الطارقة النائمة منذ عشرين عاماً تحت شجرة غاف كبيرة ؛على الطرف الأيسر من المقبرة،تركها الأحياء الميّتون للراحلين الأحياء. الرجل النائم في الذاكرة منذ عشرين عاما في الجزء الداخلي من الذاكرة، استيقظ هذه الليلةَ هكذا بدون أيّ سبب مسبق أو ضروري.الرجل المتروك في غياهب النسيان.
صيف 1995
الرجل النائم في الذاكرة، كان ممدداً على قطعة خشب سوداء قريبة من حوض اسمنتي تتجمع فيه مياه البئر القريبة من المزرعة . وُضعَ اللوحُ الأسود فوق الساقية الممتدة من بطن ( اللج) إلى جسد المزرعة ،رجال بدشاديشهم البيضاء يتحلقون بشكل دائري حول الجثة في هذه الظهيرة الصهد الحارقة.صوت نساء يبكين ويندبن رجلاً اسمه عامر.همسُ من البسملات والحوقلات .تردد اسم الله كثيرا .
_ الله يرحمه .
_ الله يخفف عنه .
_الله يغفر له.
يرتفع صوت (ماكينة) جذب المياه اليدوية تدرجياً. تندفع مياه باردة من البئر القريب. انسكب الماء بقوة على الجثة المتجمدة. جثة الرجل منتفخة وبها خدوش. هناك ورم بالرأس والصدر وخدش يشبه كلمة قديمة. وشعر أسود متناثر بشكل عبثي في ذقن الجثة وصدرها. من الجبال البعيدة يأتي صوت نباح كلاب متقطع ومتذبذب.
ما الذي يوقظ الكلاب في هذه الظهيرة أيتها الجثة ؟
ـ هل جنازتك مؤلمة لهذا الحد؟
صيف 1975
الرجل ما زال حيّا وفي قمة شبابه وطيشه، وفي معسكر للجيش في أبو ظبي وبسنواته العشرين، هارباً من ماضيه والقبيلة ومن عذابات أبيه وجحيم زوجة أبيه يحاول أن يتسكّع في المدينة نهاية كل إجازة في فنادقها وحاناتها الرخيصة. تعلّم أن يشربَ ويُدخنَ ويعاشر نساء كثيرات ومن بلدان لم يسمع بها في حياته. لحم أبيض ولحم أسمر ولحم ثلجي ولحم ما وراء المحيط. في فنادق دبي تعرّف على نساء العالم.
وكلما سكبَ شهوته في جسد امرأة؛ كلما زادت رغبته في أن يجرّب جسداً جديداً، وكلما جرّب جسداً جديدا كانت صورة امرأة أبيه تطارده بلسانها السليط.
: الله يلعنك يا الكلب روح شوف أبوك من الضاحية.
: يا الحمار ليش ما تروح عند خوالك في الباطنة؟ روح شوف حبوتك مشتاقة تشوفك.
* * *
في ليلة حمراء ومع أصدقائه العمانيين ؛ وفي المعسكر نشبت بينه وبين شاب عُماني مشادة كلامية ـ بسبب اللحم البشري ـ وشتم وعراك بالأيادي. وانتهت تلك الليلة الحمراء إلى سوداء كانت لها أثر شديد على أيامه القادمة. أضمر الشاب في نفسه الشرَّ، وبدأ يخطط لانتقام يليق بثقل قبيلته العمانية. فأراد أن ينتقم منه، فقرر أن يسرق بندقية الرجل ودفنها في رمال الصحراء القريبة من المعسكر. ابتلعت الصحراء بندقية الرجل .
ومع التحقيقات والحبس. فُصلَ الرجل من عمله بسبب البندقية وأسباب أخرى، كانت البندقية تغطية لأسباب أخرى أُضمرتْ.مع أنه كان منضبطا في عمله .رجع لقريته بعدما أمضى في أبو ظبي خمس سنوات عاش فيها بكل جنون وعبثية. غسل نفسه من القبيلة والقرية. تعلّم في مدرسة مسائية حاول أن يعشق ويحب امرأة. لكنه لم يستطع . لا يدري لماذا ؟ خاف أن تموت كما ماتت أمه في طفولته .
