نوفل نيّوف*
خريف عام 1914، بينما كانت مارينا تسفيتايفا (1892 ـ 1941) تشجّع زوجها، سيرجي إفرون، على متابعة دراسته في الجامعة، تفادياً للخدمة العسكرية أيام الحرب العالمية الأولى، تعرّفت على شاعرة ثلاثينية بالغةِ النشاط، والعدوانيةِ أحياناً، هي صوفيا بارنوك (1885 ـ 1933) التي لم تكن تُخفي مثليَّتها الجنسية. وقد أُعجِبت مارينا بشخصية بارنوك التي تكبرها بسبع سنوات. كما كانت بارنوك تعبِّر عن إعجابها بمارينا وأشعارها من موقع الأكبر، الأم والموجِّه… وكانت مارينا لصيقة بها لا تفارقها، يعجبها استغراب الناس ما بينهما من حميمية تستنكرها “أخلاقهم”. وكان تأثير صوفيا بارنوك عليها عظيماً في أجواء الحرب والدمار والخلافات السياسية المتأجِّجة… وفي أواخر عام 1915 سافرت مارينا مع صوفيا إلى بطرسبورغ(1) للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، فكانت تلك الزيارة علامة فارقة في حياة مارينا، وربما في مسيرتها الشعرية أيضاً.
ضمّت صوفيا، بقرار منها، صديقتها مارينا تسفيتايفا إلى أسرة تحرير مجلة “سيفِرنيّي زابيسكي” الشهرية ذات التوجه اليساري التي كانت تنشر فيها قصائدها بانتظام، وكان رئيس تحريرها، فيودور ستيبون، لا يستقبل إلا أبرز المفكرين الليبراليين في بطرسبورغ، وصفوة الأدباء أمثال النجم الشعري الصاعد، الشاب سيرجي يسينِن (1895 ـ 1925)، والشاعرة آنّا أخماتوفا (1889 ـ 1966) ذات الحضور القويّ في الشعر الروسي يومذاك.
لقد أحست صوفيا بارنوك بالغيرة من أخماتوفا حتى في غيابها، فكيف لو أنها كانت موجودة. غير أن أوسيب مندلشتام (1891 ـ 1938) كان في الأمسية، وكانت مارينا قد تعرفت إليه قبل عام في كوكتِبِل(2). لقد شبّت بينهما عاطفة تمكَّنا من إطفائها ظاهرياً، ولكنها تجلّت في رسائلهما المتبادلة فيما بعد. وقد عبّر هنري تروايا(3) عن ذلك بقوله: “بعضُ الاعترافات على الورق يثير الجسد أكثر بكثير من أشدّ الأحضان حرارة”.
ليست صوفيا بارنوك من ينطلي عليها إخفاء المشاعر! لقد لمستْ ما لم تفصح عنه مارينا من عاطفة تجاه مَندلشتام، فثارت ثائرتها ولم تخمد قبل أن تنتهي العلاقة بينها وبين تسفيتايفا في بداية مارس 1916 يوم أهدتها مارينا آخر قصيدة في سلسلتها الشعرية “صديقة”. (استمرت العلاقة بينهما سنة ونصف السنة: من خريف 1914 إلى بداية ربيع 1916). ثم عادت مارينا إلى زوجها إفرون قائلة في قصيدة:
عدتُ إليك في منتصف ليلة سوداء،
أطلب مساعدتك الأخيرة.
أنا شحّاذة، لا أذكر لي أصلا.
أنا سفينة تغرق.
* * *
يعود افتتان مارينا تسفيتايفا بآنا أخماتوفا إلى عام 1912 حين قرأت مجموعتها الشعرية “المساء” وكتبت عنها بإعجاب كبير في مذكراتها عام 1917:
“يمكن كتابة عشرة مجلَّدات عن هذه المجموعة الصغيرة من دون إضافة أيِّ شيء إليها… يا لَأنّا أخماتوفا من هديّة للشعراء صعبةٍ ومغرية!”.
في اليوم الأول من عام 1916 نظّم أحد كبار شعراء بطرسبورج، ميخائيل كوزمين(4) (1872 ـ 1936)، أمسية شعرية في بيت أحد أصدقائه(5) قرأت فيها مارينا تسفيتايفا أحدث قصائدها وأصابت نجاحاً منقطع النظير. لقد شعرت أنها تمثِّل مدينتها الأم موسكو في قلب منافستها بطرسبورج على ضفاف نهر النيفا.
سنة 1936 تكتب مارينا عن تلك الأمسية:
“أقرأ كلَّ ما كتبتُ عام 1915 من قصائد، كان ذلك قليلاً، وكانوا يطلبون المزيد. أشعر أني أقرأ باسمِ موسكو ولا ألطِّخ وجهها بالوحل، لا ألطِّخه لأني أرفعه إلى مستوى وجه أخماتوفا. أخماتوفا! ـ قُضيَ الأمر. بكياني كلِّه أشعر لدى قراءة كلِّ بيت بالمقارنة المتوترة ـ المحتومة ـ (وفي البعض بإثارة الفتنة) بيننا: ليس فقط بين أخماتوفا وبيني، وإنما بين الشعر في بطرسبورج والشعر في موسكو. ولكنْ، لئن كان محبّو أخماتوفا يستمعون إليّ ضدّي، فأنا لا أقرأ ضدّ أخماتوفا، بل أخاطبُ أخماتوفا. أقرأ وكأن أخماتوفا في الغرفة، أخماتوفا وحدَها. أقرأ لأخماتوفا الغائبة. يهمّني نجاحي كخطٍّ مباشر إلى أخماتوفا. ولئن كنت أريد في تلك اللحظة أن أُمثِّل موسكو على أفضل وجه، فما ذلك من أجل أن أنتصر على بطرسبورج، بل من أجل أن أُهدي إلى بطرسبورج، إلى أخماتوفا هذه الـ موسكو التي في نفسي، في حبّي، أن أهديها منحنيةً أمام أخماتوفا. أن أنحني أمامها بالذات مثل “بوكلونّايا غَرَا”(6) مع أعلى رأسٍ ٍعلى القمة لا ينحني.
