برمزية الألم .
إن الكتابة الشعرية هنا تتمثل باعتبارها رحلة ذاكرة واستحضار للمكان في بعده الأسطوري والجمالي. فنصوص الديوان الأخير الصادر عن دار عكاظ ،تكشف السفر الشعري بين أمكنة الحديقة ،المقهي ، الجبال ، الريف ،الحقول ،البحر وهي كلها أمكنة مشبعة برمزية تستمد سلطتها من الخطاب الشعري . لكن هذه السلطة كثيرا ما تتراجع لتفسح المجال لتعدد لغوي وحوارية تستدعي السردي كما هو الأمر بالنسبة لنص «صعود» الذي ينفتح على مكونات وجماليات القصة .إن نص «صعود» يرصد مشهد يفتح على وقائع يومية ، من خلال الإنزياح عن لغة الواقع واليومي ، فالأمطار تهطل داخل رأس الشاعر، لتطل الشمس بعد ذلك من هودجها ثم ينتقل بعد ذلك إلى الغرفة الموسومة بأثر غياب العشيقة على نفس الشاعر كما يتضح من خلال التمثل الإستعاري للرماد فالغياب مؤشر على الألم والموت . وهكذا تنبني قصيدة النثر عند مبارك وساط على الإنزياح عن الواقع اليومي الذي يدفع بالتخييل إلى أقصى درجاته. فنتحول من اليومي والأماكن المألوفة إلى عوالم تنطبع بالغرابة وتعكس قلق الذات ونفسيته ، أماكن تماثل الحلم والكابوسي ،حتى أن الغرفة التي تعتبر الكينونة والملاذ بالنسبة للشاعر، أضحت مصدر القلق والألم كما تؤشر على ذلك آستعارة جدران الغرفة التي أصبحت تتهدل نتيجة المعاناة ، فهو فضاء محدود منغلق ، يستلب الحرية ويوحي بألم الموت ومخاضه :
لا يمكنه أن يبقى بين هذه الجدران التي بدأت تتخدد وتتهدل …(11)
إن وضعية الذات بين جدران الغرفة تكشف عن رغبته في معانقة الحرية والإنعتاق من المكان المحدود و«يمكن أن نقول بأن اللامتناهي يصنف داخل فئة فلسفة الحلم .. إن تأمل ما يعتبر شاسعا يتحدد باعتباره فعل شديد الخصوصية ، إنه حالة روحية غاية في التفرد، حيث نجد حلم اليقظة يضع الحالم خارج العالم المجاور ، وأمام عالم يحمل علامة اللانهاية»(12) لكن هذه الرغبة تصطدم بما يحف به الخارج ويؤثثه من خلال تشبيه الغيوم بالقطط الوحشية التي تسقط لتفترس المارة الصلع . ويمكن القول تبعا لذلك إن القصيدة تستمد أفقها التخييلي من سرديات اليومي والفضاء . فالحوارية بين السردي والشعري في بعض نصوص الديوان أفرزت لنا قصيدة تستجلي جماليات جديدة ، وميزت الشعرية الجديدة التي تمثل القصيدة العربية المعاصرة .وقد تنحو شعرية قصيدة مبارك وساط منحى آخر في نحت طرائق وجماليات النص الجديد ، حين تستدعي تجربة مبارك وساط نصوصا ولغات التراث العربي في إطار حوارية تعيد صوغ أسئلة علاقة الحداثة بالتراث الثقافي العربي ،حيث نلفي في نصوص الديوان الأخير نفسه إعادة إنتاج وإبداع جماليات لغة التراث الثقافي العربي. إن عالم قصيدة مبارك وساط يجترح لغة التخييل الشعري التي تعري الذات وهواجسها وآلامها، ومن هنا يحضر المكان في القصيدة ليعيد تشكيل الأشياء وإبداعها وليكشف عن الذاكرة في تشاكلاتها المختلفة مع القصيدة، لكن أهم سمة تميز شعرية المكان في نصوص مبارك وساط هو المكان الإستعارة الذي يتحرر من حدود ومنطق الواقع ومعاناته ، فالمقهى فضاء لنسيان الألم واكتشاف صورة أخرى لجماليات المكان وغرابته ، بل إن الصورة تخلق أفق انتظار صادم، وهو ما يخلق شعرية القصيدة .و النص هنا يعتمد على الصورة المركبة والتي تشتغل من خلال التوازي والتكثيف الدلالي لمفردة الغيوم. إن كثافة الصورة في نصوص وساط مبارك تحاول بناء عالم لامتناه متحرر من قيود الحدود يسمح بالتعبير عن أعماق الذات وذاكرتها ، وبالتالي فالخرق هنا ليس خرقا لغويا فحسب ، ولكن خرق لحدود الفضاء وسفر عبر الأزمنة واللانهاية .فالتمثلاث الاستعارية والمجازية التي تؤثث صورة المكان جاءت «لتمثل الأشياء في حركة .