رجع من أبو ظبي لا يحمل سوى عادة السُكر وحفنة من المال وفي رأسه أبيات من شعر الجاهليين وشعر الخمر. وصلوات من العزلة في البيوت الطينية. العزلة المنسوجة من بياض الخمر ومن سواد الحياة.
ما بين 1975 و 1995م
ما بين قريته الواقعة بين جبال الله المدفونة في عباءة القبائل وبين أبوظبي سنوات مضت وليالٍ انطوت كطي الدفاتر وأوراقها. ومن أبوظبي إلى صيف خمس وتسعين ظلت سنوات عامر بن سالم أشبه بالعبث أو أقرب إلى الجنون. ظل مترددا بين قرية أبيه الذي رحل بعد سنوات من تاريخ رجوعه من أبو ظبي وبين قرية أخواله في سهل الباطنة.
ردد كثيرا بين ضواحي النخيل أشعار الصعاليك والخمر.في ليالٍ كثير سُمِعَ يصرخ وينادي أمه. سمعته شيخة بنت ناصر جارته القريبة في ليلة مظلمة ويصرخ ويبكي كطفل: وينك يوا ماااااااااه وينك تركتني. يوا مااااااااااااااااااه مو سويت فيك تخليني حال الكلبة نجيموه تضربني وتربطني بالليل في السدرة . يووووووه ماااه شوفي بو صار فيني لا حرمة ولا ولد ولا اخوان، ابوي ترك لي هالصُفة أسكر وأتبرز فيها .
سمعت صراخا يقطع القلب. سمعت بكاء يقطّع الأكباد. وعندما روت ما سمعته من بكاء عامر بالليل نزلت دمعة يتيمة من عينها ومسحتها بطرف لحافها.قبل أن تسقط على الأرض.
كلما أفلس يختفي_ وكلما اختفى تكثر الحكايات عنه_ لمدة أحيانا تطول وأحيانا تقصر. يذهب ويعود بشكل جديد مرة بشعر كثّ ومرة بصلعة تلمع . ومن أغرب المرات أنه اختفى لمدة سنة ورجع إنسانا متدينا به لحية سوداء طويلة . وأخذ يتردد كثيرا على المسجد الصغير وأذّن لصلوات كثيرة، ولم يصبر كثيرا، بعد شهر اختفى بعدما لم يزوجه أحد من القرية رجع أكثر جنونا وتمردا. أخذ يرفع إزاره لنساء القرية ويصرخ فيهن :
ـ يا ساقطات شوفنّ هالسفن ما ينفع حال بناتكن.
مع سهرات الخمر الرخيص المغشوش ـ الذي يشتريه من الهنود الذين يهربونه من مطرح وروي عندما يعودون من إجازتهم ـ مضت حياته. يختفي ويظهر. يتمدد في الاغتراب ويقصر في عزلته. يشتم ، ينطق بحكمة أو قصيدة ، وينشد مقولات خمرية:
« اسكر ودوخ ولا تخلّف فلوسك حال أولاد الشيوخ».
يتلذذ بترديد شعر أبو نواس وخاصة في ليالٍ الفقر التي كان يعيشها.. ردد كثيراً وبصوت يغسله الوجع، ينطق الكلمات معجونة بالحزن:
واضـرب على الورد من حمـــــــراء كالـــــورد
لا تبـك ليــــلى ولا تطـرب إلـى هن..ن…..ن..ـد
كأسـا إذا انحـدرت فـي حلق شاربها
وجـدت حمرتهـا فـي العيـن والخ…خ…..خ…ـد
ما قاله الراوي
عامر رجل سكير كان نائما في الذاكرة، استيقظ هذه الليلة بكل تفاصيل وجهه الغائب منذ زمن طويل. وجهه المتعب من شيء ما . خوفنا الدائم نحن الأطفال منه. نومه الكثير في البيوت الطينية المهجورة. رحل ثملاً ونُسي سريعاً لم يبق شيء في ذاكرتي منه إلا جنازته ووجهه.