وهذا ما فعلتُه في يونيو 1916 بكلمات بسيطة:
تشتعل القِباب في مدينتي الغنّاء،
وشحّاذٌ أعمى يمجِّد المخلِّص المنير،
وأنا أُهدي مدينتي ذاتَ النواقيس
ومعها قلبي إلى أخماتوفا.
لكي أقول كلَّ شيء:
إنني مدينة بالقصائد التي كتبتُها عن موسكو بعد سَفرة بطرسبورج، لأخماتوفا، لحبّي لها، لرغبتي بأن أُهديها شيئاً أكثرَ أبديةً من الحب، ما هو أكثرُ أبديةً من الحب. ربَّما لو أمكنني فقط أن أُهديها الكريملن، لَما كنت كتبت هذه القصائد. وهكذا، فقد كانت هناك منافسة، بمعنى ما، بيني وبين أخماتوفا، ولكنْ ليس من أجل “أن أفعل أفضل منها”، فالأفضل مستحيل، وهذا الأفضل المستحيل أن أضعه عند قدمَيها. منافسة؟ بل توق. أعرف أن أخماتوفا فيما بعد، عامَ 1916-1917، لم تفارق قصائدي المكتوبة لها بخط يدي وظلّت تحملها في حقيبتها حتى لم يبقَ منها إلا قِطع متشقِّقة. هذه القصة التي نقلها لي أوسيب مَندِلشتام واحدةٌ من أكبر الأفراح في حياتي”(7).
كانت آنا أخماتوفا ـ التي تبوّأت مكانة في الشعر لا تتزعزع ـ في السابعة والعشرين من عمرها يومذاك، ولكنها لم تكن موجودة في بطرسبورج(8). كانت تعرف أشعار مارينا، والأرجح أن موقفها من تلك الأشعار كان يتّسم بالتحفّظ أكثر ممّا بالإعجاب. بينما كانت تسفيتايفا قد تجاوزت كل تحفظ على أشعار أخماتوفا، مفتونة بشعرها. وقد أعربت عن أسفها المرير لأنها لم توفَّق إلى لقائها لتحيّيها شخصياً(9). وكانت مارينا تعلن في كل مكان أنها، وهي تقرأ قصائدها الجديدة التي تهديها لألمانيا، لا تفكر إلا بآنّا أخماتوفا.
أعرف الحقيقة! ولتسْقطِ الحقائق الماضية كلُّها!
لا حاجة بالناس للصراع فيما بينهم على الأرض.
انظروا: إنه المساء، انظروا: يقترب الليل.
علامَ: أيها الشعراء، أيها العشاق، أيها القادة العسكريون؟
ها هي الريح تخمد، والأرض يغطيها الندى،
قريباً تتجمَّد عاصفة النجوم في السماء،
وقريباً نرقد جميعاً تحت الأرض،
نحن مَن لم نمكِّن بعضنا بعضاً من النوم عليها.
ما إن عادت مارينا إلى موسكو حتى التحقت بشقيقتها أناستاسيا في مدينة ألكساندروف (100 كم عن موسكو) حيث عاشت حالة من الإلهام لم تعرفها من قبل ولا من بعد. هناك تضفر من قصائدها أكاليل تمجيد لأخماتوفا التي لم يقدَّر لها اللقاء بها في بطرسبورج.
وإلى أخماتوفا تهدي تسفيتايفا مجموعتها الشعرية “فراسخ ـ 2” التي تمجِّد فيها الجيش الأبيض وقتاله ضد الشيوعيين، وفيها 11 قصيدة موجهة إليها مباشرة.
* * *
بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة (أكتوبر1917) وجدت النخبة الروسية المثقفة نفسها أمام موجة عاتية من الشكوك تهدِّدها بالهلاك. فقد توفّي الشاعر ألكساندر بلوك (1880 – 1921) منهكاً من الجوع والمرض (يوم 7 أغسطس 1921) بعد طول انتظار للحصول على إذن سفر إلى الخارج طلباً للعلاج.
كما اتُّهِم الشاعر نيكولاي غوميليوف (1921-1886)بالولاء للنظام القديم والتآمر على الثورة، فاعتُقل يوم 3/8/ 1921 وأُعدِم مع 56 آخرين رمياً بالرصاص (ليلة 25 ـ 26 /8/1921)، ولا يُعرَف له قبر حتى اليوم. وسرعان ما سرت شائعات تقول إن زوجته السابقة (ما بين 1910 و1918) آنّا أخماتوفا مهدَّدة بالاعتقال تارة، وتارة أنها قُتلت غيلة على أيدي البوليس السرّي، وأخرى أنها انتحرت… فحطّم اليأس والخوف قلب مارينا التي لم تعرف الحسد أو الغيرة إزاء موهبة أخماتوفا، كما يرى تروايا، ولم تكن ترى فيها إلا نصيرة وحليفة لها في خدمة الشعر. وما إن تبيّن بُطلان هذه الشائعات حول مصير أخماتوفا حتى خاطبتها تسفيتايفا برسالة (31 /8/ 1921) تقول فيها:
“عزيزتي آنّا أندرييفنا! خلال هذه الأيام سرَت حولك شائعات كانت كلّ ساعة تزداد قوّة وتأكيداً. أكتب لك عن هذا لمعرفتي أنه سيبلغك في جميع الأحوال، وأريد على الأقل أن يبلغك بشكل صحيح. أقول لك إن الصديق الوحيد لك بين الشعراء (صديق الفعل!) هو ماياكوفسكي(10) الذي كان يتنقّل في “مقهى الشعراء” مثل ثور جريح.