لذا فالمعرفة الإستعارية هي معرفة ديناميكيات الواقع . وأفضل الإستعارات هي تلك التي تظهر الثقافة وهي تتحرك ، أي ديناميات توليد الدلالة نفسها » (13) فالعصافير التي تسقط في عب المرأة، ونخاع الأجنة والغيوم القوارب والصبي المجنح كلها تمثلاث آستعارية تصور حركية المكان ، وبالتالي تشتغل على توليد الدلالة من خلال نسق التشاكلات الذي يتقاطع فيه المتماثل والمختلف ليولد صورة فضاء رصيف المقهى الذي يخلق عالما بديلا عن عالم الألم . إن صورة المكان هنا تكشف فضلا عن هاجس نسيان الألم ، فعل آقتسام هذا الألم بين رواد المقهى ، وتشتغل التمثلاث الاستعارية على توليد محتمل المعنى المرتبط إسقاطات المكون بصوره الجمالية وشعريته الخارقة على الذات التي تنبض بالألم. وفي قصيدة تحت عنوان أماكن «يتحول المكان إلى فضاء الغرائبي والصادم ، وهي صورة ترسم مكانا ينسج شعرية القصيدة معتمدا على تكثيف المعنى والانزياح. فميدان المعركة يسقط فيها ضحايا ولكن بعيدا عن تأثير الحرب، بل إن السقوط ناتج عن قوة وجمالية الأصيل ، ونفس الصورة ترتسم «في الحديقة» ففي قصيدة تحمل نفس العنوان «في الحديقة» نجد المكان يعج بالغرائبي والعجيب :عيون حوراء ،عظامه تغادره ، ينسج من الحرير ومن الألم شباكا ، خطاف يحمل ربيعا ، الأغصان المدماة .هذا التشاكل الدلالي يكشف بنية النص الشعري عند مبارك وساك والقائمة على عالم التخييل الشعري كعالم بديل عن الألم وهي البنية العميقة التي تتولد ليس من تراكم مجموعة من المعينات ولكن من التعارض والمفارقة بين الدال والمدلول كما أشرنا سابقا والموسومة بالتوتر .. إن كثافة الصورة تكشف عن دورها باعتبارها آلية من آليات تجربة قصيدة النثر تولد محتملات المعنى ، وهو محتمل ينبني على عالم الحلم والصدمة فالشجرة تحمل عيونا تقطف بدل الثمار ، والأعمى يفقد عظامه بعد فقد الاتصال بالعالم والربيع الذي سيعتبر عنوانا للحديقة سيحمله الخطاف الذي يحمل سمات القبح والشر والشراسة في مقابل سمات الربيع الجمال والحب والهدوء. أي أن التوتر هنا قائم بين الخطاف والربيع كما يتجلى من خلال آستجلاء سمات كل لفظ. . ومن هنا فالصورة في القصيدة تعكس عالم النص التخييلي الذي ينبني على المفارقة بآعتبارها تنسج شعرية الألم . إن الصورة هنا مشبعة بالرؤية للعالم المنطلقة من تصوير المكان الذي يفقد معالمه الجمالية وأصبح يرتبط بالألم كما يتجلى من خلال مكونات الصورة (الأغصان المدماة ، خطاف يحمل ربيعا ، ومن الألم شباكا ، الأعمى تغادره عظامه ..
على سبيل التركيب :
ينحت مبارك وساط من خلال تجربته أسلوبا خاصا ينهض على كثافة الصورة وآنفتاح النص على محتملات المعنى ، وكثافة الصورة ليست مجرد صور شعرية تزين جداريات القصيدة ، بل تنبع من رؤية خاصة للقصيدة التي تتراوح بين هاجس الانفصال عن عالم الواقع المألوف المبتذل والموسوم بالألم والاستلاب و الإتصال بالعالم ، وربط جسور التواصل مع الذاكرة والتجربة الإنسيانية في مختلف تجلياتها. إن شعرية المكان تتجلى من خلال مؤشراته الدالة من جهة كالجندي في فضاء الوادي والروح التي تناب داخل القبر وغيرها .. ومن جهة أخرى نسق العلامات : الطوار، الدولاب ، الغرفة ، الرماد ، المرآة التي تتقاطع مع أنساق أخرى تحيل على الفضاء المفتوح :البحر ، الرصيف ، الأحراش ، الوادي ،الهضبة وهذا التقاطع بين المختلف والمؤتلف ،المتصل والمنفصل وبالتالي تأسيس المعنى المحتمل فكل «عملية تشكل بناء عالم محدد لا يمكن أن تنفلت من دلالتها على معنى محدد»(14) ولعل تشكلات المعنى في نصوص وساط ترتبط بتجربة جمالية تحاول أن تستند على التخييل وبناء عالم القصيدة بآعتبارها ذاكرة الشاعر والحياة . إن خطاب قصيدة النثر في هذه التجربة ينهض على تكثيف الصورة التي تشكل أفقا لمحتملات المعنى . والنص فضاء لحوارية بين السيري والحميمي والسردي ولتأملات الذات وهواجسها .
هوامش:
1 –
SCHAEFFER. JEAN-MARIE. L’EXP?RIENCE ESTH?TIQUE.ED : GALLIMARD . 1952. PARIS. P:12
2 – وساط مبارك .محفوفا بأرخبيلات . دار عكاظ . 2001.الرباط . ص: 73
3 – أمبيرتو إيكو. السيميائي وفلسفة اللغة ترجمة :أحمد الأصمعي .مركز دراسات الوحدة العربية المنظمة العربية للترجمة. بيروت .2005.ص 3
4 – المرجع نفسه .ص : 74.
5 – المرجع نفسه .ص: 15
6 – المرجع نفسه .ص: 42
7 – المرجع نفسه .ص: 7
8 – المرجع نفسه .ص: 71
9 – المرجع نفسه .ص:72
10 –
Molino .jean . Introduction à la ‘analyse de poésie .Ed :puf .paris.1982.p :206
11 – المرجع نفسه .ص: 41:
-12
Bachelard .Gaston. LA PO?TIQUE DE L’ESPACE. .ED :PUF .PARIS .1957 ;P :168.
13 – إيكو أمبيرتو. السيميائي وفلسفة اللغة ترجمة :أحمد الأصمعي .مركز دراسات الوحدة العربية المنظمة العربية للترجمة. بيروت .2005.ص: 266
14 –
Barthes .R . Essais critiques. ED :SEUIL . paris.1971.P : 211
إبراهيم الكراوي