_ هل تسمع صوت الصفاردة القادم من تحت شجر السَرح والغاف المحيط بأطراف المقبرة ؟
_-………..
قناني الخمر الفارغة كانت لنا لُعبة في زمن لم تكن لنا ألعاب، حملناها من حارة القلعة في الصباحات البكر. قنينة طويلة، قنينة صغيرة، قنينة كبيرة، قنينة قصيرة بعضها به رسوم مختلفة هنالك غزلان وسيوف وطيور وصورة قبطان سفينة مسافر، وكتابات بلغة انجليزية.
وفي الأودية البعيدة نُصبت القناني على أحجار كبيرة. وبدأت مسابقة الرماية، طيور طارت بعيدا نحو سماء الله، وغزلان هربت نحو الأودية البعيدة ونحو جبال الحجر والجبل الأخضر. وظلت السيوف كالموت منتصبة فوق الأحجار الكبيرة. غاب القبطان ذو السفينة في سفوح الجبل الأخضر ولم ينزل من الجبل.
هل سمعت يا عامر صوت تحطّم قناني الويسكي والفودكا؟
_………….
وجهك الشارد في شيء ما . ولحيتك المبعثرة والملوحة بحمرة الخمرة . حياتك المبعثرة من أبو ظبي إلى هذه القرية البعيدة جدا . موتك في الباطنة لم يكن يليق بك وأنت القادم من عباءة القبيلة؟ ذبحتك القبيلة فغسلت دمك منها بالخمر والعبث . كفنوك متجمدا ومتورما من الخمر بعد مرور يومين من الموت وأنت ساقط في حفرة في ساحل الباطنة.
لحظة أخيرة من الجنازة
تنزلق الجنازة بصمت. عامر الميت المتجمد الصامت يُحمل فوق الطارقة الخشبية .
الظهيرة تحث البشر على أن يلقوا بهذه الجثة بكل سرعة في حفرة. حفروا له قبرا منعزلا عن قبور القبيلة. وحيدا تحت شجرة سمر ظلَّ قبر عامر. الطارقة التي حُمِل بها تركت هكذا تأكلها السنوات ورائحة الجثة.
ما قالته الطارقة للغافة
وعندما نسى الراوي سرد لحظة منسية من جسد الحكاية. قالت الطارقة للغافة التي تستظل تحتها ما تبقى من حديث الجثة:
_ أيتها الغافة قبل سنوات همس لي عامر بن سالم بما تبقى من الحديث أن سبب طرده من عمله في الجيش كان شتاما مفوهاً.
– كان يجيد استخدام أقسى العبارات ضد الطغاة، والمتنفذين.
سرد لي عن شهداء ورفاق حلموا بشيء ما. وقبل أن يكتمل الحلم كانوا جميعا في المقابر والمعتقلات .
سنوات عامر بن سالم الخمس في أبوظبي كانت أشبه بلغز . صحيح أنه كان يتردد على الفنادق والحانات. لكنه كان كذلك يتردد على ما تبقى من الحلم. سنواته، أوجاعه وأحلامه لم تمت عندما رجع الى القرية. كان الراوي طفلا فلم يسرد الحكاية كاملة .
همست الطارقة للغافة بما يشبه السرّ :
«أن الجثة المدفونة الآن تحت هذه السمرة كانت تتردد على حضور اجتماعات مغلقة. وأن الجثة كانت تسمع عن حرب في الجنوب وعن جيوش تزحف. كل ما سمعت الجثة ظلت تحنُّ للعودة».
الخدش الّذي يشبه كلمة في جسد الجثة لم تبح به الطارقة للغافة .