حقاً كان يبدو كمن حطّمته مصيبة. فهو من أرسل عبر أصحابه برقية استفسار عنك، وإني مدينة له بثاني فرحة عظيمة في حياتي (الأولى خبرٌ عن سيريوجا الذي لم أعرف عنه شيئاً منذ سنتين)..
لقد أمضيت هذه الأيام، على أمل أن أعرف شيئاً عنك، في “مقهى الشعراء”. هؤلاء المشوَّهون! هؤلاء العاهات! أبناء الزنى! هنا كلّ شيء: أشباه بشر، آلات، خيول تصهل، ذكورٌ عواهر <…>.
أكتب على دفتر صغير إلى أكسيونوف(11): ” أكسيونوف، كَرمى لله، ـ أريد الحقيقة عن أخماتوفا”. (يقال إنه التقى ماياكوفسكي) “أخشى ألا أبقى حتى نهاية النقاشات”.
وإذا بإيماءة رأسٍ سريعة من أكسيونوف. تعني: ما تزال حيّة.
عزيزتي آنّا أندرييفنا، لكي تعرفي ليلتي الماضية، إيماءةَ أكسيونوف برأسه لي، عليك أن تعرفي أيامي الثلاثة التي سبقتها ولا يحيط بها كلام. حلمٌ رهيب، أريد أن أستيقظ منه ولا أستطيع. كنت أدنو من كل شخص وأتوسّل إليه سلامتَك. كنت على وشْك أن أقول: “أيها السادة، افعلوا أيَّ شيء لتبقى أخماتوفا حيّة. وقد واستني طفلتي آليا قائلة: مارينا! ولكنْ، إن لها ابناً”.
بالمقابل، وأمام هذا الافتتان والإكبار، لم يتّصف موقف أخماتوفا من تسفيتايفا وشِعرها، لا سيّما أمام المعارف والأصدقاء، بالحرارة والحماسة. قد يكون المقطع التالي من رسالة لها إلى مارينا هو الأكثر تعبيراً عن رأيها، كتابةً، بشعر تسفيتايفا وبها نفسِها كشاعرة:
“عزيزتي مارينا إيفانوفنا، منذ زمن طويل لم يصبني انعدام القدرة على الكتابة الذي أكابده منذ سنوات كثيرة بالحزن الذي أصابني اليوم وأنا راغبة بالحديث معك. إنني لا أكتب لأحد أبداً. ولكنّ موقفك الطيِّب منّي غالٍ علَيَّ بلا حدود. شكراً لك عليه وعلى ما أهديتِني من قصائد. إنني باقية في بطرسبورج حتى أوّل يوليو. أحلم بأن أقرأ أشعارك الجديدة.
المخلصة أخماتوفا”.
أمّا حقيقة موقفها فلا يبدو أنها مطابقة للمكتوب أو قريبة منه كثيراً. يقول غريغوري أداموف، مثلاً، إن الموسيقار أرتور لورييه في العشرينات:
“استاء من برود أخماتوفا إزاء أشعار تسفيتايفا فصاح بها:
ـ إنك تقفين من تسفيتايفا موقف شوبين من شومان.
كان شومان يعبُد شوبين الذي كان يتملّص منه بعباراتِ احترامٍ موارِبة”.
يوم 15 مايو1922 غادرت مارينا تسفيتايفا روسيا السوفيتية في هجرة، عبر برلين إلى تشيكيا ثم فرنسا، استمرّت 17 عاماً. وفي “برلين الروسية” بألمانيا لاقت استقبالاً حافلاً تكلل بإصدار مجموعتيها الشعريتين: “قصائد إلى بلوك”، و”الفراق”. يقول تروايا إن النخبة الروسية المثقفة هنا “وضعت مارينا تسفيتايفا في صفٍّ واحد مع آنّا أخماتوفا. بل ووجد بعضهم إبداعها أكثر تحريكاً للمشاعر وأكثر تفرداً و”معاصرة” من إبداع الشاعرة العظيمة آنّا أخماتوفا الباقية في روسيا”…
وبعد هجرة مؤلمة، معقّدة وطويلة (في براغ التشيكية حتى 31 / أكتوبر 1925، ثم في فرنسا) عادت مارينا تسفيتايفا بحراً، مساء 12 / يونيو 1939، إلى الاتحاد السوفيتي وهي تفكر لآخر مرة، وَفْقاً لـ هنري تروايا:
“بجميع المهاجرين الروس الذين عاشت بينهم هذا العدد من السنين، والذين شدَّ ما أساءوا فهمها، وظلموها بأحكامهم وما أحبّوها. وفي الحقيقة لم يكن يشغل بالَها إلا شيء واحد لم يستطع مواطنوها في المهجر أن يغفروه لها: ليس شِعرها القويِّ التمرّد، الشديدَ المعاصرة، بقدْر ما هو رفضُها أن تلعن روسيا التي تأنّقت بثياب الاتحاد السوفيتي الحمراء. غير أن مارينا كانت تعرف أن هناك جِلْداً تحت أيّ ثياب. وكانت تأمل أن تجد هذا الجلْد بالذات، هذا الجِلد الروسي، مهما حجبته الأسمال الملوّنة في الحفلة التنكّرية السوفيتية”.
بعد عودتها بعامين تماماً، أي في شهر يونيو 1941 كانت مارينا تسفيتايفا تستعدّ لحدثٍ جلل هو لقاء “معبودتها”، آنّا أخماتوفا حين جاءت إلى موسكو. كانت تسفيتايفا تمجِّدها، وكانت روسيا كلّها تعدُّها شاعرة عظيمة رفعتها عالياً، فقرر الأصدقاء عقد “لقاء تاريخي” بين الشاعرتين. إلا أن مارينا كانت قد غيّرت رأيها قليلاً بأخماتوفا، بعد أن أصابتها بالخيبةِ قراءةُ مجموعة أخماتوفا الشعرية الأخيرة “من ستة كتب” (الصادرة سنة 1940):
“بالأمس قرأت مجموعة أخماتوفا وأعدت قراءتها كلّها تقريباً. إنها قديمة وضعيفة. كثيراً (وهذه علامة سيئة وصائبة) ما تكون النهايات ضعيفة تماماً تجتمع (وتفضي إلى) لا شيء. لقد أفسدت قصيدتَها عن زوجة لوط. كان يجب عليها أن تقدِّم الزوجة عبرها هي أخماتوفا، لا أن تقدِّم الاثنتين (وإلا فلتقدِّم الزوجة وحدها):
…ولكنّ قلبي لن ينسى أبداً
من ضحّت بنفسها من أجل نظرة وحيدة.
كان يجب تقديم هذا البيت الشعري (المعادلة) كجملة إسمية، وليس كمفعول به. إذ ما معنى: قلبي لن ينسى أبداً… ـ ومن يهتمُّ بذلك؟ فالمهمّ ألّا ننسى، أن تبقى في عيوننا: مَن ضحّت بحياتها من أجل نظرة وحيدة…
ليكن…
كلُّ ما في الأمر أن إعجابي كان في عام 1916، يوم كان قلبي كبيراً بلا حدود، وكان هناك بلدة ألِكساندروف، وثمار الـ مالينا(12) (قافية رائعة مع مارينا)، وكانت مجموعة صغيرة من أشعار أخماتوفا…
والآن: أنا ـ وكتابها.
كان جميلا قولها: “صفحةٌ بيضاء لا علاج لها…”.
فماذا كانت تفعلُ ما بين عامَي 1914 و1941؟ داخلَ نفسها. هذه المجموعة الشعرية هي الصفحة البيضاء التي لا علاجَ لها”.
ولكنْ، لا بدّ هنا من الإشارة، بإيجاز كبير، إلى ما أحاط بأخماتوفا خلال هذا الزمن الصعب من فجائع وويلات. فبينما كانت، في شهر أغسطس 1921، تستعد لنشر مجموعتها الشعرية الخامسة “Anno Domini” جاءها خبر انتحار أخيها أندريه في شبه جزيرة القرم(13)، وفي ذلك الشهر نفسه توفّي الشاعر ألكساندر بلوك. وفي يوم تشييع جنازته بلغها خبر اعتقال زوجها الأول (والدِ ابنها الوحيد) الشاعر نيكولاي غوميليوف الذي قتل رمياً بالرصاص قبل نهاية ذاك الشهر المشؤوم. تحت هذه الضربات الثقيلة والإحساس باليتم كتبت أخماتوفا وهي على عتبة الشيخوخة: “لقد غيّرت هذه المرحلة القاسية حياتي مثلما يغِّير النهر مجراه”. فخلال عشر سنوات (ما بين 1921 و1936) لم تكتب إلا عشر قصائد.
اللقاء الأول
لقد سبق لـ بوريس باسترناك(14)، قبل سنة ونصف السنة من هذا اللقاء، أن سأل مارينا تسفيتايفا، عقب عودتها الأخيرة إلى روسيا، عمّا ترغب به، فقالت: أن أرى آنّا أخماتوفا. ونقل باسترناك هذه الرغبة إلى أخماتوفا مرفقة برقم هاتف تسفيتايفا. وحين جاءت أخماتوفا إلى موسكو ونزلت ضيفة على عائلة فيكتور أردوف(15)، اتصلت بمارينا وقدّمت لها نفسها عبر الهاتف، ففاجأها الجواب:
“ـ نعم؟
ـ أخماتوفا تتكلّم.
ـ أسمعك.
وتعبِّر أخماتوفا عن استغرابها قائلة: أليست هي التي طلبت لقائي؟
تسألها:
ـ ما العمل، هل أذهب إليك، أم تأتين إليّ؟
تردُّ تسفيتايفا:
ـ أفضِّل أن أذهب أنا إليك.
ولمّا تعثّرت أخماتوفا في توضيح الطريق لها، قاطعتها تسفيتايفا بالسؤال:
ـ وهل يستطيع شخص طبيعي أن يوضِّح لشخصٍ غيرِ طبيعي؟ أليس بالقرب منك شخص ليس شاعراً يستطيع أن يدلّني على الطريق إليكم؟”.
يقول أردوف، صاحب البيت، إنه كان ذلك الـ “ليس شاعراً” وأوضح لها الطريق. وسرعان ما جاءت تسفيتايفا في منتصف نهار اليوم التالي 7 1941 في بيته، حيث جرى اللقاء الأوّل بين الشاعرتين:
“أنا من فتحتُ الباب في ذلك اليوم الصيفيِّ اللطيف. دخلت مارينا تسفيتايفا غرفة الطعام. كانت آنّا أخماتوفا جالسة في مكانها المعهود على الديوان. لم أكن بحاجة إلى أن أنطق الكلام المألوف حين تقديم شخصين ليتعارفا. كان الاضطراب مكتوباً على جبين كل من الضيفتين كلتيهما. وقد تم اللقاء بينهما بعيداً عن طريقة “التعارف” المبتذلة. لم تقولا “تشرّفنا”، ولا “كم أنا سعيدة”، ولا “آه، هذه أنتِ إذاً!”. مدّت كلٌّ منهما يدها لصاحبتها، ولا شيء آخر”.
ونستخلص من أقوال أردوف أن مارينا دخلت مرتبكة، وكانت متوترة حين تناول الشاي، وكان الحديث متعثّراً بينهما في غرفة الطعام: “وقد تحلّيتُ بما يكفي من اللباقة لكيلا أعطي حُجّة لثرثرة الصالونات… وخرجتُ من الغرفة بلا تردّد: كنتُ أُدرك أني، إذ أترك الشاعرتين وحدهما، أحرم تاريخ أدبنا من أدلّة شاهد عيان هامة. إلا أن أبسط قواعد اللباقة كانت تقول إني لست على الإطلاق بالشخص الذي يجب أن يكون الثالث في هذا اللقاء”.
وسرعان ما ذهبت بها أخماتوفا إلى الغرفة الصغيرة التي خصصت لها في الشقة. هناك أمضيتا معاً وقتاً طويلاً، “بين ساعتين وثلاث ساعات”. ثم خرجتا وهما أكثر اضطراباً ممّا كانتا قبل اللحظات الأولى من اللقاء.
“وبحكم معرفتي بآنّا أخماتوفا، ـ يقول أردوف، ـ كان سهلاً عليّ أن أرى على وجهها آثار المشاعر التي تخلِّفها مصائب الآخرين فتظهر مباشرة أو من خلال النقل”. ويضيف في شهادته:
“لقد خرجتا صديقتين، هذا ما شعرت به فوراً. ولكنْ، بالطبع، لم تكن ظاهرة علائم تلك المودّة النسائية الضئيلة، المألوفة عند أصحاب الطبيعة الاعتيادية. كلتاهما كانتا صامتتين، ولم تتبادلا النظرات. عرضتُ على الضيفتين شاياً، فرفضت مارينا.
حين كانت مارينا تهمُّ بالخروج رسمتْ عليها آنّا علامة الصليب.
لم تحدّثنا أخماتوفا أبداً عمّا دار بينهما من حديث في تلك الغرفة الصغيرة. وأستخلص من ذلك أنهما تحدّثتا عن أحوال تسفيتايفا، ولم تسمح آنّا لنفسها بكشْف أسرار الآخرين.
بعد ذلك كانت آنّا أخماتوفا تتكلّم دائماً بشفقة عن مارينا تسفيتايفا وعن قدَرِها البائس. من هنا أستنتج أن مارينا تكلّمت كثيراً عن نفسها خلال اللقاء”(16).
غير أن أخماتوفا تشير فيما بعد إلى نقطتَي خلاف تكشّفتا بينهما في هذا اللقاء:
1ـ حين قرأتْ لمارينا مقطعاً من “ملحمة من دون بطل”: “قالت مارينا بطريقة جارحة للغاية: “ينبغي التحلّي بقدْرٍ كبير من الجرأة للكتابة في عام 1941 عن أرلِكينو وكولومبينا وبييرو”، مفترضة، على ما يبدو، أن ملحمتي تقليد أسلوبي لجماعة “عالم الفن” على طريقة بينوا وسوموف، أي ربّما مَن ناضلت ضدهم في هجرتها بوصفهم نفاياتٍ فات زمانها. لكن الزمن أظهرَ أن المسألة ليست كذلك”.
2- أذكر أنها سألتني: “كيف أمكنكِ أن تكتبي: “خذِ الطفلَ، والصديق، وموهبة الشعر الغامضة…”؟ ألا تعلمين أن كلَّ ما في الشعر يتحقّق؟”، فقلت لها: “وكيف أمكنكِ أن تكتبي ملحمة “الشجاع”؟ قالت: “ولكنّ هذا ليس عنّي!”. خطر لي أن أقول لها: “ألا تعلمين أن كلّ ما في الشعر هو عن الذات؟”. ولكني لم أقُلْه”.
وعموماً، فإن هناك انطباعاً قويّاً، لدى دميتري مكسيموف الذي عرف أخماتوفا شخصياً، بأن اللقاء وسّع الهوّة بين الشاعرتين ولم يضيِّقها.
اللقاء الثاني، الأخير
جرى اللقاء الثاني بين تسفيتايفا وأخماتوفا في اليوم التالي 8 / 6/ 1941 في غرفة ضيّقة يسكنها نيكولاي خاردجييف17 ضِمْن شقة مشتركة. هنا أيضاً كان الحذر يسيطر على الشاعرتين اللتين تحصّنت كلٌّ منهما بموقعٍ دفاعيّ إزاء صاحبتها، ولم تكونا وحيدتين، كما في اللقاء الأوّل.
تروي آنّا أخماتوفا لِـ نتاليا إيليِينا قصة اللقاء الثاني مع مارينا تسفيتايفا بكلمات تكتفي برسم إطار ذلك اللقاء (اتصلتْ، جاءت، أهدتني “ملحمة الهواء”، خرجنا، افترقنا!)، أي من دون أن تلامس مضمونه وما دار خلاله بين الشاعرتين:
“في السابعة من صباح اليوم التالي اتصلت مارينا هاتفياً وطلبت اللقاء بي من جديد. كان عليّ أن أذهب في المساء لزيارة نيكولاي خاردجييف في حي ماريينا روشّا. فقالت مارينا: “سأجيء إلى هناك”. وقد جاءت وأهدتني “ملحمة الهواء” التي نسختها بخط يدها في الليل. إنها شيء معقَّد ومأزوم. ثم خرجنا من بيت خاردجييف مشياً <…> باتجاه “مسرح الجيش الأحمر”، حيث كانت نينا أولشيفسكايا تمثل في ذلك المساء. كان مساء مدهشاً وضّاء. وعند المسرح افترقنا. هذه قصتي كلُّها مع مارينا تسفيتايفا”.
وبينما تصف إيمّا غيرشتاين مشهد اللقاء بالكلمات التالية:
“جئت إلى بيت خاردجييف لأرافق أخماتوفا إلى “مسرح الجيش الأحمر” القريب، كما اتفقت معها من قبل. لم أجِد عنده أخماتوفا وحدها، بل وتسفيتايفا بصحبة الباحث الأدبي ت. س. غريتس. كان جالساً بالقرب من خاردجييف على تختٍ . وكانت آنّا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا تجلسان متقابلتين حول الطاولة على كرسيين خشبيين بدون ظهر. . كانت مارينا تضع رِجلاً على رِجل، خافضة رأسها تنظر إلى الأرض، تتكلّم برتابة فتظهر في طريقتها هذه قوَّة لا تهدأ وإصرارٌ لا يتوقّف”.
يتحدّث خاردجييف عن جوّ اللقاء قائلاً:
“جاءت تسفيتايفا بصحبة ت. غريتس إلى بيتي الذي جرى فيه لقاؤها الثاني مع أخماتوفا. كانت تتكلم من غير توقف تقريباً. كثيراً ما كانت تنهض عن كرسيّها، وتُحسن المشيَ بخفة وحريّة في ثمانية أمتار مربّعة هي مساحة غرفتي الصغيرة.
لقد أدهشني صوتها. كان مزيجاً من الكبرياء والمرارة، من التسلّط ونفادِ الصبر. كانت كلماتها “تتساقط” مندفعةً وعديمةَ الشفقة، مثل نصل المقصلة. تحدّثتْ عن باسترناك الذي لم تلتقِه منذ سنة ونصف السنة (“إنه لا يريد أن يراني”) <…>، عن الأفلام الأوروبية الغربية وعن ممثّلها السينمائي المفضّل بيتر لورّي<…>. كما تكلّمت عن فن الرسم، وعبّرت عن إعجابها الكبير بـ “كتاب عن الرسّامين” الذي ألّفه كارِل فان ماندير (نشر عام 1604) وصدرت ترجمته الروسية عام 1940. <…>.
كانت أنّا أخماتوفا أقرب إلى الصمت.
جال في خاطري: كم هما غريبتان عن بعضهما البعض، غريبتان ولا تجتمعان”.
تتذكّر أخماتوفا الحديث المتوتِّر الذي دار بينهما قائلة: “الآن وقد عادت إلى مدينتها موسكو ملكة إلى الأبد، … يطيب لي ببساطة و”بدون أساطير” أن أتذكّر هذين اليومين”.
يقول جريجوري أداموفيتش:
“فيما مضى كانت أخماتوفا، قبل اللقاء مع تسفيتايفا، تستعرِض بإعجابٍ رسالة (تسفيتايفا. ـ ن. ن) التي وصلتها من موسكو. وكانت تسفيتايفا تعبِّر عن إكبارها قصيدةَ أخماتوفا “المهد” التي قرأتها للتوّ: “بعيداً في غابة عظيمة…”، وتؤكد أنها مستعدّة لأن تعطي، مقابل بيتٍ واحد فيها هو “أمٌّ رديئة أنا”، كلَّ ما كتبتْه حتى الآن وما ستكتبه في أيِّ وقتٍ من الأوقات”. ويضيف أداموفِتش أن أخماتوفا لم تكن تقدِّر قصائد تسفيتايفا عن موسكو أو عن ألِكساندر بلوك. ولكنه “بالنظر إلى بيتين من قصيدة كتبتها سنة 1961، هما:
غصنٌ غضٌ من البوزينا18
رسالةٌ من مارينا،…
كاد أداموفِتش يظنّ أن موقف أخماتوفا من تسفيتايفا قد تغيّر لولا قولها أمامه بفتور شديد:
“الناس عندنا مغرمون بها الآن، يحبّونها كثيراً… ربّما حتى أكثر من باسترناك”. ولم تضف إلى ذلك أي كلمة تعبر عن رأيها هي. ولمَّا ذكرتُ في أثناء حديثنا ولعَ تسفيتايفا المتزايد عاماً بعد عام بظاهرة نقل ما للبيت من مضمون منطقي إلى بداية البيت الذي يليه، وافقتني أخماتوفا قائلة: “حقاً، يمكن فعل ذلك مرة، مرّتين، ولكنه موجود عندها في كل مكان، بحيث يفقد كل قوته”.
تفضي خلاصة انطباعات من تحدثوا مع أخماتوفا من معاصريها إلى وجود ازداوجية غريبة في موقفها من تسفيتايفا وشعرها. إذ كانت تتحدث عنها ببرود وغيرة خفيّة وحذرٍ من جهة، وحرصٍ على إطراء مقدرتها الشعرية من جهة أخرى.
هكذا يشير أداموفِتش إلى نفور أخماتوفا ممّا في قصائد تسفيتايفا من “شاعرية” مفعمة بتحدٍّ واستعراضيةٍ وبإلحاح تقريباً، ومن تأثرٍ ضمنيٍّ بشعر بَلْمونت تغطيه اختلافات ظاهرية حادّة.
أمّا فيتالي فيلينكِن فيستغرب نظرتها إلى شعر تسفيتايفا وكأنه صيغة مشتقة من شعر أندريه بيلي، ويلاحظ ما يمكننا وصفُه بالغيرة والحسد متمثِّلَين في استياء أخماتوفا وتوتُّر أعصابها وهي تتحدث معه عن “تقمُّص” تسفيتايفا شخصيةً جعلت المهاجِرين “ينشرون بإجلال وإعجابٍ كلَّ سطر تكتبه”، بل وعن استيائها الشديد أيضاً حتى مِن وصفِ مارينا واقعةَ افتتاح والدها (البروفيسور إيفان تسفيتايف) أوّلَ متحف للفنون الجميلة في موسكو بحضور القيصر!
ولكن أخماتوفا كانت في الوقت نفسه تقول إن تسفيتايفا “شاعرة قديرة”، وبدون تردُّد كانت تُدرِجها في القائمة القصيرة “لأكثر من تجلُّهم” من شعراء، كما يقول فيلينكِن. وهذا ما صرّحت به أخماتوفا عن تسفيتايفا قائلة لِـ نتاليا روسكينا: إن تسفيتايفا “شاعرة قديرة”؛ ولِـ إيسايا برلين: “مارينا شاعرة أفضل منّي”.
ويرى دميتري مكسيموف أن أخماتوفا ما كانت تَعُدَّ تسفيتايفا ولا أمكن لها أن تعدَّها قريبة إليها من حيث الروح أو علم الجمال أو بناء البيت الشعري؛ وأن الغربة الروحية الجمالية بينهما كادت أن تنقلب إلى مجابهة. وفضلاً عن الأسس الإنسانية العميقة، يعزو هذا الباحث ذلك جزئياً إلى انتمائهما إلى “مدرستَين”، إلى فضاءين أو حتى إلى عالَمين شعريَّين مختلفين ظهرا جليَّين في التيار العريض لتطور الأدب الروسي ـ عالم “بطرسبورج”، وعالم “موسكو”. وبرهافة يلتقط مكسيموف أن ما يمكن أن يسمى مجازاً بالـ “غِيرة” كان شيئاً يشعر به المرء من خلال نبرة صوت أخماتوفا وهي تتحدث عن تسفيتايفا أكثر ممّا يوحي به جوهرُ كلامها. والأرجح هو أن ذلك كان نفحةَ غيرةٍ أكثر مما هو الغيرة بالضبط: “فحين طلبتُ إليها مرّة (15 / 2/ 1959) أن تقرأ لي رأي مَندِلشتام بشِعرها، وقد ذكرتْ هذا الرأي أمامي قبل قليل، قالت وكأنها تعترض على طلبي:
ـ ولكنّك تحبُّ مارينا أكثر؟! (بمعنى، فلماذا إذاً أقرأ لك رأيه عن شِعري؟)”.
لعلّه مناسبٌ أن نسجِّل هنا، في ختام هذ المادّة، قول هنري تروايا، كاتبِ سيرة مارينا تسفيتايفا، إن أريادنا إفرون، ابنةَ مارينا تسفيتايفا، أنفذُ بصيرة من أخماتوفا، إذ تقول في مذكّراتها:
“مثلما يقول القراءُ أبناءُ جيلي “باسترناك وتسفيتايفا”، كان أبناءُ جيلها يقولون “بلوك وأخماتوفا”. غير أن واو العطف هذه بين اسمين لم تكن في نظر تسفيتايفا نفسِها أكثرَ من مجرّد توازياتٍ صِرف، ذلك انها لم تساوِ بينهما؛ وكان تمجيدها اللفظي لأخماتوفا تعبيراً عمّا بين أختين من مشاعر سامية بلغت الذروة، ليس أكثر. لقد كانتا أختين في الشعر، ولكنّهما لم تكونا توأمَين على الإطلاق. على أن تناغم أخماتوفا المطلق ومرونتها الروحية اللتين خلَبتا لبَّ تسفيتايفا في البداية، باتتا فيما بعد تبدوان لها ميزتين راحتا تقيّدان إبداع أخماتوفا وتطوُّرَ شخصيتها الشعرية”.
هاتان “الميزتان” (التناغم المطلق والمرونة الروحية) اللتان يشير إليهما تروايّا، هما المقصود في قول تسفيتايفا عن أخماتوفا: “إنها الكمال، وفي هذا حدُّها، للأسف”.
ورغم إقرار تروايا بأن تسفيتايفا “كانت تقدّر حكمة أخماتوفا ومسيرتها الرائعة حقَّ قدْرهما”، فإنه يقول:
“كانت تحسدها على كونها قد تمكّنت من إظهار موهبتها في ظل جميع الأنظمة. وفي سرِّها، كانت تسفيتايفا تتّهمها بأنها تُعجِب عشّاقَ الشعر كلَّهم من دون استثناء، في حين لم يكن يعشق شعرها هي إلا صنفان من الناس متناقضان في الأذواق: صنف معجب بشعرها كلّه، ولكنه ينتقدها على ما فيه من غموض؛ وصنفٌ آخر يقدِّرها عالياً ويمجِّدها على إغنائها القاموس إلى درجةٍ جعلت اللغةَ الروسية بكاملها تقريباً “لغة تسفيتايفا”. ومع ذلك، كان يخيَّل لمارينا أن عدد أنصار الشعر الوجداني المعاصر، المبتكَر والمقلِق، يزداد بقوّة في روسيا السوفيتية، وربّما ينتهي ذلك إلى الاعتراف بها واحداً من أعمدة الشعر المميّزين”.
ويرنّ في كلمات تروايا لحن ختام مفعم بالمرارة والألم والتساؤل:
“آهٍ، لولا هذه الموجة العاتية من القسوة والعنف التي أصابت العالم كلّه وانحدرت بالشعر إلى مرتبة التسليات الفارغة، إن لم تكن قد أخرجته من الحياة تماماً! تُرى، هل سيكون بمقدور روسيا وحدها أن تظلَّ واقفة بمفردها بمنأى عن هذه التقلّبات العالمية؟”.
الهوامش
1 – أسس القيصر الروسي بطرس الأكبر (1672-1725) مدينة سانكت بِطرسبورغ. (مدينة القديس بطرس) عام 1703 وأطلق عليها اسم شفيعه القديس بطرس. وظلّت عاصمةً لروسيا حتى عام 1918. ومع مرور الزمن صارت تعرَف باسم بطرسبورغ نسبةً إلى القيصر بطرس الأكبر نفسه. بين 1914 و1918 سمّيَت بتروغراد. ثم باتت تعرف في العهد السوفيتي باسم لنينغراد حتى خريف 1990 حين استعادت اسمها بطرسبورغ الذي نعتمده في هذه المقالة تفادياً لإرباك القارئ.
2 – بلدة صغيرة على شاطئ البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. اشتهرت في الثلث الأول من القرن العشرين بفضل الشاعر الرسام الروسي مكسيمليان فولوشِن (1877 – 1932) الذي جعل من بيته فيها محجاً لأعلام الأدب والفن والثقافة الروسية في عصره.
3 – هنري ترويا (1911ـ2007) أديب وكاتب سيرة كبير ـ أرمني/ روسي/ فرنسي في كتابه: “مارينا تسفيتابفا” (الترجمة الروسية، بطرسبورغ، أمفورا، 2014).
4 – ميخائيل كوزمين ( 1872 ـ 1936)، أديب وناقد روسي. أول أعلام الشعر الحر في روسيا. فتح صفحة الحب المثلي في الأدب الروسي بقصته الطويلة “الأجنحة”.
5 – يواكيم صموئيل كانِّيغِيسِر (1860-1930)، مهندس بناء سفن.
6 – “الجبل المائل”، اسم هضبة تقع في الجزء الغربي من موسكو. أقيمت على قسم كبير منها (ما بين 1950 ـ 1990) طرق وأحياء سكنية حديثة و”حديقة النصر”.
7 – هذه ترجمة كاملة للنص الذي كتبته مارينا تسفيتايفا عن تلك الأمسية، وكثيراً ما يكتفي النقاد والباحثون باقتباس بعض الجُمل والعبارات منه.
8 – فيما تشير مصادر كثيرة إلى أن أخماتوفا كانت يومها مريضة تعيش في “تسارسكويه سيلو” (قرية القياصرة) بالقرب من بطرسبورغ، تذكر مارينا تسفيتايفا سنة 1936 أن أخماتوفا كانت في شبه جزيرة القرم، وكان زوجها الأوّل، نيكولاي غوميليوف، في الحرب.
10 – فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) شاعر الثورة الشيوعية في روسيا. انتحر برصاصة في بيت صديقة له في موسكو.
11 – إيفان أكسيونوف (1884-1935)، شاعر وناقد ومترجم.
12 – بوزينا شجيرة شائكة متشابكة الأغصان تشبه نبات الديس، وثمارها تشبه حَبَّ الديس أيضاً، لكنها حمراء.
13 – كان شقيقها الأصغر فيكتور ضابطَ بحرية التحق بالحرب عام 1916 مُدرَجاً في عداد الموتى إلى أن ظهر متخفيّاً في أمريكا في بداية الستينات.
14 – بوريس باسترناك (1890-1960) شاعر وكاتب ومترجم. أنجز روايته “دكتور جيفاكو” عام 1955 ونال عليها جائزة نوبل عام 1958، ولكنه اضطرّ للتخلي عنها ورفضِها تحت ضغط الحكومة السوفيتية.
15 – كل الأشخاص الذين نستشهد بأقوالهم في هذه المقالة، باستثناء هنري تروايّا، كانت تربطهم بآنّا أخماتوفا معرفة وعلاقة شخصية مباشرة.
16 – لئن كان أردوف قد قدَّر مدة اللقاء الأول بين الشاعرتين بساعتين أو ثلاث ساعات، فإن أخماتوفا تبالغ، أو تنسى ربّما، حين تقول لـ نتاليا إيلييِنا بعد عشرين عاماً ونيِّف من ذلك اللقاء (في يناير/ ك2 سنة 1963)، برغم تأكيدها أنها لا تصدِّق “بقدرة أحد على تذكّر ما حدث بدقة قبل كل هذه السنوات”، إن مارينا جاءت إلى ذلك اللقاء “في الثانية عشرة ظهراً، وغادرت في الواحدة ليلاً”!.. وتخبر ليديا تشوكوفسكايا بأن تسفيتايفا ظلت شبه صامتة خلال اللقاء الأول مدة سبع ساعات! ويظهر هذا “التخبّط” بجلاء مؤسفٍ أكبر في المعلومات والانطباعات التي تدلي بها أخماتوفا خلال لقائها مع أريادنا إفرون، ابنة مارينا تسفيتايفا عام 1957!
17 – 5 نيكولاي خاردجييف (1903ـ 1996) كاتب ومؤرخ في مجال الأدب والفن الحديثين. كان مقرّباً من المستقبليين والشكلانيين الروس. منذ عام 1930 كان صديقاً دائماً للشاعرة آنا أخماتوفا التي جرى لقاؤها الثاني مع مارينا تسفيتايفا في غرفته الخشبية في حيّ (ماريينا روشّا) على أطراف موسكو، وكانت تسميها “ملجأ الشعراء”.
18 شجيرة في الشمال الروسي تزهر أوائل الصيف، وتنضج في أواخره ثمارُها السوداء الضاربة إلى الزرقة، الشبيهةُ بثمار الريحان.